"الإسلام في حاجة إلى دعاية وتبشير" كتابٌ أصدره الشيخ العلاّمة الجزائري "محمد السعيد الزاهري" عام 1929 (1348 هـ) في مصر، وسرعان ما نفذت طبعته الأولى فأصدر طبعةً ثانيةً عام 1933 (1352 هـ) في دمشق. لاقى الكتابُ ثناءً جميلا في أقطار عربية عديدة، وكتبت عنه الصحف والمجلات مثل مجلة "المجمع العلمي العربي" في دمشق، وتُرجمت بعض فصول هذا الكتاب إلى اللغة الفرنسية، وتُرجم فصل واحد منها إلى لغة الملايو.
أورد "الزاهري" في مقدمة كتابه بأنّ الأديب والمفكر اللبناني الأمير "شكيب أرسلان" (1899 - 1946)، الذي اشتهر بلقب "أمير البيان"، راسله مُعبّرًا عن إعجابه وتثمينه للكتاب، قال: "وكان كاتب الدّهر عطوفة الأمير شكيب أرسلان كَتب إليّ يومئذ يقول لي إنه أُعجب بهذه الفصول كل الإعجاب، ويدعوني إلى المثابرة والمزيد، وقال إنه يرى أن أركان الأدب العربي في الجزائر اليوم هم أربعة: الزاهري وباديس والعقبي والميلي، فكتبتُ أنا إليه يومئذٍ أدُلّه على آخرين هم من نوابغ الأدب اليوم في هذه البلاد، ذكرتهم له بأسمائهم".
وقال "الزاهري" أيضًا: "وكتب علّامة الجزائر الأستاذ الجليل الشيخ عبد الحميد بن باديس، رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، فصلاً قيّمًا عن هذا الكتاب نشره في جزء شعبان 1350 من مجلة (الشهاب) التي تصدر تحت إشرافه في قسنطينة الجزائر، جاء فيه ما نصّه: عرفنا شاعر الجزائر الشيخ السعيد الزّاهري شاعرًا خنذيذًا، وعرفناه كاتبا رحب البيان بليغًا، وعرفناه في هذا الكتاب داعية إسلاميًّا كبيرا، وقد خاض مسألة الحجاب، والمرأة الجزائرية، ومسألة الإسلام والتغرّب والشبيبة المتعلمة، فأبان عن الحقائق وأقام من الحجج ما لا يلقاه أشدّ الخصوم - إذا أنصف - إلا بالإكبار والتسليم، وساق ذلك كله في أسلوب من البلاغة (الشبيه بالرّوائي) سهل جذاب، لا تستطيع إذا تناولت أوّله أن تتركه قبل أن تأتي على آخره".
كتاب "الإسلام في حاجة إلى دعاية وتبشير"، في طبعته الأولى التي بين أيدينا، يشتمل على 76 صفحة، ويتألّف من سبعة فصول تحمل هذه العناوين: عائشة، الكتاب المُمزّق، صديقي عمّار، طلبة إفريقيا الشماليّة، في أحد متنزّهات وهران، حنين الإسبان إلى العرب، كيف يغوون شبابنا؟، وفصلٌ ختامي في نهاية الكتاب. وهذه الفصول جميعها هي في الأصل مقالات نشرها "الزاهري" في "الفتح"، وهي صحيفة إسلامية أسبوعية كان يصدرها "محب الدين الخطيب" (1886 - 1969)، وكانت تُعتبر "أهم صحيفة عربية تُعنى بنشر الآراء والأنباء عن العالم الإسلام" (كما ورد عن الصحيفة في كتاب الزاهري). وقد جمعها "الخطيب" واختار لها عنوان "الإسلام في حاجة إلى دعاية وتبشير" وأصدرها في كتاب منفرد.
في مقدمة الطبعة الأولى، قال "الخطيب": "وهذه فصول كتبها أخي في الدعوة، الأستاذ السيد محمد السعيد الزاهري الجزائري لتنشر في صحيفة الفتح، فرأيتها مثلاً صالحا للدعوة على الخير وما يجب أن يكون عليه الداعي من بصيرة وحكمة، لذلك استخرت الله عز وجلّ في إفرادها بهذا الكتاب عسى أن ينفع الله بها، وهو ولي التوفيق".
