2025.07.08



قراءة في أسرار فرنسا \ نوستالجيا

قراءة في أسرار فرنسا "الموازية".. حين تتحدث باريس بلسان المافيا (الجزء الرابع والأخير)


قبل أن تكون "باريس" عاصمة النور والعطور التي يحلم السيّاح بزيارتها، كانت عاصمة للسّموم والقذارة والروائح الكريهة النفّاذة التي تُشمّ على بعد أميال. وقبل أن تحمل شوارعُها أسماء: الشانزليزيه، دي ريفولي، بوليفارد هوسمان، مونمارتر، رين.. كانت تحمل أسماء لها علاقة بالمَسالخ والدّم والذبائح مثل: قدم البقر (Rue du Pied de Boeuf)، الكَرْشَة (Rue de la Triperie).. "شوارع باريس كانت أشبه بحساءٍ له رائحة كبريتيّة، حيث تلقي فيها العائلات بقاذوراتها وفضلات أفرادها من النوافذ.. وفي يومي الخميس والجمعة، لم يكن أمام الباريسيين خيارٌ سوى السَّير وسط بوصاتٍ من الدماء المُتكاثفة التي تُلقيها المسالخ في الشوارع.. كانت قذارة باريس لا مفرّ منها، تلتصق بلا رحمة بالملابس، وجوانب المباني، وداخل فتحات الأنف.. ومن الحركة الدائمة للمارّين، يتحوّل التراب إلى زيت أسود كثيف ودهني، بحيث لا يمكن لأيّ فنٍّ أن يغسله". هذه هي العاصمة "باريس" كما وصفتها الكاتبة "هولي تاكر" في كتابها "مدينة النور، مدينة السموم: القتل والسحر وأول رئيس شرطة في باريس".

أما المؤرخ الفرنسي "دريبار" فيقول: "نحن الأوروبيون مدينون للعرب بالحصول على أسباب الرّفاه في حياتنا العامة، فالمسلمون علّمونا كيف نحافظ على نظافة أجسادنا. إنهم كانوا عكس الأوروبيين الذين لا يغيّرون ثيابهم إلا بعد أن تتّسخ وتفوح منها روائح كريهة..." (من كتاب "الحضارة" للمفكر والمؤرخ المصري "حسن مؤنس").

تطهّرت "باريس" من قذارتها الظاهرة، وصارت أشهر مدينة للعطور في العالم، غير أنها لا تزال تحتفظ بأقذر ما فيها من شرٍّ ونزعة استعمارية للهيمنة على الشعوب الآمنة ونهب ثرواتها في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. ولعل وجود فرنسا ضمن الدول الكبرى مرهونٌ بحفاظها على قذارتها.. ولا يزال ورثة الفكر الاستعماري الفرنسي يحلمون بإعادة عجلة التاريخ إلى الوراء، ويعملون من خلال أجهزة أمنية هجينة تتخفّى وراء وكالات إعلامية وسياحية وشركات تجارية ومنظمات وجمعيات مدنية ومراكز بحوث ودراسات.. يعملون على تخريب اقتصاديات الأوطان، وزعزعة استقرار الدول، ونشر الإرهاب والعنف، وبثّ الأفكار الهدّامة في المجتمعات، وغيرها من الأعمال الشيطانية التي تؤكّد بأن كل عطور باريس لا تكفي لتزيل عنها رائحة القذارة التاريخيّة والرّاهنة!

وتلك الأجهزة الأمنية الهجينة تتغذّى وتُؤمّن تمويلها وميزانياتها الضخمة من التجارة في المخدّرات وأعمال الدّعارة والقمار وبيع الأسلحة وكل الأعمال السوداء التي تدرّ أرباحا طائلة. وهي لا تخدم بالضرورة البلدان التي تنتمي إليها، فقد تخدم أيضًا أفرادا أو مجموعات في ميادين السياسة أو الاقتصاد أو قوى الضغط وكل التنظيمات الخفيّة التي تريد بسط هيمنتها ونفوذها عبر مختلف أنحاء العالم. وهذا ما يفسّر وجودها المتخفّي تحت شركات اقتصادية وتجارية في بلد مثل الإمارات والمغرب..

هي باختصار أجهزة في خدمة عَبَدة الشيطان وأعداء الحياة والإنسان، تتبنّى فكرة "الإنسان الأعلى" (السوبرمان) للفيلسوف الألماني "نيتشه" الذي يرى بأنه يتوجّب على النُّخبة القوية أن تسحق الشعوب الضعيفة التي هي مجرّد حشرات مهما سُحِقت فإنها لا تفنى.. وهي فكرة تتقارب إلى حدٍّ كبير مع الرؤية التلمودية الصهيونية التي ترى في الأغيار (غير اليهود) بأنهم حيوانات خلقها الله في صورة بشر لخدمة اليهود!

