2025.05.22
نوستالجيا

نصٌّ مَنسي في "أدب الحقد" للكاتب "ألبير كامو".. المينوتور أو وقفة "وهران" (الجزء الثاني)


"وهران"، جمالٌ بلا روح، وسماءٌ معدنيّةٌ، مدينة غارقة في الحصى والغبار، بل هي صحراءٌ موحشةٌ يفترسها الملل! هكذا رأى الكاتب الفرنسي "ألبير كامو" مدينة "وهران" عندما أقام فيها خلال ثلاثينيات القرن الماضي. كتَب "كامو" رواية "الطاعون" وجعل مدينة "وهران" مَسرحًا لها، وتساءل الكاتب والروائي اللبناني "إلياس خوري": "لا أجد أيّ تفسير أدبي مُقنع للسبب الذي دفع ألبير كامو لجعل مدينة وهران في الجزائر مسرحًا لروايته (الطاعون). فالمدينة ليست سوى إطار للرواية ولا علاقة لها بمصائر أبطالها.. المدينة غير مهمة في ذاتها، وتاريخ حدوث طاعونها ليس مذكورًا". وقبل رواية "الطاعون" بسنوات، نشر "كامو" مقالًا عام 1939 بعنوان: "المينوتور أو وقفة وهران"، يؤكّد أنّ حقدًا دفينًا يُكنّه "كامو" لمدينة "وهران"! لن نبحث عن سرّ ذلك الحقد الكاموي على الباهية "وهران"، فهو قد انتقم من الجزائريين في روايته "الغريب"، ورأينا في مقال سابقٍ نشرته "الأيام نيوز" أنّ سبب ذلك الانتقام هو أنّ جزائريًّا اعتدى على أمّه التي يحبّها إلى حدّ القداسة، ورغم أنّنا لا نعلم تفاصيل ذلك الاعتداء أو متى حدثَ؟ فإنّنا لا نستبعد أن يكون الحقد الكاموي يعود إلى السّبب نفسه، وربّما أن المُعتدي كان وهرانيًّا، فـ "كامو" فقد وصَف شباب "وهران" بالشدّة والغلظة.. ومهما يكن، فإنّ "كامو" عجز على أن يكون جزائريًّا، رغم أنّ بعض الكتّاب والمثقّفين كانوا يطلقون عليه اسم "كامو الجزائري"، وهو عندما يتحدّث عن أهل "وهران" فهو لا يعني بالضرورة أهلها الحقيقيين ففي الغالب هو يعني المُعمّرين وأبناء "الأقدام السوداء".. المقال الذي نعرضه اليوم، نشره "كامو" عام 1939 تحت عنوان "المينوتور أو وقفة وهران" (LE MINOTAURE OU LA HALTE D'ORAN)، وصدر ضمن كتاب عام 1951. وقد قام بترجمته إلى العربيّة الكاتب "توفيق شحاتة"، ونشرته، في الأول من شهر أكتوبر 1946، مجلة "الكاتب المصري" التي كان رئيس تحريرها آنذاك الدكتور "طه حسين". وحول دوافع نشر المقال، قالت المجلة: "وقد اختصّنا بهذا الفصل الرائع في الأدب الوصفي الذي ننشره ليرى أدباء الشباب مذهب الكُتّاب الفرنسيين في النظر إلى الأشياء وتصوُّرها واتِّخاذها وسيلة إلى التفكير والاعتبار" لا نعلم أنّ للكاتب "ألبير كامو" علاقةً باللغة العربية أو اهتمامًا بالمجلاّت الأدبية العربيّة! ولا نعلم إن كانت غاية "كامو" من ترجمة مقاله إلى العربيّة من أحل الوصول إلى جماهير القرّاء في المشرق العربي فحسب، أم أنّ الأمر يدخل في سياق حقده على مدينة "وهران"؟ ربّما أنّ المجلّة ادّعت أن "كامو" راسلها، أو أنّها صاغت تلك الفقرة السابقة بحيث يُفهم منها أنّ "كامو" فعل ذلك! قبل أن نترك القارئ يُبحر في المقال، من المُجدي الإشارة إلى أنّ "المينوتور": وحشٌ، تذهب الأساطير اليونانية إلى أنّ نصفه آدميٌّ والنصف الأعلى ثور، كان يتغذّى بلحم بنى آدم، وقد اختاره "كامو" رمزّا للتعبير عن الملل والسّأم الذي كان يلتهم الوهرانيين في اعتقاد "كامو". كما تجدر الإشارة إلى أنّ المقال تحدّث عن وصف "وهران"، وشوارعها، وألعابها الرياضية، وأمور أخرى قد يكون فيها بعض التوثيق لا سيما فيما يتعلّق ببناء الميناء والرصيف البحري.. لنترك القارئ مع المقال، ولا نتحمّل المسؤولية إن التهمه "المينوتور" أو الملل الذي يتثاءب بين كلمات "كامو"! الشارع الوهراني كثيرًا ما سمعتُ أهل "وهران" يشكون من مدينتهم قائلين: "ليس فيها أيّة بيئة ممتعة"، وكيف يمكن أن يكون ذلك!؟ فقد حاول بعض ذوي العقول الطيبة أن يُؤقلِموا في هذه الصحراء تقاليدَ عالمٍ آخر وعاداته، مُتّبعين في ذلك المبدأ الذي يذهب إلى أنه لا يمكن خدمة الفن أو الفكر على خير الوجوه إلّا إذا تضافرَت على ذلك الجهود. وكان من نتيجة هذا أن ما بقي في "وهران" من بيئات مُمتعة إنّما هي بيئات لاعبي البوكر، وهواة الملاكمة والكرة الخشبية، والجمعيات الإقليمية المحليّة. في هذه البيئات على الأقل ينأى أهل "وهران" عن التكلُّف ويرسلون أنفسهم على سجيّتها، وذلك واضح جليّ. فهناك نوعٌ من العظَمة لا يستطيع أن يسمو، فهو مُجدِبٌ بطبعه، وعلى أولئك الذين يرغبون في استكشافه أن يتركوا البيئات وينزلوا إلى الشارع. وشوارع "وهران" مَوهوبة للغبار والحصى والقيظ. وإذا سقط المطر كان طوفانًا وتحوَّلت الأرض إلى بحر من الوحل. ولكن سواء أَسطَعَت الشمس أم نزل المطر، فإنّ الحوانيت تحتفظ المظهر بنفسه العجيب الشاذ. وقد اصطلحَت الألوانُ المختلفة من سوء الذّوق في الغرب والشرق على أن تلتقي فيها. تجد بها أكداسًا من التُّحف، فهذه كلاب سَلوقيّة من المرمر، وراقصات تصحبهن بَجعات، و"آلهة" صيدٍ من الجلاليت الأخضر، وهؤلاء لاعبو الكرة الخشبية، وحاصدو الحقول. بها كل ما يُستعمل للهدايا والمسابقات وأعياد الميلاد، وكل ما يُتّخذ طريق الحواصل ورفوف المدافئ. بها كل هذه المجموعة المُحزَّنة التي لا تفتأ تُنشئها عبقريّةٌ تجاريةٌ مُهرِّجة. على أن هذا الإمعان في فساد الذوق يتّخذ هنا مظهرًا مُضحكا يجعلك تغتفر كل شيء، فهاك ما تحويه مُقدِّمة أحد الحوانيت، وقد عُرض مغمورًا بالغبار: نماذج شنيعة من أرجل مُعذّبة متألِّمة مصنوعة من الجبس، ومجموعة من رسوم "رامبرانت" بمبلغ 150 فرنكًا للرّسم، وحافِظات للأوراق النقدية مُثلّثة الألوان، ورسم بالباستيل يرجع إلى القرن الثامن عشر، وجحش ميكانيكي صغير مصنوع من قماش يشبه القطيفة، وزجاجات من سائل خاص لتخليل الزيتون الأخضر، وتمثال بغيضٌ للعذراء قد اتُّخِذ من الخشب، (ذات ابتسامة فاحشة)، وحتى لا يجهل أحدٌ ما يُمثِّله - التمثال - كتبَت الإدارة تحت قدمِه هذه العبارة: "تمثال للعذراء من الخشب"... وتستطيع أيضًا أن تجد في "وهران" ما يأتي: أولا - مقاهي ذات مناضد تلمع من الدَّرَن، مَرشوقة بأقدام الذُّباب وأجنحتها. وصاحب المقهى دائم الابتسام على الرغم من أنّ حانته خالية دائمًا. وكان ثمن القدح الصغير من القهوة ستّين سنتيمًا والكبير ثمانين. ثانياً - حوانيت للتّصوير الفوتوغرافي لم تتقدّم فيها الصناعة الفنية منذ اختُرِع الورق الحسّاس للتصوير. وهي تعرض مجموعة من الحيوانات العجيبة لا يمكن أن تصادفك في الطُّرق العامة، منها الصورة التي تمثل بحّارًا يسند ذراعه على كونسول. ومنها الفتاة التي يؤهِّلها عمرها للزواج، وقد حُزم خصرُها بشكلٍ مُضحك، فوقفَت أمام منظرٍ من مناظر الغابة وقد تدلّت ذراعاها إلى جانبيها. وتستطيع أن تقدِّر أنّ صور هؤلاء الأشخاص لم تتّخذ من نماذج طبيعيّة، إنّما هي مبتكرات أنشِئت إنشاء. ثالثا - عددٌ وافرٌ من دُور تجهيز الموتى، لا لأنّ الناس يموتون في "وهران" أكثر ممّا يموتون في غيرها من المدن، بل لأنّ الناس يعنون فيها بالموت أكثر ممّا يُعنى به في غيرها. والسَّذاجة المُميّزة لهذا الشعب من التّجار والأجانب المستقلِّين تبدو جليّة حتى فى طُرق الإعلان. فقد قرأتُ في البرنامج المطبوع لإحدى دُور السينما في "وهران" إعلانًا عن فيلم من الطبقة الثالثة، فلاحظتُ فيه النُّعوت الآتية: باهر، فخم، مُدهش، أخّاذ، مُذهل، هائل. ثم إنّ الإدارة تُنبئ الجمهور بما تحمَّلَت من تضحيات عظيمة في سبيل تقديم هذا "الإخراج" العجيب. وعلى الرغم من ذلك، فإنّ ثمن التّذاكر سيبقى كما هو ولن يُرفع.. ومن الخطأ أن تظنَّ أنّ في ذلك تصويرًا لما يمتاز به أهل الجنوب من ميل إلى المبالغة، بل إنّما يبرهن واضعو هذا الإعلان على سداد حكمهم البسيكولوجي.. فإنّ عليهم أن يقهروا عدم الاكتراث والشعور السلبي المتأصِّل اللذين يستوليان على كل إنسانٍ في هذا البلد حين يريد الاختيار بين حفلتين تمثيليتين أو بين صناعتين أو حتى بين امرأتين، فلا يُقرّر إلا مُجبرا. وفنّ الإعلان يعلم هذا حق الأمر، لذلك يتّخذ لنفسه مقاييس أمريكية، فهو هنا مدفوع الدوافع بنفسه التي تحمله هنا إلى الغلو والإسراف. وأخيرًا، فإنّ شوارع "وهران" تُظهِرنا على المُتعتَين الأساسيتين اللّتين ينعم بهما شباب المدينة، وهُما مسح الأحذية، ثم عرض هذه الأحذية في الشارع العام. وإذا أردت أن تكوِّن لنفسك فكرة دقيقة عن أولى هاتين المتعتين، فعليك أن تَكِل نَعلَيك الساعة العاشرة من صباح يوم أحدٍ إلى أحد مساحي الأحذية بشارع "جالييني". هنالك تستطيع وأنت جالس على مقعد مُرتفع أن تتذوّق اللذة الخاصة التي ينعم بها حتى غير الخبير فى هذه الأمور، حين يشهد رجالا مَشغوفين بمهنتهم كما يظهر ذلك في جلاءٍ على مسّاحي الأحذية الوهرانيين. تراهم يُدقِّقون في كل نقطة ويمعنون