"إن لم يُكتب لنا أن نستمرّ في العيش، فاحفظوا فعلنا وأسماءنا وصورنا، واكتبوا على قبورنا بخطٍّ بارز: هنا يرقد من أحبّوا الحياة وما استطاعوا إليها سبيلًا".
هي وصيّة تركها الشهيد ضرغام قريقع إلى قرّاء اللغة العربية على صفحته في إحدى شبكات التواصل الاجتماعي، ولعلّها وصيّة كلّ فلسطيني استثمر موهبته الإبداعية في مسيرة نضاله اليومي ضد أعداء الحياة وعبدة الشيطان من الصهاينة والمُتصهينين. ومن الواجب ترجمة هذه الوصيّة إلى كل لغات العالم ونشرها في أرجاء الدنيا، لمخاطبة الضمير الإنساني الذي تآكل من فرط الصدأ والأكاذيب الصهيونية التي يروّج لها إعلامهم منذ أكثر من سبعة عقود.
يسعى الإعلام الصهيوني وملحقاته من مؤسسات فكرية وأدبية وفنيّة، بكل ما يمتلكه من أدوات القوّة، إلى إعادة صياغة العقل البشري وبرمجته وفق الأكاذيب الصهيونية، بعدما فشل في إعادة تشكيل العقل الفلسطيني وفق رؤية "إسرائيلية"، كما فشل في كلّ مشاريعه وبرامجه التهويدية التي فرضها على أسماء المدن الفلسطينية، والحجارة العتيقة في القدس، وفي الكتب المدرسية ومناهج التعليم.
وهذا ما يُضاعف من مسؤولية المبدع الفلسطيني - والمثقف عمومًا - في استثمار كلّ قدراته وأدواته ووسائله في حربه اليومية ضدّ الكيان الصهيوني.
وسواءٌ أكان المثقف الفلسطيني طليقًا في فلسطين المحتلّة، أو في سجون الاحتلال، أو في بلدان اللجوء والاغتراب.. فهو يتحمّل مسؤولية كبرى في حماية التراث الفلسطيني، وترسيخ تاريخ فلسطين، والحفاظ على الأمل في التحرّر في وجدان وعقل الإنسان الفلسطيني أينما كان. كما يتحمّل مسؤولية تعرية الاحتلال الصهيوني وفضحه وإسقاط الأقنعة عن وجهه الشيطاني.
وفي كلّ ذلك، فإنّ المثقف الفلسطيني لا يناضل فقط من أجل فلسطين، بل من أجل الإنسانية كلّها التي يعمل الفكر الصهيوني على إعادة تشكيل عقلها وفق رؤية تلمودية ترى في غير اليهود مجرد حيوانات في شكل بشرٍ سخّرهم الله لخدمة اليهود!
وفي هذا الملف، قامت نخبة من الكتّاب والشعراء الفلسطينيين بإلقاء حُزمٍ من الضوء على قضايا فلسطينية في قوالب فكرية وشعرية وأدبية، لمخاطبة العقل والوجدان العربيين معًا، لإبقائهما على قيد النبض الفلسطيني، وأيضًا للحفاظ على الصوت الفلسطيني حيًّا وقويًّا وفاعلًا، لا تقوى على إخماده نيران الحروب، ولا قضبان السجون، ولا كل أنواع وأشكال الحصار الصهيوني المتوحّش لفلسطين والفلسطينيين...
[caption id="attachment_164803" align="alignnone" width="260"] بقلم: جلال محمد حسين نشوان[/caption]
هل هي أزمة ثقافة أم أزمة مثقف؟
تواردت الأفكار إلى ذهني وتزاحمت في مخيلتي، فأخذتني الحيرة من أيّ الموضوعات أبدأ؟ وأخيرا اهتدى فؤادي فأمسكت قلمي لأكتب عن أزمة الثقافة والمثقفين والدور المُلقى على عاتقهم في هذه المرحلة الدقيقة والحساسة التي تمرّ بها قضيتنا وهموم أمتنا التي أثخنتها الجراح، وضربتها العواصف والأنواء..
المرحلة تستدعي من الجميع اليقظة واستنهاض كل الطاقات الكامنة... هي أمانة عظيمة وثقيلة، تُملي على الجميع رفع درجة الوعي وتوجيه المجتمع، حيث يقع على عاتق المثقف دور كبير في مواجهة الأزمات، لما يتمتع به من وعى وثقافة أكثر من غيره، فهو الأكثر ملامسة للجماهير، ومشكلاته ومعاناته، هو الذي يمتلك التأثير القوى، بتفهمه لمشاكلهم، إما بحلّها أو توصيلها إلى صُنّاع القرار. الوطن يا سادة: قضية تمسّ الجميع وصمت النّخبة المثقفة صمتٌ مؤلم وموجع، والمرحلة تستدعي من كافة الشرائح وبخاصة الأكاديميين وقفة صدق مع الذات، إذ كيف لهم أن يقودوا المجتمعات ويُؤثرون الصمت وعدم الولوج في السياسة، ودائما الحجة جاهزة وهي أن السياسة مرهقة وتستنزف طاقاتهم وتنزلق بهم إلى أتون متاعب الحياة.
إن غياب المثقفين والأكاديميين عن المشهد قاتل ومؤلم، وهنا أتساءل: هل تقوقعهم داخل المكاتب وقاعات المحاضرات واكتفائهم بالعمل الروتيني هو الحل؟ المثقف: هو ضمير الأمة، ودرعها، وحارسها، شديد الحساسية، لكلّ ما يمسّ حياة شعبه ووجوده ومعاناته. إننا نواجه امتحانا عسيرا وقاسيا حارت فيه العقول، إذ كيف لأناس يقطنون وراء البحار يقرّرون مستقبلنا، ويهدّدون وجودنا وحياتنا، والمثقف والأكاديمي يلتزم الصمت، السيد الرئيس يقف لوحده في هذه المعركة ويجابه تّغوّل الأمريكان والمحتلّ الصهيوني!
أمَا آن الأوان أن نقف خلف المثقف وندعمه ونسانده بقوة، نحن الذين كل همّنا قضايا صغيرة نستطيع أن نتجاوزها؟ إن مسؤولية الثقافة والمثقف تتضاعف في الأوقات الصعبة ويتطلب استعدادا موازيا لاستنهاض الطاقات الكامنة في شعبنا.. همسة عتاب أوجّهها للذين تخصّصوا في علومهم وحملوا الشهادات العليا وأصحاب البحث العلمي وروّاد المعارف وأولئك الذين يملكون المعرفة.
أمَا آن الأوان أيها المثقفون أن تغادروا مربّع الصمت وأن تشمّروا عن سواعدكم وتستنهضوا جماهير شعبنا ليكونوا سندا لقياداتنا بقيادة السيد الرئيس الذي يقف وحده مقاتلا، ونكون صفا واحدا ضد مشاريع التصفية؟ ألَم تنتبهوا للإعلام المعادي (الإعلام "الإسرائيلي") لشعبنا وإلى المطبّعين الذين يهاجمون شعبنا على صفحات التواصل الاجتماعي؟ المرحلة دقيقة وصعبة وحرجة وتستدعي منا وحدة الصف وإنهاء الانقسام ومعالجة شاملة وجذرية من الجميع ومن كافة الشرائح لمجابهة التحديات.
أزمة الثقافة والمثقفين عميقة وتحتاج من المثقفين مغادرة مربّع الصمت، قبل فوات الأوان
[caption id="attachment_169543" align="alignnone" width="260"] ناصر رباح[/caption]
لا تقل لي: قلتُ لك..
رميتَ لي ورداً كثيراً، وكانت عيوني سلّة
قلت لي: لا تخف، صارت الشمس مظلة
يهاجر نحونا سرب الرصاص
فيترك ليَّ القتيلُ ما لا أراه
أسيل خلفه مثل ماء وضوء
حائرًا بين موت وحياة
كصلاة جنازة
وأكتب إلى الله ما لا يهم..
وردة سوداء، أم سوء فهم؟
بيننا خطوة أم ألف ميل؟
صوراً تتماوج كالغائبين
آسفة وجوههم كاليوم
جميلة كالأمس
وعلى جبال الغيوم طيور كثيرة
لا مرئية ولا مسموعة
ملائكةٌ صغار، لم يدخلوا مدرسة
نسوا قبلاتهم على شفاهنا اليابسة
على وسائد ناعسة
على ضحكة الرغيف
فأين يمضي بنا شجر الانتظار الكثيف؟
أين تمضي بنا جرأة المهزلة؟
لا تقل لي: قلت لك..
لا تقل لي: فاتك المشهد المخيف
أنا كنت من قتلوه ومن صلبوه
ومن تخيلته لا يموت.. مات
ومن تخيلته حجراً.. صار الفتات
غير أني لم أجدني عند حدود المذلة
[caption id="attachment_169544" align="alignnone" width="260"] الشاعر علي البَتّيري[/caption]
محكمة العدالة
صاحَ الحاجبُ
في بابِ القاعة:
- المتَّهمُ الأولُ
بالمجزرةِ الكبرى
في القرنِ الحادي والعشرين..
فَليتقدّم
وليَخرج من خلفِ القضبانِ
ليمثُلَ في الحالِ أمامَ القاضي
لم يدخل أحدٌ للقاعةِ
لكنَّ المتَّهمَ الجالسَ
في مَقعدِهِ
من بينِ الجمهورِ تقدَّم
كي يمثُلَ بالجرمِ المشهودِ
أمامَ القاضي
وعلى جنبيهِ مُحامونَ كثيرون
المتّهمُ الواقفُ يَعلكُ
والعلكةُ تُشغِلُهُ عن أيِّ كلام
وبلا ذرَّةِ إحساسٍ بالإجرام
فالقاضي يسألُهُ
وهو يهزُّ الرأسَ ولا يتكلَّم
وهنا وبصوتٍ واحد
يتحدَّثُ عنهُ محامون:
- يا قاضينا
إنَّ موكِّلَنا فوقَ القانون
لا تُتعبْ نفسَك
إن لم تُغلق للمتّهمِ الدُّوَليِّ
مَلفّاً تفقدْ رأسَك
نصفُ العالمِ مَعَهُ
والنصفُ الآخرُ
إرهابُ موكِّلِنا رَوَّعَهُ
.....
وهنا انتفضَ القاضي
وعلى الجمهورِ الجالسِ
في القاعةِ
ألقى مطرقةَ الحُكمِ
مَعَ العمَّة
وصلَ الغضبُ العَدليُّ بِهِ
للقمَّة
مالَ يميناً ويساراً
خاطبَ مَن حولَه:
- ماذا في الأمرِ تَرَون؟
فأجابوه:
-يا قاضينا
مَعَهُ جلبَ المتَّهمُ لصوصا
في زيِّ مُحامين
سرقوا من تحتِ الأنقاضِ
المصبوغةِ بدماءِ المدنيّين
جُثثَ الأطفالِ
وباعوها في سوقِ كلاب
نهبوا بعضَ حِليِّ النّسوةِ في الليلِ
وما وجدوا من أموالْ
وانسحبوا في ليلةِ حقدٍ
فائضةٍ بسوادِ الإرهابْ
ودمُ الأطفالِ على الأيدي
والأنيابْ...
