منذ النكبة الأولى، لم تنطفئ نيران القهر في فلسطين، بل ازدادت اشتعالًا تحت وطأة احتلال يُعيد إنتاج الفاشية بكل صورها: حصار، وتجويع، وإعدامات ميدانية، ومجازر داخل الزنازين. النكبة لم تكن حدثًا عابرا، بل مسارًا مستمرًا من الطرد والتنكيل، يتجدد كل يوم في المخيمات، في صور الأسرى، وفي عيون الأمهات اللاتي يحملن رُتبة الخنساء، ويمضين في طقوس الحداد والصبر. شهادات الأسرى مثل بلال عجارمة، والمجازر داخل المعتقلات كما في حالة الطبيب الشهيد عدنان البرش، تكشف عن وجه الاحتلال المتوحش الذي يُمعن في القتل الصامت خلف الجدران. أطفالٌ كعبد الله عز الدين يُولدون في زمن التضامن، ليُكملوا مسيرة الشمس التي لا تنكسر. فلسطين اليوم ليست قضية قديمة، بل معركة وعي وكرامة مستمرة، عنوانها الصمود. من رماد النكبة إلى قيد الأسر، يبقى الفلسطيني شاهدًا وشهيدًا ومقاوما، يكتب بدمه أن هذه النار لن تخمد، وأن الاحتلال إلى زوال، مهما طال الليل.

الذاكرة الوطنية: نحو فلسطين بوابة السماء
بقلم: خالد عزالدين
إن استذكار النكبة الفلسطينية كل عام ليس استذكارًا مناسباتيًّا ولا احتفاليًّا، ولكنه استذكار نبتغي منه إعادة البيعة للوطن وتوليد الحقد على العدوّ كقوةٍ موجبةٍ تدفع بنا نحن الكلّ الفلسطيني للعمل من أجل تحرير الوطن من الطغاة. الكيان الصهيوني كل عام، في هذا اليوم 15/5، يُحيي ذكرى انتصاره ويجدّد العزم على مواصلة دربه الاحتلالي حتى يتمكّن من السيطرة على كلّ الفضاء الفلسطيني.
في هذه الذكرى اللعينة، يجب أن نجدّد بدورنا العزم على افتكاك الوطن من بين أنياب الصهاينة، ونستذكر انتكاساتنا وانهزاماتنا كلّها، حتى نرفع سقف النضال الوطني ونتقدّم به نحو فلسطين، بوابة السماء، نحو المجد والكرامة.

ليست نكبة فلسطين
بقلم: علي شكشك
لم تتعب الذكرى من الذكرى.. رغم حنين الأرض وتعب اللاجئين.. في مثل هذه المناخات نفسها كانت الصدمة الكبرى للعرب، تلك التي عمل الفلسطينيون جاهدين لتلافيها، من الحاج أمين إلى القسام وجيلٍ بأكمله لم تكن خافيةً عليه مساراتُ الأمور، لم يكن الجهل هو المانع ولكن الغياب والوهن وقلة الحيلة، النوايا الغربية الاستعمارية كانت تسعى لترتيب الأرض للقرن المقبل، وكانت قد خطت خطواتٍ واسعةً في تمهيد الجغرافيا والتحالفات والمخادعات، وكانت تُجرّف العقل والروح والثقافة والوجدان وتستلب المدن والنفوس.. لكن المعركة كانت قد حُسمت قبل ذلك بكثير، ولم يكن ما يجري إلا نتائجَ منطقيةً لما تم التأسيسُ له على أكثر من مستوى، فبالإضافة إلى التقدّم التقني الهائل للغرب والمقدرات المادية والتنظيمية والإدارية والنوايا التاريخية المزمنة تجاه المنطقة العربية، فقد كان الوهن قد استشرى في المنطقة العربية، والتخلّفُ على المستوى العلمي والتقني، وتراجع العقل.. كانت الهوّة قد أصبحت شاسعةً بين الشرق والغرب بعد قرونٍ من الصحوة الغربية ومثلِها من الغيبوبة الشرقية، مضافاً إليها تاريخٌ من الاستعمار والارتهان زاد من حجم الهوّة.. البحيرة التي سبح فيها العرب وارتاحوا هي إحساسهم أنهم خارج إطار النكبة، وقد كان ذلك هو ذروة تجليات الانتكاب، فما أبعد المنكوب العربي حينئذٍ عن أي شعاع يضيء له احتمال التوازن وتحديد الإحداثيات، وقد كانت تلك الحالة الفيزيائية العقلية الشعورية وسطاً مثالياً لانتعاش كل شروط تفاقم التحلل العقلي والأخلاقي، ولذ فقد مارس الجميع عقدَهم على الفلسطينيين وأحاطوهم بالشفقة واستثمروا إمكانياتهم وخبراتهم، وأفرزوا كل العوالق التاريخية النفسية وامتصّوا رحيقهم دون أي محاولة حقيقية لأي مشروع ودون أي توجّه كامن أو ظاهر لمعاملة المنكوبين كبشر.. كان مقتضى قوانينهم أن "من كلِّ فلسطينيٍّ كلُّ طاقته وليس لأحد منهم أيُّ حقوق"، والأمر ليس متعلقاً هنا بالحال الفلسطينيّ الذي كان أسير المعادلة التي توازن وتحافظ على كرامته من جهة وحاجته للعيش واستجابته لضرورات الحياة المقيتة التي أفرزها اغتصاب الوطن، ولكن الأمر يتعلق بالسيكولوجية التي تعاطت معهم بالطريقة الدالّة عليهم، نحن هنا نرصد الخريطة الخلفية لبواعث السلوك العربي تجاه الفلسطيني، فقد كان يستثمره ولا يمنحه حقوق الإنسان ويمنعه من محاولات العودة ويمنعه من الهجرة ويقيّده إليه كأنه يرفض أن يتحرر الفلسطينيُّ منه، كان يريده أن يظلَّ أسيره وفي قبضته، "لا ينكسر ولا ينتصر"، لأنه الشاهد والدليل بالمقارنة وبالنسبية لحال العربي، فإذا اتضح الدليل سقط المدلول، كان يريده أن يبقى شاهداً على نموذج أخلاقيته وقناعاً لخوائه ومتكأً لبقائه، ومعلماً لصورته التي يريد أن يصدّرَها عن ذاته، لقد ارتاح العربي إلى فكرة أن النكبة قد طالت الفلسطيني، الأمر الذي يعني تلقائياً أنه معافىً، وقد أضاف ذلك حائلاً دونه والتفكير والاجتهاد واليقظة والنهضة، إذ إن الصدمة التي نتجت عن اغتصاب فلسطين قد فاقمت غيبوبتَه عن الحالة النكبوية التي يسبح بارتياح فيها، مطمئناً ومبتهجاً بجهله المركّب، ورغم الاجتهادات الفكرية التي عالجت الحالة العربية إلا أنّ الأمرَ لم يرتقِ ليكون توجّهاً سياسياً اجتماعياً فكرياً شاملاً، ولم يؤدّ بالتالي إلى حالةِ همّةٍ وتحدٍّ كافيين لانطلاقةٍ تتجاوز العتبة اللازمة لضمان سيرورة الصحوة وضبط المجتمع على إيقاع جديد من الشفافية والحرية والحوار والجرأة والمبادرة، تلك المعاني التي يمكن الترميز لها بالاجتهاد، الاجتهاد بمعناه الشامل والذي يعني فيما يعنيه الانفتاح بلا حدود على سياقات التفكير والعقل والتجربة والفن والخيال، والولوج فيها بإيقاع الشاعر والأكاديمي والباحث والفنان والفيلسوف والصوفي، بروح المهموم والحالم والعاقل والمفكر، ربما الذي حدث بعد اغتصاب فلسطين كان إيغالاً أكثر في النكبة وغرقاً أشمل فيها وتكريساً لها، وكان هذا في حدِّ ذاته شاهداً آخرَ على عمق الحالة النكبوية التي كانت تتفاعل وتُكرّس ذاتها بكل الأدوات الممكنة، فقد استُثمِرت تداعياتُ اغتصاب فلسطين لتكون رافعةً وحيثيةً لمزيد من قمع الفكر والحريات وخنق الومضات وسجن العقل وسلب الحقوق وتكريس الديكتاتوريات والاستبداد بحجة أن "النظام" مكرّس للمعركة الكبرى وتحرير فلسطين، في ذكرى اغتصاب فلسطين لا بدّ من الخروج من الصندوق والتفكير بلغة صادمة لا تدّعي امتلاك الحقيقة ولكن تحاول الوصول إليها ثم تتجاوزها ببوصلة المكابدة لتجاوز الواقع، فليست نكبة الإنسان أصلاً إلا الاستبداد بالتفكير والقرار، وليست إلا الأنانية والغرائزية السياسية التي تقتل كل شيء من أجل ذلك، وربما كانت بدايات النكبة هي تلك التواريخ التي كانت نتيجةً لتلك الروح والتي تجلّت في التاريخ برهةَ سقوط الأندلس واحتلال الجزائر وممارسات العثمانيين، ولم يكن كل ما جرى بعدها إلا مجرد تداعيات لم يكن مناصاً منها ما دام حالها متواصلاً، ولم تكن هزائمنا اللاحقة وتداولُ الغزاة والجهل علينا إلا نتيجةً لذلك السبب، ولم يكن سايكس بيكو واغتصاب فلسطين إلا عرضاً للنكبة.. ولم يكن هو في حدِّ ذاته النكبة، إن الترويج لغير ذلك هو أمرٌ مريح جداً للكسالى ومُرضٍ للجهل ومفيدٌ للمستبدين، الذين يستثمرون الحالة الفلسطينية من أجل مزيدٍ من تكريس وإدامة الحالة التي ستُفاقم تلقائياً حالَ الانتكاب، ومن نافلة القول أنّ النكبة حالةٌ متفاعلة متفاقمة متراكبة متجددة تطوّرُ نفسها ومفاعيلها بعجلةٍ تسارعية بحيث تنتج متغيراتٍ نوعية تُضاف إلى معاملاتها ويزداد بذلك معدّل التقهقر والتدهور مع الزمن كأي قانون طبيعي، فلا شيءَ ساكنٌ في الكون من الذرّات والمجرّات والإنسان والحياة والتاريخ، وما يعجُّ به مسرح اللامعقول العربي الآن ليس إلا دليلاً وشاهداً على جينات وجذور وشروط النكبة التي اجتهدنا في الإشارة إليها وإلى سيرورتها، فهذا اللامعقول ليس إلا تداعياتٍ وأعراضاً لأسباب النكبة الأوّلية تماماً كما كان اغتصاب فلسطين عرضاً لها، الذين يُصرّون على أن نكبتنا بدأت مع فلسطين يُصرّون أيضاً على الالتزام بالنكبة... وليس هناك حالةٌ نكبويةٌ أكثر نكبةً من ذلك... ففي مثل هذه المناخات نفسِها كان اغتصابُ فلسطين صدمةً للعرب، الصدمة التي لم تُفقدهم صوابَهم.. ذلك المفقود سلفاً...

الخنساء رتبة خاصة للمرأة الفلسطينية..
بقلم الأديب الأسير المحرر: وليد الهودلي
هي رتبة في الفداء تفوق نوبل للسلام، جائزة نوبل رِفعة عند أهل الأرض، الجائزة الخنساوية رِفعة عند أهل السماء والأرض. خنساوات فلسطين يتنافسن في الارتقاء ذروة فوق ذروة، كلما قلنا: هذه الخنساء لم يسبقها أحد لما وصلت إليه، جاءتنا من تعلو وترسم لنا مشهدًا عظيمًا تتجسّد فيه ألوانٌ جديدة من الصبر والثبات والرضى وتلقّي كل أشكال الابتلاء بقلبٍ جميلٍ وصدرٍ منشرح. سرنا طريق المجد المخضّب بالآلام مع خنساوات بلغن رتبة الخنساء بكل جدارة، يكفي الواحدة لتنال هذه الرتبة تضحية واحدة، فتأتي من تفاجئنا بجوامع التضحيات دفعة واحدة. زوجة القائد الأسير جمال أبو الهيجا لقيت الله بعد أن سطّرت في حياتها ما يفوق متطلبات هذه الرتبة العظيمة، كلّ العائلة توزّعت بين شهيد وأسير، ذكورًا وإناثًا، زوجًا وابنًا وبنتًا. تلقى الله دون أن تدّخر روحًا من روحها أو فلذة من كبدها، ألا وقد تقدّمت بها بسخاء. هنيئًا لها هذه الذروة العالية في التضحية والعطاء، هنيئًا لها هذا الالتحاق العظيم بالرفيق الأعلى والانضمام إلى ركب النبيين والصديقين والشهداء.

طقوس القمع البصري في صور الإذلال الجماعي.. الاحتلال الصهيوني يُعيد كتابة الفاشية
بقلم: بن معمر الحاج عيسى
في مشهد يثير الرعب في الذاكرة الجمعية الإنسانية، أقدمت دولة الاحتلال "إسرائيل" على نشر صور لمعتقلين فلسطينيين وهم معصوبي الأعين، مكبلي الأيدي، يُجبرون على الوقوف أمام علم الاحتلال الذي بات رمزًا مركبًا للإبادة والهيمنة والعنصرية. هذه الصور ليست مجرد تسجيل عابر للحظة اعتقال، بل طقس بصري يستعيد أدوات الأنظمة الأكثر دموية في التاريخ الحديث، من النازية والفاشية إلى الستالينية، حين تحوّلت الكاميرا من أداة توثيق إلى وسيلة لاغتيال الكرامة، وتزييف الواقع، وبثّ الرعب كسياسة ممنهجة.
إن ما تقوم به دولة الاحتلال لا يمكن قراءته بمعزل عن البنية العميقة للعقيدة الأمنية والعسكرية التي تحكم سلوكها تجاه الفلسطينيين، حيث تُوظف الصورة كسلاح نفسي، ووسيلة لاستعراض الهيمنة الرمزية على ضحايا يُراد لهم أن يظهروا بمظهر الضعف والانكسار. لكن ما تفشل هذه الطقوس في فهمه هو أن الإذلال المصوَّر لا يقتل الروح، بل يؤرشف الكبرياء، ويحيل كل محاولة إذلال إلى شهادة موثقة على وحشية سلطة تُمارس القمع كجوهر وجودي.
هذه الصور، التي يُراد لها أن تُروَّج لانتصار مزيّف على شعب أعزل، لا تعكس قوة الاحتلال بل رعبه العميق من الصورة المعاكسة: صورة إنسان لم يُكسر، رغم العصبة والسلاسل والعلم المفروض بالقوة. ما يُراد له أن يكون عرضًا للهيمنة، يتحول في الوعي الجمعي الفلسطيني إلى وثيقة مقاومة، تفضح طبيعة المشروع الاحتلالي القائم على الإخضاع والترويع.
