2025.07.07



قسنطينة.. جذور الفن والحضارة والإنسان إضاءات

قسنطينة.. جذور الفن والحضارة والإنسان


مُعَلَّقة كعُشِّ الصقر بين الصخر والسماء، في رهبة خرافية الحسن رائعة البهاء، يتقاسم عشقها فرسان الهوى وريح الصّبا ونسائم الهواء.. علية المدائن وسقف المكارم، وصهوة الشمائل وصفوة المغانم.. حاضرة "المألوف" ودار الأُلفة، وسيدة الإيلاف؛ بسبعة أحرف خِفَاف لسبعة معانٍ جِحَاف، جمعن لوحدهن من فضائل الدهر ما لو قُسِّم شطرهن على المدائن كلهن لكفاهن.. إنها قسنطينة اليُمْنِ والبركات، والخير والنفحات، والتي لا تزال تغازلها خصائل العز والفخامة دلعا ودلالا؛ من قاف القوامة وسين السناء ونون النعيم، إلى طاء الطرب وياء النداء ونون الندى وتاء الأنوثة العصماء.. حيث يغور الماضي البعيد، وينتصب الحاضر العتيد، ويُسْتَشرف القادم السعيد حلما وأملا وإقبالا. تسافر عين الخيال وترحل، فتجوب الأزقة الضيقة والدروب العتيقة، وتلامس الحيطان والجدران والقصور الأنيقة.. وهذي القباب والمآذن والمعابد والوجوه النيرة الحكيمة، لا تزال تعلم الناس معنى الحب وسحر الأدب وفن العيش وكل تفاصيل الحياة السعيدة، فقد قيل؛ مات شقيا من لم تسعده قسنطينة.. وصوت أجراس لا يزال صداها يتردد بين فلوات وادي الرمال شوقا لزمن الكنائس والبيوع والمعابد القديمة، وحنينا الى عصر النواقيس والنواميس، وأنبياء الله وأولياء الحكمة وأهل الكرائم والكرامات البليغة. ومن هنا إلى هناك، ترفعك المدينة السامقة مقاما عليا؛ على سبعة جسور فوق سبع صخور، وبين سبعة أولياء وأربعين شريفا، تتحصن الأنفس وتتطهر الأفئدة وتطمئن القلوب، وتَسْبَحُ الأرواح وترقى، وتُسَبِّحُ الألسن بحمد الذي خلق فسوى. من عمق التاريخ كانت المدينة "قيرطا" وكان الفينيقيون هم الساسة والبناة، فلقبها بنو العمومة القرطاجنيون "ساريم باتيم" ليفرق الامر بين "القريتين"؛ قرطاجة وقيرطا.. ولعاهة في اللسان اللاتيني القديم، فقد تحول الاسم الى "سيرطا" أوسيرتا، بنطق روماني افرنجي بهيم، قبل أن يحولها "النوميد" ورثة "الفينيق" إلى عاصمة لملوك نوميديا الشرقية، قبل أن يعاود الرومان احتلال المدينة وسحقها.. ولما استتب الأمر للامبراطور "قسطنطين"، أمر بإعادة بناء المدينة في موضعها، وشق لها من اسمه رسما فكانت؛ قسطنطينة، ثم تحورت وصارت؛ قسنطينة إلى يوم الناس هذا. أسس المدينة الفينيقيون الكنعانيون إذا، وكانوا أول من سكن ديارها وأغنى قفارها، ثم دخلها اليهود والمسيحيون والصابئة والكافرون والبربر والصقلب والروم والبيزنط والوندال والترك والخزر والصقالبة البلغار.. وحتى الجن والملائكة كانوا قد اتخذوا من قسنطينة موطن قرار ومهبط مزار، فكانت لهم نعم دار وخير جوار.. وكذلك هي مدائن الله -كسفينة نوح- أوجدها طوق نجاة لأخيار الخلق وأشراف العالمين، تهوي إليها قلوب الورى حبا وغراما، ورزقها من السماء يتنزل مدرارا.. يا قطعة قدسية بأرض المجد والشهداء. منذ البدء، كانت "إيلياء" فكانت "قيرطا".. وتكلمت "أور سالم" فجاوبتها سيرتا.. وصارت القدس فحنَّت قسنطينة شوقا وهياما.. يربط بين الحاضرتين دم الكنعانيين وفخار الفينيقيين وشجاعة البربر وشراسة الجبارين، وبينهما تتمدد روح الحضارات المشرقية القديمة.. فللقدس رسالة الأنبياء، ولقسنطينة آية الأولياء.. وبين الرسالة والولاية تنتشي قسنطينة وتطرب رفعة وهمة وشأنا، على درب المجد والعلا والشموخ، كحاضرة قدسية حالمة أتون. عمدنا إلى قسنطينة فدخلناها، على غير العادة، من بوابة أقدامها السفلى، من طريق "بكيرة"، لنجد أنفسنا تحت جسر سيدي مسيد، أو قنطرة لهوى/قنطرة لحبال/قنطرة سبيطار بلكنة "قسمطينية" ماتعة مليحة.. مررنا أسفل الجسر الأسطوري الشاهق المعلق فوق وادي الرمال وتحت سقف السماء، ثم عرجنا على باب "القنطرة" لنلج المدينة الساحرة العتيقة، والتي رغم التسيب والاهمال، إلا أننا وجدناها كما عهدناها، باسمة يافعة رائعة رهيبة.. - بابا، قسمطينة كبيرة بزاف ومليحة.. أردف "آدم الصغير" وقد انبهر