ونُنبّه القارئ إلى أن "الحديقة"، وهي دورية غير مُنتظمة أصدرها "محب الدين الخطيب" ما بين (1922 - 1934)، قد نشرت مقالا لأديبنا "الزاهري"، في الأول سبتمبر 1930، بالعنوان نفسه الذي صدر به الكتاب أي "الإسلام في حاجة إلى دعاية وتبشير". كما ننبّه القارىء أن صحيفتي "الفتح" و"الحديقة" كانتا تنشران لأكابر الأدباء والمفكرين العرب آنذاك من أمثال: مصطفى صادق الرافعي، عباس محمود العقاد، شكيب أرسلان، إبراهيم عبد القادر المازني، وآخرين كثيرين.. ووجود "الزاهري" بين هذه الأسماء الكبيرة يدلّ على مكانته الفكرية والأدبية على خارطة الثقافة العربية آنذاك.
كتاب "الإسلام في حاجة إلى دعاية وتبشير" تناوله كثيرٌ من الدّارسين والباحثين الجزائريين، واعتبروا أنه يندرج ضمن "المقال القصصي" أو "المقال الدعوي".. وهناك من ذهب إلى أن "الزاهري" هو رائد القصة القصيرة في الجزائر. ونعتقد بأن هذا الكتاب يندرج ضمن أدب المذكّرات ذلك أن "الزاهري" وثّق لأحداث ومواقف عاشها بنفسه وقدّم تفاصيلها ثم استثمرها في سياق منهاجه الإصلاحي الدعوي الإسلامي..
وإذا أردنا أن نستوضح رأي "الزاهري" في فن القصّة الذي يستدعي الخيالَ و"الاختراع" الأدبي، فلنقف عند ما قاله لصديقه الصحافي الإسباني في مدينة "وهران"، قال "الزاهري": "وذكرت له (الصديق الإسباني) أنني منذ أيام اجتمعت بالدكتور (جاك ساي)، العالم الفرنسي وأحد أطباء الحكومة في وهران، وتحادثنا عن الأدب العربي وعن قلّة القصص فيه، حتى أن الشعر العربي لم يتناول القصة بالمرّة، فقلت له: إن سبب ذلك هو أن الأدب العربي أدبٌ واقعي حقيقي أكثر ممّا هو خيالي. والذوق العربي نفسه يمجّ الخيال الذي لا يصوّر الحقيقية ولا الواقع. والقصة يضطر إليها الأدب الخيالي أكثر مما يضطر إليها الأدب العربي الذي أهم أغراضه أن يصف لك حقائق الحياة. فذكر الدكتور (ساي) أنه قرأ بحثًا لأحد العلماء المستشرقين يرى فيه مثل هذا الرأي ويقول: إن الشاعر العربي أصدق شعراء الدنيا وأطبعهم، وأكثرهم مطابقة للحقيقة والواقع. فإذا وصف لك خدًّا بأنه كالورد، فاعلم أن الأمر كذلك لا يتجاوزه ولا يعدوه".
قد يتساءل القارئ: كيف يكون "الإسلام في حاجة إلى دعاية وتبشير"، و"التبشير" كلمة تُستعمل - عادة - في الدعوة إلى المسيحية أو النصرانية، يبنما يُستعمل للإسلام مصطلحُ "الدعوة"؟ لستُ لغويًّا ولا فقيهًا، ولكنني مع أديبنا "الزاهري" بأنّ كلمة "التبشير" تليق بالإسلام، وارتباطها بالمسيحية مُغالطةٌ كبرى، لا سيما في فترات استعمار البلدان العربية حيث كان "التبشير" من الوسائل الاستعمارية. ذلك أن التبشير يكون - غالبا - لما فيه الخير للأفراد والمجتمعات، فلا أحد يُبشّر بالشرّ حتى في أدبيّاتنا الشعبية! ورسولنا الكريم، وكل الرّسل والأنبياء، بعثهم الله مُبشّرين ومُنذرين.. ومن هذا المنطلق فإن التبشير بالإسلام هو الأصدق والأحق بالقول والعمل على حدِّ السّواء.