جمعوا الأشلاءَ المنسيَّةَ من لحمِ فلسطينْ
نصبوها أقواساً
لِلُصوصٍ مُنتصرينْ
ونراهُم يا قاضينا مُتَّهمينْ
في أزياءِ مُحامينْ
.....
وقفَ الجمهورُ
وقدْ صاحَ القاضي
في محكمةِ شعوبِ العالم..
وبجلستِها المُنعقدة
في غيرِ مقرِّ الأممِ المتّحدة:
يا عالمُ
يا كلَّ شعوبِ العالمْ...
-قرّرنا إعدامَ المتَّهم ِالخارجِ من بحرِ دماءِ ضحاياهُ
وبلا خوفٍ ومُحاباة
وبلا تحريفٍ أو تمويهْ
وقُبَيلَ الإعدامِ حَكمنا
بالجلدِ العادلِ حتّى الموتِ
على كلِّ مُحاميهْ...!
[caption id="attachment_169545" align="alignnone" width="260"] د. إيهاب بسيسو[/caption]
موعد القيامة
سنستيقظ غداً
(غالباً في نفس الوقت)
أنا والجندي القاتل
والجنرال المتوتر
وموظف الاستعلامات الضَّجِر
من أسئلة الناس المكررة
عن موعد القيامة...
.....
سأعد قهوتي ببطء
"كعادتي منذ انهيار نشرات الأخبار
إلى مديح مبتذل لبراعة الغربان
في رتق الغيمات ضباباً داكناً"
.....
ثم أحدق طويلاً
في نهاية الشارع المعتم
مثل صورة عتيقة باهتة...
عند تقاطع المقبرة
مع الحديقة العامة...
.....
وأتخيل مدينة من ضوء
لا ينقصها سوى بعض
من غناء عصافير مبكرة
تعيد مزج الصباح
بذاكرة الموسيقى...
.....
في ذات الوقت...
يكون الجندي القاتل
قد تكدس مع آخرين
في جوف ناقلة الجنود المصفحة
متباهياً بلمعة الموت الخاصة
ورأس متلهفة لاقتناص
جسد واحد (على الأقل)
ضمن نهارات الإبادة المستمرة...
.....
في ذات الوقت...
يكون الجنرال المتوتر
قد باشر أعماله الصباحية المؤجلة
وبدأ في كتابة فصل جديد
من سيرته الذاتية
في الجمهورية/ الغابة
ذات الضجيج المعدني
والحروب العابرة
مثل صواعق برق
تواصل نحت أصابع يديه
سكاكين مدببة...
.....
في ذات الوقت...
يكون موظف الاستعلامات
قد استقبل أول مكالمة هاتفية
تستفسر (مجدداً)
عن موعد القيامة...
.....
وللمصادفة البحتة...
قد تكون تلك المكالمة
هي مكالمتي الأخيرة...
قبل أن تصل ناقلة الجنود
إلى تخوم القلق الصباحي
في النهار المعد لتجدد المذبحة
ويصل الجنرال
إلى نهاية فصل جديد
من سيرة الموت...
الإبادة.. ثقافة توراتية مُؤصّلة
أ. د. عبد الكاظم العبودي
يبدو أن استخدام كلمة "ثقافة" العربية باشتقاقها اللفظي واللغوي، وبمعناها العربي اللساني الشائع، بالاقتران هنا في عنوان المقالة، مع مفردة "الإبادة"، العنصرية المقيتة يجعل من عنوان هذه المقالة في مفترق طُرق تماما، ويضعها موضع تساؤل؛ تتوجب الإجابة عليه بالبحث العلمي والتاريخي، هو: وهل للإبادة والعنصرية ثقافة؟، أو هل هناك ثقافة إنسانية تدعو للإبادة البشرية؟ وبهذه القطيعة التامة مع الحياة؟
الإرادة الصهيونية واليهودية المعاصرة وجدت قبلها من الموروث العنصري ما يثبت صحة ومسار مثل هذا العنوان وبوعي تام، وبات كل ذلك الموروث يتلاءم مع تطلعات الحركة الصهيونية وأهدافها المبيتة للسيطرة على فلسطين؛ بل على العالم كله، وفق مخطط مدروس، تجري مراجعاته من قبل الدوائر الصهيونية دوريا لينسجم مع تطورات العالم السياسية والاقتصادية والسياسية.
وانطلاقا من تعريف "التوراة"، وهي الكلمة العبرية التي تعني: "الشريعة والقانون"، أو أنه يُقصد بها: تلك المجموعة من كتب "العهد القديم" أو "أسفاره الخمس"، التي يؤمن بها اليهود والنصارى، بشكل متفاوت سواء في قبول بعضها أو رفض أخرى، كما هو الحال مع طوائف البروتستانت المسيحية وغيرها.
والمعلوم أيضا أن قانونية ومشروعية مثل هذه "الأسفار" جميعا قد أقرّها مجمع" ترنت" الكاثوليكي، ما بين سنوات (1554 -1563). وكذلك الأرثوذكس في مجمع " بيت المقدس" عام 1672.. ورغم أن اليهود والنصارى لا يؤمنون بالإلهام الحرفي للكتاب المقدس؛ لكنهم يعتقدون: إن كلا من كَتَبَة الأسفار قد كَتب بأسلوبه و"كما ألهمه الروح القدس" كما يدّعي أحبار اليهود.
ومن زاوية أخرى يرى اللغويون العرب أن لفظة "التوراة" هي ذات أصل عربي، كما جاء في "لسان العرب"، ومصدرها "وَرِيَ"، والوراء هو ولد الولد. ومن معانيها أيضا عندما يقال: إستوريتُ فلاناً رأياً، أي سألته أن يستخرج لي رأياً، ووريت الشيء وواريته أخفيته، ووُريت الخبر أُوريه توريةً إذا سترته، وأظهرت غيره، وكأنه مأخوذ من وراء الانسان، لأنه إذا قال وَرَيته، فكأنه يجعله وراءه.
والتورية هي السَّتر. وهذه التّسمية والمعاني كلها التي جاءت عن اللسانيين العرب يمكن تدبّرها بحكمة من خلال الرسم والنص القرآني الوارد في كثير من الآيات عن التوراة أو التورية.
يفند القرآن الكريم ادّعاءات اليهود من أن "التوراة" هي كتاب موسى؛ والقرآن الكريم يعترف بعدم نزول "التوراة" كلها على موسى، وإنما كان كتاب موسى جزء منها: "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِن بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ" (آل عمران، الآية: 65)، والآية: "وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ" (المائدة، الآية: 46).
من هنا يتّضح أن التوراة قد حُصرت زمنيا في الفترة الواقعة بين وفاة إبراهيم ونبوة عيسى (عليهما السلام). وما جمعه بنو إسرائيل وسمّوه بتوراتهم ما هو إلا خليط مما أُنزل على أنبيائهم المتعاقبين تباعا، إضافة إلى ما كتبه لاحقا أحبارهم، تضمّن خليطاً من شرائع وأخبار ونبوءات غيبية وتواريخ بائدة وأساطير بابلية مُحَّرَفَة، منها خرافات لأُمم أُخرى، جرى جمعها خلال فترات متباعدة ومتتالية تجاوزت ألف وخمسمائة سنة.
وخلال القرون المتعاقبة، تم تقسيم التوراة إلى إصحاحات جرى ترقيمها وترتيبها، وحتى تعديلها مراراً. وما بين ترتيب مجمع روما عام 382م وتعديل مجمع "ترنت" 1546، حدثت الكثير من التعديلات والتحريفات؛ لذا نصل إلى القول إن الديانة اليهودية لم تعد بالرسالة السماوية، طالما خضعت نصوص توراتها إلى كل تلك التعديلات وفق أهواء أحبار اليهود.
تلازم العقدة التوراتية حالة تبنّي الإبادة للغير، عقدة نابعة عن الشعور بالذنب بممارسة الجريمة، جريمة ينصّ عليها الكتاب المقدس الذي يقول عنهم: "... فأنتم تشهدون على أنفسكم أنكم قتلة الأنبياء"، (متّى: 2:30). وكذلك: ".... لذلك ها أنا أبعث إليكم أنبياء وحكماء وكَتبة، فمنهم تقتلون وتصلبون، ومنهم تجلدون في مجامعكم، وتطردون من مدينة إلى أخرى"، (متّى 23:34)، ومنها: "... لكي يأتي عليكم كل دم زكي سُفك على الأرض من دم هابيل الصديق إلى دم زكريا بن برخيا الذي قتلتموه بين الهيكل والمذبح"، (متي: 2:35).
طوّر أحبار اليهود هذه العقدة في النفس اليهودية لتبرير استمرار الممارسة للجريمة، وكأنها أمر إلهي مفوضّين بتنفيذه، موكول باليد اليهودية ممارستها. ولا يخفي أحبار اليهود أن هذه المهمة الاستعلائية على بقية البشر نابعة من تسميتهم "بنو إسرائيل". إسرائيل أحد أسماء يعقوب، والد يوسف، ومنه ينطلقون في وضع أسطورة لإسرائيل وبنيه. وكما ورد في قاموس" الكتاب المقدس" لهم إن: (إسرائيل تعني "الشخص المنتصر على الله")، ويجدون لكلمة وخرافة إسرائيل هذا: (إنها الكلمة التي نُعت بها يعقوب ابن اسحق بعد أن صرع الملك الإلهي). ولإسرائيل هذا الوهم الخرافي انتسب اليهود كما أرادوا هم له من صورة.
هذا التفسير المغالط للحقائق في الانتساب إلى "إسرائيل"، أي إلى يعقوب يناقض نفسه بنفسه، فحسب ما أورده "الطبرسي" في مجمع البيان: (... إن إسرائيل هو يعقوب بن إسحق بن إبراهيم. وإن مقطعي الاسم جاء من "إسر"، وتعني العبد و"ئيل" بمعنى الله، فيكون الاسم المركب "إسرائيل" هو عبد الله)، لذا فإن حكاية مغالطة التفسير لاسم إسرائيل، ومن بعده أبناءه أنهم خلفاء "من انتصر على الله أو أنبيائه وحكمائه"، تعني الكثير من عمق العقد المستعصية والكامنة في الذات اليهودية، التي لم تعد تُفهم عند معالجة وتحليل أنماط السلوك اليهودي القديم والحديث.
إن أبناء يعقوب، الذي يدّعي اليهود الانتساب إلى نسلهم، بدأوا بالغدر مع أخيهم يوسف، وبالكذب على أبيهم يعقوب، وبفبركة قصة الذئب الذي افترس يوسف، وحملهم لقميص الضحية الأولى لغدرهم، كانوا يترجمون كلمة التورية سلوكا، فهم الذين تملّقوا يوسف أيضا عندما تبوّأ الحكم عند عزيز مصر بعد سجنه، وهم لم يتوبوا يوما، أو يعترفوا بجرائر وشناعة أفعالهم. صار ديدنهم، ودينهم السعي إلى المُلك والقوة والمال، والأفضلية على الأمم، حتى وإن استخدموا أحط الوسائل والمكائد.