منذ اندلاع العدوان "الإسرائيلي" الشامل على غزة في أكتوبر 2023، اتّسعت دائرة الاعتقالات داخل دولة الاحتلال لتشمل المئات من الفلسطينيين في الداخل، إضافة إلى مواطنين دوليين ومدافعين عن حقوق الإنسان، فقط لأنهم عبّروا عن مواقف إنسانية رافضة للمجازر بحق الأطفال، أو شاركوا في نشاطات سلمية ضد الإبادة الجماعية. وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 70% من المعتقلين كانوا من أصوات رفضت القتل بصوت أخلاقي خالص، فكان الرد عليهم هو السجن والتجريد من الكرامة والحقوق.
لكن ما لا تدركه ماكينة القمع "الإسرائيلية" هو أن هذه الصور، المصمّمة لتكون وثائق إخضاع، ستتحول إلى رموز للصمود، وستنضم إلى أرشيف الذاكرة الفلسطينية كأدلة حية على أن الضحية لم تتنازل عن إنسانيتها، ولم ترفع راية الاستسلام رغم كل أدوات الترويع.
هذه المشاهد، التي أراد لها الاحتلال أن تكون إعلانًا عن النصر، ستكون في الحقيقة بداية سردية أعمق: سردية الشهود الصامتين الذين واجهوا الكاميرا المُقنّعة بالبندقية، ليقولوا للتاريخ إننا هنا، لم ننكسر، ولن نُمحى.

كل يوم في المخيم هو تذكير بأن النكبة لم تنتهِ
بقلم: محمد أبو عكر/ أسير سابق مضى خمس سنوات في الاعتقال الإداري
وُلدت ونشأت في مخيم الدهيشة، المكان الذي كان من المفترض أن يكون مؤقتًا، لكنه تحوّل مع الزمن إلى مساحة نضالية مستمرة. المخيم لم يكن يومًا منطقة محايدة أو هامشية، بل كان دائمًا في صلب المواجهة، منذ الانتفاضة الأولى وحتى اليوم. الأجيال التي وُلدت في المخيم لم تسكن الأرض التي اقتُلع منها أجدادهم، لكنها ورثت الإحساس العميق بالاقتلاع والظلم. ورغم أن الأرض بالنسبة لنا قد تبدو مجردة – لأننا لم نعش فيها فعليًا – فإنها تبقى جوهر الصراع، وحلقة الربط بين الماضي والمستقبل. المخيم كذلك، ليس فقط مساحة للسكن، بل هو حيّز سياسي، وذاكرة جماعية حية. مع كل اقتحام واعتقال واستشهاد، يتأكد لنا أن اللجوء لم يكن حالة مؤقتة، بل تحوّل إلى نمط حياة نضالي. المخيم، والذي كان يُفترض أن يكون رمزًا للنكبة، صار رمزًا للمقاومة. في كتابها "أعداء كثيرون جدًا: التجربة الفلسطينية في لبنان”، تصف روزماري الصايغ مخيمات اللاجئين كحيز للعزل والإقصاء. هذا التعبير يعكس حقيقة أن الاحتلال يعتبر هذه المخيمات مناطق لا قيمة لها، يتم التعامل مع سكانها وكأنهم لا أهمية لهم. هذا الحيز الذي يُفترض أن يكون ملاذًا آمنًا، يتحول إلى مكان للتهديد المستمر، مع اقتحامات متواصلة من قبل قوات الاحتلال. لا توجد مساحة آمنة تحت الاحتلال، حتى غرفتك قد تصبح زنزانة. منزلي القابع في وسط المخيم تعرّض للاقتحامات المتكررة، وفي إحدى المرات تحوّل إلى مركز تحقيق. اقتحم الجنود البيت، جلبوا مجموعة من الشباب مكبلين ومعصوبي الأعين، وحققوا معنا واحدًا تلو الآخر. الضابط "الإسرائيلي" أعلن بكل وضوح: "هذا البيت سيكون مركز تحقيق". كأسرة تعيش في المخيم، شهدنا عن كثب آثار الاحتلال الذي طال جميع جوانب حياتنا. نعيش في قلق دائم، فالسجن أصبح جزءًا من حياتنا العائلية. والدي لا يزال معتقلًا منذ 23 عامًا، قضى منها 16 عامًا في الاعتقال الإداري. أما والدتي، فقد أصيبت بقذيفة دمدم متفجرة في الصدر، لكنها تحملت مسؤولية الأم والأب معًا، متجاوزة كل الصعاب التي فرضها الاحتلال. عمي محمد، المعروف بالشهيد الحي، تحدّى الموت بإرادة مذهلة لثلاث سنوات بعد إصابته برصاصات متفجرة أتلفت جميع محتويات بطنه، عدا القلب والرئتين، قبل أن يتوقف قلبه في النهاية. أما تجربتي مع الاعتقال الإداري كانت طويلة ومؤلمة؛ اعتُقلت ثلاث مرات إداريًا، قضيت خلالها نحو خمس سنوات دون تهمة أو محاكمة.
الاعتقال الإداري ليس إجراءً قانونيًا بل أداة قمع نفسي. هدفه ليس التحقيق، بل كسر الإرادة. المحقق نفسه أخبرني في آخر اعتقال: "ما في داعي نعيد الأسئلة، هي نفسها". هذا يكشف أن الهدف هو التحطيم المعنوي، لا أكثر. ولا يسعنا سوى أن نتطرق إلى وضع الأسرى الكارثي اليوم، خاصة بعد 7 أكتوبر، حيث تضاعف القمع، وتحوّل كل فلسطيني إلى "هدف مشروع"، وباتت سياسة "الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت" تطبق بشكل يومي.
نحن أبناء النكبة، لكنها ليست تاريخًا نستذكره بل حاضرٌ نعيشه. ما جرى في 1948 مستمر حتى اليوم، لكن بأدوات مختلفة. لم نعد نشهد التهجير الجماعي فقط، بل نعيش تحت قمع يومي: اقتحامات، اعتقالات، مصادرة أراضٍ، قتل عشوائي… كل هذا ليس إلا امتدادًا للنمط الاستعماري نفسه، والذي يعيد إنتاج النكبة كواقع يومي. لقد أصبح عنف الاحتلال جزءًا من هذا الواقع اليومي، حيث لا يتردد الجيش في استخدام القوة المفرطة ضد المدنيين، مما يعزز شعور الشباب الفلسطيني بأنهم يعيشون في بيئة غير آمنة وغير مستقرة. مع تصاعد العدوان، يزداد العنف بشكل مروع، حيث يُنظر إلى الفلسطينيين على أنهم خطر يُعاقب عليه كل من يقاوم الاحتلال.
ما بعد 7 أكتوبر شكّل نقطة تحوّل. الاحتلال كشف عن وجهه الحقيقي، واستُبيح كل شيء. المخيمات صارت مساحات مطاردة. لم يعد الاقتحام مرتبطًا باعتقال أو عملية، بل أصبح هدفًا بحد ذاته، رسالة دائمة بأننا تحت السيطرة. الوضع الاقتصادي انهار، والبطالة تفاقمت، والنسيج الاجتماعي تأثر بشدة. صار الحديث عن الهجرة يتكرر، خاصة في أوساط الشباب، لكننا نعيش في مفترق طرق: إما البقاء والمقاومة، أو الرحيل الصعب والمجهول.
ما جرى في غزة أعاد ترتيب الوعي. لم نعد نؤمن بخيارات "الحلول الوسط"، أو التعايش مع هذا النظام الاستعماري. كل التحالفات التي ظهرت – الغربية والعربية – عززت قناعتنا بأننا لوحدنا في هذه المعركة، وأن لا خيار إلا الصمود.
رغم كل هذه التحوّلات، ظل حلم العودة والحرية حاضرًا في الوجدان الفلسطيني عبر ثلاثة أجيال. أصبح شكلًا من أشكال المقاومة، مقاومة النسيان، والتطبيع، واليأس. العودة ليست مجرد رجوع جغرافي، بل استعادة للحق، والكرامة، والسيادة. بالنسبة لي، العودة ليست احتمالًا سياسيًا فقط، بل قناعة داخلية وأخلاقية. ما بعد 7 أكتوبر أعاد التأكيد أن هذا الصراع ليس على حدود فقط، بل على الوجود نفسه. نحن أمام مشروع إحلالي، لا يعترف بوجودنا أصلًا. لكن التاريخ يعلمنا أن الشعوب، حتى تحت أقسى الاحتلالات، انتصرت. وأنا أؤمن بحتمية الانتصار. النصر قد لا يأتي غدًا، لكنه يبدأ عندما نتمسك بحلمنا، ونحمي ذاكرتنا، ونرفض أن نُمحى.

شهادة مروعة للأسير بلال عجارمة.. رائحة الموت تخيم على أسرى الاحتلال
تحت وطأة الألم والقهر وبين قضبان الأسر يعيش الأسير الفلسطيني بأمعاء خاوية وجسد أهلكته الأمراض الغريبة التي ظهرت وتطورت وزادت حدتها داخل سجون الاحتلال "الإسرائيلي"، بعد حرب الإبادة على قطاع غزة في السابع من أكتوبر/2023، بسبب الجوع الشديد وقلة النظافة والإهمال الطبي المتعمد، حيث أصبحت أجساد الأسرى غير قادرة على مقاومة أي مرض، بل وجدت الأمراض في أجسادهم بيئة مناسبة للاستفحال. يتناول كل 12 أسيرًا علبة لبن صغيرة جدًا ويتضورون جوعًا طيلة اليوم، ويضطرون إلى تناول طعام فاسد غير صالح للاستهلاك البشري من شدة الجوع، ليصبحوا غير قادرين على تحريك شفاههم حتى، وأجمع الأسرى بأن المجاعة التي يواجهونها أشد من مجاعة الصومال المعروفة عالميًا بصعوبتها، حتى أدوات الطعام التي لا يمتلك الأسرى سواها لا يستطيعون غسلها بسبب عدم توفير إدارة السجن مواد لتنظيفها أو بديل عنها إذا تلفت، علاوة على أن الأسير الذي يخرج بالبوسطة يبقى بلا طعام لأيام. أما النوم، فينام الأسرى إن استطاعوا النوم على فرشة بدون غطاء - إسفنج فقط - وهناك أسرى من شدة المرض تلتصق جلودهم بالإسفنج، أمراض غريبة غير معروفة فتكت بالأسرى عقب حرب أكتوبر 2023.
شهادة مروعة قالها الأسير بلال عجارمة (44) عامًا من بلدة سلواد والمعتقل منذ 7/9/2003 يقبع في سجن جانوت الاحتلالي لمحامية هيئة الأسرى خلال زيارتها له: "قضيت عشرات السنين في السجن ومر علينا أمراض عديدة منها الجرب، ولكننا لم نر الأعراض التي يسببها ما يسمى "سكايبوس".
ومر الأسير عجارمة بتجربة مرض قاسية: "أصبت قبل نحو سنة بما يسمى "سكايبوس"، كانت إصابة صعبة وقوية، فالدمامل داخل ركبتي تسببت لي بانتفاخ كبير وألم شديد لا يطاق وسط إهمال طبي متعمد من إدارة السجن، رفيقي في المرض الأسير حسام شاهين كان يعصر الدمامل يوميًا ليخرج منها القيح فتملأ ثلاث كؤوس يوميًا بالقيح نتيجة الالتهاب الشديد،
أربعة شهور كاملة من الألم عشتها أمام مرأى السجانين دون حراك وبلا حبة أكامول واحدة. نقص وزني من 160 كيلو إلى 60 كيلو.
ويضيف عجارمة الذي ما زال يتألم بشدة من ركبته نتيجة إصابته السابقة بالمرض رغم أنه شُفي منه: "الغريب في هذا المرض أنه يسبب أعراضًا مختلفة لكل أسير رغم أنهم في ذات الغرفة، حتى أن بعض الأسرى تفوح من أجسادهم رائحة كريهة جدًا، وحال الأسرى يفوق التخيل وتقشعر له الأبدان من شدة فظاعته".
قرابة سنة وأكثر يبقى الأسير بذات الملابس، غيار داخلي واحد يملكه الأسير داخل السجن يرتديه يوميًا، ولا وجود لمواد التنظيف لغسله، وإن غسله بالماء يضطر للبقاء في فراشه حتى تجف ليعاود ارتدائه.
الأسير بلال عجارمة أخاط ملابسه الداخلية بسلك حديد عندما تمزقت ولا زال يرتديها منذ ما يزيد عن عام فلا خيار آخر لديه.
إهانة الأسرى بشكل يومي أمر لا يمكن لأي أسير استيعابه، يقول أحد الأسرى: "نموت يوميًا مرات عدة عندما نُشتم نحن وذوينا، ألفاظ سيئة وسباب الموت أهون من الذل".
سيروي الأسرى في زمن الحرب إن خرجوا أحياء من سجون الموت لنا سيرة الدم، عندما تركوا وحيدين كالحصان بين مطرقة القهر وسنديان الألم ورائحة الموت، سنقول لهم طوبى على صمودكم، هل سيسمعوننا حينها؟!

شهيد الأسر: الطبيب عدنان البرش… وأشلاء مستشفى الشفاء
بقلم: حسن. يافا
تعوّدت مستشفى الشفاء أن تُضمد جراحها، كان القصف "الإسرائيلي" يحفر كل يوم قبرًا لها، يريد أن يقتلها ويدفنها بمن فيها. أكبر مستشفى في غزة بسعة سبعمائة سرير، كانت حتى قبل الحرب تعمل على أكثر من طاقة استيعابها، حيث كانت تعالج تقريبًا كل الحالات من نسائية وجراحية وداخلية. بعد الهجوم "الإسرائيلي" "تقلّص" تخصصها إلى التعامل مع الجروح والكسور والحروق والصدمات الناتجة عن النزيف أو الفشل القلبي أو العصبي…، أما أعداد المراجعين "المصابين" فكان يعتمد على عدد وبربرية المجازر التي ارتكبها جيش الاحتلال في الساعات الماضية. الجرحى في كل مكان، عند المدخل، في قاعة الاستقبال، في الممرات، في غرف الطوارئ وغرف العمليات…. جرحى بلا أطراف، بكسور بالرأس، نزيف حول الدماغ، وإصابات لم يصادفها الأطباء من قبل ولم يتعلموا عنها في كلية الطب. امتلأت الممرات بالدماء التي تنساب على الأرض، وعويل النساء المجهضات، وفاحت رائحة الجلد والأنسجة المحترقة، واشتد صراخ وعويل الأطفال العالقين بين الحياة والموت وأنين من يغادرون الحياة، وأصوات دافئة تحث بعضهم أن ينطقوا الشهادة وهم يغادرون هذا الكون. غرف المستشفى صارت مكدسة بالجرحى، في الغرفة "الكبيرة" التي من المفترض أن يكون بها اثنان، تجد بها ثمانية إلى عشرة مصابين. المستشفى كلها تهتز تحت وابل القصف بالصواريخ والقذائف، ويتطاير زجاج واجهتها، وإذاعة الاحتلال توزع على العالم أخبارًا عن عملية كشف الخنادق التي تحتوي قيادة المقاومة والأسرى تحتها.
غرف العمليات لم تعد كافية، لذلك صار كل سرير في غرفة الطوارئ "غرفة" عمليات!