حول قذارة "باريس" التي لم تغسلها القرون ولا تستطيع أكثر مواد التنظيف تطوّرا أن تغسلها، يعرض علينا الكاتب والمؤرخ والديبلوماسي الجزائري "محمد الميلي" (1929 – 2016) قراءة في كتاب صدر عام 1975 بعنوان "ملف ب ... كعملاء سريين: فرنسا موازية، تلك التي تتعلق بالأعمال القذرة للسلطة في فرنسا" (Dossier B ... comme barbouzes: Une France parallèle celle des basses-oeuvres du pouvoir en France).

ينطلق الكتاب في تتبّع جهاز استخباراتي فرنسي موازي للجهاز الرسمي، ظهر بصفة رسمية عام 1958 تحت تسمية "ساك" أو "مصلحة نشاط الأخلاق المدنية" في شكل جمعية مُسيَّرة حسب قانون الجمعيات الصادر عام 1901. وكان من بين أعضائه شخصيات سياسية واقتصادية وعسكرية ومُدراء بنوك وشركات بترولية.. وامتدّ نشاطه من داخل فرنسا، حيث كان يؤثّر في صناعة الرؤساء: من رئيس الدولة إلى رئيس البلدية.. امتدّ إلى خارج فرنسا والقارة الأوروبية، ووصل نشاطه إلى إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، حيث أنجز مهمات كثيرة في اغتيال الرؤساء والشخصيات السياسية الفاعلة، وخطّط ونفذ للانقلابات، وأثار الفوضى والفتن في دول كثيرة، ودعم الحركات الانفصالية، وزوّر عُملات عددٍ من البلدان الإفريقية وأغرق الأسواق بها.. وقد تركّز نشاطه بشكل أساسي في إفريقيا الغربية أو ما يُعرف بـ "الساحل الإفريقي".

كان هذا التنظيم السرّي (أو الموازي) يضمّ في شبكته عناصرا من عالم الإجرام والنازية والعداء لفرنسا ذاتها.. "ويُسجّل المؤلِّف أن التنظيم السرّي المذكور لم يكن يتشدّد في انتقاء العناصر، طالما تتوفّر فيها الشروط المطلوبة، أي أنه لم يكن الماضي يُؤخذ بعين الاعتبار. وبذلك وقع الاعتماد على عناصر كانت قد اشتغلت مع (نظام فيشي) أو مع سلطات الاحتلال الألماني، لكن فيما إذا كان العنصر المطلوب معروفا جدا في منطقته بأنه كان يتعاون مع الاحتلال النّازي، فتُزوَّر له شهادة نضال ومشاركة في المقاومة، ثم يُوجه إلى مدينة أخرى لا يكون فيها معروفا. أمّا شهادات النضال نفسها فقد كانت تُطبع بالجُملة في بلجيكا".

كما يُحدّثنا الكِتاب عن مهندس هذا التنظيم، "جاك فوكار" الذي "كان من مكتبه - في رئاسة الجمهورية الفرنسية - يصنع حكومات إفريقية، ويوجه خيوطها". وأسّس ما يُعتبر "إمبراطورية" لصناعة الإرهاب وتجارة السلاح والمخدّرات واغتيال الشخصيات وإحداث الانقلابات وتزوير العُملات.. في بلدان إفريقيا الغربية خاصة. وأفرد الكتاب فصلا للحديث عن تفاصيل عملية اختطاف المعارض المغربي "المهدي بن بركة".

ما يمنح هذا الكتاب قيمة تاريخية أنه اعتمد على شهادات عناصر انتمت إلى هذا التنظيم الفرنسي الهدّام، من ذلك هذه الشهادة حول محاولات زعزعة ثورة التحرير الوطني، يقول الشاهد: "كان علينا أن نفتعل عمليات تصفية حسابات بين الجزائريين، كما كان علينا أن نقتل بعض الناس. وكان ذلك عملا سهلا، كنا نصل في سيارة أو اثنتين، إلى الحي العربي (باب إیكس) في مرسيليا، أو حي (باربيس) في باريس، ونقف أمام مقهى يُعيّن مسبقًا، ثم نطلق قنبلة أو اثنتين ونصحبها بطلقات رشاشة..