وجرّاء تلك الأفعال الشنيعة، صاروا هدفا للعزلة والانطواء والسبي وردود الأفعال والانتقام من الشعوب والأمم الأخرى التي جاورتهم أو تعايشت معهم؛ مما جَذّرَ عقدة الخوف لديهم، وقلقهم من كل مستقبل بعيد أو قريب، رغم ادّعائهم: إنهم من صفوة شعوب الأرض فهم الذين إخطارهم "الإله يهوه"، وإنهم "شعبه المختار"، و"شعبه المقدس"، وسمَّو أنفسهم "الشعب الكنز" و"الشعب الإرث"، أو "الوارث للأرض" و"الشعب الأزلي"... إلخ.
وكما جاء في سفر اللاويين (20:24، 26): (إن الرب إلهكم الذي مَيَّزَكَم من الشعوب... تكونون لي قديسين لأني قُدّوس، أنا الرب، وقد مَيزتكم من الشعوب لتكونوا لي).
لقد ورثت الثقافة الدينية والعنصرية التوراتية في نفوس أصحابها ومحيطها الاجتماعي نوازع شريرة من الحقد والريبة من الشعوب الأخرى، وتم إرعابهم من المصير المحتوم. ومن (سفر أشعيا) لا يزال اليهود يردّدون عبر الأجيال: "... أما أنتم فتدعون كهنة الرب، تسمّون خدام إلهنا، تأكلون ثروة الأمم، وعلى مجدهم تتآمرون"، (سفر أشعيا ج3، 73). وما ورد أيضا في (يوشع 23:12) يسجل هاجس اليهود الدائم من الأمم الأخرى: "... إذا رجعتم، ولصقتكم ببقية هؤلاء الشعوب... فاعلموا يقينا، إن الرب إلهكم لا يعود يطرد أُولئك الشعوب من أمامكم، فيكونوا لكم فخا وشَرَكا... حتى تُبيدوا عن تلك الأرض الصالحة التي أعطاكم الرب إلهكم".
وفي العدد (33:55): "... إن لم تطردوا أهل الأرض من وجهكم، كان من تبقونه منهم، كإبرة في عيونكم، وكحربة في جنوبكم، ويضايقونكم في الأرض التي أنتم تقيمون عليها".
هذا المبدأ الاستيطاني القائم على الإبادة تسلّحَت به قطعان الأوروبيين المهاجرين للعالم الجديد، قارة أمريكا، وليس مُستغرباً، إن أطلقت تلك الهجرات على نفسها "أطفال إسرائيل"، وكانت الطائفة المورمونية البروتستانتية تتخذ من يوم السبت راحة لها، وتصف رحلتها المشؤومة لإبادة شعب الهنود الحمر: "... إنها تاهت في صحراء أمريكا العظيمة مثلما تاه اليهود في صحراء سيناء، واستقرت أخيراً في الأرض الموعودة، في ولاية يوته، وغيرت اسم نهر كولورادو إلى نهر "باشان" المذكور في التوراة".
إن ثقافة الإبادة الصهيونية تستند إلى موروث يهودي ثقافي، عميق في أثره بالعداوة ضد الآخر، الآخر، أيًّا كان جنسه وقوميته، ميراث عنصري يستمد مشروعيته من نصوص التوراة وأسفارها وما حرَّفه الأحبار: "... هو ذا شعب يقوم كَلَبوة، ويرتفع كأسد، لا ينام حتى يأكل فريسة، ويشرب دم قتلى". وفي سفر يشوع (20-6:21:) تتجلى بشاعة الغزو اليهودي عندهم والإبادة المستهدفة المطلوبة: "... حين سمع (الشعب) صوت البوق، هتف هتافاً عظيماً، فسقط السور في مكانه، وصعد (الشعب) إلى المدينة، وحرموا كل ما في المدينة من رجل وامرأة، ومن طفل وشيخ، حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف".
وها هي وصية حزقيال إلى "بني إسرائيل" في سِفرِهِ: "... لا تشفق أعينكم، ولا تعفوا عن الشيخ والشاب والعذراء والطفل والنساء... اقتلوا حتى الهلاك"، (6 - 5: 9).
د. إيهاب بسيسو
تحوُّلات...
-1-
أصبحت تدرك الآن
أنك لست أكثر من كومة رماد
تجمّعَت في كيس طحين فارغ
ثم أصبحت جسداً...
.....
جسد من فوضى موت
وأرصفة مهشمة
وحطام أشياء كثيرة
تكدست في حطامك...
.....
أنت الجسد العالق
مثل جثة منتفخة
بين أنياب سراب
يفترسك ببطء وحشي
على مدار الموت/ موتك
فتتبعثر...
.....
ثم تعود مجدداً
لاحتوائك في كيس جديد
قد يبدو أصغر حجماً هذه المرة
فتنحشر مثل أشلاء مطحونة
في حيز ضيق...
.....
وقد يكون أكبر قليلاً
فتترهّل في خطواتك القلقة
مثل ذاكرة عجوز
نجت مصادفة من مذبحة بعيدة
وما زالت تتنقل بتثاقل بيولوجي
بين الأكياس/ الأكفان
الأكياس/ المدن
الأكياس/ المقابر...
- 2 -
أنت الآن ساعة رماد للزينة
"تشبه ساعات الرمل القديمة"
غير أنك لا تدل على الوقت...
.....
منذ اصطادتك المنافي
من متاهات القنابل
وصراخك البعيد
في جوف الكوابيس...
وصنعت منك جسداً هشاً
من بقايا زجاج مهشم....
حشَته بالرماد/ رمادك
وتباهت بفخر وهمي
"كما يفعل الصيادون عادة
برؤوس الفرائس"...
أنها أنقذتك من تيه التبدد
ورممتك من بلطات الريح
حين جمعت بقاياك
لتصبح (مجدداً) مزيجاً فنياً
من زجاج ورماد
قد يتخذ مكاناً هامشياً
على طاولة الزمن
بلا صوت يدل على الوقت
أو فداحة الخسارة...
- 3 -
تستيقظ مبكراً في الصباح
ولا تجدك...
الهاتف الجوال مغلق
وأنت كومة أخبار بعيدة
لم يسمعها عنها أحد...
.....
أغلب الظن أنك قد رحلت
عن وسادتك المحشوة بالعزلة
أو أنك قد عدت
من صخب الكوابيس إليك...
.....
أغلب الظن أنك قد وجدتك
تحلق بألفة مع النوارس
حين استيقظت من حياتك
المُطوّقة بعناء الإسمنت
وزيف أضواء الإعلانات المتلفزة
لتحيا وحيداً في موتك...
[caption id="attachment_169550" align="alignnone" width="260"] مراد السوداني[/caption]
القدس.. على قيد الحرية
على بابها الذهبي سلالات مجدٍ طافحة بالعناد المقدّس، وفضيض الخير والكرامة الحقّة.. منحها الأسلاف هَبْو الروح ورائحة التراب الجامح وفيوضات النزال الذي يليق باسمها العالي.. وسياقها المختلف.. على بابها الذهبي.. تواريخ لا تنتهي، وأقدام غزاة من هَوامِ الأرض وشُذاذِ الجهات تذكّرنا يومياً أن جسدها النبوي مازال رانخاً بالعذابات والسياط الناقعة.. كلّما وقعت نهضت على منصّة الصبر الجسور وأطلقت زئير الغابات محتشداً في حناجر الزهرات والأشبال الذين يتسلقون أسوارها الجريحة ويمسحون بيد الطفولة نزيفها السيّال..
.....
طوبى للقدس التي تشهد قيامة خيولها الركّاضة نحو فجرها الأكيد.. وإصرارها على الحرية غير المنقوصة مثلما هي البلاد غير منقوصة.. ومثلما هو قلبها العامر بالحق والحقيقة ومروج الماء الخضراء..
.....
طوبى للقدس وقد رفعت قلبها الممزّق عنواناً لعزّة الأمة.. وقبضتها الهادرة لتدقّ بثبات بوابات الصمت الملغوم.. وبراح المواقيت المترنّحة..
.....
طوبى لأهلنا في القدس يهجسون بيوم أقلّ حزناً وطيوباً تشرق من على القبّة النحاسية، صُعُداً إلى سماوة الفرح المرتجى.. وفضاءات الخير والعدل العارم..
.....
طوبى للصابرين على تراب المدينة يتركون على تلالها العصيّة قبضات المواجهة وصهيل الجياد الجامحة.. تُحمحمُ عصياناً حروناً وشجراً غاضباً لا يهون..
.....
طوبى لها وقد نعفوا دمها الأخضر ففهق الكون إشارات الحنّاء وألوان العلم الفلسطيني ووشم البلاد المُعَلّى.. وسهم الوحدة الندّاه لكلّنا: فلسطين أعلى من الاحتراب والحراب المسمومة وهِجاجِ الروح الغريبة المتغرّبة والتشظّي المدان.. وحسابات الصغار.. ولعنة الكرسيّ الطائف بالفتات وحصيد لا ينفع الناس..
.....
طوبى للبيوت المهدّمة شاهدة على ظلموت الغزاة وخوفهم من دموع الينابيع في بطون الجبال وضحكة الصغار يلوّحون بشارة النصر الفلسطيني يَلوحُ في جبهة الأفق.. لتعود القدس إلى برقها الأبيض وصحوتها الهادئة.. وحريتها كاملة من غير سوء..
"وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا" (الإسراء، الآية: 7).
[caption id="attachment_162606" align="alignnone" width="260"] بقلم: علي شكشك[/caption]
حـالـة ذهــــان
أكثر من حرب
إذا كان الهدف من أيّ حربٍ في التاريخ البشري على وجه العموم هو تحقيق الغلبة على الخصم، والإجهاز على جيشه، والسيطرة على أرضه ونهب ثرواته، فإنَّ الذي يحدث في مناخنا وعلى أرضنا لهو أكبر وأكثر وأبعد وأعمق وأشمل من ذلك بكثير، فهو يشمل الأرض والتاريخ والحاضر والمستقبل، وهو يشمل باطن الأرض والأجواء، وهو يشمل الاستيلاء على المزاج والمذاق واللغة، وهو يمتد إلى التراب والمياه والأشجار، وهو يقصد إعادة كتابة تاريخ الحجر، والفضاء، وهو يعمد إلى صبغةٍ أخرى ولون آخر للمكان والسماء، وهو يطمح إلى احتلال الوعي، وتغيير وثائق الروح، وأسانيد الإرث والملكية، وهو يجهد لتكريس رموزٍ بصرية ستشكل مع الأيام وعياً عاديّاً تلقائياً يؤسس لادّعاءات مستقبلية، حين يكون قد مرّ على كنيس الخراب عشرون عاماً فإنه سيكون حينئذٍ تراثاً يهودياً بهذا العمر، وتكون إزالته تعني الاعتداء على تاريخ يهوديّ ورمزٍ توراتي تم بناؤه منذ ثلاثين عاما!