الأطباء وطواقم الإسعاف والتمريض كانوا على صراع مع الزمن. امرأة على حمالة تنزف من جروح وكسور في أكثر من مكان في جسدها.. وابنها عمره سبع سنوات يشد على يدها، سمحوا له بالدخول معها لأنه هو آخر ما تبقى لها في هذه الدنيا، هرع جراح العظام عدنان البرش نحوها يُعاينها، ترك الطفل يد أمه وقبل يد الجراح… وابتعد جانبًا بحزن ووقار وحكمة…… لا نعرف مصير المرأة وابنها… ولكن ما يُطمئننا أن كل ما نعرفه أن عدنان البرش هو من أمهر جراحي العظام في العالم… وإنسان أكرم الله به البشرية. أكثر من مستشفى في الخليج عرضت عليه عقود عمل مُغرية، اشتد إلحاحها بعد قليل من بداية الحرب على غزة، لكنه رفض العروض كلها مقابل قطعة خبز وقطعة جبنة وكوب ماء في مستشفى الشفاء. كان يقول "نؤدي الرسالة وأجرنا على الله". في يوم واحد عمل 41 عملية،.. كان حاصلًا على الزمالة البريطانية في جراحة الكسور المعقدة من لندن، لكن عبقريته ومهارته أكثر بكثير من أن تستطيع أن تشهد بها أي شهادة… بعد عملية جراحية معقدة لتصحيح كسور في العمود الفقري وعظام الحوض… أب المصاب وقف يُعانق الدكتور عدنان وهو يقول: “أنت تشفي العظام وهي رميم". أجرته كوب ماء، وقطعة خبز وقطعة جبنة، وعلبة سردين غير منتهية الصلاحية أو منتهية في أحيان كثيرة، مساعدة من دولة عربية، وجبة أو وجبتين في اليوم. الاستراحة يحددها عدد الجرحى وعدد غارات قوات الاحتلال! تكدست الجثث في المستشفى، كثير من الشهداء، مات أو اختفى تحت الأنقاض مع معظم ذويهم، وكثير منهم لا يُمكن التعرف على ملامحهم، وكانت هناك رؤوس منفصلة، وأرجل وأيدي… حفرت المستشفى حفرة جماعية أمام المستشفى لدفن الجثث… المنظر كأنه يوم القيامة.
جيش الاحتلال يريد أن يُدمر المستشفى ومن فيه، إلا طبيبًا واحدًا اسمه عدنان البرش يريده حيًا. يريده حياً لأنه "مخزن" معلومات عن المقاومين الذين أنقذ حياتهم، أو ماتوا ودفنوا في المقبرة الجماعية أمام المستشفى! في رأسه معلومات عن قادة الإرهابيين… في رأسه كنز من المعلومات عن الإرهابيين… والمخطوفين، كما يدعون كذبًا وبهتانًا عبر وسائل إعلام جيش "الإسرائيلي" وأجهزة مخابراته، اقتحم جيش الاحتلال مستشفى الشفاء، قتلوا المصابين في الممرات وفي غرف الطوارئ، وفتشوا عليك في غرفة العمليات… لم يجدوا لك أثرًا … أين أنت؟ … بعد أيام انتشر مقطع فيديو وأنت مصاب غارق في دمك في المستشفى الإندونيسي شمالي قطاع غزة. قصفوا المستشفى، اقتحموه … لم يجدوك؟
المشروع الصهيوني هو قتل المستشفيات وقتلك، أين المفر؟
اختفيت … أيام مضت… تواصلت مع زوجتك وأولادك… بيتهم دمره الاحتلال، يعيشون الآن نازحين في مدرسة لوكالة الغوث … صار بينكم حوار وخبز وزعتر … كان هذا هو العشاء الأخير… توجهت تجد طريقك إلى مستشفى كمال عدوان… دمره جيش الاحتلال وأخرجه عن الخدمة… ثم قصف مستشفى المعمداني… وأخرجه عن الخدمة!
أين تذهب يا جراح العظام؟
أمامك الآن خيار واحد… مستشفى العودة في جباليا… هو ما تبقى لشمال غزة.. تصب به قوافل الجرحى والمعذبين في الأرض… قصفوا المستشفى… اكتشفوا أنك هناك أيها الطبيب المُطارد، حاصروه المستشفى، وصرخوا بمكبرات الصوت: إذا لم تُسلم نفسك سوف ندمر المستشفى بالكامل على رأس من فيه… هذا ما قاله الجبناء… كنت تُجري عملية على شاب في غرفة العمليات… لم يمهلوك… رفضت أن تتوقف… أطلقوا النار على قدمك… ألقوا القبض عليك… وساقوك إلى سجن قاعدة ستيد تيمان (Stade Teiman).
سجنوك أسبوعًا قبل أن يحققوا معك، غرفة التحقيق، كان في نهايتها مكتب يجلس خلفه ضابط تحقيق بجانبه ضابط آخر كلاهما يلبسان ملابس مدنية… كلاهما يُحاول أن يعكس انطباعًا فيه نوع الاعتدال والاحترام… أحضر أحد الحرس الدكتور عدنان وأشار إليه أن يجلس على الكرسي الوحيد أمام المكتب. قال له المحقق الرئيس: نحن أحضرناك هنا، ونعرف أن وقتك ثمين وتُريد أن تعود إلى حياتك الطبيعية، وهذا ما نريده لك، كل ما نريده هو أن تزودنا بأسماء المخطوفين "الإسرائيليين" وأيضًا أسماء قيادات المخربين الذين عالجتهم.
كلما تعاونت معنا، كلما ساعدناك أن تُغادر السجن سريعًا أو حتى حالًا.
· أنا لا أعرف أسماء من أعالج… أعمل ما يحتاجه الشخص وتنتهي مهمتي.
· لا، نحن نعرف أنك تعرف ونعرف أنك عالجت أربعة من القيادات العليا.
· إذًا، أنتم تعرفون ما لا أعرف..
ثم أراه صورًا، وسأله: تتذكر هذا؟… أجاب لا، وهذا… لا… وهذا… لا..
· لا أنت تعرف… أنا متأكد أنك تعرف… أنت تكذب.
· لا أعرف.
· إذا أنت لا تعرف… من يعرف؟
· هناك سجل المستشفى.
· سجل الكذب. اسمع، نحن نعاملك باحترام ولكنك تجعل الأمور صعبة عليك.
· قلت لك، الأسماء في سجل المستشفى.
· كذاب، ثم وقف المحقق وضرب بيده على الطاولة وصرخ: سجل الكذب، أيها الإرهابي الكذاب، أنت ملك الكذب… واقترب منه وصفعه على وجهه وبصق عليه: أنت لا تستحق الاحترام.. ثم سحبه الجنود ودفعوه إلى زنزانة متر في متر ونصف، وانهالوا عليه ضربًا بالأيدي والهراوات…
وعندما توقف التعذيب والإرهاب وأطبق عليه السجان الباب، نظر في الزنزانة، وأدرك أن الشخص الذي يجلس في نهاية الزنزانة هو طبيب كان يعمل معه في مستشفى الشفاء. همس بأذنه: صبرًا، ولله الحمد، هؤلاء المجرمون! وصار بينهما حديث هامس، دون أن ينظر أحدهما في وجه الآخر.
· تُهمتك يا صديقي هي مهارتك، وتابع بحزن وغضب: الأعمار بيد الله، لكنهم اعتقلوك ليقتلوك! لن ننجو!.. إلا بمعجزة من الله… نحن ننقذ حياة الناس فإذا نحن إرهابيون… هذه شريعة الصهيونية… شريعة الشيطان… ودار بينهما حديث حول الأبناء والبنات… ورحمة الله. لم يعرف أي منهما أن هذا سيكون آخر حديث لهما في القيد وعلى قيد الحياة…
في السجن الحيطان لها آذان.. وعيون، فجأة اهتز باب الزنزانة، وأضاء فيضان من ضوء الكهرباء ظلمتها القاتمة، وذهب عواء الكلاب بكل ما كان فيها من سكون، وانفلتت الهراوات على رأس وجسد الدكتور عدنان تتنافس مع الحقد القادم من أفواه الكلاب.
وصرخ أحدهم: Yimach shemo ve-zichro" (יִמַּח שְׁמוֹ וְזִכְרוֹ)، "يماخ شيموا" التي تعني سنمحو اسمك وذكراك وهي اللعنة في مفردات اللغة العبرية. وتواصل الضرب على الطبيب الذي كان يدمدم تحت همجية الضرب: رحمتك يا الله… رحمتك يا الله! ثم جروه إلى لقاء مع المحقق، الذي قال له: للمرة الأخيرة، من عالجت من الإرهابيين؟
· لا أحد.. لا أحد.. أنت الإرهاب… أنتم الإرهاب.. أنتم الإرهابيون في غزة.
كانت هذه آخر كلمات الدكتور عدنان وهو ما زال قادرًا على الكلام.
قفز المحقق إلى عنقه ورطم رأسه بالحائط، ثم ألقاه على الأرض وقفز فوق صدره… غاب الطبيب عن الوعي.. قال المحقق بهدوء واستهزاء، ولقد استطاب له حال الجسد الذي ينازع يتشبث بالحياة أمامه: تركنا في جراح العظام بعض عظامه! "صدروا" ما تبقى من جسده إلى سجن عوفر كانت آثار وعلامات التعذيب والتجويع بارزة وعظام صدره مكسورة، عظام وجهه يغطيها جلد متسلخ، وعيناه تغوران عميقًا في حجرتيهما، وعظام حوضه المكشوفة هيكل عظمي، لم يكن يستطيع الوقوف ليقضي حاجته. كان جسده ممزقًا ينزف منه دمه.. استشهد في سجن عوفر في التاسع عشر من نيسان عام بعد 2024 من ولادة المسيح بتوقيت فلسطين. أعلنت دولة الإجرام والإرهاب المنظم أنها ليست مسؤولة عن وفاته وأن السجانين تعاملوا معه بمهنية… تحفظت مصلحة السجون على جثته، لأسباب يعرفها من شاهدوا آثار التعذيب في كلّ أحياء جسده.
قالوا عنه رفاق دربه..
انتهى التكليف يا دكتور، واليوم تشريفٌ أبديّ"…" مات بعد أكثر من أربعة أشهر من اعتقاله، لو أخذ منه المحققون ما يريدون، لكان قد أُطلق سراحه، لكن عدنان شخص عنيد في الحق وهذا هو عهدنا به وبصموده". أما ما قال هو عن نفسه وعن شعبه: نموت واقفين ولن نركع... لا يبقى في الوادي غير حجارته، وأنتم لستم سوى زبد سيله، قد تتدحرج الحجارة قليلاً ويغمرها الطمى، إلا أنها تبقى ثابتة متجذرة، لا يقوى السيل على اقتلاعها، استشهد في نيسان. كان العالم صامتًا، إلا شقائق النعمان.

حاملتان داخل الأسر.. الاحتلال يواصل القمع بلا رحمة
تقرير: إعلام الأسرى
تواصل سلطات الاحتلال الإسرائيلي استهداف النساء عبر عمليات اعتقال ممنهجة تصاعدت بشكل غير مسبوق منذ بدء حرب الإبادة، حيث وثقت المؤسسات المختصة 525 حالة اعتقال بين صفوف النساء منذ بدء الإبادة. ويستمر الاحتلال في اعتقال 37 أسيرة حتى تاريخه، من بينهم أسيرتان حامل في شهرهما الخامس، وهما: ريماء بلوي من طولكرم، وزهراء الكوازبة من بيت لحم.
وأفاد نادي الأسير في بيان أن الأسيرتين بلوي وكوازبة محتجزتان في ظروف قاسية في سجن (الدامون)، ويتعرضان كما الأسرى والأسيرات كافة، لجرائم ممنهجة ومنظمة منها التجويع، التي أثرت على إفادتيهما خلال زيارة لهما في السجن مؤخراً، إلى جانب جملة من سياسات السلب والحرمان التي طالت حتى الاحتياجات الأساسية لهما.
وذكر النادي أن بلوي (31 عاماً) وهي أم لطفلتين، اعتقلت من منزلها في طولكرم في فبراير 2025 على خلفية ما يسميه الاحتلال "التحريض". أما الأسيرة كوازبة (37 عاماً) وهي أم لثلاثة أطفال، فقد اعتقلت عقب نصب حاجز عسكري على طريق عودتها من أريحا مع عائلتها في بداية أبريل 2025. وتم تمديد اعتقالهما عدة مرات، مع تحديد جلسة محكمة جديدة لبلوي في 15 يونيو 2025، وللكوازبة في 18 مايو 2025.
وأشار نادي الأسير إلى أن بلوي تعاني مرض الثلاسيميا، بينما الكوازبة تعاني مشاكل في الأعصاب، وتحتاج كلتاهما إلى متابعة طبية حثيثة.
واعتبر استمرار اعتقال الأسيرتين جريمة مضاعفة في ظل استمرار منظومة السجون بممارسة جرائم ممنهجة وتعذيب، تستهدف الأسرى والأسرى الأطفال والأسيرات على حد سواء. فقد وثقت المؤسسات المختصة جرائم وانتهاكات غير مسبوقة بحق الأسيرات، منذ لحظة الاعتقال مروراً بفترة التحقيق، ونقلهن إلى سجن (هشارون) كمحطة مؤقتة، وصولاً إلى الاحتجاز الدائم في سجن (الدامون).
تعاني الأسيرات كذلك من حرمان مضاعف من أطفالهن بسبب منع الزيارات المستمر لعائلات الأسرى والأسيرات، ما يسبب لهن معاناة نفسية كبيرة.
وأوضح نادي الأسير أن استهداف النساء على خلفية ما يسميه الاحتلال "التحريض" عبر مواقع التواصل الاجتماعي تصاعد بشكل غير مسبوق منذ بدء الإبادة، وهو مفهوم فضفاض يستخدمه الاحتلال لتوسيع دائرة الاعتقالات التي شملت آلاف الفلسطينيين، من بينهم نساء وأطفال، عبر سياسة الاعتقال الإداري التي تمثل شكلاً آخر من أشكال القمع والتنكيل.
وفي هذا السياق، حمّل نادي الأسير سلطات الاحتلال المسؤولية الكاملة عن مصير الأسيرات، ودعا المجتمع الدولي ومنظماته، وعلى رأسها الأمم المتحدة، إلى استعادة دورها في مواجهة الفظائع والجرائم التي يمارسها الاحتلال في ظل استمرار الإبادة الجماعية في غزة، والاعتداءات الشاملة على الشعب الفلسطيني، والجرائم الممنهجة بحق الأسرى في سجون الاحتلال، التي تمثل امتداداً للإبادة.
يُذكر أن عدد الأسرى في سجون الاحتلال تجاوز حتى بداية مايو 2025 أكثر من عشرة آلاف وأسمة، من بينهم 3577 معتقلاً إدارياً.

محمد عرب.. صوت الحقيقة المختطف بين جدران الاحتلال
تقرير: إعلام الأسرى
في مشهد يعبر عن حجم الألم الذي يكابده الأسرى داخل زنازين الاحتلال، ظهر الصحفي الأسير محمد عرب في آخر جلسة محاكمة، مكبل اليدين، مرتدياً ملابس شتوية ثقيلة رغم حرارة الطقس، وجسده الهزيل يعكس معاناة لا تستطيع الكاميرات ولا الكلمات أن تنقلها كاملة.