وكان علينا أيضا أن نضطلع بعمليات أصعب، مثل استنطاق بعض من يُلقى عليهم القبض، ومثل إخفاء جثث الذين يُقتلون في محافظة البوليس لكي نلقي بها في نهر السين. وعندما نضع أيدينا على عنصر من الجبهة (جبهة التحرير الوطني) مُكلّف بجمع الأموال، نقتسم الغنيمة أخماسًا، فحتى الشرطي الرسمي لم يكن يتعفّف عن أخذ نصيبه. وباختصار لقد كان مسؤولونا عند كلمتهم ما عدا شيئا واحدا لم ينفّذوه وهو تطهير سجِلّ السوابق".

من المُجدي الإشارة إلى أنّ هذا التنظيم الموازي عُرف بتسميات عديدة منها "شبكة الاستخبارات الديغولية" لأنه كان يهدف - أو هكذا نفهم - إلى إعادة "ديغول" إلى حكم فرنسا، غير أنّه صار ذراعًا لرؤساء فرنسيين، وصار له ورثةٌ ابقوا على نشاطاته في مختلف أنحاء العالم، وليس هناك ما يُفيد بأنه انتهى وطُويَت صفته، بل إنّ الأحداث تؤكّد بأنه تغوّل وأمسى أكثر شراسة وخطورة.. عمّا تحدّث عنه الكِتاب. ولن نطيل على القارئ أكثر، ونتركه يُبحر في المقال الذي نشره "محمد الميلي" بمجلة "الأصالة" الجزائرية في شهر ماي 1976، تحت عنوان: "في فرنسا: شبكات التخريب والتهريب تنبع من السلطة".

تجميع المعلومات وتحليلها واستثمارها

مثل هذه الأعمال - الواردة في المقال السابق - ليست هي المهام الوحيدة التي تقوم بها أجهزة "فوكار"، فهناك جانب آخر يسلّط عليه المؤلِّف الأضواءَ في الفصل السابع من الكتاب، وهو يتلخّص في تجميع المعلومات وكيفية استغلالها. ويتحدّث المؤلّف هنا عن شخص اسمه "شارل فانسوزیني" كان يشتغل في المصلحة المضادّة للجوسسة، وكان هو الذي تولّى تنظيم المخابرات الديغولية في منطقة "ليون".

يقول المؤلِّف واصفًا كيفية تجميع المعلومات وتحليلها بعد ذلك، ما يلي: "أصبح (أي شارل فانسوزيني) هو الساعد الأيمن لفوكار من جانفي 1962 حتى صيف 1974، وكان هو المسؤول عن تجميع المعلومات في نطاق المخابرات الديغولية. كان يقيم في الطابق الرابع من العمارة الواقعة في شارع سولفيرينو رقم 5". وكان يستعمل معارفه في جميع مصالح البوليس السرّي، يأخذ عنهم ما لديهم من معلومات ويزوّدهم بالمعلومات التي تأتي عن طريق شبكات المخابرات الديغولية، وكانت هناك عدة حانات يلتقي فيها من يتبادلون المعلومات. ويُورد المؤلِّف هنا اسم الكوميسار "جان كاي"، من المباحث العامة، الذي كان له دور في قضية اختطاف "بن بركة"، والذي يشتغل الآن (1975) في مصلحة البوليس الاقتصادي.

وبعد تجميع المعلومات، يلتقي "شارل فانسوزيني" مرّة في اليوم مع "جاك فوكارط في جلسة عمل تستغرق نصف ساعة تقريبا. أما مكان هذه الاجتماعات اليومية فهو يختلف حسب الظروف: فقد يلتقي الرجلان في قصر الإليزيه حيث يوجد مكتب "فوکار" بوصفه الأمين العام لرئاسة الجمهورية مكلفا بالقضايا الإفريقية والملغاشية، أو في البناية المُخصّصة لمركز المخابرات الديغولية في شارع "ماجنتا"، ويحضر عادة هذا الاجتماع شخصٌ مُتخصّص في موضوع المعلومات المدروسة.

شهادة السياسي وتاجر الأسلحة "بريس لالوند"

وقد قبِل أحد الذين أتيح لهم حضور هذه الاجتماعات أن يُدلي بشهادة يصف فيها كيفية تنظيم دوراتها، واسمه "بريس لالوند"، وكان من مساعدي "میشیل دیبري" عندما كان رئيس حكومة على عهد "ديغول"، وهو الآن (1975) يشتغل تاجر أسلحة لحساب شركة سويسرية.

