2025.07.08



غربة الداخل فسيفساء

غربة الداخل


نازك عصفور
17 يونيو 2025

ليس كلُّ تائهٍ بلا خريطة، فثمّة خرائط خفيّة في صدورنا، مرسومة بالحزنِ، مطويّة تحت رمادِ الصبر.

تُرى، هل للغربةِ حدودٌ تُرى؟ أم أنَّ أقسى المنافي هي تلكَ التي تسكنُ الضلوع، وتندسُّ بين نبضات القلب؟ ليست الغربةُ سفرًا ولا مطارًا، بل قد تكونُ غرفةً مزدحمةً بالضحكِ فيما قلبك مُلقى على رصيفِ الوحدة.

كلّ صباحٍ نرتدي ملامحَ الأمل كما نرتدي قمصانَنا، نُقنِعُ المرايا أن الحياةَ ما زالت تُعاش، لكن المرايا لا تكذب، والوجوه لا تُجيد التمويه إلى الأبد. في العيونِ خيانةٌ للفرح، وفي الصمتِ لغةٌ لا يُجيدُها سوانا.

أيّ غربةٍ هذه التي تجعلك غريبًا عن اسمك، عن صوتك، عن ضحكتك التي اعتادت أن تسبقكَ إلى الناس؟ أتكونُ غريبًا حين تجهلُ وجهَك في المرآة؟ أم حين تستجدي نفسَكَ من الصور القديمة؟

أحيانًا، يبدو الماضي غريبًا كالمستقبل، وكأنك وُلدتَ للتّيه، لا للثبات. فلا أنتَ إلى البداياتِ تعود، ولا إلى النهاياتِ تطمئن. تبقى مُعلّقًا في برزخٍ من الحيرة، تتدلّى من حبالِ الأسئلة، وتنهارُ في حضنِ لا أحد.

الغربةُ ليست شعورًا عابرًا، بل وطن بديل يسكننا رغمًا عنّا. وطنٌ بلا تراب، بلا جواز سفر، بلا لغةٍ مفهومة، فيه نحن الغرباء عن كلّ شيءٍ، حتى عن أنفسِنا.

تمضي الأيامُ ونحن نُجمّلُ الغصة، نضعُ الأملَ في فناجينِ القهوة، ونرسمُ الصبرَ فوق الأرصفةِ المبلّلة. لكنّ الشوقَ إلى ذاتنا الأولى، يظلّ يقرعُ أبوابَ القلبِ كضيفٍ لا يُغادر.

نمشي في الدروبِ كأنّ الأرضَ لا تعرفُ خُطانا، نُحادث الصدى، ونُجالس السراب، ونرجو من الوهمِ أن يدلّنا علينا.

ورغم هذا التيه، ثمّة ومضاتٌ تُضيءُ العتمة: لمسةُ أمٍّ كالماءِ على الرماد، صوتُ مؤذّنٍ في سكونِ القلب، عناقُ الذاكرةِ حين يخونُ الحاضر.

لعلّ الغربةَ لا تنتهي، لكنها تُروى، تُكتَب، تُغنّى، حتى تصير أقلَّ وَقعًا، وأخفَّ ظلالا.

الغربةُ لا تُشفى، ولكنّها تُهذّب. لا تذبل، ولكنّها تُعلّم. في كُلِّ نَفسٍ حكايةُ ضياع، وفي كُلِّ نظرةٍ أنينُ عائدٍ من المنافي إلى المنافي.

فامضِ، وإن تهتَ عنك، فربما تعودُ إليك ذات قُربى، على هيئةِ قصيدة، أو حُلمٍ لم يكتمل.

فلنكتب، لنُفصِح، لنتنفس. فإن لم تُدركنا الأوطان، أدركتنا الحروف. وإن لم نَسكن الأرض، فلنَسكُن السطور.