وإذا كانت الحروب في التاريخ قد اكتفت ببعض المذابح، وتركت باقي العباد يعيشون في ظلال الإمبراطورية المنتصرة، فإنّ الأمر لا يستقيم مع الأهداف التي سبق ذكرها، ولذا فإنّ ما جرى ويجري في فلسطين لا بدّ أن يكون حاصلاً لتحقيق تلك الأهداف، والذي يُترجَمُ بإعدامٍ مطلق للسياق، شعباً وأرضاً وتاريخاً وقانونا وحضارة ومفاهيم، فلا شعب في هذه الأرض، ولا تاريخ، أما التراثُ فهو لهم، من الحرم الإبراهيمي والبراق ويهودا والسامرة والصخرة، إلى الفنون والفولكلور وأنماط الزراعة، وأسماء الأمكنة، ومعتقدات القبور، وأما التاريخ بثقله وأثقاله فهو سياقٌ طويل خاطئ واعتراضي يبدأ منذ الخليقة وينتهي في الخداع وأوهام الأحبار، وهو متخيل وافتراضي في أهواء الغزاة..
المشهد إذًا يستدعي حالة مَرضيّة تفترض عالماً في ذُهانها، وتعيد بناء الكون بطريقة مرضية وتعسفية، تعكس وتفسر بأثرٍ رجعي كلّ أمراضهم والسّمات التي وصمتهم بها الشعوب وآدابها عبر التاريخ، والتي استحقوا بسببها اللعن من الأنبياء والنبذ من الميثاق، والخروج من سياق ركب الأنبياء، فهم ليسوا معنيين بشيءٍ مما ورد لأتباع موسى ولا عيسى، وليسوا بالمطلق معنيين بنبوءات أشعيا ودانيال، وكانوا نشازاً استحقوا أن يسلّط الله عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة..
وإذا كانت هذه حالتهم فهي أدعى إذًا للعناد الذي استحقوا بسببه ما استحقوا أصلاً، وهو إذًا العناد الذي يدعوهم لمناطحة المقدس وادّعاء الوعد واحتكار الإله وأرض الميعاد، وهو عناد مُغمّس بالشعور بالنفي ويقتات بالإهانة ويدعو للتمترس بالنهائي من التزوير ويسعى لمطلق النفي للجوييم، مما يضيء أسباب سلوكهم ويمنحنا طريقاً لفهم الكامن القادم من نواياهم.
ذهان جماعي
فالأمر يقتضي أكثر من حالة الحرب التي مرّدت عليها البشرية واقتاتت عليها وتدافعت في أتونها، هي شيءٌ آخر ليست الحربُ إلّا أحدى تجلياته الصغرى، بل ليست إلا شرارةً أو زناداً لذلك الشيء الذي يدور، أتون من الهستيريا، يُمزّق الأنسجة والوعي والمنطق وقدرة الخيال والتوقع على الاحتمال، ولا يقاربه في تلك الهستيريا إلا صورة مضخَّمة لتلك الغريزة التي كانت تفوح في لحظة المطاردة من نفوس أولئك الذين نشروا زكريا و"صلبوا" المسيح، مع الأخذ بعين الاعتبار تكاثر تلك الغريزة وتفاعلها بما يناسب الفرق بين عددهم عندئذٍ والآن، وإضافة فارق الربا الذي راكموه مع تدحرج الوقت، فارق الربا من تراكمات الإهانة والنفي، وبعدما أضيف إلى الكون ختم الشريعة وخيبة أملهم النهائية من بلورة حالة الذهان الكبرى التي تتملّكهم وخيبة ظنهم وأمانيهم في الذي كانوا به يستفتحون، حتى أصبحوا هم محضَ عنادٍ، عناد للإله يتجلّى في التمادي بتجريد الآخرين منه، واحتكارهم له، وازدهار الأهواء التي تجعلهم ينسبون إليه مسوغات ترفعهم عن البشر بما أنه اختارهم وحدهم، ومنحهم ما أرادوا أن يمنحوه لأنفسهم، في تأكيد جديد متجدد على مرضهم الأوّل وفي حركة تعويضية عن الإهانة الكبرى والنفي من التاريخ والحرمان من شريف حمل أمانة الرسالة التي بشرت بها سابقاتها ملكوتاً نهائياً إلى آخر الزمان واستشرفته أرواح المؤمنين وتمناه ورجاه المرسلون السابقون، الأمر الذي فاقم ذهانهم الأوّل، وعاند أمانيّهم بالترفع عن البشر وإلقاء إفرازاتهم وعُصابهم ممهورة برسم النبوّة التي أرادوها على قدّ هذا الانحراف وموافقةً لذلك الذهان، "فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ" (البقرة، الآية: 89)، وما كان ذلك إلا لذلك، والدليل أنّ سبب الكفر هو نفسه ربما سبب نزع الأمانة منهم بما أنهم أرادوها لأنفسهم ليستعلوا بها على البشر، الأمر الذي يتناقض مع جوهر الرسالة والنبوة، فهم ما رفضوها إلا حسداَ.. "بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ" (البقرة، الآية: 90)، فقد كانوا يريدون أن يتبعَ الحقُّ أهواءهم، وكانوا يريدونه منذ البدء إلهاً لهم ينزِّلُ ما يريدون هم على من يريدون هم، فكأنّ الأمر من ذلك التاريخ إن لم يكن من قبله أيضاً. إنهم يتعالون على البشر ويباشرون نزق ادّعاء المقدس، وما الحال في وقتنا إلا المفاقمة الكاملة لتلك الحالة الذهانية التي كانت تتعاظم كلما تعاظمت خيبتهم وتترجم نفسها في مزيدٍ من الادّعاء والتزوير، فلا شعب هنا إلا هم، وملكية الأرض المقدّسة التي حرّم الله عليهم هي لهم بصكٍّ إلهيٍّ قديم، سيفعلون كلّ ما بوسعهم لاستعادته..
لقد اختلط الأمر، وتماهوا مع المسألة، فأصبحت ممزوجةً بذواتهم وأصبحت تحديًّا لكينونتهم وغيهم وكِبرِهم، فحتى لو اضطروا إلى تدمير العالم سيدمرونه وسيسعون إلى مراكمة القوة وابتذال الابتزاز وتحريف الكلم وإثارة الحروب وتطوير السلاح وسرقة التكنولوجيا وإغراء من يقف في الطريق وتبديد من يقف في وجههم، واستعمال المعارضات لدى الدول المشاكسة وامتلاك منابر التأثير الإعلامية وإجهاض مشاريع امتلاك القوة لدى غيرها..
فالأمر أكبر من حرب والحالة إذًا، هي حالة ذهان جمعيٌّ تاريخي يسعى للانتقام دون أن يدري من عماه الأول، ومن غيّه الأول في غضبٍ لم يستيقظوا منه بعد منذ ذلك الحين، بل لقد أصبح غضبا على غضب منذ أن قضى الله سبحانه بذلك "فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ" (البقرة، الآية: 90). فكيف لمن غضب الله عليهم أن يمنحهم الأرض التي بارك فيها للعالمين؟ وكيف لا يكون الأمر إلا ذهاناً مرضيّاً جماعيّاً لحالةٍ فريدةٍ في التاريخ تنتهج منتهى البهت والتلفيق لتعويض منتهى الهوان والذل؟ بل إن هذه الادعاءات بهذه الطريقة نفسها لهي الدليل على يقينهم الكامل بكذبها، بشفاعة منتهى العناد الذي لا يتسم به إلا من حُرم من الشيء، ففيه يكمن الردُّ الذاتي على المكنون في أعماق الصدور، وما يسكنها من معرفتهم الكاملة بحرمانهم هم أنفسهم مما يدّعون، الأمر الذي يستوجب كلَّ هذا الغلو والفجور وبوضوح مطلق للرؤية تستدعي كل هذا الهذيان الكوني أو إن شئت كلَّ هذا الذهان، هذا الإحساس اليقيني الادّعائي سيجعلهم حريصين على متابعة دقائق التفاصيل لتجنّب أيّ خطأ في التدبير، وسيجعلهم يقظين حارسين لما اغتصبوا، وساهرين على إسناد الكذب، وما بحثهم في باطن الصخور إلا أحد الأمثلة التي تهدف إلى إيهام العالمين بوهمهم، فهم يعرفون ما يعرفون، لكنهم يجيدون الجريمة الكاملة، وسيجعلهم كما في ذهان الادعاء يستشرسون في إبادة الخصم، والاجتهاد الكامل في تفتيته ومشاكسة العالم وازدراء المبادئ والقوانين وشراء الأراضي باللف والتلفيق، ومصادرتها بسنّ أيّ نوعٍ من القوانين والهيمنة على المياه وبناء الأسوار والمستوطنات الجديدة والإصرار على الاستمرار في الاستيطان والالتفاف على التجميد والحرص على ديكورات المفاوضات، والإبعاد والهدم والظلم والبغي والعدوان رغم عدم احتمال مزاج العالم الذي يرفده بأسباب العدوان،..
إنها شراسة لا يفسّرها إلا إحساسه بالملاحقة من قوّةٍ خفية طاغية تكاد تتغلّب على أسطورة ترسانة أسلحته، إنها القوة التي تمثل منتهى هشاشته وضعفه، تلك الكامنة في العميق من أصل الحكاية، إيمانه الحقيقي بكذبه، هذا الكذب الذي يجعل هذا الكيان مؤمناً بهزيمته في نهاية المطاف، وهي نهاية يجد صداها في نبوءات الكتاب، والتي تتحدث عن حقيقة العهد والوعد، والتي يعرفونها كما يعرفون أبناءهم، ويعاندونها أيضاً، فهي الجبلة التي تصنعهم، وتجعل من التاريخ تاريخا سائراً إلى نهاياته بغموض العقل، واستغراب الروح، يتدحرجون إليها بسنن الجاذبية، وبالقوانين الذاتية التي تحكم صيرورة الأشياء، مثل كلّ الظواهر الفيزيائية، وهو إحساسٌ يقتات من قوانين التاريخ والحضارات أيضاً ومن سيكولوجيا المتصارعين، ففلسطين راسخة في ضمير التاريخ كمجرّةٍ لا يملك المتصارعُ في سياقها إلا أن يكون مجرد شيء في سياقها ولا يملك تغيير كلياتها التي تشكل مطلقاً له، وهذا أحد أسباب تفاقم حالة الذهان "الإسرائيلي" الذي يعرف أنه يصارع الوجود الكلي للشأن الفلسطيني من داخله، في الوقت نفسه الذي يحاول أن ينفيه رغم أنه هو السياق الذي نشأ فيه حسب معتقده..