يقول "بريس لالوند": "كانت أول مرة أرى فيها جاك فوكار عن قرب. كان ينتظرنا في مكتب بالطابق الثاني من العمارة الواقعة في شارع ماجنتا، كان استقباله لنا باردا، ولست أدري هل يرجع ذلك إلى وصولنا متأخّرين عن الموعد أو إلى أنه يريد أن يزرع فينا الهيبة. الانطباع الذي تكوّن عندي جعلني لا أتصوّر أني أمام موظف سام، بل تصوّرتُ أنّي أمام رئيس عصابة. كان يناقش جزئيات الملف بأدقّ تفاصيلها.. وقد كان اندهاشي كبيرا، لأن هذا الرجل عبارة عن دماغ إلكتروني، فقد دعاني لأناقش معه مسائل بيع الأسلحة من طرف البلدان الشرقية، وكنت قد وجّهتُ له، عن طريق فانسوزيني قبل ذلك ببضعة أيّام، تقريرا مُفصّلا يقع في مائتي صفحة مضروبة على الراقنة، وأستطيع أن أؤكد أنه هضم ما جاء في التقرير، وألقى عليّ أسئلةَ رجلٍ محترف في هذا الميدان دون أن يراجع أية مُذكّرة. وبعد ساعة من الحديث كسبَني، واقتنعت أن العمل متعة مع مثل هذا الرجل الفعّال حقا. طبعا إن خيبة الأمل تستولي علينا بعد ذلك عندما نلاحظ أنه يبتلع الرجال والتنظيمات".

قضية اختطاف المعارض المغربي "المهدي بن بركة" 

وبما أن المخابرات الديغولية كانت على صلة بقضية اختطاف "المهدي بن بركة"، فإن مؤلِّف الكتاب يُخصِّص لها فصلا خاصا، ويتعرّض المؤلف إلى عددٍ من الأشخاص الذين شاركوا في تلك العملية المشيئة والذين تردّدت أسماؤهم عدة مرات في الصحافة العالمية خلال السنوات العشر الماضية. ومن بين هؤلاء شخص ألماني يُدعى "أوتو کارل دوبیو" الذي كان يرأس جمعية وهمية اسمها جمعية الصداقة الألمانية العربية. ويُقال إنه كانت له علاقات مع المخابرات المركزية الأميركية، وكان يستعمل لاتصالاته رقما تليفونيًّا تبيّن بعد التحقيق أنه يوجد في مقرّ إذاعة أميركا المُوجّهة إلى أوروبا الشرقية والتي يوجد مقرّها في "ميونيخ" بألمانيا الغربية، والتي تشرف على توجيهها المخابرات الأميركية.

ويقول المؤلف بأن عدد الاتصالات التي تمّت بين "المهدي بن بركة" وبين الألماني "أوتو كارل دوبيو" قد بلغت فيما بين (1963 - 1965) عشرة اتصالات على الأقل. وكان "دوبيو" هذا يرسل عن اتصالاته مع "المهدى" تقارير إلى شخص يُدعى "بول ويللس" يقيم في "بون"، وإن نسخة من تلك التقارير تُوجّه إلى شخص يُدعى "بول إيف ريو"، يقيم في "طنجة"، وهذا الأخير (بول إيف ريو) هو الذي اتصل به البوليس السرّي المغربي واجتمع به في مقرّه بطنجة 53 نهج دي فيني (الكروم) في نوفمبر 1964 وفي ماي 1965.

ويقول المؤلف أن "دوبيو" كان قد قام آنذاك بعدة مهام لحساب جهاز المخابرات الديغولية الذي يشرف عليه "فوكار".. وأنه أطلع "فوكار" على اتصالاته بـ "المهدي بن بركة"، وأنه تلقّى مقابل ذلك أكثر من ستين ألف دولار. ويقول المؤلف أيضا أن "دوبيو" تعهّد باستدراج "المهدى بن بركة" إلى "ديسلدورف" في ألمانيا الغربية حيث كان من المُقرّر أن يتمّ الاختطاف، وأن ذلك كان مُقرّرًا تنفيذه في شهر سبتمبر 1965. ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان، ففي أوت 1965، ألقت مصالح الأمن الجزائري القبض على "دوبيو" في "الجلفة"، ولذلك وقع توجّه المخابرات المغربية إلى: جورج فيغون، فيليب بيرنسي، أنتوان لویز، أما "جورج فيغون" فقد تردّد اسمه في الصحافة العالمية بما فيه الكفاية، وقد كان معروفًا ارتباطُه مع المحامي "بيير لومارشي" المعروف باتصالاته بالمخابرات الديغولية.

