2025.07.08



الحنين.. وطنٌ يُهاجر إليك فسيفساء

الحنين.. وطنٌ يُهاجر إليك


نازك عصفور
17 يونيو 2025

الحنينُ، يا صاحبي، ليس شعورًا عابرًا… إنّه وطَنٌ متنقّل، يسكنُنا حين نُغادر الأوطان، يُربكنا حين نَضحك، ويُبكينا دون سابقِ إنذار. ليس له زمانٌ محدد، ولا مكانٌ معلوم، بل هو زائرٌ عنيد، يأتي متى شاء، ويَرحل متى قرّر أن يُمزّقنا.

الحنين هو أن تستيقظ على رائحة خبزٍ لم يُخبز، على صوت أمٍّ تُناديك من زمنٍ لم يعُد يُجيب، على ضوء شمسٍ يشبه تلك التي كانت تتسلل من نافذة غرفتك القديمة. هو أن تمسك صورةً باهتة، فترى فيها طفولتك، وضحكةً لم تعُد تعرف مَن كان صاحبها.

هو أن تمرّ بأغنيةٍ عابرة، فتتجمّد فيك اللحظة، وتسمع ما لم يُقل، وتبكي ما لم يحدث بعد. هو أن تقرأ رسالةً قديمة، وتُعيد قراءة كلّ التفاصيل التي لم تكن تفهمها حين كُتبت.

الحنين لا يطرق الأبواب… هو يُفجّر الجدران، يتسرّب من ثقوب الذاكرة، ويتسلّق جدران القلب كما تتسلّق شجرةُ ياسمين جدارًا متآكلًا.

الحنين ليس ضعفًا، بل هو القوّة الخفيّة التي تُبقيك إنسانًا. مَن لا يَشتاق، لا يَعرف الحبّ. ومَن لا يَحزن، لم يعرف يومًا لذّة الاكتمال.

إنه الغائب الحاضر. يُقيم في ركنٍ خفيّ من القلب، وينمو بصمت، كغصنٍ أخضر نبتَ وسط صحراء من النسيان. هو أن تشتاق لأمّك وهي أمامك، لأنّ الحنان الذي كنتَ تعرفه تغيّر. أن تشتاق لذاتك القديمة، لصوتك حين كان أكثر صدقًا، لضحكتك حين كانت بلا خوف.

الحنين لا يُعالج. لا يُقاوم. كلّ ما نفعله هو أن نُخفِيَه في جيب سترتنا، أو نضعه تحت وسادتنا، أو نُذوّبه في فنجان قهوةٍ نحاول فيه الهرب من أنفسنا.

إنه ليس حنينًا لمكانٍ فقط، بل لأشخاصٍ، ولأزمانٍ، ولقلوبٍ كانت تنبض بقربنا. هو اشتياقٌ لحياةٍ كنا نعيشها دون أن نَعي قُدسيّتها.

فلا تَسخر من قلبٍ يَحنّ، ولا من عينٍ تدمع على ماضٍ، ولا من ابتسامةٍ هربت فجأة حين مرّت رائحةٌ ما. لأنّك حتمًا، ذات مساء، ستشرب من الكأس ذاته، وستعرف أنّ الحنين ليس خيالًا، بل كائنٌ حيّ، يُهاجر إليك كلّما ظننتَ أنك نسيت.

هو المنفى الذي نرتضيه، والوطن الذي لا نملكه، واللحظة التي لا يمكن أن نُعيدها… الحنين، يا صديقي، هو الوطن حين يُهاجر إليك.