إن سلّمنا جدلاً بروايته وانتمائه لبني إسرائيل، وإن سلّمنا جدلاً بأن هذه التسمية تعني أيّ استحقاق على الإطلاق، وهذا الكيان هو البلورة الماديّة المتجسدة لهذه الحالة النفسية المرضية، وترجمة لها، فهو يحمل سماتها وهواجسها وهلوساتها واضطراباتها، مما يفسر كل السلوكيات الذهانية لهذا الكيان، وافتقاده للثقة جراء الوسوسة والشك حتى في حلفائه، وميله لسلوكيات الانتحار التي تجد لها رصيداً في "الماسادا"، وهو ما يفسر كل هذا العنف المادّي والنظري، والذي يصل إلى سنّ تشريعات مثل قانون المواطنة وقسم الولاء، وتتدرج الوسوسة والغرابة إلى دعوة الآخرين للاعتراف به كدولةٍ دينية يهودية في الوقت الذي يفاخر فيه بأنه يحتكر الديمقراطية، ويمنع لمَّ شمل عائلات، ومنع الزوجة الفلسطينية من الإقامة مع زوجها، وهو الذي يتلمس حدود الخطر.. يحرص بعناية على حلّ مشكلة اللاجئين، ويسهر على ذلك سرًّا وعلانية، بالتوطين والتهجير، بل ربما هو الوحيد للغرابة الذي يناقش هذا الموضوع مع زعامات الدول الكبرى، وهو الذي يصارع الوقت لزراعة المستوطنين وهدم بيوت السكان الطبيعيين، وينادى بالسلام ويجهد في نسفه..
إنه الخوف الكامل من كلّ شيء، فلا أمان لديه إلا بتدمير كلّ العالم، حين تصبح الأرض خاليةً من كل الأغيار، بل إنّه حينئذٍ أيضًا سيموت، إذ لن يكون هناك ذلك الآخر، الآخر الذي يمنحه ذاته وسماته ومبرر تشكّله، فإذا كانت كلُّ صفته أنه هو الشعب المختار المتميز عن غيره، فإنه سيفقد وقتها ذاته عندما لا يبقى على ظهر الأرض هذا الغير، مما يلغي مبرر استمرار هذه الصفة، فأيّ معنى لوجوده سيكون؟ إذا أردت أن تكون أفضل من غيرك، فلا بدّ أن يكون هنالك غيرك، أم أنها حالة الذهان!
الذهان: حالة مرضيّة تصيب الكيان النفسي والعقلي ينفصل فيها المريض عن العالم، ويعيش في عالمٍ خاصٍّ به مزدحمٍ بالأوهام والتخيلات والوساوس والهلوسة، ويبتعد عن الواقع، وتظهر لديه اضطرابات فكرية وانفعالية وسلوكية، وهذا كلّه مع كامل إحساسه بمنطقيّته وطبيعيّته.
أدب السجون.. إبداعات الأسرى الفلسطينيين.. محاولة لدقّ جدران الخزّان
تقرير: إعلام الأسرى
يحاول الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال "الإسرائيلي" مقاومة السجّان بكل ما أوتوا من قوة، من ذلك إشغال وقتهم بإبداعات متعددة، تكون مصدرًا للسعادة لهم، ويمكن إرسالها لذويهم كتذكارات فنيّة، أو يسعى بعضهم إلى تطوير ملَكته في الكتابة سواء في عالم الشعر أو القصة أو تأليف الكتب على كافة أنواعها ومجالاتها الاقتصادية والسياسية وغيرها.. فهناك الكثير من الأسرى الذي أبدع في الأدب والكتابة والروايات، والموسيقى والشعر والقصائد، والفنون التشكيلية، واللوحات والرسومات، والمعارض الفنية، والحرف اليدوية، والمشغولات اليدوية. ففي مجال الكتابة.. العديد من الأسرى حرص على تدوين تجربته في الأسر، وتدوين حياتهم اليومية حتى وإن لم يكن لديهم أملٌ في أن ترى النور ذات يوم، ومنهم من ألّف روايات وكُتب فكرية، مثل الأسير "أمجد عبيدي" الذي ألّف كتابًا عن المقاومة، و"ليلي أبو رجيلة" الذي كتَب رواية بعنوان "ليلة في الجحيم" تحكي عن تفاصيل الاعتقال والتحقيق.
ومن الأسرى الذين برعوا في مجال الكتابة داخل السجون: الأسير عبد الله البرغوثي، الأسير وليد الهودلي، الأسير محمود عيسى، الأسير ناصر أبو سرور، علي جرادات، فاضل يونس.. فكِتاب "أمير الظل" لـ "البرغوثي" كتبه وهو في العزل الانفرادي، يتحدّث عن سيرته وتجربته في المقاومة، و"الهودلي" أسيرٌ سابق كتَب روايات مثل "ستائر العتمة" و"خفافيش الليل" يوثق فيهما حياة الأسرى في التحقيق والعزل.
بينما الأسير "عيسى" ألّف سلسة كتبٍ وهو داخل السجن، منها رواية "صابر" التي كتبها بخط يده، وخرجت إلى العالم عن طريق محاميه. والأسير "علي جرادات" الذي كتب "شمس الأرض" وهي رواية تنقل تفاصيل دقيقة عن المداهمات والتحقيق والزنزانة والعلاقات بين الأسرى. والأسير "ناصر أبو سرور" الذي كتب خواطر بعنوان "ذكريات في الزنزانة" تتناول شوقه إلى أمّه، وكيف قضى أول رمضان بعيد عنها!
بينما كان الشعر في الوقت ذاته سلاحا آخر بيد الأسرى، من خلاله بثوا في قصائدهم حب الوطن والأمل والحلم بالحرية، وكان الأسرى يسعون إلى تهريب قصائدهم بشتّى الطُّرق حتى يتم نشرها لاحقًا. ولم يتوقّف الأسرى عند حدّ كتابة الشعر والقصيدة، بل لحّنوها لتكون لهم أغاني وأناشيد يردّدونها في المعتقل، ويرسلون أخبارها مع زيارات المحامين أو الرسائل المُهربّة، أو الأسرى المحررين.
ومن الشعراء الأسرى نستذكر أسرى ومحررين، منهم "محمد أبو لبن" الذي كتب ديوان "أيام منسية خلف القضبان" يصف فيه عزلة الأسرى وشوقهم إلى الحرية، و"علي عصافرة" الذي كتب ديوان "الضوء والأثر" داخل السجون يتناول فيه مفارقات الحياة اليومية بين الظلام والنور، و"سمير سرساوي" الذي كتب قصائد على أوراق دفاتر مدرسية تم تهريبها ونشرها لاحقًا.
وإن كان بعض الأسرى لديهم موهبة الصوت الجميل، قد يعلو صوتهم بين الأقسام، وبأدوات بسيطة يصنعون الدفّ أو أيّ آلة موسيقية، وتنشر هذه الأناشيد والأهازيج بين الأقسام انتشار النار في الهشيم! ومن الأسرى الذين أطلق عليهم لقب "مطرب السجن" الأسير "عصام الزبن"، كان يؤلّف الأغاني الوطنية التي ينتظرها الأسرى في كل مناسبة. فيما كان يحاول السجّان ذاته إشغال الأسرى بوسائل مختلفة لامتصاص أيّ محاولة منهم للمقاومة، لكنه لم يكن يعرف أن الأسرى يستثمرون أيّ وسيلة لتكون إعلان تحدٍّ وصمود بطريق مخفي، فعندما كان يوفّر السجان للأسرى موادًا للمشغولات الفنية أو الرسم أو التطريز الفلاحي، عمد الأسرى إلى صنع مشغولات ولوحات تتحدث عن الوطن ورسم خرائط لفلسطين، وإنشاء مجسّمات للمسجد الأقصى والقدس وقبة الصخرة، ومفاتيح العودة، وغيرها.. مما يظهر عميق تجذّر حبّ الأسرى لفلسطين الوطن والقضية. وبعض اللوحات التي رسمها الأسرى استخدموا فيها قطع قماش ممزّقة تم تحويلها إلى لوحة فنية. ويلجأ الأسير إلى صنع ألوان لوحته بنفسه من بقايا الطعام مثل البنجر والقهوة والكركم. وبالنسبة للمجسّمات، يستثمر الأسير أيّ شيء وكل شيء حوله، ليصنع منه مُجسّم، مثل قطعة صابون أو خشب، وحتى حبّات نوى الزيتون!
وبالانتقال إلى الحديث عن التطريز والمشغولات الفنية، فهو الجانب الذي تبرع فيه الأسيرات بشكل خاص، مثل تطريز الكوفية الفلسطينية، أو تطريز عبارات تتحدّث عن الحرية والصمود في وجه السجّان، بينما يبرع الأسرى بشغل الخيطان والخرز فيخرج إنتاجهم على هيئة مسابح وأساور وحُلي يهدونها لأمّهاتهم وزوجاتهم. وفي كثير من الأحيان كانت أعمالهم تُعرض في معارض فنية مثل معرض "تحية لأسرى وأسيرات الحرية" الذي أقيم في العاصمة اللبنانية بيروت عام 2023، أو تعمل اللجنة الدولية للصليب الأحمر على إيصالها لذويهم خارج السجون. ومن الأسرى الذين خرجت أعمالهم إلى النور، الأسير الغزي "حسن سلامة" -صاحب عمليات الثأر المقدس للشهيد "يحيى عياش" - والذي رسم لوحات باستخدام القهوة، والأسير "محمود عيسى" الذي نحت مُجسّمًا لقبة الصخرة من عظام الزيتون، والمُحرّر "نائل البرغوثي" الذي صنع مُجسّمًا لسفينة باستخدام علب التونة والأسلاك خلال إحدى فترات عزله.
[caption id="attachment_133312" align="alignnone" width="250"] حسن عبادي – حيفا[/caption]
المُغيَّبون خلف الشمس
التقيتُ على هامش معرض عمان الدولي للكتاب 22 في عمان بالصديق "فتحي صلاح"، وطلب مني إيصال كُتب إلى "نابلس"، وحين اتصلت بصاحب الكتاب.. قال لي بحماس: "هذا الكتاب رايح يعجبك"، فبدأت قراءته في "عمان"، وشدّني جداً لموضوعه، لأنّ غالبيّة "أبطاله" من معارفي الذين التقيتهم خلف القضبان في السنوات الأخيرة.
يتكون كتاب "المُغيَّبون خلف الشمس" من 337 صفحة، تصميم الغلاف: محمد أيوب، إصدار: دار المناهج للنشر والتوزيع في عمان، ومؤلفه الدكتور "عقل صلاح"، باحث فلسطيني في العلوم السياسية، حائز على درجة الدكتوراه في النظم السياسية المقارنة من جامعة القاهرة، وأسير محرّر. وكنت قرأت الكتاب عدّة مرات قبل إيصال النُّسخ إلى صاحبها، وكان من المفروض إيصالها يوم 07 أكتوبر وحصل ما حصل.
جاء الإهداء مغايرًا: "إلى مقامات الوطن العليا، إلى حرّاس الوطن، إلى الفدائيين خلف الشمس، إلى سَدَنة الحلم، إلى القادة الحقيقيين، إلى الأقمار على طريق النصر، إلى المحاربين الذين لا يستريحون، إلى ضمائر الوطن المُغيّبين، إلى الأحياء الحقيقيين في هذا الزمن... إلى كلّ الأحرار الذين آمنوا بفلسطين من بحرها إلى نهرها وطناً لا بدّ من خلاصة".