محمد، الذي اختطفته قوات الاحتلال من مجمع الشفاء الطبي في غزة، بقي قيد الإخفاء القسري لأكثر من مئة يوم، انقطعت خلالها أخباره عن العالم، ولم يتمكن أحد من الاطمئنان عليه، إلى أن تمكن المحامي خالد محاجنة من زيارته للمرة الأولى، كاشفاً فصولاً من الغياب والوجع.
ورغم عدم توجيه أي تهمة له، قررت محكمة بئر السبع العسكرية رفض الإفراج عنه، مما أبقاه رهن الاعتقال الإداري إلى أجل غير مسمى، في انتهاك صارخ لكل القوانين الدولية ومواثيق حقوق الإنسان.
خلال جلسة المحكمة، لم يسأل محمد عن نفسه أو يشكُ من ظروف اعتقاله، بل خاطب بصوت خافت ينضح بأبوة وقلق: "أهلي بخير؟ مرتي وأولادي عايشين؟"، لتكشف كلماته القليلة عن حجم الألم والحنين في قلبه.
لم يكن محمد عرب بعيداً عن الوجع الفلسطيني يوماً، فقد كان صوتاً لشعبه، عمل سنوات في مجال الصحافة والإعلام، وثق من خلال عدسته وقلمه معاناة الجرحى والمرضى في غزة، وكان من أوائل من نقلوا مأساة القصف على المستشفيات وجرائم الاحتلال بحق المدنيين في مجمع الشفاء الطبي.
تميّز بحس إنساني عالي، وحضور ميداني مستمر، لا يخاف المخاطر، ولا يبحث عن الشهرة، بل عن إيصال الحقيقة، واليوم يجد نفسه محاصراً خلف قضبان الزنزانة، معزولاً عن العالم، لكنه ما زال يحمل في عينيه شعلة الأمل، وصورته الأخيرة في المحكمة تحكي قصة صحفي اختار أن يكون مع شعبه، فكان ثمن ذلك فقدان حريته.
محمد عرب، وجه من وجوه الحقيقة المعذبة خلف القضبان.

مجزرة أسرى غزة: 43 شهيداً معروفين وعشرات مجهولي الهوية
أكد مركز فلسطين لدراسات الأسرى أن الاحتلال الإسرائيلي لم يكتفِ بقتل عشرات الآلاف من سكان قطاع غزة منذ حرب الإبادة التي اندلعت بعد السابع من أكتوبر 2023، بل قام أيضاً بتنفيذ إعدامات بحق أسرى القطاع الذين أُسروا خلال الحرب، حيث أعدم الاحتلال حتى الآن 43 أسيراً من غزة معروفة هوياتهم.
وأشار المركز إلى أن الاحتلال، بالتوازي مع حرب الإبادة التي يمارسها على سكان القطاع منذ 20 شهراً، والتي استهدفت جميع نواحي الحياة وأدت إلى مقتل عشرات الآلاف وتحويل القطاع إلى كومة من الركام، اعتقل أكثر من 11 ألف مواطن مارست بحقهم مختلف أنواع التنكيل والتعذيب، وأعدم عدداً كبيراً منهم.
تم الكشف عن أسماء 43 شهيداً من الأسرى، بينما لا تزال أسماء عشرات آخرين مجهولة بعد إعدامهم بطرق مختلفة. وأوضح المركز أن الاحتلال أنشأ معسكرات اعتقال جديدة تحت سيطرة الجيش لاستيعاب الأعداد الكبيرة من المعتقلين بعد السابع من أكتوبر، حيث مارست داخلها جميع أشكال التعذيب المحرمة دولياً، بما في ذلك التعذيب الجنسي، وحُرم المعتقلون من أبسط مقومات الحياة، إلى جانب سياسة تجويع غير مسبوقة.
كما نفذ الاحتلال جريمة الإهمال الطبي بحق الجرحى والمرضى، ما أدى إلى تدهور أوضاعهم الصحية بشكل واضح وأدى إلى استشهاد 43 أسيراً منهم بعد تأكد وفاتهم وإعلان أسمائهم، في حين يخفي الاحتلال أسماء عشرات الأسرى الذين أعدمهم.
ولفت مركز فلسطين إلى أن غالبية الأسرى مجهولي الهوية استشهدوا بعد اعتقالهم من أماكن النزوح والمستشفيات، والتحقيق معهم لفترات متفاوتة، ثم إطلاق النار عليهم عمداً وهم مقيدون بالأيدي والأقدام، مما يثبت سيطرة الاحتلال الكاملة عليهم دون وجود أي خطر حقيقي يبرر إعدامهم.
كما استشهد آخرون نتيجة التعذيب المميت أو الإهمال الطبي والتجويع داخل مراكز الاعتقال المستحدثة. ويعتبر المركز كشف الاحتلال مؤخراً عن أسماء ثلاثة شهداء من غزة رداً على مطالبات المؤسسات الحقوقية دليلاً واضحاً على وجود أعداد كبيرة من الشهداء لم يُكشف عنهم بعد، في إطار سياسة الإخفاء القسري التي يمارسها الاحتلال بحق أسرى غزة.
وأشار إلى أن الاحتلال بدأ منذ السابع من أكتوبر سياسة الإخفاء القسري، بهدف قتل الأسرى دون رقابة أو محاسبة، من خلال توفير غطاء قانوني وعسكري لعناصر الشاباك والجنود في مراكز الاعتقال مثل "سيديه تيمان"، النقب، معسكر عوفر، مركز تحقيق "منشه" ومعسكر اعتقال "نفتالي" لممارسة أشكال التعذيب المحرمة دولياً، وصولاً إلى إطلاق النار المباشر على الأسرى بهدف القتل، ما يشكل جريمة حرب واضحة تستوجب محاكمة قادة الاحتلال.
وأوضح المركز أن عدد شهداء الحركة الأسيرة منذ عام 1967 ارتفع إلى 306 شهداء، منهم 69 شهيداً معروفين هوياتهم منذ بدء حرب الإبادة على القطاع، في حين يحتجز الاحتلال جثامين 77 منهم ويرفض تسليمها لأهاليهم.
وجدد مركز فلسطين تحذيره من استمرار استشهاد الأسرى داخل سجون الاحتلال نتيجة السياسات القمعية والإجرامية من تعذيب وإهمال طبي وتجويع وإرهاب، وإصرار حكومة الاحتلال المتطرفة على مواصلة جرائمها وتوفير الحماية لمرتكبيها.
وطالب المجتمع الدولي ومؤسسات حقوق الإنسان بالتدخل الفوري، وتشكيل لجان تحقيق لتوثيق جرائم القتل والتعذيب بحق الأسرى، والضغط على الاحتلال لوقف هذه الجرائم، ومطالبة محكمة الجنايات الدولية بمحاكمة قادة الاحتلال كمجرمي حرب مسؤولين عن هذه الانتهاكات.

الأسير محمد عرمان بين العزل والتجويع.. حياة مهددة وصمت دولي مخزي
تقرير: إعلام الأسرى
يتعرض الأسير الفلسطيني البارز محمد عرمان لانتهاكات متواصلة داخل العزل الانفرادي في سجن مجدو، تشمل تعذيبًا جسديًا ونفسيًا، إهمالًا طبيًا متعمدًا، وسياسة تجويع قاسية، وسط صمت دولي مستمر يرافق تدهور وضعه الصحي بشكل خطير يهدد حياته.
محمد عرمان من بلدة خربثا المصباح غرب رام الله، اعتقله الاحتلال في 18 أغسطس 2002، وصدر بحقه 36 حكماً بالسجن المؤبد، بتهمة الانتماء لكتائب القسام وقيادة خلية نفذت عمليات نوعية. التحق بالمقاومة مع اندلاع انتفاضة الأقصى في أواخر عام 2001، وعمل إلى جانب القائدين إبراهيم حامد وعبد الله البرغوثي، وشارك في تشكيل خلية وصفها الاحتلال بأنها الأخطر على أمنه. تميز بإشرافه على تدريب طاقم هندسي ميداني، وكانت خلية سلوان القسامية إحدى أبرز تشكيلاته، ونسبت إليها عمليات استشهادية بارزة مثل «موممنت»، و«ريشون لتسيون»، بالإضافة إلى عملية الجامعة العبرية وتفجير سكة قطار تل أبيب.
منذ نقله إلى العزل الانفرادي في سجن مجدو، يتعرض الأسير محمد عرمان لاعتداءات جسدية تنفذها وحدات القمع الإسرائيلية، في مشهد يعكس نهجًا انتقاميًا منظّمًا يستهدف كسر إرادته وتهشيم كرامته الإنسانية. يقاوم الأسرى المعزولون في السجون اقتحامات متكررة تنفذها وحدات القمع، حيث تقتحم الزنازين بعنف، وينهال عليهم الضرب المبرح بعد تقييد أيديهم وأرجلهم، كما تستخدم الكلاب البوليسية لترهيبهم جسديًا ونفسيًا في مشهد ممنهج من التعذيب والإذلال.
يخضع محمد عرمان لسياسة تجويع قاسية، حيث يقدم له طعام قليلًا ورديئًا لا يكفي لسد رمق إنسان، ولا يتناسب مع حالته الصحية، ما أدى إلى انخفاض وزنه إلى نحو 65 كيلوغرامًا فقط، وهو انخفاض مقلق يعكس آثار الإهمال والتجويع المتعمد.
ما يتعرض له محمد عرمان هو محاولة اغتيال بطيئة داخل العزل، يقف اليوم بين الحياة والموت، يصارع الجوع ويقاوم الألم، وتنازعه الوحدة في زنزانة ضيقة. ندق ناقوس الخطر الشديد، ونحذر من أن الانتهاكات المروعة التي ترتكب بحق قادة الحركة الأسيرة قد تؤدي إلى استشهادهم في أي لحظة. نحمّل الاحتلال المسؤولية الكاملة والمباشرة عن حياة هؤلاء القادة، ونؤكد أن ما يُرتكب بحقهم من تعذيب وتنكيل هو جريمة حرب مكتملة الأركان، سيسجلها التاريخ وصمة عار على جبين المجتمع الدولي المتواطئ بالصمت. ندعو المؤسسات الدولية وعلى رأسها اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى التحرك العاجل والفوري قبل أن يفقد أحد الأسرى حياته ويدفن في مقابر الأرقام.

عبد الله عزالدين.. أصغر وجه من وجوه التضامن مع فرسان الشمس
تقرير: عبد الباسط خلف - جنين
في ساحة بلدة عرابة جنوب جنين، وقف الطفل عبد الله محمد عز الدين، ذو الست سنوات، يحمل صورة شقيقه الأسير إبراهيم، ويشارك إلى جانب والده وعشرات المتضامنين في وقفة تضامنية مع أسرى الحرية. عبّر عبد الله، ببراءة الطفولة وعفويتها، عن أمنيته في أن ينال شقيقه حريته قريباً، بعد أن اعتقل منذ أكثر من عام.
وحكى الطفل، الذي لم تغب عنه ملامح الحنطة، تفاصيل صورة معتقل عوفر الذي يقبع فيه شقيقه، متخيلاً الحديد والسياج الطويل، والضرب الذي يتعرض له الأسرى، ونقص الرعاية الطبية، ومنع الزيارات والاتصالات، وسط عتمة مستمرة.
وقال عبد الله، الذي كان نائماً يوم اعتقال شقيقه، إنه يحلم كثيراً بأن يعود إبراهيم إلى المنزل، ليقدم له هاتفه للعب به، كما اعتاد قبل الاعتقال، وأن يحضر له بعض المسليات. وأعرب الطفل عن شوقه الكبير له، قائلاً: "نفسي يجي ويحضني، ونلعب على تلفونه ونأكل الشيبس".
يذكر أن الأسير إبراهيم، البالغ من العمر 22 عاماً، هو الابن الأكبر لعائلة عز الدين التي تضم 6 أبناء، بينهم عبد الله، وأصغرهم الأخت نور التي بالكاد تتذكر شقيقها المعتقل.
والد الطفل، محمد عز الدين (47 عاماً)، أكد أن ابنه يعبر يومياً عن شوقه الدائم لأخيه ويستفسر عن موعد إطلاق سراحه. وأوضح الأب، الذي شارك في الوقفة متحاملاً على أوجاعه وعكازه، أن نجله معتقل في سجن "عوفر"، وقضى فترة التحقيق في معتقل "عتصيون"، ولم يتلقوا أي أخبار عنه منذ 11 أيار 2024، كما لم يتمكن المحامون من زيارته.
إلى جانب عبد الله، وقف محمد العارضة حاملًا صورة شقيقه محمود، الذي قضى 31 سنة في الاعتقال قبل أن يتحرر من "جلبوع" في أيلول 2021. وذكر أن أسرته دفعت ثمن الحرية باهظاً، حيث لا يزال شقيقه عبد الله معتقلاً إدارياً، وشقيقه أحمد محروماً من الحرية منذ 20 عاماً، وشقيقه رواد 21 عاماً، وشداد 8 سنوات، وهدى 6 سنوات.
من جهته، أكد مدير هيئة شؤون الأسرى والمحررين في جنين، سياف أبو سيف، أن شهر نيسان هو فرصة لتسليط الضوء على جرائم الاحتلال بحق الحركة الأسيرة، مشيراً إلى أن عدد الشهداء المعروفين من الأسرى منذ النكسة وصل إلى 303، منهم 73 جثمانهم محتجز.
في السياق ذاته، أوضح مدير نادي الأسير في جنين، منتصر سمور، أن الاحتلال يحتجز نحو 1300 أسير من المحافظة، بينهم 350 معتقلاً إدارياً، و30 طفلاً، و36 محكوماً بالمؤبد، معبراً عن تضامنه ودعمه للأسرى من خلال رفع الأعلام وصور المعتقلين وهتافات مؤيدة لهم، إلى جانب إدانة الجرائم المستمرة في غزة.
وأكد رئيس نادي الأسير في جنين، راغب أبو دياك، أن حرية الأسرى قادمة لا محالة، مستذكراً الشهيد مصعب حسن عديلي، الذي استشهد وهو في ريعان شبابه وأمام مرأى الاحتلال.
وأشار مساعد محافظ جنين، منصور السعدي، إلى أن قضية الأسرى تحظى بأولوية القيادة والشعب، لا سيما في ظل تصاعد الانتهاكات المستمرة منذ خريف 2023. وأوضح أن الوقفة التضامنية جاءت في ذكرى يوم الأسير، متزامنة مع تأسيس الجبهة الشعبية القيادة العامة وجبهة التحرير الفلسطينية.
بدوره، لفت عضو بلدية عرابة، فراس الحاج أحمد، إلى أن اختيار بلدته لإقامة الاعتصام كان تكريماً لعميد أسرى المحافظة، محمود العارضة، الذي يعاني من سنوات طويلة في الأسر. بينما ذكرت تمام قناوي، عضو الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية، أن الوقفة تعبر عن وقوف عرابة الصامد مع الأسرى وغزة، مستذكرة معتقلي البلدة الذين لا تزال قضيتهم قائمة حتى الحرية المنشودة.