لفخامة المشهد وروعة المنظر وهيبة المكان... فقال له والده وقد هزه الشوق أكثر للحديث عن المدينة وعن تاريخها الغابر الضارب في أعماق الأرض منذ ألوف السنين.. -هذه قسنطينة يا ولدي، موطن الإنس والجانّ، حتى أن جسرا هناك بقعر الوادي يلقب بجسر الشيطان... هذه قسنطينة سيدة المدائن وعاصمة الملوك، وحاضرة الدين والأولياء، وحافظة الفن والعلماء.. هذه قسنطينة التي تمنح الأشياء أسماءها، وتنزل الناس منازلها.. فهنا الذهب ذهب، والنحاس نحاس، والتبر تبر، والتراب تراب.. هنا العالم عالم، والأصيل أصيل، والكريم كريم.. هنا كل شيء يتسمى باسمه ويُوزن بمعياره ويوضع في حجمه.. هذه قسنطينة التي تزيدنا فخرا وهي التي تجمع في بطنها دماء السلالات الطيبة والأعراق الرصينة.. هذه قسنطنينة ملهمة العلماء والأدباء، وساحرة الرحالة والشعراء.. فهي قيرطا وهي سيرتا وهي الصخر العتيق والوادي السحيق.. هذه قسنطينة التي هزت قريحة شاعر الزاب الأكبر "محمد العيد آل خليفة" وجعلته يصدح شعرا ويهديها "داليته" الدانية التي لا تزال تنشدها الألسن وترتلها مثل الصلاة؛ و انزل بدارات سيرتا مطرقا أدبا.......... ....................فبين أضلعها آباؤنا الصيد و امش الهوينَى ففي أحشائها أمم.......... ...................وفي جوانحها أسد معاميد دم الصحابة معجون بتربتها.................. ..............قد خلدتها على الدنيا الأسانيد تياهة، تزدهي عجبا بشاهقة................ ....................من الجبال لها لله توحيد وادي الهوى بالهوى نشوان خاصرها.... .................فخاصرته كأن الأمر مقصود قسنطينة يا ولدي، مدينة ظلت شامخة كالحصن المنيع لحفظ القرآن ودراسة الفقه وعلوم الإنسان، وهي التي تزخر بالمعالم الدينية التاريخية العامرة، حيث يتلألأ الجامع الكبير وقد بلغ من العمر أكثر من سبعة قرون.. ويتمدد ضريح سيدي راشد الصالح الأمين، ويرتفع قصر الباي أحمد المجاهد الصامد، يجمله سحر العمارة العربية الإسلامية الفاتنة السليبة.. وهناك مسجد الأمير عبد القادر بمئذنتيه المرتفعين يطاول الأفق عزا وجلالا، والذي سنصلي فيه العصر قبل الرحيل.. وصوت أمير المالوف "الفرقاني الحفيد" يصدح بكلمات الشاعر الباهر "الحبيب بن قنون"؛ طال الضر عليا وزاد ثاني غرامك عذبتي قلبي فنيت والناس سالمة ما سرحتيني نروح نهـــدى بــلادك واك المنفي ما يريد قــلبه مـقامة ما شديتيني بخير ظهروا احسـانـك قدام المولى انحاسبك يا الظالمة يا شهلة العين واش ذا الكيد شادك حشا الله ما كيش بنت زين العمامة و"بوعزيز" بصوت شجي، يرد بكل ما يحمل قلبه ويتحمل من عواطف وأحاسيس في حب المدينة وعشقها، مترنما؛ قسنطينة مدينة الهوا وبلاد الريَّاس قسنطينة بلاد الدين والعلماء اللي زارك بلى ندامة ناس الذكر والفهامة بن باديس و العلماء بسم الله نبدا كلامي قسنطينة هي غرامي.. ومن هنا تبدأ حكاية العودة، وحبل الحنين الممدود الذي يشد جوارح المرء إلى قسنطينة ولو بعد ألف عام.. فقد دأبت قسنطينة على أسر زوارها منذ ألوف السنين، وسيدي راشد بردائه الأبيض، لا يزال يطوف طائرا في ارجاء المكان يودع المغادرين ويرحب بالوافدين.. وحكاية "البوغي" و"جاب الله" وسحر حنجرة الملك الحاج "الطاهر الفرقاني".. إلا أن كل ذلك لم ينسينا شدو ابن الفكون القسنطيني صادحا في مدح صاحب نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب؛ يا نُخْبَةَ الدَّهْرِ فِي الدِّرَايَهْ............. ..................عِلْمًا تُعَاضِدُهُ الرِّوَايِهْ لاَ زِلْتَ بَحْرًا بِكُلِّ فَنٍّ................ .............يَرْوِي بِهِ الطَّالِبُونَ غَايَهْ إلى ابن قنفذ القسنطيني شيخ الفقه والقضاء.. إلى تراث ابن باديس والجمعية، وكتابات مالك بن نبي الفلسفية، وروائع مالك حداد الأدبية، وروايات أحلام مستغانمي وترجمات عبدالله حمادي ووو.. كلها كنوز تجعل زائر المدينة يدرك بأن الجسور المعلقة لا شيء، مقارنة بهذه المنارات التي أهدتها قسنطينة للجزائر والعرب، وللإنسانية أجمع.