يبعد الكتاب - كل البعد - عن أدب السجون الكلاسيكي، فلا يتناول معاناة الأسرى وصمودهم، بل يتناول حكايات 10 عن قادة الحركة الأسيرة، ولكلّ منهم قصّة صمود وتحدٍّ وحكاية مغايرة؛ والأسرى العشرة (حسب ترتيب الكتاب) هم: أحمد سعدات، مروان البرغوثي، كريم يونس، نائل البرغوثي، جمال أبو الهيجا، كميل أبو حنيش، خالدة جرار، وليد دقة، حسن سلامة، زيد بسيسي. كان لي شرف لقاء 8 من هؤلاء الأسرى عبر القضبان في السنوات الأخيرة، وقضيت معهم ساعات كثيرة، وكان آخرهم الأسير "جمال عبد السلام أسعد أبو الهيجاء"، الذي أطلّ شامخاً بتسعة مؤبّدات، من قسم 3 في سجن "الجلبوع"، فأخبرته أنّني تعرّفت عليه من خلال كتاب "المُغيَّبون خلف الشمس" ممّا أذاب جليد اللقاء الأوّل بيننا.
يتّخذ الكتاب صفة "الكتاب البحثي"، وجاء في خمسة مباحث؛ عنوَن المبحث الأول "من قيادة الشعب الفلسطيني إلى غياهب السجون"؛ وتناول فيه مسيرة أحمد سعدات ومروان البرغوثي. والثاني "أقدم أسيرين سياسيين في العالم"؛ وتناول مسيرة كريم يونس ونائل البرغوثي. والثالث "من قيادة العمل الجماهيري إلى قيادة المقاومة في الانتفاضة الثانية"؛ فتناول مسيرة الشيخ جمال أبو الهيجا وكميل أبو حنيش. والرابع "البرلمانية والكاتب يدقون جدران السجون"؛ فتناول مسيرة خالدة جرار ووليد دقة. والخامس "من قيادة المقاومة والثأر المقدس إلى العزل الانفرادي"؛ وتناول مسيرة حسن سلامة وزيد بسيسي. تطرّق الباحث إلى الحياة الشخصية والتنظيمية لكلّ من الأسرى الذين تناولهم، مطاردتهم واعتقالهم، نهجه الثوري والمقاومة، موقفهم من التطورات الحاصلة على الساحة العربية، موقفهم من القضايا السياسية على الساحة الفلسطينية مركّزاً على التنسيق الأمني والاعتقال السياسي والمصالحة الفلسطينية وانعقاد المجلس الوطني ومنظمة التحرير والمفاوضات (الفلسطينية - الإسرائيلية) والانتخابات التشريعية الثالثة ومواقفهم من مسألة الانقسام وضرورة إنهائه وتحقيق الوحدة الوطنية، وضرورة إعادة بناء وترميم البيت الفلسطيني الداخلي، وصفقة القرن.
كما تناول العزل الانفرادي لفترات طويلة لقادة الحركة الأسيرة، ونضال الأسرى والإضرابات عن الطعام، وحرمانهم من الزيارات العائلية، واستهداف قضية الأسرى، وتطرّق إلى المطاردة الساخنة لبعضهم واعتقالهم من قبل السلطة الفلسطينية.
بالإضافة إلى ذلك، بحث المؤلِّف مسائل التعليم الجامعي العالي داخل السجون "الإسرائيليّة"، والثورة الثقافية الأدبية، ورفض إطلاق سراح غالبيّة هؤلاء الأسرى في الصفقات على مرّ السنين، واتفاقيات السلام، والتضامن الشعبي معهم محليا ودوليا. حاول الدكتور "عقل صلاح" رصد مسيرة الحركة الأسيرة عبر عشرة من رموزها النضالية الذين قضوا عشرات السنين خلف القضبان في زنازين الاحتلال المظلمة.. وتسليط الضوء على هويّتها التحرريّة. كانت مصادر الكتاب متعدّدة وغنيّة وشمولية، بعيداً عن الفئوية المقيتة؛ فاعتمد الكاتب على وثائق، وكتب، ودوريات، وتقارير وندوات ومرافعات، ورسائل وأطروحات جامعية، ومقابلات مع الأسرى (أبطال كتابه البحثي) وآخرين ممّن لهم صلة وعلاقة بهم، وروايات وشهادات، ورسائل وبيانات، ومواقع إلكترونية، وصحف، فجاء شموليًّا وموضوعيا.
يحاول الباحث تسليط الضوء على معاناة الأسرى داخل السجون، مؤكداً أنها من أهم القضايا السياسية والوطنية التي يجب أن تكون من أولى أولوياتنا، وعلى رأس الأجندة السياسية والإعلامية والجماهيرية والكفاحية، وليست مجرد قضية إنسانية وحسب. التقيت، كم ذكرت أعلاه، بغالبية من تناولهم الكتاب؛ وأعادتني قراءة الكتاب إلى تلك اللقاءات وأجوائها، وما زال عالقاً في ذهني منها؛ وكأنّي بالكاتب كان حاضراً بيننا في ساعة اللقاء. فالتقيت بأحمد سعدات يوم 3 يونيو/ جوان 2019 في سجن "ريمون" الصحراوي، وكتبت على صفحتي بعد اللقاء: تبادلنا أطراف الحديث فجاء مثقّفًا لأبعد الحدود، تحليلاته مدروسة ومنطقيّة، ملمّ بكلّ شاردة وواردة، بعيدة عن الشعاراتيّة ومتجذّرة بأرض واقعنا المرير... عن أهميّة التعدديّة وضرورة النقد البنّاء والموجّه، عن الانقسام المقيت في الشارع الفلسطيني وأمور أخرى. وكتبت بعد لقائي بـ "مروان البرغوثي" يوم 15 أيلول/ سبتمبر 2019 في سجن "هداريم": "حدّثني بحماس عن أهميّة مشروعه التعليميّ خلف القضبان، مسيرته مع طلبة البكالوريوس والماجستير من الأسرى، ناقشنا غرامشي وتشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة، نظرته ونبرة صوته تشعّ أملًا وإرادة وكلّها تفاؤل". أما "كريم يونس"، الذي التقيته يوم 10 يوليو/ جويلية 2019 في سجن هداريم، فسبق أن أكد لي ما جاء في كتاب "المغيبون خلف الشمس" بقوله حين رآني: "شُفِت إنّو معي حق؟"، وأعادني عشرات السنين حين كنت في البدايات، التقيته في سجن "النقب" الصحراوي للتوقيع على أوراق صفقة التبادل وابتسم حينها وقال: "سأوقّع ولكن لن تشمل الصفقة كريم، إسرائيل تفضّل إبطالها كليًّا إذا أصرّ الجانب الفلسطينيّ على ذلك"... وصدق!
وحين التقيت "نائل البرغوثي"، يوم 3 كانون الأوّل 2020 في سجن "إيشيل"، حدّثني عن اعتقاله المتجدّد، صبيحة 18 أفريل 2014، حين عودته من الصلاة تمّ "اختطافه" واعتقاله... والعالم يتفرّج صامتًا. اعتقال تعسفّي كردّة فعل لضغط المستوطنين... اعتقل للمرّة الأولى، يوم 4 أفريل 1978، وشعاره: "هاي طريقنا واخترناها"، دفعنا ثمنًا ولسنا بحاجة لمقابل، ولم يعوّل على حرّاس أبواب الكازينو في أريحا ولا حرّاس المولات. وفي يوم 11 شباط/ فيفري 2024 التقيته في سجن "الجلبوع" حدّثني عن عزله بسبب صلاته في "ساحة الفورة" رغم المنع "صلّيت بالساحة وحدي ذات جمعة، أخذوني على الزنازين الانفرادية لأربعة أيام". وحكايتي مع "كميل أبو حنيش" شرحها يطول، فقد التقيت به 9 لقاءات داخل السجن لساعات طويلة، وتبيّن لي أنه شتّان بين أن تقرأ عن أدب الحريّة أو عن أدب السجون، وبين لقاء أديب بين القضبان، وقد سجلت هذه اللقاءات في يوميات زياراتي للأسرى، ومتنفّسات الكتابة خلف القضبان. أما "خالدة جرار" فالتقيتها 5 مرات داخل السجن لساعات طويلة، قبل 7 أكتوبر وبعده، وما زال عالقاً في ذهني ما حدّثتني به ذات لقاء عن أهمية القيم الإنسانيّة، فعلًا وليس قولًا، تعوّل على الجيل الجديد، وأهميّة تقبّله للآخر وللتعدّديّة، وعلينا أن ندافع عن تلك القيم لنتحرّر ونرتقي، وكم تؤلمها الحالة التي آل إليها الشارع الفلسطيني، كفانا تباهيًا من أقلّنا وحشيّة وقمعًا، فـ "كلّنا تحت بُسطار الاحتلال". والتقيت بـ "وليد دقة" خمسة لقاءات داخل السجن لساعات طويلة، تناولنا "الزمن الموازي"، وصهر الوعي، والمحاولات المستميتة لاستهداف معنويّات الأسير في السجون عبر إعادة صياغة عقله وفق رؤية "إسرائيليّة"، فباتت السجون بمثابة مؤسّسات ضخمة لطحن جيل فلسطيني بكامله، وهي أضخم مؤسّسة عرفها التاريخ لإعادة صهر الوعي لجيل من المناضلين. حدّثني في اللقاء الأول بيننا عن ألمه وحسرته لاحتجاز السلطات حوالي ثلاثمائة جثّة فلسطينيّة ومنها جثمان الشهيد "فارس بارود" الذي توفيّ خلال فترة سجنه وما زالت جثّته محتجَزة.. وتساءل "فارس" محدّقًا بوجه سجّانه باستهجان: "هل ستحتفظ سلطة السجون بجثّتي حتّى تنتهي فترة محكوميّتي لتحريرها؟"، ونحن صامتون صمت القبور... وعكاكيز السلطة تفاوض!... ويا لسخرية القدر، ها هو "وليد" يستشهد داخل السجن وما زالت جثّته مُحتجزة.
وأخيرا، أشار الكاتب إلى مقالة نشرتها في حينه حول رواية "الكبسولة" في بداية مشروعي التواصلي مع أسرى يكتبون (ص. 174)، وكذلك مقابلة أجراها معي بعد واحدٍ من لقاءاتي بالأسير "وليد دقة"، تزامناً مع ذكرى يوم اعتقاله السادسة والثلاثين (ص.210).. وإلى مقالتي "الأسير وليد دقة يحلّق في سماء الحريّة" (ص.212)..
ووجدتني حين أنهيت قراءته للمرّة الأخيرة وكأنّي في جولة بين أصدقاء لي أتوق إلى لقياهم وعناقهم. يصل الباحث إلى نتيجة مفادها أن الحياة في السجن هي كفاح من نوع آخر ضد المحتل.. ولكن الاهتمام والتضامن مع قضية الأسرى في تراجع على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، ويُعزي ذلك إلى حالة الانقسام (الفلسطيني – الفلسطيني)، وضعف إدارة ملف الأسرى من قبل السلطة، وعدم وجود رد فعلي حقيقي من قبل القيادة لانتهاكات الاحتلال تجاه الأسرى.