من المُجدي أن نعرّف بالشيخ العلامة "محمد السعيد الزاهري" (1899 - 1956)، وسنختصر القول بأنه من روّاد الحكرة الإصلاحية في الجزائر، ومن أغزر الكُتّاب الجزائريين كتابةً في زمانه، حيث كان ينشر كتاباته في أكبر الدوريات العربية والجزائرية، إضافة إلى الدوريات التي أصدرها هو نفسه مثل جرائد: "الجزائر" عام 1925، البرق عام 1927، الوفاق عام 1937، المغرب العربي 1947.. وجرائد جزائرية أخرى كان مشاركًا فيها وتُعتبر رائدةً في مجال الإعلام الساخر ومنها "الجحيم" التي عرّفت نفسها بما كتبته على صفحتها الأولى: "جريدة حرّة مستقلة، يقوم بتحريرها نخبة من شبّان الزبانية. تتنفّس يوم الخميس من كل أسبوع، شعارها: العصا لمن عصى". (قد نُبحر في الجحيم في أعداد قادمة من جريدة "الأيام نيوز").
من بين كُتب "الزاهري" هذا الكتاب الذي تُقدّم جريدة "الأيام نيوز" مختارات منه إلى القارئ الكريم، اعتمادًا على طبعته الأولى التي بين أيدينا.. والغاية أن يطّلع القارئ على واحدٍ من أكبر أدباء الجزائر الذين كان لهم حضورٌ قويٌّ في الصحافة العربية، وكتابات تميّزت بالرصانة والعمق الفكري واللغة الأدبية الرائقة، كما كان له معاركه ضدّ عميد الأدب العربي "طه حسين" و"سلامة موسى" وآخرين، ومعاركه في الجزائر أيضًا من خلال كتاباته الساخرة.. وفيما يلي نترك القارئ مع "الزاهري" مُبشّرًا بالإسلام على طريقته المتميّزة الحكيمة..
مَن يُنكر دينَه كمَن يُنكر أباه!
واصل الشيخ "الزاهري" محاضرته ردًّا على الشباب المغرور، قال: وَهِب أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يعرف الحروفَ الهجائية العربية ويقرؤها ويكتبها، فما هي هاته الحروف؟ هي بلا شكٍّ تلك الحروف التي كانت يومئذٍ في أول نشأتها، يلتبس فيها كل حَرفٍ بكل حرف، ولا يتبيّن فيها شيءٌ من شيء. ولا يمكن بحالٍ أن تكون حروفًا تُكتب بها كتبٌ، وتُدوّن بها دواوين.
وأين هذه "الكُتب القديمة" التي يزعمون أنها كانت مكتوبةً بالحروف العربية، ويزعمون أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يقرؤها ويدرسها؟ وما هي أسماء هذه الكتب؟ ومن هم الذين ألَّفوها؟ وهل كانت في بلاد العربِ جامعاتٌ علمية تُدرِّس باللغة العربية، وتكتب بالحروف العربية، حتى يمكن أن يُقال إن النبي (صلى الله عليه وسلم) تعلّم فيها الكِتاب والحكمة وهاته العلوم التي ذكرها الله في القرآن العظيم؟
ويح هؤلاء القوم المستعمرون! يقولون إن الأبجدية العربية على حالتها الحاضرة اليوم قاصرةٌ لا تَفي بالمراد ولا تُماشي علومَ العصرِ ولا آدابه، ثم يزعمون أن العرب في الجاهلية كانوا أُولي علم وفلسفة وكُتب قديمة مكتوبة بالحروف العربية التي وفَّت لهم بكل ما كان عندهم من حكمة وأدب! فهل معنى هذا أن الأبجدية العربية كانت في الجاهلية أرقى منها في هذا العهد الأخير؟! "قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ" (المنافقون، الآية: 4).
ولو كنتُ أعجبُ من شيءٍ في هذه الحياة لعجبتُ من أمرِكم أنتم أيها الإخوان، أنتم مسلمون وآباؤكم مسلمون، لا ترضون إذا وُصِفتم بغير الإسلام، ومع ذلكم فإنكم لا تعرفون شيئا عن الإسلام إلا ما جاءكم عن طريق أعدائه، أفمن أعداء الإسلام تتعلّمون الإسلام؟
أليس في استطاعة أدناكم علمًا بالإسلام أن يأخذ الإسلام عن أبويه أو ذوي قرباه أو عن أيّ مسلم آخر؟ فإن هؤلاء العامة من المسلمين - مهما بلغوا في الجهل - فإنهم أحقّ من الأجانب وأجدر أن يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله. إنه ليس من عجبٍ يا سادتي أعجب من أمركم هذا!