اعتقالات النكبة.. الفصل المظلم
بقلم: عبد الناصر فروانة - أسير محرر، ومختص في شؤون الأسرى
اعتبر مدير دائرة الإحصاء في هيئة شؤون الأسرى والمحررين، وعضو اللجنة المكلفة بإدارة شؤونها في قطاع غزة، أن الفترة التي أعقبت النكبة عام 1948 وحتى هزيمة عام 1967 واستكمال الاحتلال "إسرائيل" لباقي الأراضي الفلسطينية، من أخطر وأقسى الفترات بحق المعتقلين الفلسطينيين والعرب وأكثرها فظاعة وإجراماً. إذ اتسمت باعتقالات عشوائية واحتجاز جماعي في معسكرات أُعدت خصيصاً لذلك وتفتقر للحد الأدنى من الحقوق الإنسانية، فيما نُقل نفر قليل منهم إلى بعض السجون التي ورثها الاحتلال عن الانتداب البريطاني، وأن معظم الأسرى الذين احتُجزوا في معسكرات الاعتقال هم من السكان المدنيين. وقال: إن تلك الفترة اعتمدت على التعذيب الجسدي وإلحاق الأذى الجسدي المباشر بالمعتقلين، فيما شكَّل الإعدام الجماعي والمباشر للأسرى والمعتقلين وللناجين من المجازر والهاربين من مسارح المذابح بعد توقيفهم واحتجازهم ظاهرة هي أخطر ما اتصفت به تلك الفترة. وأضاف: إن قوات الاحتلال قامت في تلك الفترة بدفن أسرى ومواطنين، جرحى وعُزّل، وهم أحياء في حفر صغيرة وكبيرة بعضها حفر خصيصاً لهذا الغرض، وهذه تشكل جرائم إنسانية.
وأوضح فروانة بأن تلك الفترة لا تزال غائبة عن تاريخ الحركة الأسيرة، ومهمشة من قبل المؤسسات الحقوقية والإنسانية إلى حد كبير، ولم تحظَ باهتمام يُذكر سوى ما ندر في التوثيق والدراسات، ولم تُمنح المساحات الكافية في وسائل الإعلام لتسليط الضوء عليها سوى في المناسبات والذكرى السنوية للنكبة. وبيّن أنّ المؤرخين والباحثين يستسهلون الحديث عن الاعتقالات وما اقترفته قوات الاحتلال "إسرائيل" بحق الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين والعرب منذ العام 1967 والاكتفاء ببعض العبارات في إشارة منهم لتلك الفترة، دون التعمق بالجوهر والمضمون، وهذا خطأ فادح يجب تداركه وتجاوزه. وأشار فروانة في الذكرى الـ77 للنكبة إلى أن قوات الاحتلال "إسرائيل" ومنذ النكبة عام 1948 انتهجت الاعتقالات سياسة، واعتمدتها منهجاً وسلوكاً يومياً ثابتاً، وأضحت ظاهرة يومية تؤرق الكل الفلسطيني، بل وانتهجتها كوسيلة لإذلال المواطنين والمواطنات والانتقام منهم وابتزازهم والضغط عليهم واستخدم بعضهم في كثير من الأحيان دروعاً بشرية. واعتقلت في هذا السياق أكثر من 20% من مجموع السكان الفلسطينيين القاطنين في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأقامت لهذا الغرض عشرات السجون والمعتقلات، وقتلت بشكل فردي وجماعي آلاف المواطنين العُزل بعد توقيفهم واحتجازهم. كما وتُعتبر نسبة الاعتقالات هذه هي الأكبر في العالم. وأكد على أنّ معدل الاعتقالات لم يكن ثابتاً، وإنما سار بشكل متذبذب، كما أنّ أشكال الاعتقالات هي الأخرى تبدّلت وتغيّرت وفقاً للظروف السياسية والأمنية، وظروف الاحتجاز اختلفت من فترة لأخرى، حتى أنّ أشكال التعذيب طُوِّرت واستُحدثت. وأنّ بعض المراحل اعتمدت على الاعتقالات والتعذيب، فيما اعتمدت مراحل أخرى على التصفية والإعدام بشكل فردي أو جماعي. وأن نسبة الاعتقالات ومعدلاتها ارتبط بعوامل وظروف عدة. ودعا فروانة المؤسسات المعنية بقضايا الأسرى وحقوق الإنسان ومراكز الأبحاث والدراسات والتوثيق، ووسائل الإعلام المختلفة، إلى العمل الجادّ والحثيث من أجل توثيق تجربة الاعتقال بكافة مراحلها وأشكالها، وما صاحبها من انتهاكات جسيمة وجرائم فظيعة، وإيلاء الفترة الممتدة من النكبة عام 1948 وحتى استكمال احتلال الأراضي الفلسطينية عام 1967 الأهمية التي يجب أن تستحقها مع ضرورة كشف الحقائق التي واكبت تلك الفترة والفظائع والجرائم التي اقترفتها قوات الاحتلال "إسرائيل" بحق المدنيين الفلسطينيين والعرب.

حسن عبدربه لــ "الايام نيوز": "إسرائيل تحتجز 665 جثمانًا.. وتخفي جرائمها في مقابر الأرقام"
* حسن عبدربه : مختص في شؤون الأسرى، الحملة الأكاديمية الدولية لمناهضة الاحتلال والأبارتهايد الإسرائيلي
أجرى اللقاء / بن معمر الحاج عيسى
إليكم إجابات على 16 سؤالاً تتناول قضية حجز الجثامين من قبل الكيان الإسرائيلي، العراقيل القضائية، معاناة الأسرى الفلسطينيين وعائلاتهم، ودور الإعلام في تغطية هذه القضايا:
1 - ما هي الأسباب التي يقدمها الكيان الإسرائيلي لتبرير احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين؟ وهل هناك أساس قانوني دولي لهذه الممارسة؟
يقدّم الكيان الإسرائيلي عدة ذرائع لتبرير احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين، بمن فيهم من يستشهد من الأسرى داخل السجون وأقبية التحقيق، وهذه الممارسات تفتقر لأي أساس قانوني دولي مشروع، وتُعد انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان واتفاقيات جنيف.
ومن أبرز الذرائع التي يقدمها الاحتلال لتبرير احتجازه لجثامين الشهداء الفلسطينيين خلق حالة من الردع ومنع تنفيذ عمليات مستقبلية، بحجة أن تسليم الجثامين قد يُستخدم لتحريض آخرين خلال تشييع جنازات الشهداء باعتبارها مناسبات للتحريض والمظاهر الجماهيرية والوطنية، إضافة إلى استخدامها كورقة مقايضة في صفقات تبادل للأسرى مع الفصائل الفلسطينية، عدا عن التذرع بالأسباب الأمنية، والادعاء بعدم التأكد من تشخيص هوية الجثمان أو مكان وجوده واعتباره مفقودًا كحالة الشهيد الأسير أنيس دولة الذي استشهد في الأسر منذ عام 1980، أو نتيجة التذرع بطبيعة وظروف العملية أو الانتماء السياسي أحيانًا أخرى.
إن احتجاز جثامين الشهداء، واستنادًا للأعراف والمواثيق الدولية وموقف القانون الدولي، يخالف تلك المبادئ، فقد تضمنت العديد من المواثيق والمعاهدات الدولية نصوصًا صريحة حول منع ورفض ذلك، ومنها ما ورد في اتفاقيات جنيف (وخاصة الرابعة، المادة 130) التي تنص على وجوب احترام جثامين المتوفين خلال النزاع، ودفنهم بطريقة لائقة، وتمكين عائلاتهم من دفنهم وفقًا لتقاليدهم، إضافة إلى البروتوكول الإضافي الأول (1977) لاتفاقيات جنيف – المادة "34" – والتي تؤكد على إلزام أطراف النزاع بإعادة الجثث لعائلاتهم، ويمنع احتجازها.
هذه السياسة الاحتلالية تنافي أيضًا قواعد القانون الدولي الإنساني ذات الصلة بمعاملة قتلى الحرب ورُفاتهم ومقابرهم؛ فالقاعِدة (112) متعلقة بالبحث عن الموتى وجمعهم، والقاعدة (113) تتحدث عن حماية الموتى من السلب والتشويه، والقاعدة (114) تشير إلى إعادة رفات الموتى وممتلكاتهم الشخصية، والقاعدة (115) بشأن التخلّص من الموتى، والقاعدة (116) بشأن تحديد هوية الموتى. فيما تنص اتفاقية جنيف الأولى لعام 1949 في المادة (17) على أهمية إجراء دفن لائق وكريم، وتنص على أنّه ينبغي على أطراف النزاع "ضمان الدفن الكريم للموتى، وإن أمكن وفقًا لطقوس الدين الذي ينتمون إليه، واحترام قبورهم، وتجميعها إن أمكن حسب الجنسيّة الوطنية، ثمّ صيانتها وتمييزها بحيث يمكن العثور عليها دائمًا"، كما تنص المادة (120) من اتفاقية جنيف الثالثة.
أما القانون الدولي لحقوق الإنسان، فقد أكّد العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (ICCPR) على ضمان احترام الكرامة الإنسانية حتى بعد الوفاة، فيما أشارت قرارات الهيئات الدولية، وخاصة لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة واللجنة الدولية للصليب الأحمر، وعبّرت مرارًا عن قلقها من هذه السياسة الإسرائيلية، واعتبرتها انتهاكًا واضحًا.
وفيما يتعلق بموقف حكومة الاحتلال الإسرائيلي والمحكمة العليا تجاه عدم تسليم جثامين الشهداء، فقد تطوّر هذا الموقف ومر بتحولات قانونية وسياسية، تتجه نحو التأييد المتزايد للاحتجاز لأغراض عقابية أو سياسية.
وقد تمثّل موقف الحكومة الإسرائيلية في القرار الرسمي بالاحتجاز في أكتوبر 2015، عندما قررت المستويات السياسية والأمنية في حكومة نتنياهو عدم تسليم جثامين منفّذي العمليات، بذريعة الوضع والردع الأمني، وكجزء من سلسلة الإجراءات الأمنية لمواجهة تصاعد العمليات في حينه. ومنذ عام 2015، وُضع ذلك تحت إشراف الجيش، مانعة ذويهم من دفنهم وفق التقاليد الدينية والكرامة الإنسانية.
وبعد عام 2016 بدأت حكومة الاحتلال تعلن صراحة أنها تحتجز الجثامين لأغراض التفاوض و"المقايضة" في أي صفقة تبادل أسرى. وفي سياق المتابعات القانونية، جاء الطعن القانوني عام 2016–2017، عندما تقدّمت مؤسسات حقوقية (مثل مركز عدالة ومركز القدس للمساعدة القانونية وغيره) بالتماسات للمحكمة العليا تطعن في قانونية احتجاز الجثامين. وفي ديسمبر 2017، قضت المحكمة العليا بأنه لا يوجد نص قانوني صريح يُجيز للجيش احتجاز جثامين الشهداء، وأمرت بالإفراج عنها خلال فترة محددة. وتراجعت المحكمة في عام 2019 بعد ضغط حكومي وطلب بإعادة النظر، حيث انعقدت هيئة موسعة للمحكمة العليا في سبتمبر 2019، وأصدرت المحكمة قرارًا يُجيز احتجاز الجثامين استنادًا إلى "أنظمة الطوارئ البريطانية لعام 1945"، رغم الجدل حول شرعيتها، وهذا القرار شكّل سابقة قانونية تمكّن كيان دولة الاحتلال من مواصلة الاحتجاز بغطاء قانوني، رغم الاعتراضات الحقوقية الواسعة.
أما موقف حكومة الاحتلال ما بعد 2023، فقد زادت فيه وتيرة الاحتجاز، وارتفعت أعداد الجثامين المحتجزة في "مقابر الأرقام" أو في الثلاجات، دون تسليم للعائلات أو حتى الكشف عن مصير بعضهم، وذلك ضمن سياسة الضغط السياسي والأمني. وتفتقر ذرائع الاحتلال لأي أسس من الشرعية القانونية الدولية، وتندرج ضمن العقوبات الجماعية التي يُمكن تصنيفها كمعاملة مهينة أو غير إنسانية بموجب القانون الدولي.
إن هذه السياسة العنصرية تتطلب وتستوجب الضغط على سلطات الاحتلال للإفراج الفوري عن جميع الجثامين المحتجزة، والمطالبة بتحقيق دولي في ممارسات احتجاز الجثامين، بجانب رفع قضايا أمام المحاكم الدولية ضد سياسة الاحتجاز باعتبارها انتهاكًا للقانون الدولي الإنساني، مع تفعيل دور المؤسسات الدولية (الأمم المتحدة، الصليب الأحمر) للقيام بمهامها في هذا الملف.
2 - كيف تؤثر سياسة حجز الجثامين على العائلات الفلسطينية نفسياً واجتماعياً؟ وما مدى انتشار هذه الظاهرة؟
تُخلّف سياسة احتجاز جثامين الشهداء آثارًا نفسية واجتماعية شديدة القسوة على العائلات الفلسطينية، وتمثل أحد أشكال العقوبات الجماعية التي تطال الشهداء وذويهم. ومن مظاهر التأثير النفسي على العائلات: الحرمان من الحِداد والدفن وفق التقاليد، إذ تُمنع من إقامة جنازة أو دفن أبنائها وفق الشعائر الدينية، ما يؤدي إلى صدمة نفسية مضاعفة وشعور دائم بـ"الفراغ" وعدم اكتمال الفقد، لأن الجثمان لم يُودَّع كما يجب. يُضاف إلى ذلك حالة من القلق المستمر وعدم اليقين، خاصة وأنّ سلطات الاحتلال لا تُخبر العائلات بمكان الجثمان أو حالته، ويُنظر لهذا الأمر كإهانة مباشرة لكرامة العائلة والمجتمع، ويخلق شعورًا بالعجز أمام جبروت وعنصرية سلطة الاحتلال.
وأحيانًا يؤدي ذلك إلى أن هذه العائلات تعاني من أعراض اكتئاب، أو اضطراب ما بعد الصدمة، وقلق مزمن. كما يؤدي احتجاز جثامين الشهداء إلى تأثير اجتماعي وتوترات داخل العائلة والمجتمع، إذ تتجنب بعض العائلات المناسبات الاجتماعية نتيجة الشعور بالألم المستمر وانتظارها الطويل أو عدم قدرتها على استرجاع الجثمان.