ويختتم بمطالبة القيادة الفلسطينية تدويل قضية الأسرى قانونيًا ودبلوماسيًا، وتحييد قضية الأسرى ورواتبهم ومخصصات عوائلهم عن الخلافات الفصائلية، وممارسة الضغط على كيان الاحتلال من أجل تحسين ظروف اعتقال الأسرى وإعطائهم أبسط الحقوق. وينهي بمطالبة كل أبناء الشعب الفلسطيني الوقوف مع قضية الأسرى وإحياء كافة الفعاليات والمناسبات والوقفات الاحتجاجية بالمستوى الذي يليق بتضحيات الأسرى وعدم الاكتفاء بفزعات عرب موسميّة هنا وهناك من باب رفع العتب.
نعم، وإلى أن يتحرّر آخر أسير فلسطيني وعربي من سجون الظلم والعدوان الغاشمة، سنبقى ندقّ الجدران ونقرع الأجراس.
"ضرغام قريقع".. استشهاد لوحة فنية
تقرير: يامن نوباني – غزة
استشهد صانع البسمة على وجوه أطفال النزوح والخيام، "ضرغام قريقع" (28 عاما)، خلال استئناف حرب الإبادة على قطاع غزة، فجر الـ 18 من آذار/ مارس 2025، واستشهد معه 26 من أقاربه، زوجته "آية القدرة". عرفه الأطفال في مخيمات النزوح من خلال العروض المسرحية، وسينما الخيام، وفعاليات الرسم والسباحة والغناء، فكان وجهة أمل وفرح في أوقات الشدة والروتين اليومي لحياة صعبة للغاية.
استشهد "ضرغام"، بعد أن ملأت روحه المرحة، التي صنعها طيلة أشهر الإبادة، أجواء متفرقة من أرض غزة، رابطا الأمل بموت الروح، والروح عنده الفن، الفن الذي لا يموت. كما كان يكتب بعد كل فعالية ينفذها لصالح صنع الابتسامة على وجوه الأطفال. ولد "ضرغام" في الأول من آذار/ مارس 1997، لكن عام 2025 حمل معه كل التواريخ الهامة في حياته، فخطوبته تمت في الثاني من يناير/ كانون الثاني 2025، وفي الرابع عشر من شباط 2025 زُفّ عريسا إلى زوجته "آية"، دون أن يدركا أن أيامها سوية معدودات، وأن قدرهما في العيش معاً سيكون لـ 32 يوما، ليكون الزفاف الأبدي إلى الجنة في 18 آذار/ مارس 2025.
وجد "قريقع" في الفن مُتنفّسا وحياة تحاول أن تنجو بقدر استطاعتها وقتالها، في مواجهة الإبادة وظروف الجوع والتشرد والبرد. فعاد مع العائدين من جنوب القطاع إلى شماله، ليصعق من تدمير منزله ومرسمه في غزة، وكافة لوحاته الفنية، يقول: بعد 15 شهرًا من التهجير، عدت إلى غزة لأجد نفسي أمام حقيقة لا تصدق وصعبة جدا؛ بعد تدمير منزلي ومرسمي تدميرا بالكامل من قبل الجيش الإسرائيلي، وكل أعمالي الفنية التي كنت أعدّها لمعرضي الأول "حتى ينبت للكرسي جناحان" اختفت تحت الركام. كانت تلك الأعمال أكثر من مجرد لوحات؛ وكانت جزءا من روحي، من أحلامي التي طالما حلمت أن أشاركها مع المتلقي، ما حدث ليس مجرد تدمير للأشياء، بل هو محاولة لطمس الذاكرة، الثقافة، والإنسانية.
وفي اللحظة التي وقع فيها بصر "قريقع" على لوحاته المدمرة، كتب على صفحته في فيسبوك: "اليوم، يتم تدمير كل شيء. مرسمي الذي كان ملاذي للإبداع والحرية، يتحوّل إلى مجرد ركام تحت وطأة آلة الحرب. الجيش الإسرائيلي، قام بتدمير جميع أعمالي الفنية. أعمال كانت تعبّر عن تاريخ، عن وطن، عن آلام وأحلام شعب.
الفن بالنسبة لي ليس مجرد رسم على لوحات؛ هو وسيلة للتعبير عن المعاناة، عن الحياة، وعن الأمل رغم كل شيء. لكن اليوم، قتلوا ليس فقط لوحاتي، بل قتلوا جزءًا من روحي. ومع ذلك، أؤمن بأن الفن لا يُمكن تدميره. طالما هناك روح مبدعة، سيظل الفن حيا فينا.
هذه الأعمال هي جزء من قصتي، جزء مِن كلّ مَن تألم، كل من فقدَ. ولكننا، نحن الشعب الذي لا يموت، سنواصل السعي نحو الحرية. مهما دمروا، سيتجدد الفن في كل زاوية وكل قلب.
في نهايات العام الماضي، 2024، قام "قريقع" وفريق عمله، بتقديم عدة فعاليات ساهمت في تخفيف وطأة الحرب على نفسيات الأطفال الغزيين، وكان أبرزها مسرحية (اليوم التالي)، وكان "قريقع" بعد كل أداء وفعالية يصف يومياته قائلا: "يوم رائع وجميل وعرض موفق ومؤثر بين خيام النزوح في مواصي القرارة بخان يونس، مئات من الأهالي في مخيمات النزوح من الأطفال والنساء والشباب حضروا العرض المسرحي وكانوا في غاية السعادة لأننا عبّرنا عن وجعهم وأمنياتهم في المسرحية. سنظل نقدّم الدعم النفسي في مبادراتنا لنعطي النازحين قليل من الأمل في ظل الحرب الإبادة الجماعية التي يعيشونها من جرائم الاحتلال وفقدان العديد من أهلهم وذويهم وأحبابهم، لن أنسى شكل وصوت ضحكاتهم في هذه اللحظة. كُلنا نحاول لنصبح كُلنا بخير. دائما مستمر، لن يمنعني إلا الموت".
وحول مسرحية (يوميات نازح)، نشر "قريقع": "على ألحان الموسيقى الوطنية والأغاني الفلسطينية وعروض المسرحية، اجتمع العشرات من الأهالي وأطفالهم النازحين ضمن أحد المخيمات في بلدة القرارة قرب الطريق الساحلي يستمعون للفقرات التي أخذتهم إلى أجواء بعيدة عن الحرب المدمرة، هم ليسوا بعيدين لأنهم جزء منها، فمنهم من فقد أقاربه، ومنهم من ولد خلالها، ومنهم من نزح مجبرا من منزله". وتابع: قضى الأهالي ساعات ترفيه وترويح عن النفس في فعاليات أقامها الفنان ضرغام قريقع مع فريقه أملا في نثر الفرح رغم الجراح، أجواء تشبه الرحلة التي غابت ملامحها عن الأهالي لأكثر من عام، أخذتهم تلك الفعاليات إلى لحظة فارقة يحنّ لها السكان المعذبون في كافة المناطق. وفي آب من العام الماضي، صنع "قريقع" وفريقه تجربة للرسم للأطفال، واصفا تلك التجربة: على مساحة أكثر من ثلاثين مترا عاش الأهالي والأطفال تجربة الرسم والتفريغ على سطح لوحة كبيرة، بعيدا عن اللغة المنطوقة والمحكية، قامت سواعدهم برسم ما راقت له أرواحهم، لتكون لوحة حرة من الألوان الانفعالية والمشاعر المختلطة والمختلفة لعدد كبير من النازحين المتعبين، هذا النشاط هو فرصة لتفريغٍ عن الروح والنفس يحاكون فيها عن فلسطين التي نحبّ وعن بيوتهم التي اشتاقوا لها وعمّا تبقى من أحلام.
وفي تموز/ جولية من العام الماضي أيضا، أحضر "قريقع" والمتطوعون والمدعومون من الجمعيات الخيرية، مسابح بلاستيكية للأطفال في مخيمات القرارة وخان يونس، وعاش الأطفال يوما صيفيا منعشا، وصفه "قريقع": افتقد الأطفال أجواء المسابح اللطيفة والمياه النظيفة خاصة في هذا الوقت الراهن مع تصاعد العدوان والحر الشديد في الأجواء الصيفية الصعبة. فقمت بمبادرة المسابح لتعويض الأطفال عما سبق منذ 9 أشهر، ليعيشوا أجواء الصيف الممتعة والمنعشة بمياه نظيفة، حتى يستعيدوا الفرحة الجماعية سويا. وفي حزيران/ دوام 2024، عرض "قريقع" عبر ما أسماها "سينما في المخيم" أفلاماً كرتونية على شاطئ الزوايدة وسط القطاع، بحضور حاشد للأطفال وذويهم، الذين كانوا يسترقون الحياة من فم الطائرات والمدفعية.
كان "قريقع"، كحال كافة أبناء شعبنا في القطاع، الذين يشعرون مع كل صاروخ أن رحيلهم قد اقترب، وأن الحظ فقط يؤجل استشهادهم، مهددة حياتهم في كل لحظة، موصين ألا يكونوا مجرد أرقام، وأن يتم التحدث عنهم في كل وقت، فيوصي "قريقع" في كلمات طالما كرّرها في الأسابيع الأخيرة على موقعه في فيسبوك: إن لم يكتب لنا أن نستمر في العيش، فاحفظوا فعلنا وأسماءنا وصورنا واكتبوا على قبورنا بخط بارز: "هنا يرقد من أحبّوا الحياة وما استطاعوا إليها سبيلا".
