الدكتور “محمد رضا زائري” أكاديمي مُتخصِّصٌ في الإعلام الديني والفلسفة الإسلامية والعلاقات (الإسلامية – المسيحية). وهو كاتب وأديب متميّز له أكثر من ثلاثين مُؤلَّفًا في الأدب والترجمة والكتابة الإبداعية والسّردية، تُرجِم بعضها إلى اللغات الأجنبية: الإنجليزية والفرنسية. وهو إعلاميٌّ بارز تجاوزَت مسيرتُه الإعلامية ربع قرنٍ، أسّس خلالها دوريات ومجلاّت، وشغل رئاسة تحرير جرائد منها “همشهري” وهي أكبر جريدة في العالم باللغة الفارسية. إضافة إلى نشاطاته وأعماله في المجالات الثقافية والفنية والإنتاج السينمائي والتلفزيوني. وله أيضًا نشاطٌ كبير في مجال النشر، حيث أنشأ مؤسسة إعلامية مستقلة يَصدر عنها مجلة شهرية ما زالت مُستمرّة في صدورها منذ 23 عاما.
وهذه المساحة: “بحثًا عن الجيم”، تجربةٌ إبداعية أخرى يخوضها الدكتور “محمد رضا زائري” على صفحات جريدة “الأيام نيوز”، يُوثّق من خلالها وجودَه مُستشارًا ثقافيا لإيران في الجزائر.
سأرجع إلى الجزائر كل سنة!
كنت قد سمعت أن شهر رمضان المبارك في الجزائر يختلف تمامًا عن سائر البلدان الإسلامية، وله طعم خاص وذوق فريد. لذلك كنت متحمسًا جدًّا لاكتشاف مزايا صوم رمضان في الجزائر خلال عامي الأول في هذا البلد. كان لديَّ فضول لرصد أي ظاهرة اجتماعية وأي تغير في العادات اليومية، فكنت أقرأ وأتابع وأرصد الشوق في العيون واللهفة في القلوب، وكيفية الاستعداد لهذا الضيف الكريم والغالي على الوجدان والجوارح! وجدت أن شهر رمضان المبارك في الجزائر لا يقتصر على ثلاثين أو تسعة وعشرين يومًا كما هو الحال في البلدان الأخرى، بل يبدأ التحضير له منذ بدايات شهر شعبان -إن لم نقل منذ شهر رجب- ويستمر إلى أواسط شهر شوال. فالناس يشرعون في الاستعداد له بتبديل أثاث البيت وأواني المطبخ، وتهيئة المساجد (كما هو الحال عندنا في إيران)، خاصة وأن الشباب والأطفال لديهم نوع من الشوق لضيافة الله في المساجد خلال الشهر الفضيل. كنت أرى الشوارع شبه مهجورة، والمحالّ مغلقة خلال ساعات النهار، إلى درجة أنني لم أكن أتمكن من الحصول على الصحف اليومية، لأن الأكشاك التي تبيعها غالبًا ما تكون من بين الأكشاك التي تبيع التبغ، وتكون مغلقة في النهار! كنت أشعر بأن الناس بكل فئاتهم العمرية صائمون، من الأطفال إلى الشيوخ، وعلى حد تعبير أحد زملائنا الذي كان يقول: حتى العصافير في السماء تصوم خلال شهر رمضان في الجزائر! وأكثر من ذلك، كنت أحس بأن هناك روحانية غريبة تنتشر في الجو العام، وأن الفضاء مليء بعطر المعاني الإلهية وعبق مقدّس، وكأن ملائكة السماء تحفّ المواطنين دائمًا... كنت أسمع وأرى عبارة "رمضان كريم" تتردد حتى قبل بداية الشهر، وكانت تصل إلى مسامعي يوميًا عبارة "صح فطورك"، وأشهد تعمقًا كبيرًا في مستوى العلاقات الاجتماعية وسلوك الناس فيما بينهم. وليس ذلك بغريب، فهو شهر كما قال عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا جاء رمضان، فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين." وكلما اقترب وقت الإفطار، كان الناس يسارعون إلى العودة إلى بيوتهم، وتجتمع العائلات في أجواء تسودها المحبة الغامرة والعطف الفياض. ولن أنسى أول إفطار لي في بيت أحد الإخوة الإعلاميين؛ حيث كسر الصوم باللبن البارد والتمر! بينما نحن في إيران معتادون على شرب الماء الساخن مع التمر قبل كل شيء. استمتعتُ بذلك، وكانت تجربة جديدة بالنسبة لي. بعد ذلك جاء دور "الشوربة" و"البوراك" طبعًا، حيث يُقدَّم الطعام مباشرة بعد الإفطار بالتمر واللبن. وهنا أيضًا وجدتُ مفارقة صغيرة، إذ كنت معتادًا في بلادي على التريث قبل تناول الطعام الثقيل والاستمتاع بالوقت للصلاة. خرجنا بعد ذلك إلى المسجد، فوجدت أجواء صلاة التراويح مبهجة ومبهرة جدًّا، وكنت آمل أن أبقى في تلك الأجواء لساعات طويلة. كنت أرى في وجوه المصلين وأحوالهم مشاعر عبوديةٍ خالصة لله سبحانه وتعالى. ولا حاجة لذكر الحلويات التي تلعب دورًا أساسيًا في ترسيخ معالم الحياة المجتمعية خلال شهر رمضان، ويكفي أن "قلب اللوز" وحده استطاع أن يسخّر قلبي في تلك الليلة، مع طعم الشاي الجزائري ونكهة النعناع المنعشة. وكما جاء في الحديث الشريف: "للصائم فرحتان: فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه"، نسأل الله سبحانه أن يجعل لقاءه مفعمًا بالجمال والسرور والفرح، مليئًا بالحلاوة ورائحة الجنة الطيبة، كما جعل صيامي في الجزائر مليئًا بأحلى الذكريات، وأروع الصور والمشاهد، وأطيب المآكل والحلويات. والآن، عندي أمل، وهو أن أتمكن -كما قلت لأحد الأصدقاء الجزائريين- من السفر إلى الجزائر كل سنة لقضاء شهر رمضان في هذه الأجواء القدسية، وبين أناس طيبين أحببتهم من صميم قلبي.