لقد بدأ انتشار الظاهرة منذ عام 1967، واحتجزت سلطات الاحتلال الإسرائيلي مئات الجثامين، ولكن بعد انتفاضة القدس عام 2015، أصبحت السياسة ممنهجة. وبحسب مصادر حقوقية (مثل مركز القدس ومركز عدالة)، ووفقًا للحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء حتى يناير 2025، تحتجز سلطات الاحتلال الإسرائيلي جثامين 665 شهيدًا فلسطينيًا في مقابر الأرقام والثلاجات، منهم 256 شهيدًا دُفنوا في "مقابر الأرقام"، ومنهم نساء، وأطفال، وأسرى. وتُمارس هذه السياسة بحق شهداء من الضفة الغربية، القدس، غزة، وحتى الأراضي المحتلة عام 1948، ومنهم الأسير الشهيد وليد دقة، دون تمييز. وهذه الأرقام متغيّرة وقابلة للزيادة بسبب الإبادة الجماعية في قطاع غزة، وسياسة الإخفاء القسري بحق آلاف الأسرى، والخشية من وجود شهداء لم يتم الكشف عنهم.
والمعطى الوحيد الذي ظهر حول جثامين شهداء غزة المحتجزة لدى الاحتلال، كان في تموز 2024، عندما كشفت صحيفة (هآرتس) العبرية، خلال مقال، أنّ الاحتلال الإسرائيلي يحتجز نحو 1500 جثمان لفلسطينيين لم تُعرف هوياتهم، وأن الجثامين كانت تُخزَّن في حاويات مبردة داخل القاعدة العسكرية المعروفة باسم (سديه تيمان)، وتم تصنيفهم بالأرقام وليس بالأسماء. وذكرت الصحيفة أن حالة الجثامين وصلت إلى مرحلة معينة من التحلل؛ بعضها مفقود الأطراف، وبعضها بلا ملامح.
وخلال حرب الإبادة، سلّم الاحتلال جثامين 428 شهيدًا مجهولي الهوية، وآخرين على عدة دفعات، وتم دفنهم في مقابر جماعية في خانيونس ورفح جنوب القطاع. وشكّل مشهد تسليم جثامين الشهداء من قبل الاحتلال، بالأكياس الزرقاء، أحد أبرز المشاهد التي عكست مستوى توحّش الاحتلال، وامتهانه للكرامة الإنسانية كأحد أوجه الإبادة الجماعية المستمرة منذ أكثر من عشرة شهور متواصلة، ودون أي عملية تحقق أو تشخيص للجثامين.
3 - ما هي السبل القانونية المتاحة أمام العائلات والمؤسسات الحقوقية لاستعادة الجثامين؟ وما هي أبرز العراقيل التي تواجهها؟
هناك العديد من السبل القانونية المتاحة أمام العائلات والمؤسسات الحقوقية لاستعادة جثامين الشهداء الفلسطينيين، لكنها تواجه عراقيل بنيوية وقانونية وسياسية تجعل هذه المسارات طويلة الأمد وغير فعّالة في كثير من الأحيان، كون الاحتجاز أتى بموقف أمني وقرار سياسي بالأساس.
ويُعتبر التوجّه أمام المحكمة العليا الإسرائيلية المسارَ القضائي الداخلي الأساسي للعائلات وممثليها القانونيين، عبر تقديم التماسات قانونية بواسطة مؤسسات أو محامين، مثل مركز "عدالة" أو الحملة الوطنية لاسترداد الجثامين، وذلك استنادًا إلى القانون الدولي والكرامة الإنسانية.
وكذلك، يتم التوجه إلى المؤسسات الدولية، وخاصة اللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC)، والأمم المتحدة من خلال المقرّر الخاص المعني بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية، ولجنة مناهضة التعذيب، ومجلس حقوق الإنسان، وكذلك عبر تقديم شكاوى أمام الهيئات الدولية القضائية مثل محكمة العدل الدولية أو المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي.
بالإضافة إلى ذلك، يُعتبر تفعيل التعبئة الشعبية والحراك الميداني جزءًا مهمًّا من النضال، من خلال إحياء اليوم الوطني لاسترداد جثامين الشهداء، والذي أُعلن عن انطلاقته في 27/8/2008، لتأكيد الاستمرار في تنظيم هذه الفعاليات، بما فيها الإعلامية والقانونية، عبر تنظيم حملات ضغط ومؤتمرات وتظاهرات تطالب باسترداد جثامين الشهداء، والتأكيد أنهم ليسوا مجرد أرقام في مقابر الاحتلال.
4 - هل توجد تقارير دولية تدين سياسة الاحتلال في حجز الجثامين؟ وما هي الجهات التي تضغط من أجل إنهاء هذه الممارسة؟
هناك تقارير دولية موثقة تُدين سياسة الاحتلال الإسرائيلي في احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين، وتعتبرها انتهاكًا واضحًا للقانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان. كما أن عدة جهات حقوقية دولية وإقليمية تمارس الضغط من أجل إنهاء هذه الممارسة اللاإنسانية.
ومنها، كتب المفوض السامي لحقوق الإنسان (OHCHR)، حيث أصدر بيانات وتقارير في دورات مجلس حقوق الإنسان تصف احتجاز الجثامين بأنه "شكل من أشكال العقوبة الجماعية" و"انتهاك للكرامة الإنسانية". وقد ذكر المقرر الخاص المعني بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، في تقارير متعددة (أبرزها أعوام 2016 و2019 و2023)، أن "إسرائيل" تستخدم احتجاز الجثامين كوسيلة ضغط سياسي وأداة إذلال للعائلات.
بالإضافة إلى ذلك، أعربت لجنة مناهضة التعذيب (CAT) التابعة لاتفاقية مناهضة التعذيب، في تقاريرها الدورية، عن قلقها الشديد من استخدام "إسرائيل" لاحتجاز الجثامين، واعتبرته معاملة قاسية وغير إنسانية. كما عبّرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC) مرارًا عن موقفها المبدئي بشأن حق العائلات في معرفة مصير أبنائها واستلام الجثامين، وفق القانون الدولي الإنساني (اتفاقيات جنيف – المادة 130 من الاتفاقية الرابعة).
وقد أصدرت كل من منظمة "هيومن رايتس ووتش" (HRW) ومنظمة "العفو الدولية" (Amnesty International) بيانات وتقارير تُدين هذه السياسة، وتطالب "إسرائيل" بوقفها فورًا، لتناقضها مع قواعد القانون الدولي.
ويُذكر أنه في عام 2012، سلّمت "إسرائيل" رفات 91 شهيدًا وشهيدة إلى السلطة الفلسطينية، كجزء من بادرة حسن نية لاستئناف المفاوضات السياسية. وخلال الفترة 2013–2014، تم تسليم جثامين 27 شهيدًا وشهيدة، بناءً على قرار من المحكمة العليا الإسرائيلية بتسليم 36 جثمانًا، إلا أن الاحتلال تراجع عن تسليم البقية بحجة "الدواعي الأمنية".
علمًا أنه في عام 2010، وبعد جهود قانونية حثيثة، استعادت عائلة الشهيد مشهور العاروري جثمانه بعد احتجازه لمدة 34 عامًا في "مقابر الأرقام".
وفي أغسطس 2021، أقر مجلس الوزراء الفلسطيني خطة قانونية ودبلوماسية لاسترداد جثامين الشهداء المحتجزة لدى "إسرائيل"، بهدف توثيق الحالات ومتابعتها على المستويين القانوني والدولي.
تجدر الإشارة إلى أن المفاوضات السياسية واتفاقيات أوسلو كانت قد أدت إلى الإفراج عن نحو عشرة آلاف أسير فلسطيني، على دفعات مختلفة.
ورغم وجود إدانات واضحة من جهات دولية، فإن الضغط الدولي ما زال غير كافٍ لإلزام سلطات الاحتلال الإسرائيلي بإنهاء هذه السياسة. ويتطلب الأمر جهدًا موحّدًا ومؤسسيًا فلسطينيًا لتدويل الملف، وتقديمه بشكل مستمر في المحافل القضائية والحقوقية الدولية.
5 - ما هي أبرز الانتهاكات التي يتعرض لها الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال الإسرائيلي؟ (التعذيب، الحرمان الطبي، العزل الانفرادي)
يتعرض الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال الإسرائيلي لعدد كبير من الانتهاكات المنهجية التي تمسّ حقوقهم الأساسية بموجب القانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان واتفاقيات جنيف، وهذه الانتهاكات تطال مختلف الجوانب: الجسدية، النفسية، القانونية، والمعيشية، وتتمثل في:
أولاً: التعذيب وسوء المعاملة أثناء التحقيق، وتشمل الأساليب: الشبح بطرق متعددة، الحرمان من النوم، الصراخ، التهديدات، العزل، والضرب، الموسيقى الصاخبة جدًا، تكبيل الأيدي، عصب الأعين، الصفع الشديد، الحرمان من العلاج، الحرمان من الطعام وقضاء الحاجة.. إلخ. أما التعذيب النفسي، فيتمثل في تهديد الأسير بأسرته، استخدام الضغوط النفسية الحادة، الحرمان من الزيارات وعدم لقاء المحامي، العزل الانفرادي المطوّل، وغير ذلك من التهديد بالاغتصاب والتحرش والقتل، واللجوء إلى لغة التحقير وامتهان الكرامة والإذلال.
ثانيًا: الاعتقال الإداري دون تهمة أو محاكمة، حيث يُحتجز الأسير بقرارات عسكرية قابلة للتجديد لعدة أشهر أو سنوات دون تقديم أي لائحة اتهام، ويستند الاحتلال إلى ما يُسمّى بـ ”الملف السري“، ولا يُسمح للمعتقل أو محاميه بالاطلاع عليه. وقد لوحظ منذ عام 2023 تصاعد عدد المعتقلين الإداريين إلى ما يفوق عن 3550 معتقلًا إداريًا، بينهم نساء وقرابة 100 من الأطفال، بجانب تصنيف نحو 1850 معتقلًا كمقاتلين غير شرعيين من معتقلي قطاع غزة، وانتهاج سياسة الإخفاء القسري بحق الآلاف منهم واحتجازهم في معسكرات مغلقة بإشراف جيش الاحتلال، ومنها سديه تيمان، عناتوت، نفتالي، ركيفت، وأقسام في النقب وعوفر وعسقلان وغيرها.
ثالثًا: الإهمال الطبي المتعمد وعدم توفير العلاج الملائم: عبر عدم إجراء أو تأخير إجراء العمليات الجراحية، وعدم القيام بالفحوصات الدورية والتحاليل والصور الطبية وغيرها، وإهمال الأمراض المزمنة (السكري، السرطان، الكلى، والضغط). وقد أدّت هذه السياسة والتعذيب لارتقاء 66 شهيدًا داخل السجون منذ أكتوبر 2023.
رابعًا: العزل الانفرادي واستخدامه بشكل مفرط وطويل الأمد، وخاصة بحق قيادات وكوادر الحركة الأسيرة.
خامسًا: ظروف الاحتجاز القاسية: الاكتظاظ، وسوء التهوية والنظافة، وحرمان من الملابس والاحتياجات الأساسية.
نظام طعام سيئ وغير صحي، وانتهاج سياسة التجويع المتعمد، وإغلاق الكانتين، ومنع إدخال الكتب والأدوات التعليمية، ووقف الزيارات العائلية لجميع الأسرى منذ أكتوبر 2023. كما تم وقف عمل ودور اللجنة الدولية للصليب الأحمر من الوصول للأسرى والسجون والمعتقلات، وفرض قيود وإجراءات مشددة على زيارات المحامين، وتشديد إجراءات المحاكمات العسكرية.
سادسًا: القمع الجماعي للأسرى: اقتحامات ليلية من وحدات خاصة مسلحة مثل وحدة "المتسادا"، درور، إيلماز وغيرها، ورشهم بالغاز، واستخدام الهراوات والكلاب البوليسية، ومصادرة الممتلكات الشخصية، وتقييد المياه والكهرباء داخل الأقسام، وفرض العقوبات الجماعية على أقسام بأكملها بعد أي احتجاج، وإجراء عمليات تفتيش مذلة ومهينة بما فيها التفتيش العاري.
هذه الممارسات والانتهاكات تُمارس بقرار سياسي من كيان الاحتلال الإسرائيلي، وتطال جميع الأسرى والأسيرات والمرضى والأطفال، وكل هذه الانتهاكات تُشكّل مخالفات صريحة لاتفاقيات جنيف الرابعة، وانتهاكًا للحق في الحياة والكرامة الإنسانية بموجب العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، ومعاهدة مناهضة التعذيب، ويُصنَّف كثير من هذه الممارسات كـ جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية في القانون الدولي.
6 - كيف تتعامل سلطات الاحتلال مع الأسرى المرضى؟ وهل هناك حالات وفيات ناتجة عن الإهمال الطبي؟
تتعامل سلطات الاحتلال الإسرائيلي مع الأسرى المرضى بأسلوب يتّسم بالإهمال الطبي الممنهج والتمييز في الرعاية الصحية، في انتهاك واضح للمعايير الدولية، لا سيما اتفاقية جنيف الرابعة، وقد أدى هذا الإهمال إلى ارتقاء العشرات من الأسرى داخل السجون، كما تُسجَّل سنويًا مئات الحالات المرضية التي لا تتلقى العلاج المناسب.
أولًا: ملامح الإهمال الطبي في السجون الإسرائيلية
1- تأخير الفحص والتشخيص، إذ يُضطر الأسير للانتظار أسابيع أو أشهر لمجرد عرضه على طبيب، ولا تُجرى الفحوص اللازمة مبكرًا، مما يؤدي إلى تدهور حالته الصحية.
2- العلاج بالمسكنات فقط، حيث يُقدَّم للأسير المريض بشكل روتيني دواء "الأكامول" (مسكن بسيط) لجميع الحالات، من الصداع إلى السرطان، مما يُفاقم الأمراض المزمنة.
3- رفض أو تأخير نقل الأسرى إلى المستشفيات، فكثير من الأسرى المرضى لا يُنقلون إلى المستشفيات المدنية أو يُرفض تحويلهم، حتى مع التدهور الخطير لحالتهم.
4- غياب رعاية متخصصة، فلا توجد أطقم طبية متخصصة داخل سجون الاحتلال، والأطباء العاملون غالبًا ما يفتقرون إلى الخبرة أو يتعاملون بشكل لا أخلاقي ومهين.
5- سوء التغذية وانعدام بيئة العلاج، فالطعام المقدم سيئ النوعية ولا يلائم احتياجات المرضى، والزنازين غير مهيّأة صحيًا أو نفسيًا للعلاج، خاصة في سجن "عيادة الرملة"، هذا إلى جانب التعمد في عدم القيام بالعمليات الجراحية اللازمة.
ثانيًا: حالات استشهاد ناتجة عن الإهمال الطبي
منذ عام 1967، استشهد أكثر من 305 أسرى فلسطينيين داخل السجون، منهم أكثر من 100 حالة بسبب الإهمال الطبي.
أمثلة على حالات موثقة:
1- الأسير ناصر أبو حميد (2022)
مصاب بالسرطان، تُرك دون علاج مناسب لفترة طويلة.
رفض الاحتلال الإفراج عنه رغم تدهور حالته الحرجة.
استشهد وهو مقيّد في المستشفى، دون توديع عائلته.
2- الأسير خضر عدنان (2023)
أضرب عن الطعام أكثر من 85 يومًا.
رفضت سلطات الاحتلال نقله إلى المستشفى رغم تدهور حالته.
استشهد داخل زنزانته بعد أن تُرك دون مراقبة طبية حقيقية.