[caption id="attachment_169553" align="alignnone" width="260"] هبة الأغا (كاتبة ومدربة كتابة إبداعية)[/caption]
صورة مُشوّهة للنجاة
لم تكن رحلة النجاة عادية أبداً، فقد كانت مخاطرة فردية منذ البداية، وخلاصاً شخصياً للعائلة في ظل كل هذا الخوف الملتصق في الروح والجسد. ولم يكن الجسد الذي يسير بك من مدينة إلى مدينة ومن مكان إلى مكان جسداً عادياً، إنما كان ماكينة تسير بوقود الخوف والبحث عن مأوى وطعام وشراب. أمّا الروح، فقد انفصلت عن هذا الجسد الذي بدأ يتساءل عمّا يحدث له، ويدور في فلكه، فلم تكن الروح تقوى على احتمال كل ما يحدث، إذ التصقت في مكان ما تراقب هذا الجسد الذي صار تائهاً، وهو يركض بلا وعي منه، باحثاً عن النجاة بأيّ وسيلة تجعله حيًّا، حتى وإن كان ميتاً يسير على قدمين. وكلما مرّ الوقت، كانت تزداد الأسئلة، تلك التي لم يعد أحد يعرف إجابة لها. بدأ السؤال كبيراً، ومتفرعاً وتائهاً، وكل التفرعات الأُخرى لا تفضي إلى شيء، إنما تبعث فيك مزيدا من الشك، بشأن كل ما كان في الماضي والحاضر، وما إذا كان لك مستقبل يمكنك أن تتخيله، أو حتى تجرؤ على التفكير فيه. وكان الخروج من البيت هو السؤال الأول الذي يراودنا، ثم كبرت الأسئلة وصار الإصرار على البقاء إجابة موقتة لكل الأسئلة، بينما كان الانتظار رفيقاً دائماً للأيام التي صارت ملقاة في هوامشنا، لا نعرفها إلاّ من الأخبار، أو بالصدفة البحتة. وإن الباب الذي فتحته الأسئلة صار كابوساً للغزّي الذي أضحى رحّالة بلا هدف، يرجو النجاة بأيّ طريقة، ولا يهمه شكل جسده، ولا وجهه الشاحب، ولا ملامحه التي تغيرت. فقد صرنا لاجئين ونازحين، نحمل أمتعتنا من مأوى إلى مأوى، ومعنا الأسئلة الكبيرة والصغيرة، وأسئلة العائلة والصغار، وأسئلة الفتيات والشباب. فما المعنى من بقاء هذا الجسد حيا؟ ذاكرتي اليومية حامضة، إذ نسيت فيها شكل بيتي ويومياتي، والأيام متكدسة في التقويم كالقنابل، إذ أكاد أنفجر فيها أو تنفجر فيَّ. وفي القلب غصّة، وكابوس لا يحتمله عقل؛ فالبيوت التي تركناها وراءنا ليست جدراناً عادية، فهي من أجساد العائلة ومن لحمها، وذاكرتها، وغضبها، وفرحها. هذه البيوت هي رجل وامرأة وأولاد، وهي شكل العائلة في صورة جماعية على الحائط. لقد نامت البيوت مؤخراً فوق بعضها، فلا أبواب ولا شبابيك، ولا أحضان ولا وداعات أمام البيت، ولا قوارير من الورد ولا أشجار، حتى الطريق المعبّد الذي يجعل البيت أكثر أناقة ضاعت ملامحه، والبيت الذي يسكن وسط حديقة دُفِن داخلها. أغرق في الغضب حتى آخذ شكله، فيسمع الجيران صوت زمجرتي التي تتصاعد كالدخان على الرغم من أنني امرأة تكره الأصوات العالية، فقد صرت أنا صوتاً عاليا. أرتّب ذاكرتي المهاجرة في أدراجي الصغيرة، وفي علب المطبخ البلاستيكية، وفي علب الشامبو ومسحوق الغسيل. كيف يمكن أن أطوي ما تبقّى من تفاصيل حياتي في خزانة أطفالي؟ وكيف ألملمها سريعاً لأدسّها في حقيبة النزوح؟ كيف تركت ماكينة القهوة عرضةً للغبار والصوت؟ وكيف تركنا الشبابيك مغلقة؟! تطاردني كلمة "نزوح" في كل مكان؛ فتأتيني من الشبابيك الباردة، ومن الليالي المخيفة، وتطلّ علينا من أصوات الأنين حين يمرض أحد الصغار، وتباغتني في لحظة أضحك فيها وأنسى نفسي، وتتكوّر في الحقائب وتنساب في زجاجات المياه الفارغة، وتلتصق بأحذيتنا التي قطَعت المسافات بحثاً عن مناديل وعلبة زيت، وتصعد معنا على الكارات والعربات التي نستقلّها، وتربض في سيارتنا التي تتحرك فقط لمشاوير النزوح من المدن حفاظاً على ما تبقّى من بَنزِينها. إن الذاكرة الحامضة تلسعني، فالأيام تتمدد على أرض المشفى كالشهداء، وتقضي نحبَها أيضاً، وترحل معنا إلى الأبدية، وفي الوقت نفسه، هي عُدّتنا في الحرب، نطويها كالجرابات وندسّ بعضها في البعض الآخر كي لا تضيع، ونحسبها على أصابعنا ونحن نرى ضياع العمر. كنتُ أتحسّس أطراف صغاري طوال الوقت، وأمارس أمومتي الخائفة في مساكن الأصدقاء. إذ لم يعد لنا بيت نصرخ فيه على أولادنا حين تزعجنا فوضاهم، فأجدني أطالبهم طوال الوقت بخفض صوتهم وأنا أتآكل من الداخل، وأتذكر كيف كان صوتي يعلو في بيتي، فأتخيل أن جيراننا قد سمعوا كل الحكاية اليومية؛ وأنا أنادي على الأولاد: "يلا ناموا، يلا فرشوا سنانكم، يلا ادرسوا!" كنّا في البيت نمارس حياتنا العادية، لا يهمنا رأي الجيران، ولا المارّة في الشارع، فنحن في بلادنا، لكننا الآن بتنا نقول: "عيب إحنا مش في مكاننا، وطّوا صوتكم، إيش يقولوا عنّا المصريين." هذا هو الطريق الذي سلكناه في الخروج، لقد وصلنا إلى أبعد من الحدود، فبعد انعدام الإجابات، بدأنا نقرر مصيرنا المكبّل بالخوف والموت إلى مصير مكبّل بالحزن والغربة، فالانتقال من مدينة إلى مدينة داخل البلد الذي تعرفه كان هيّناً، لكنك الآن تنتقل إلى مدينة جديدة بكل التفاصيل، في بلد جديد، ربما تميل إليه، أو يميل إليك، لكنه ليس بلدك. عام مرّ سريعاً، والحرب تأكل ما تبقّى من وجوهنا وذاكرتنا، عام مرّ وكأننا كنا نعرج في الطريق. لا أحد يعرف استقامة ظهره إلاّ وهو يرفع عينيه للسماء كي يبكي. لا أحد يفهم أوجاع معدته التي لا تهدأ، أو فرط القلق الذي لا ينام فيه أبداً، ولم نعد نرى في الزوايا إلاّ أيامنا الماضية، فيشبهنا هذا البرواز، وتشبهنا هذه الصينية، ويشبهنا هذا المفرش، وهذا الكرسي، لكن لا شيء هنا كان يشبه البيت. مررنا على أسنان الخوف ولضمنا شفاهنا، فصرنا لا نتكلم عمّا وجدناه من ضيق خارج البلد المنكوب، فما فيه اغتراب أشد، وموت أقسى، ومرارة العيش ومقتلة الأمل. كنّا نخاف من النجاة وكأننا ارتكبنا إثماً، ونعلل ذلك بأن ثمانية أشهُر من الحرب علّمتنا الكثير، وذقنا فيها ما ذقناه، لكنها لم تكن كافية لنطمئن. نحن خائفون طوال الوقت من صوت الطائرة المدنية التي تمرّ فوقنا، فنخفض رؤوسنا منتظرين الصاروخ، وخائفون من أن يمسكنا أحدهم متلبّسين بعصير بارد، أو بقطعة حلوى، أو بوجبة شهية، ثم نعلل ذلك قائلين: "عشنا حرباً وحرماناً"، وخائفون من اللا لقاء، واللا عودة، ومن أن نعيش كالذين فرّقتهم نكبة الـ 48، فيصبح التيه تيهَين، والنكبة صارت نكبة أُخرى. وتصل إلينا الأخبار في القاهرة، بعد عودة النازحين إلى الشمال: "بيتكم بخير الحمد لله. البيت الواقف أحسن مليون مرة." فيفجعني سؤال جديد: لماذا لسنا هناك ولم نعد مع العائدين؟ كيف كان قرار الخروج من البلد مجازفة لكل حقوقنا المشروعة في العودة إلى البيت؟ وعلى الرغم من أن كوننا نموت ببطء أو بسرعة لا يهم، فإن حالنا لم يكن مناسباً في المقام الذي نختار فيه البقاء أو السفر. وتأتيني فيديوهات للبيت: "المكان ناقصكم، البيت مش حلو من دونكم، لكن غزة لا ماء فيها ولا حياة، لا ترجعوا.. ". ويعود السؤال مجدداً؛ ماذا فعل البيت في غيابنا؟ وكيف تبدو أشياؤنا هناك؟ ما قيمتها الآن ونحن بعيدون عنها كل هذه المسافات؟ كنت أنظر إلى البيت وتعتصرني حسرة الذكرى. هنا جلسنا آخر أيامنا، وهنا شاهدنا آخر فيلم، حتى الذين خسرناهم في الطريق جلسوا معنا هنا. كل شيء كان مغبراً مقلوباً على رأسه، ولم يعد يشبه البيت الذي كنت أضع فيه القواعد والقوانين، فلم تكن تمرّ نسمة إلاّ عن طريقي، أمّا الآن، فقد صار مكاناً مهجوراً مصاباً في نوافذه وأبوابه وجدرانه، ولا قيمة لشيء فيه ونحن بعيدون عنه كل هذا البعد. لقد وجدوا الرصاص الكثيف يخترق غرفة نومي، ورصدوا رصاصة كسرت مرآتي من المنتصف؛ مرآتي التي كنت أمارس فيها ثقتي اليومية، وحمولات الخيبة وفقدان الطريق، وافتعالات الفرح، وأنوثتي المؤجلة بعد نوم الصغار، وسيلفي قصير. مرآتي الغريبة التي كانت تحمل فوق طاقتها من التمادي في المديح، لكنها في أيّ حال كانت مرآتي الأنانية، وقد ذهبت الآن كل الصور التي عرفتني بها، وسجلتها في ذاكرتها الزجاجية، ولم ترَ إلاّ آخر صورة لي؛ وأنا أحمل البيت معي وفي عينيّ آلاف الدمعات، وقلبي ينزف على بلاط البيت، وكان النزيف طويلاً، ولم يتوقف منذ ذلك الوقت، ليبقى السؤال الكبير المُلِحّ كل يوم: "هل هناك عودة إلى البيت؟". يلحّ هذا السؤال، بينما يلتهم صغاري شعوراً سريعاً بالخوف، وهم يتساءلون عن إمكان أن تعود الحرب لتعلّق وجه الحياة من جديد، وهل سيعود الجوع لكي يعلّقهم على بواباته من جديد؟ والشوق يغمز لنا في كل مرة، ويمد يديه، ويسحبنا إلى لحظة خالدة من العناق بعد غياب قسري مع الأحبة، لكنها عادت وتوحّشت أكثر، وصار الخوف من المجهول والحياة التي تنزلق من بين أصابعنا تزداد توحّشاً، ونحن فقط نراقب وننتظر ونتألم ونحزن ونبكي بصمت، أو حتى بصوت مختنق لا يسمعه أحد. نحن صوتٌ أراد الحياة، لكن الحياة لم ترِده! وقد عادت هذه الحرب وهي تحمل في مخالبها موتاً جديداً لنا، ولأحلامنا بالعودة. عادت وهي تلوّح لنا بغربة طويلة، وبجوع يفتك بالأصدقاء. الحرب غولة لا تشبع من الدم، ولا من القهر، أمّا نحن، فعدنا نلتصق بفكرة الموت والطائرات المدنية تحلّق فوقنا، لكننا نظنه الموت. إنه الموت ملتصقاً بقمصاننا حتى وإن استبدلنا غيره، مركوناً في حقائبنا حتى ونحن نخفيها تحت السرير، ويقضي معنا اليوم كله، ويأكل معنا وقتنا الحذِر متربصاً بنا وبكل محاولاتنا النجاة، أو التي ظنناها فعلاً نجاة.