لم يكن المعلّم في الماضي مجرّد ناقلٍ للعلم، بل كان حجرَ الزّاويةِ في بناء المجتمعات، وركنًا أساسيًّا في تشكيل وعي الأجيال، وصانعًا للشخصيّات المُتّزنة. كان حضورُه يَبثّ الانضباط، ونظرتُه كفيلةٌ بغرسِ الاحترام، فاق أثرُه حدودَ الكتابِ والمنهج، وبات الطّالب ينظر إليه بعين التّقدير والرّهبة..
لكنّ المشهدَ التّربويَّ اليوم يا أصدقائي، تغيّر بشكلٍ جذري، فقد دخل التّعليمُ في سباقٍ محمومٍ مع التّكنولوجيا، وبرزت أدواتٌ جديدةٌ، أبرزُها التّعليمُ عن بُعدٍ والمنصّات الرقميّة.
هذه الوسائلُ، على الرَّغمِ من سهولة الوصولِ إلى المعلومةِ من خلالها، خلقَت فجوةً إنسانيّةً بين الطالب والمعلّم.
في ظلّ هذا التحوّل، وجَد المعلّمُ نفسَه في مواجهة نوعٍ جديدٍ من التحدّيات. لم تَعُد مهمَّته الأساسيّة إيصال المعلومة، بل الحفاظ على الأثر، على العلاقة، وعلى الرّوح التّعليميّة.
فلا بُدّ أن نتشارك ببعض الأسئلة: كيف يمكنه أن يزرع القِيمَ من خلفِ الشّاشة؟ كيف يضبط المزاجَ العاطفيّ والنّفسيّ لطلّابه وحُضورهم الرقميّ متذبذب، وجسديًا هُم غائبون؟ ورغم كل هذا، أثبت الواقع أن التعليم الرقمي لا يمكن أن يلغي دور المعلم، بل أكّد أهميته؛ فغياب التفاعل الإنساني في التعليم عن بعد قلّل من جودة التعلم، وأكد أن المعلم لا يُستبدل. قد يتغير الشكل يا أحبائي، لكن الجوهر يبقى ثابتا، والرسالة مستمرة.
ولذلك، نحن بحاجة اليوم إلى دعم المعلم نفسيًّا وتقنيًّا، وتمكينه من أدوات العصر من دون أن نُفقده إنسانيته في العملية التربوية؛ فالمعلم يقاس بما يزرع من أثر، لا بعدد الحصص أو عدد الطلاب.
اليوم، يُطلب من المعلم أن يكون أكثر مِن معلم: أن يكون موجّهًا، وناقدا، ومرشدا في عالم يعجّ بالمعلومات. أن يعلم التمييز بين الصواب والضلال، ويزرع القيم وسط ضجيج العالم الافتراضي.
يمكنني أن أجزم يا أصدقائي أن دور المعلم لم يتراجع، بل أصبح أكثر تعقيدا، وأكثر أهمية.
لكن، لا يمكننا أن ننكر أن المعلم اليوم، داخل الصفوف، يواجه مشكلة كبرى ألا وهي: فتور اهتمام التلاميذ بالمعلومات التي يقدّمها، لأنهم باتوا قادرين على الوصول إليها لاحقا عبر الإنترنت بسهولة.
عزيزي القارئ، هنا يصبح التحدي مضاعفا، إذ لم يعد دور المعلم مقتصرا على الشرح، بل على الإقناع، والإبداع في إيصال المعرفة بشكل يشدّ الانتباه ويوقظ الفضول.
في هذا السياق، يسعى المعلم جاهدا ليكون أكثر من مجرد مُرسِل للمعلومة؛ ليكون محفّزا، ومؤثّرا، ومرشدا في عالم تتعدّد فيه المصادر ويقلّ فيه التركيز.
وهنا، تكمن أهمية إعادة النظر في دور المعلم، لا بتقليصه، بل بدعمه وتمكينه، ليبقى صمّام الأمان التربوي الذي لا يُستغنى عنه مهما تطورت الوسائل.
في زمن تُقدّم فيه المعرفة على طبق من تطبيق، وتُختصر فيه الدروس بفيديو قصير، يبقى المعلم هو من يمنح هذه المعرفة روحها، ومعناها، ومغزاها. هو من يعيد تنظيم المعلومة، يضعها في سياقها الأخلاقي والإنساني، ويعلم كيف نفكر لا ماذا نحفظ.
لذلك، لا بد من إعادة الاعتبار للمعلم، عبر تحديث تدريبه، وتطوير مناهج التعلّم، وتقديم الدعم المادي والمعنوي الذي يليق برسالته، فالمعلم ليس ضحية التكنولوجيا، بل شريكا أساسيا في تسخيرها لبناء جيل متوازن، ناقد، وقادر على مواجهة الحياة بتسلح بالعلم والقيم معا.
فليكن تعليم اليوم قائما على شراكة: بين الإنسان والتقنية، بين العقل والقلب، بين المعلم والطالب. وليبق المعلم، كما كان دائما، منارة في دروب التغيير.
والآن، أفوض نفسي أن أقولها على الملأ:
أمس ويوم، في الدجى أو في الضياء
يبقى المعلم شعلة رغم الفناء.