ثم يسوق المؤلف شهادة "جيرار فيريكور"، الذي يعيش الآن خارج فرنسا، يصف الجو الذي كان سائدا في أجهزة "فوكار" عند الإعداد لاختطاف "المهدي"، تقول الشهادة المذكورة: "كنا نعيش فترة جنونية، لأن كل المصالح وكل أحد يريد أن يسحب نحوه الغطاء، ومما زاد الأمور صعوبة أن أحمد الدليمي كان قد عرض باسم أوفقير منحة ضخمة في حالة نجاح العملية، فحسب شتوكي، هناك مبلغ مليون دولار قد رُصد في بنك بسويسرا، وكان الأمل في اقتسام هذا المبلغ الضخم قد شحذ همم الجميع".

اختطاف مقابل 60 ألف دولار!

كما يسوق المؤلف شهادة شخص آخر اسمه "ليوتنان کاهور"، حضر تنفيذ عملية الاختطاف، فوصف دقائقها وكيف أنه أعطى هو من مبلغ ستين ألف دولار واقتسمها مع ثلاثة أشخاص هم: ليفي، فيرلاك، بيريسي. ويقول "كاهور" إن فيرلاك قد هرب واختفى، وإن بيريسي قد مات في حادث سيارة بألمانيا الغربية في جويلية 1970، وإنه هو نفسه، أي ليوتنان كاهور، قد حاولت أجهزة "فوكار" أن تُلصق به عدّة تهمٍ فألقِيَ عليه القبض في إيطاليا، ويبدو أن "فوكار" أراد أن يمحي آثار بعض من حضروا العملية.

ويقول المؤلف إنه سجَّل شهادة "ليوتنان كاهور" بينما كان في سجن "مورات" بفلورانس في إيطاليا. ويضيف إلى ذلك إن "كاهور" تمكّن من الفرار من السجن الإيطالي، والتجأ إلى البرتغال، في نوفمبر 1972، وإن آثاره اختفت من ذلك الحين.

ثم يواصل المؤلِّف متابعة نشاطات تنظيم "فوكار" في ميادين أخرى، مثل تجارة المخدرات، وتنظيم عمليات الإرهاب، والاستفزاز ضد أوساط اليسار، وتجارة الأسلحة، وعمليات الاغتيال إلى آخر القائمة..

خلاصة الكلام..

ويختم المؤلف كِتابه بعد ذلك داعيًا إلى تجميع أكثر ما يمكن من المعلومات عن أمثال هذه التنظيمات، وإن ذلك لا يجوز أن يبقى قاصرا على الاختصاصيين فقط، فالدفاع الذاتي هو أحسن وسائل المواجهة.

وباختصار، فإن هذا الكتاب يتوفّر على معلومات قيّمة تفيد كل الحركات الثورية وكل الأنظمة التقدميّة، لأنها ليس فقط تُبرز حقائق وتعرّي مسؤولين، وتكشف عن أن منبع الفضائح والتخريبات يوجد أحيانا داخل السلطة الحاكمة نفسها، ولكن أيضا لأنه يساعد على تبيّن الأساليب التي يشتغل بها الاستعمار الحديث سواء في علاقاته الخارجية أو الداخلية.

إنه لا يجوز أن نستغرب من وجود عناصر استعمارية، ما تزال حتى الآن، تحلم بإرجاع عجلة التاريخ إلى الوراء.. فقد كتب "أنتوان أرغو"، أحد کولونیلات 13 ماي 1958، في خاتمة كتابٍ له صدر في نهاية عام 1974، يعتزّ فيه بما اقترف من جرائم في حق الجزائريين، يقول: "إني لا آسف على شيء... سوى على أني فشلت، ولو أن المعركة تُستأنف لعدتُ إليها من جديد!".

نعم هناك عناصر استعمارية ما تزال تحقد على الجزائر بكل قواها. وهذه العناصر سوف تسعى دوما إلى أن تستغل نقاط ضعفنا، وتستمدّ منها تبريرا لنشاطها التخريبي. والعِبرة التي يمكن أن تُستخلص من ذلك هي ضرورة الاعتماد على الدفاع الذاتي، وتحويل اليقظة من مجرد شعار إلى ممارسة فعلية حيّة واعتبارها مهمة كل أحدٍ وليست مهمة أجهزة الأمن وحدها، فالمعركة لم تنته بعد..