3- الأسير وليد دقة (2024)
كان يعاني من مرض نادر ونقص في المناعة.
تعرّض للإهمال الطبي الممنهج وتأخر نقله إلى المستشفى.
استشهد بعد 38 عامًا من الاعتقال، رغم المطالبات الدولية بالإفراج عنه.
إضافة إلى خالد الشاويش وآخرين كثيرين.
ثالثًا: الانعكاسات القانونية والحقوقية
ما تقوم به سلطات الاحتلال يُعدّ خرقًا للمادتين 91 و92 من اتفاقية جنيف الرابعة، التي تلزم بتوفير الرعاية الطبية الكافية، كما أنه انتهاك للعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لا سيما "الحق في الصحة". وقد يُشكّل ذلك جريمة محتملة بموجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية إذا ثبت القصد والإهمال الممنهج.
7 - ما هو تأثير سياسة الاعتقال الإداري على الأسرى وعائلاتهم؟ وهل يمكن اعتبارها شكلاً من أشكال العقاب الجماعي؟
سياسة الاعتقال الإداري التي تنتهجها سلطات الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين تُشكّل واحدة من أكثر السياسات تعسفًا، ولها تأثيرات عميقة نفسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا على الأسرى وعائلاتهم. كما أنها تُمثّل من حيث الجوهر شكلًا من أشكال العقاب الجماعي، وهو أمر محظور صراحة بموجب القانون الدولي الإنساني. وهو اعتقال دون تهمة أو محاكمة، يُصدر بأمر عسكري بناءً على "ملف سري"، وتُمدَّد فترته مرارًا، لعدة أشهر أو حتى سنوات، دون سقف قانوني واضح، ولا يعرف المعتقل متى سيتم الإفراج عنه، مما يُولّد قلقًا واكتئابًا مزمنًا وضغطًا نفسيًا وعصبيًا، وتجديد أوامر الاعتقال فجأة، دون سبب ظاهر، يُشعر الأسير بالاستهداف الدائم.
وهذا دفع كثيرًا من المعتقلين الإداريين للجوء إلى الإضراب الفردي عن الطعام كوسيلة ضغط، وهو ما يعرّض حياتهم للخطر، خاصة وأن الإضرابات الطويلة تُنهك جسد المعتقل وتترك آثارًا صحية دائمة. وإن الاعتقال الإداري من شأنه حرمان المعتقل من التعليم والعمل، حيث يُعتقل الأسرى وهم في سنّ العمل أو الدراسة، ما يوقف مسيرتهم التعليمية والمهنية، فيما تعيش العائلة في قلق دائم لأنها لا تعرف موعد انتهاء الاعتقال، خاصة أن الأب أو المعيل قد يُعتقل ويُجدَّد له الاعتقال 3 أو 4 مرات متتالية، مما يؤثر على دخل العائلة.
والاعتقال الإداري يُستخدم كسلاح سياسي ووسيلة لقمع المجتمع الفلسطيني، وليس كإجراء أمني استثنائي كما تدّعي سلطات الاحتلال الإسرائيلي، ويمكن اعتباره شكلًا من العقاب الجماعي للأسباب التالية: يُستخدم ضد نشطاء سياسيين وطلابيّين ومدنيين ونقابيين وأسرى سابقين بناءً على نشاطهم المجتمعي، وليس على أفعال مقاومة محددة، ويُمارَس على نطاق واسع (يوجد أكثر من 3550 معتقلًا إداريًا حاليًا)، ما يثبت أنه سياسة ممنهجة وليس استثناءً مؤقتًا، مما يؤثر ليس فقط على الفرد المعتقل بل على أسرته ومجتمعه، عبر إشاعة الخوف والردع.
وبذلك، تُعدّ هذه السياسة مخالفة للمادة 33 من اتفاقية جنيف الرابعة، التي تحظر العقاب الجماعي، وكذلك تنتهك مبادئ المحاكمة العادلة في العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية.
8 -كيف تقاوم العائلات الفلسطينية سياسة الاحتلال في اعتقال الأبناء والزوجات؟ وما هي أشكال الدعم المتاحة لهم؟
بالصمود والتضامن الأسري تحافظ العائلات على التماسك النفسي والاجتماعي رغم الضغوط، وكثير من الأمهات والزوجات يصبحن قياديات في الحراك المجتمعي بعد اعتقال معيل الأسرة. ويشاركن في الاحتجاج الشعبي وفي وقفات واعتصامات أمام مقار الصليب الأحمر، المحاكم العسكرية، وسجون الاحتلال، والساحات العامة، بجانب تنظيم حملات تضامن مع الأسرى في القرى والمدن والمخيمات، إضافة إلى التوجه إلى القضاء من خلال محامين ومؤسسات مثل هيئة شؤون الأسرى ونادي الأسير و"مؤسسة الضمير" و"مركز عدالة"، وذلك بهدف المطالبة بالإفراج أو الاعتراض على تمديد الاعتقال الإداري أو العزل الانفرادي.
فيما تنشط بعض العائلات على وسائل التواصل الاجتماعي، وتنشر صورًا ورسائل وشهادات من المعتقلين. وكثير من أمهات الأسرى أصبحن رموزًا نضالية، يقدن مسيرات ويقدمن شهادات في المحافل الدولية، وبعض الأسيرات السابقات يؤسسن مبادرات لدعم ذوي الأسرى نفسيًا وحقوقيًا.
وعلى صعيد آخر، فإن مؤسسات المجتمع المدني والحكومي، ومنها نادي الأسير الفلسطيني، هيئة شؤون الأسرى والمحررين، مؤسسة الضمير، والحركة العالمية للدفاع عن الأطفال، ومركز علاج وتأهيل ضحايا التعذيب، تقدم دعمًا قانونيًا ونفسيًا، وتتابع ملفات الأسرى في المحاكم.
ورغم قسوة الاعتقال السياسي، تُحوّل العائلات الفلسطينية هذه المحنة إلى فعل مقاوم ورافعة نضالية متواصلة، عبر مزيج من الصمود، التحرك القانوني، التضامن المجتمعي، والعمل الإعلامي. وتبقى الحاجة ملحة إلى زيادة الدعم الدولي والحقوقي لمرافقة هذه الجهود في وجه منظومة الاحتلال القمعية.
9 - كيف يغطي الإعلام الجزائري قضايا الأسرى الفلسطينيين وحجز الجثامين؟ وهل يوجد تركيز كافٍ على هذه الانتهاكات؟
الإعلام الجزائري يُعد من أبرز وسائل الإعلام العربية التي تولي اهتمامًا خاصًا بالقضية الفلسطينية، خصوصًا قضايا الأسرى وحجز الجثامين، وهو اهتمام ينبع من الموقف السياسي والتاريخي الثابت للجزائر في دعم الشعب الفلسطيني. إذ يعمل الإعلام الجزائري على تقديم تغطية واسعة ومنتظمة لقضايا الأسرى الفلسطينيين، مع تبني خطاب داعم يعكس التضامن مع معاناة الفلسطينيين في كل ما يتعلق بحقوقهم وحقوق أسرهم.
العديد من القنوات الفضائية والصحف الجزائرية مثل قناة النهار، الشروق، والجزيرة فرع الجزائر، تتابع بشكل دوري أخبار الأسرى الفلسطينيين، إضافة إلى الصحف والمواقع الإلكترونية مثل "الأيام نيوز" وملحقه "صوت الأسير"، الإخبارية، القائد نيوز، الشعب، الوسيط المغاربي، الحياة العربية (ملف فلسطين والأسرى)، مجلة الوفاء، دزاير نيوز، عين الجزائر، المغرب الأوسط، وغيرها. هذه المنصات الإعلامية تركز على تقديم تقارير ميدانية تبرز الجوانب الإنسانية لقضية الأسرى، مثل الإضرابات عن الطعام، الإهمال الطبي، والمعاملة القاسية التي يتعرضون لها داخل السجون.
بالرغم من أهمية قضية حجز الجثامين في كشف الانتهاكات الإسرائيلية وتعزيز الوعي العالمي بها، إلا أن التغطية الإعلامية الجزائرية لهذه القضية تبقى أقل مقارنة بقضية الأسرى. وعادةً ما تُخصص التغطيات الخاصة لهذه القضية عند تجدد الحوادث المرتبطة بها، كما حدث مع استشهاد ناصر أبو حميد، خضر عدنان، ووليد دقة، حيث تحظى هذه الحوادث باهتمام إعلامي ملحوظ في الصحف الجزائرية. ومع ذلك، يبقى التركيز الإعلامي الأكبر منصبًا على قضية الأسرى، نظراً لما تحمله من أبعاد إنسانية وسياسية أعمق في السياق الفلسطيني.
في المجمل، تحافظ الجزائر من خلال إعلامها على دور ريادي في التوعية بالقضايا الفلسطينية، وتكثف جهود الضغط على الاحتلال الإسرائيلي عبر قنواتها الإعلامية المتنوعة، ما يعكس التزام الدولة الجزائرية ودعمها المتواصل لقضية فلسطين بكل تفاصيلها.
10 - ما هو دور الإعلام العربي في فضح انتهاكات الاحتلال ضد الأسرى؟ وهل يؤثر في الرأي العام العالمي؟
الإعلام العربي يلعب دورًا محوريًا في كشف وتوثيق الانتهاكات الإسرائيلية ضد الأسرى الفلسطينيين في السجون، مثل الاعتقال الإداري، الإهمال الطبي، العزل الانفرادي، الحرمان من الزيارة، التعذيب، والإخفاء القسري. العديد من وسائل الإعلام العربية، من بينها القنوات المصرية، الجزيرة، المنار، الميادين، الحقيقة الدولية، ورؤيا، إضافة إلى صحف مثل الحياة والقدس العربي، إلى جانب الإعلام الفلسطيني والإعلام الجزائري الذي يتميز في هذا المجال، تعمل باستمرار على تسليط الضوء على قضايا الأسرى، خصوصًا خلال المناسبات التي تشهد تصعيدًا أو أحداثًا مهمة مثل إضرابات الأسرى عن الطعام.
الإعلام العربي لا يكتفي بنقل الأخبار فقط، بل يستخدم استراتيجيات متنوعة لتعزيز الوعي بالقضية، تشمل بث تقارير وثائقية، مقابلات مع أسرى محررين، تسليط الضوء على القصص الإنسانية لعائلات الأسرى، وتحليل حقوقي من قبل مختصين. كما يسعى إلى خلق حالة ضغط شعبي على الحكومات العربية والدولية لمواجهة هذه القضايا بجدية أكبر. كما يواكب الإعلام العربي الجهود الدولية، مثل قرارات الأمم المتحدة والمؤتمرات الدولية التي تطالب بحماية الأسرى الفلسطينيين، بالإضافة إلى مناشدات منظمات حقوق الإنسان العالمية، ومتابعة التحركات الدولية لضمان محاسبة إسرائيل على الانتهاكات.
الإعلام العربي يلعب أيضًا دورًا مهمًا في نقل القضية الفلسطينية من الحيز المحلي إلى الساحة العالمية عبر حملات تضامن مثل حملة "أسرى الحرية"، التي ترفع مستوى الوعي على الصعيد الدولي. وفي بعض الأحيان، ينجح الإعلام العربي في إجبار الإعلام الغربي على إيلاء الاهتمام لقضية الأسرى، خاصة في حالات إضرابات الأسرى عن الطعام أو استشهادهم تحت التعذيب.
رغم ذلك، يواجه الإعلام العربي تحديات كبيرة بسبب الهيمنة الإعلامية الغربية التي تتجاهل أحيانًا الانتهاكات الإسرائيلية. ومع ذلك، يظل الإعلام العربي أداة مؤثرة داخل المجتمع المدني الدولي، حيث يساهم في تحفيز الضغط الشعبي العالمي وإثارة قضايا حقوق الإنسان في السجون الإسرائيلية، ما يجعل منه رافعة مهمة في دعم القضية الفلسطينية دوليًا.
11 - لماذا تتجاهل بعض الوسائل الإعلامية العالمية انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي؟ وهل هناك تحيز واضح في التغطية؟
تجاهل بعض الوسائل الإعلامية العالمية للانتهاكات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، وبالأخص قضية الأسرى، يعود إلى عوامل سياسية وإعلامية معقدة، أبرزها الهيمنة الغربية على الإعلام الدولي والمصالح السياسية والاقتصادية التي تحكم خيارات التغطية الإعلامية.
أولاً: لماذا تتجاهل بعض الوسائل الإعلامية العالمية انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي؟
الهيمنة الغربية تلعب دورًا رئيسيًا في تشكيل توجهات وسائل الإعلام الكبرى مثل سي إن إن، بي بي سي، والجزيرة الإنجليزية، حيث تخضع هذه المنصات في كثير من الأحيان لتأثيرات سياسية مرتبطة بدولها، خاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية. تلعب اللوبيات المؤيدة لـ "إسرائيل" في الولايات المتحدة وأوروبا دورًا قويًا في توجيه المواقف الإعلامية، ما يؤدي إلى تقييد التغطية الحقيقية للانتهاكات الفلسطينية.
بالإضافة إلى ذلك، تعتمد شركات الإعلام الكبرى على الاستثمارات والعلاقات التجارية مع الدول الغربية التي تدعم "إسرائيل"، مما يدفعها لتجنب التغطية التي قد تؤدي إلى توتر سياسي مع تلك الدول، مثل الولايات المتحدة وكندا. الخشية من ردود الفعل السياسية تجعل بعض وسائل الإعلام تقلل من حجم التصعيد الإعلامي تجاه الانتهاكات الإسرائيلية.
هناك أيضًا تحيز واضح في التغطية الإعلامية للانتفاضات والانتهاكات، يتجلى في عدة نقاط مهمة:
· تصوير مجموعات المقاومة: الإعلام الغربي غالبًا ما يصور الفلسطينيين على أنهم "مسلحون"، "متمردون"، أو "إرهابيون"، بينما يتم تصوير الإسرائيليين كـ "ضحايا" في معظم التغطيات، مما يشوه الصورة ويخلق انحيازًا واضحًا.
· التقارير الموجهة: كثيرًا ما تتجاهل وسائل الإعلام الغربية الانتهاكات اليومية مثل هدم المنازل، الاعتقال الإداري، والتهجير القسري، وبدلًا من ذلك تركز على الجانب الإنساني الإسرائيلي، متناسية الواقع الكارثي للفلسطينيين في الأراضي المحتلة.
· التغطية الانتقائية: في أوقات الحروب أو التصعيد العسكري، يتخذ الإعلام الغربي موقفًا يبدو محايدًا ظاهريًا، لكنه في الواقع يقلل من معاناة الفلسطينيين، متجاهلًا حقوقهم الوطنية والسياسية الأساسية.
هذه العوامل مجتمعة تؤدي إلى غياب التغطية الموضوعية والمتوازنة التي تبرز الانتهاكات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، مما يحد من تأثير الإعلام الدولي على تشكيل الرأي العام العالمي حول القضية الفلسطينية بشكل عادل وشامل.