تقول يا سيدي فلان (أعني المُحاضر): "ينبغي لنا أن ننبذ التعصّب الديني (الإسلامي) ظهريًّا، فلا يحملنا التعصب على ترك هذه الحضارة الغربية اللامعة، إلى حضارة إسلامية يقال إنها كانت في القديم لآبائنا المسلمين..."، وهذا هو نفس ما يقول الاستعمار (كما قدّمته لكم آنفا) الذي يريد أن يرزأنا في كل شيء، يريد أن يرزأنا في قوميّتنا وأن يرزأنا في ديننا، حتى لا يكون هنالك عندنا ما يعصمنا من أن يلتهمنا الاستعمار التهامًا ويأكلنا أكلًا لمًّا، فنندمج فيه يومئذٍ اندماجًا لا يبقى منا معه شيء. فإذا نبذنا هذا التعصب الديني، أعني إذا تركنا ديننا ونبذناه ظهريا وانسلخنا من عوائدنا وأخلاقنا وأنكرنا كل صلة تربطنا بآبائنا الأوّلين، ثم تهافتنا على هذه الحضارة الغربية، فتَفَرْنَجْنا واندمجنا، وأسرفنا في التَّفَرْنُج والاندماج، حتى يغمر التّفرنج والاندماج منا كل شيء، وحتى لا تكون علينا سِمَة من سِمات الإسلام، وحتى لا يبقى عندنا ما يصِحّ أن نَتسمَّى به مسلمين، فهل نكون يومئذ - بعدما خرجنا من ذاتيّتنا ومُسخنا عن أنفسنا - قد تمدّنا وترقيّنا؟ وهل يعترف العالم الغربي يومئذٍ بأن لنا في هذه الحياة مركزا ممتازا؟ والجواب أننا لا محالة نصير يومئذٍ إلى الموت والاضمحلال وبئس المصير.
والشيء السّخيف المضحك، أيها السادة، هذه الدعاية التي تدعونا إلى أن نترك حضارة آبائنا المسلمين، إلى هذه الحضارة الغربية اللامعة... فإن مَثَلنا - إذا فعلنا ذلك وانخدعنا - مثل مَن لا يعجبه أبوه الذي ولده، فيتركه ويتّخذ لنفسه أبًا آخر لامعًا جميلا! أروني أيها السادة رجلاً واحدًا يستطيع أن يخرج عن الطبيعة، فيرضى بأبيه بديلا، أو قل فيرضى أن يكون ابنًا لا أب له! فالذين يدعوننا إلى تركِ حضارة آبائنا إنّما يدعوننا إلى أن نعلن على الملأ: إننا ما لنا من آباء.
يعجبني منكم أيها السادة ذلكم الشاب الذي استعار اسم "كامل بن سراج" حين يقول: ".. وهل من مصلحة العالم أن يكون كله أوروبويًّا غربيًا؟ وقد استبدلَت اليابان منازل باريس بمنازل اليابان الخشبية، ولكن هل أغناها ذلك من الزلزال شيئًا؟ ... يقول هذا ردًّا على "لويس بيرتران" الذي يقول: ".. الشرق مريضٌ بالتعصّب الديني الذي يحرمه من الحضارة الغربية، ومن الاندماج في الغرب..". وأنا أرجو لكم أيها الشبّان أن تكونوا كلكم مثل هذا الشاب الذي تعرفونه وإن كان يستعير اسم (ابن سراج) وكلكم تعجبون به إعجابًا كثيرًا وتقدمونه عليكم إمامًا وزعيما.
سادتي وإخواني، إن في هذه الحياة الغربية زينةً ولمعانًا، وإن فيها لَحبائل وخدائع " فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ" (سورة فاطر، الآية: 5)، ولا يَفتِنَّنكم شياطين الاستعمار، فيُفسدوا عليكم دينكم ويخرجوكم من كل ما بقي لديكم من شرفٍ واستقامة، كما أخرجوكم من دياركم وأموالكم بغير حق.
وليس في التعصب أكبر مقتًا من تعصب هؤلاء الغربيون، فهم يعرفون الحق كما يعرفون أبناءهم، "إِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ" (سورة البقرة، الآية: 146). يعلمون أنَّ مِن الحق أن نحتفظ بكرامتنا وبقوميَّتنا وبديننا، ولكنهم لِتعصُّبهم الغربي يُعدّون ذلك علينا "تعصّبًا دينيًّا ممقوتا".