12 - كيف يمكن للإعلام الفلسطيني والعربي كسر حاجز التعتيم الإعلامي العالمي على معاناة الأسرى؟
فيما يتعلق بكسر حاجز التعتيم الإعلامي، هناك استراتيجيات يمكن أن تُستخدم من قبل الإعلام الفلسطيني والعربي لمواجهة هذا التحدي. ويمكن بلوغ ذلك عبر الاستفادة من الإعلام الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي، حيث تستطيع وسائل الإعلام الفلسطينية استثمار منصات التواصل الاجتماعي بشكل أكبر، مثل فيسبوك وتويتر وإنستغرام، لنقل معاناة الأسرى الفلسطينيين مباشرة إلى العالم وتجاوز الرقابة الإعلامية.
كما أن القصص الشخصية للأسرى، والشهادات المصورة، ومقاطع الفيديو، يمكنها جميعًا أن تشكّل مدخلًا قويًا لمواجهة التعتيم الإعلامي.
إلى جانب ذلك، يمكن العمل على بناء شراكات وتعاونات مع وسائل الإعلام الدولية المستقلة، من خلال توسيع نطاق شبكة العلاقات مع المؤسسات الإعلامية التي تُعنى بتغطية قضايا حقوق الإنسان بشكل شفاف. وتبرز هنا أهمية توظيف ونشر التوثيق الدولي والتقارير الحقوقية، والتعاون مع منظمات حقوق الإنسان الدولية مثل "هيومن رايتس ووتش" و"العفو الدولية" بشأن الانتهاكات الإسرائيلية ضد الأسرى، ما يسهم في زيادة الوعي وتكثيف الضغط الدولي.
ويُعدّ إطلاق الحملات الإعلامية الدولية، مع التركيز على القصص الإنسانية للأسرى الفلسطينيين، من الوسائل الفعالة. كما يمكن التعاون مع الفنانين والمشاهير العالميين والمؤثرين لدعم قضايا الأسرى الفلسطينيين، باعتبارهم عناصر مهمة نحو تحقيق دعم شعبي عالمي لقضيتهم.
ويُضاف إلى ذلك أهمية تعزيز الحضور الإعلامي الفلسطيني في المنظمات الدولية، مثل الأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان، والتفاعل مع الصحفيين الدوليين في المؤتمرات والندوات، لضمان إيصال الصوت الفلسطيني بشكل مؤثر ومباشر.
13 - ما هي أدوات الضغط المتاحة للمجتمع الدولي لوقف انتهاكات الاحتلال ضد الأسرى واستعادة الجثامين؟
يمتلك المجتمع الدولي عدة أدوات دبلوماسية، قانونية ومجتمعية للضغط على الاحتلال الإسرائيلي من أجل وقف انتهاكاته ضد الأسرى الفلسطينيين، واستعادة جثامين الشهداء. وتتراوح هذه الأدوات بين الضغط الحكومي، والإجراءات القضائية، والضغط الشعبي من خلال المجتمع المدني. ومن أبرز هذه الأدوات:
1. الضغط السياسي والدبلوماسي :
يمثل إطار الأمم المتحدة إحدى أبرز المنصات التي يمكن توظيفها للضغط على "إسرائيل"، حيث تمتلك الأمم المتحدة آليات دبلوماسية وقانونية، منها التوصيات الصادرة عن الجمعية العامة وقرارات مجلس الأمن التي تدعو "إسرائيل" إلى التوقف عن ممارساتها غير القانونية. كما يمكن للدول المؤيدة للقضية الفلسطينية، والتي تدعم حقوق الإنسان، أن تمارس ضغوطًا دبلوماسية من خلال المفاوضات الثنائية أو المؤتمرات الدولية.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن الضغط على الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة – بالنظر إلى علاقاتهما الوطيدة بـ "إسرائيل" – يمكن أن يسهم في ممارسة ضغط سياسي واقتصادي لحث الاحتلال على التخلي عن سياساته القمعية.
2. الإجراءات القانونية :
تشكل محكمة الجنايات الدولية (ICC) إحدى أهم السبل القانونية لمساءلة الاحتلال. ويمكن، بناءً على التحقيقات الرسمية أو التقارير الحقوقية، فتح ملفات حول الانتهاكات الإسرائيلية ضد الأسرى الفلسطينيين. كما يمكن اللجوء إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان لتقديم شكاوى ضد "إسرائيل" بشأن الانتهاكات المتواصلة.
وتُعدّ منظمات حقوق الإنسان الدولية مثل "هيومن رايتس ووتش" و"العفو الدولية" أدوات مهمة في هذا الإطار، حيث يمكن تكليفها بتوثيق الانتهاكات ونشر تقارير تُستخدم لاحقًا كأدلة قانونية في المحاكم الدولية.
3. الضغط الشعبي والإعلامي :
تلعب وسائل الإعلام العالمية، بما في ذلك الصحف الكبرى والقنوات الفضائية، دورًا مهمًا في زيادة الضغط على "إسرائيل"، من خلال تغطية الانتهاكات بشكل مكثّف، مما يسهم في رفع الوعي الدولي تجاه قضية الأسرى الفلسطينيين وحجز جثامين الشهداء.
كما تشكل الحملات الشعبية عبر منصات التواصل الاجتماعي مثل تويتر وفيسبوك أدوات فعالة في حشد التضامن الدولي. ويمكن أن تؤدي إلى تحريك الرأي العام العالمي وتوجيه أنظار المجتمعات إلى الانتهاكات المستمرة.
بالإضافة إلى ذلك، فإن فرض العقوبات الاقتصادية على "إسرائيل" في حال استمرارها بسياسات الاحتجاز والانتهاك، يُعدّ خيارًا مهمًا. ويمكن أن يشمل ذلك فرض حظر على تصدير بعض السلع، أو قيودًا على التعاون التجاري، خصوصًا من قبل الدول التي تربطها علاقات اقتصادية قوية بـ "إسرائيل".
وتأتي حركة المقاطعة BDS في هذا السياق كآلية ضغط فعالة، تسعى إلى فرض مقاطعة اقتصادية، ثقافية، وأكاديمية على "إسرائيل"، ما يسهم في تعزيز عزلتها على المستوى الدولي، وإيصال رسالة مفادها أن انتهاك حقوق الإنسان له كلفة سياسية واقتصادية.
14 - هل يمكن لمحكمة الجنايات الدولية (ICC) أن تلعب دوراً في محاسبة الكيان الإسرائيلي على هذه الانتهاكات؟
تُعد المحكمة الجنائية الدولية (ICC) جهة قضائية دولية قد تلعب دورًا مهمًا في محاسبة كيان الاحتلال الإسرائيلي على انتهاكاته الجسيمة بحق الأسرى الفلسطينيين واحتجاز جثامين الشهداء، وذلك استنادًا إلى المعايير القانونية الدولية. وتتمتع المحكمة بولاية قضائية تخولها محاكمة الأفراد المتورطين في جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية.
وبما أن دولة فلسطين أصبحت منذ عام 2015 دولة مراقب غير عضو في المحكمة، فإن لها الحق في تقديم الشكاوى والمذكرات القانونية بشأن الجرائم التي يرتكبها الاحتلال ضد الأسرى الفلسطينيين، بما في ذلك التعذيب، الإهمال الطبي المتعمد، والاحتجاز الإداري، وهي جميعها تندرج ضمن جرائم الحرب وفقًا للنظام الأساسي للمحكمة (نظام روما الأساسي).
أما حجز جثامين الشهداء، فقد يُصنَّف ضمن الجرائم ضد الإنسانية إذا ثبت أنه يشكل انتهاكًا ممنهجًا وواسع النطاق لحقوق الإنسان، خاصة إذا ترافق مع سياسة رسمية أو توجيه من سلطات الاحتلال.
يُذكر أن المحكمة الجنائية الدولية كانت قد أعلنت في عام 2020 عن فتح تحقيق رسمي بشأن الجرائم المرتكبة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهو ما يمثل خطوة قانونية أولى نحو محاسبة المسؤولين عن تلك الانتهاكات.
ويُمكن أن يتطور هذا التحقيق في حال تقدمت السلطة الوطنية الفلسطينية أو منظمات حقوقية دولية بشهادات موثقة وشكاوى رسمية، حيث تُعد التوثيقات الدقيقة من منظمات مثل العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش عاملًا داعمًا لتحقيقات المحكمة.
ويشمل جمع الأدلة القانونية مراحل عديدة منظمة، منها:
· جمع الشهادات من الأسرى وعائلاتهم.
· توثيق الحالات الصحية والانتهاكات عبر تقارير طبية محايدة.
· جمع الأدلة المرئية (صور وفيديوهات).
· التعاون مع منظمات حقوق الإنسان الدولية والمحامين المختصين في القانون الدولي الإنساني.
رغم ذلك، فإن المحكمة، التي تعمل وفقًا لمبادئ قانونية واضحة، قد تواجه ضغوطًا سياسية من بعض القوى الكبرى، على غرار الولايات المتحدة أو دول في الاتحاد الأوروبي، التي غالبًا ما تسعى إلى حماية "إسرائيل" من الملاحقة الدولية، سواء عبر التدخل السياسي أو الضغوط الاقتصادية، وهو ما قد يؤدي إلى عرقلة مسار التحقيقات أو تأخير إصدار مذكرات توقيف بحق المسؤولين الإسرائيليين.
15 - كيف يمكن تعزيز التضامن الشعبي العربي والدولي مع قضية الأسرى وحقوق الشهداء؟
يتطلب تعزيز التضامن الشعبي العربي والدولي مع قضية الأسرى الفلسطينيين وحقوق الشهداء بناء جبهة قوية تقوم على الفهم المشترك والوعي العميق بالمعاناة الفلسطينية، إلى جانب اعتماد استراتيجية إعلامية ناجحة وتنظيم فعال للأنشطة التضامنية على مستوى عالمي.
وتُعد حملات التوعية الإعلامية من أبرز الوسائل المؤثرة في هذا السياق، وذلك من خلال إطلاق مبادرات عبر وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، تركز على قضايا الأسرى الفلسطينيين وجرائم حجز الجثامين، مع استخدام الوسائط المتعددة مثل الفيديوهات التوعوية، والقصص الشخصية التي تُظهر الواقع الإنساني لهذه المعاناة. كما أن توزيع المواد التعليمية ونشر كتيبات ومنشورات تعريفية عن تاريخ قضية الأسرى وأبعادها القانونية والإنسانية يساهم في ترسيخ الفهم العام وتعزيز التفاعل المجتمعي.
وفي ذات السياق، يُمكن الاستفادة من قوة الإعلام الرقمي عبر منصات مثل تويتر وفيسبوك من خلال إطلاق حملات بوسوم موحدة مثل #أسرى_الحرية و#حجز_الجثامين، إلى جانب مشاركة الشهادات المصورة والقصص المؤثرة على منصات مثل يوتيوب وإنستغرام. هذا التفاعل الرقمي من شأنه أن يُضاعف حجم الوعي العالمي حول ما يتعرض له الأسرى الفلسطينيون من انتهاكات.
كما يُمثل التعاون مع منظمات حقوق الإنسان الدولية، مثل هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية، خطوة حيوية في سبيل توثيق الانتهاكات بشكل منهجي، ما يُساهم بدوره في رفع مستوى الضغط الدولي على الاحتلال الإسرائيلي.
وعلى المستوى الميداني، يُعد تنظيم فعاليات تضامنية دولية – من قبيل المسيرات والوقفات الاحتجاجية أمام السفارات الإسرائيلية في العواصم العالمية – رسالة قوية ترفض ممارسات الاحتلال وتُطالب بمحاسبته أمام القانون الدولي.
كما يمكن أن يُشكل التفاعل مع السياسيين والبرلمانيين والشخصيات العامة أداة فعالة لتدويل قضية الأسرى، من خلال حثهم على تبني مواقف علنية داخل المحافل الدولية، وهو ما يُساهم في خلق ضغط دبلوماسي مستمر لرفع مستوى الاهتمام السياسي والإعلامي بالقضية.
وبالموازاة، يمكن الاستفادة من التأثير الثقافي لشخصيات بارزة في مجالات الفن والرياضة، وتنظيم فعاليات ثقافية وفنية – مثل المعارض أو الحفلات الموسيقية التضامنية – لتسليط الضوء على الأبعاد الإنسانية لقضية الأسرى وإيصال صوتهم إلى جمهور أوسع حول العالم.
16 - ما هي أبرز الحملات الدولية الناجحة التي كشفت انتهاكات الاحتلال في سجونه؟ وكيف يمكن تطويرها؟
تم إطلاق العديد من حملات الإعلام الرقمي والتظاهرات الميدانية لدعم الأسرى، مثل حملة "حريتكم حريتي"، التي شارك فيها آلاف النشطاء عبر العالم في الوقفات الاحتجاجية، ونجحت الحملة في نشر القصص الشخصية للأسرى الفلسطينيين عبر منصات الإنترنت، وركزت على ممارسات الاحتلال، بما في ذلك الاعتقال الإداري، التعذيب، والإهمال الطبي، كما أن حملة "لا لحجز الجثامين" ساهمت في فضح سياسة الاحتلال في احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين لعدة سنوات، وتسليط الضوء على معاناة عائلات الشهداء، وحقهم في دفن أبنائهم بشكل لائق، وساهمت في نشر التقارير الحقوقية من قبل منظمات دولية لفضح التنكر "الإسرائيلي" لحقوق العائلات الفلسطينية في الحصول على جثامين الشهداء. وقد كان لحملات التضامن مع الإضراب عن الطعام للأسرى في سجون الاحتلال، تأثير كبير ولاقت دعمًا واسعًا عالميًا عبر وسائل الإعلام والمنظمات الحقوقية، وهذه الحملات ساعدت في زيادة التضامن الشعبي والضغط الدولي على "إسرائيل" لإيقاف الانتهاكات المتعلقة بالأسرى، وعملت على كشف الحقائق والتأثير في الرأي العام الدولي. تطوير هذه الحملات يأتي بزيادة استخدام التكنولوجيا الحديثة والاستفادة من التطبيقات الذكية والواقع الافتراضي لتجسيد معاناة الأسرى من خلال تجارب تفاعلية، وعرض شهادات الأسرى، وتوثيق شهاداتهم، مع عرض صور للظروف القاسية التي يعيشونها، إضافة لحملات جديدة على منصات مثل تيك توك ويوتيوب باستخدام محتوى مرئي ومقاطع فيديو قصيرة وجرافيك مؤثر لزيادة الانتشار في الأوساط الشبابية. بجانب توسيع نطاق التعاون مع النقابات والاتحادات المهنية لتشمل النقابات العمالية، والجامعات، والمنظمات المهنية الدولية، مثل اتحاد الصحفيين الدولي واتحاد المحامين الدولي، لتوفير دعم قانوني ودبلوماسي لقضية الأسرى، عدا عن المزيد من التعاون مع المنظمات الحقوقية لإصدار المزيد من التقارير المعتمدة التي تسلط الضوء على انتهاكات الاحتلال، المتعلقة بالإهمال الطبي والرعاية الصحية للأسرى والتعذيب داخل السجون والاعتقال الإداري والأطفال.