في كل تفصيل من تفاصيل مهمّتهم. فهناك فُرَشٌ مُتعدِّدة، وثلاثة أنواع من الخِرَق ومَزجٌ ماهر بين الدِّهان والبنزين. وقد يتبادر إلى ظنك أنّ العملية انتهَت حين ترى البريق النهائي الذي ينشأ على أثر استعمال الفُرشة الناعمة. ولكن يدُ الصَّناع نفسه تعيد نشر الدِّهان على الطبقة اللامعة، ثم تفركها، ثم تطفئ بريقها، وتُوصل الدّهان إلى أعماق ثنايا الجِلد، فترتفع الفُرشة نفسها عن الحذاء وقد انبعث من أعماق الجِلد هذا البريق المزدوج الأخير. يبقى بعد ذلك عرضُ الأحذية. وإن أردتَ أن تقدِّر هذه المُتع المُستقاة من الطريق العام حقّ قدرها، فعليك أن تشهد اجتماع الشباب في حفلات الرقص التنكُّري التي تُقام كل مساءٍ فى الشوارع الكبرى للمدينة. فالشباب الوهرانيّون من "أبناء الطبقة الراقية"، الذين تترواح أعمارهم بين السادسة عشرة والعشرين، يتّخذون مُثلَهم العليا في الأناقة السينما الأمريكية، ويستعيرون هذا الزّي التنكُّري كل مساء. فشَعرهم مُجعّد لاصق برؤوسهم يتجاوز طرف قُبّعة مِن الجوخ مائلة على الأذن اليُسرى ومنكسرة على العين اليمنى، وقد حُصِرت العُنق في ياقةٍ ترتفع حتى تبلغ أطراف الشَّعر، وأحاط بها رباط الرّقبة تجمعه عقدةٌ ضئيلة جدًّا يسندها دبّوس لا مفرّ منه. والسُّترة تتدلّى حتى تبلغ نصف الفخذ على سروالٍ قصير فاتح اللون. وينزل الخصر فيكاد يبلغ الوركين، وتسطع الأحذيةُ التي تقوم على طبقاتٍ ثلاثٍ من النِّعال. ترى هؤلاء الشباب يتبخترون كل مساء على أرصفة الشوارع يقرعونها بما رُكِّب في طباعهم من ثبات جأشٍ وما ركِّب في أحذيتهم من أطراف الحديد. وهم يتكلَّفون في كل هذا تقليد مشية "كلارك جابل" وهيئته المُطمئِنّة واستعلائه الممتاز. من أجل ذلك يطلق ذوو البصائر الناقدة من أهل المدينة على هؤلاء الشباب.. لقب: "الكلارك". ومهما يكن من شيء، فإنّ الطُّرق العامة في "وهران" حافلة في أصيل كل يوم بجيش من الفتيان اليافعين الخِفاف، يتكلّفون أقصى الجهد ليظهروا بمظهر شباب سيّء السلوك. ولمّا كانت الفتيات يشعرن أنهن منذ الأزل شبه مخطوبات لهؤلاء المجرمين ذوي القلوب الرِّقاق، فهنّ يتكلفن أيضًا ما تتّخذ أشهرُ المُمثِّلات الأمريكيّات من زينةٍ وبهرج وأناقة. البصائر الناقدة الماكرة نفسها، تُطلِق عليهن لقبًا مُقابلا وتُسمّيهن: "المارلين". فإذا أقبل المساء، وصعدَت من النَّخيل المصفوف على جانبي الشوارع الكبيرة أصواتُ الطَّير مرتفعة نحو السماء، التقَت عشرات من "الكلارك" و"المارلين" يقيس بعضهم بعضًا بأنظارهم في تَرفُّع، ويُقوِّم بعضهم بعضًا، وقد سعدوا بالحياة والظهور، فانسابوا أثناء ساعةٍ لنشوةِ الوجود الكامل السعيد. هنالك يقول الحُسّاد إنّنا نشهد اجتماعات اللجنة الأمريكية. لكنك تحسُّ في هذه العبارة مَرارةَ السنِّ التي جاوزت الثلاثين فلم يعد لأصحابها في هذه الألعاب إرَب، فهم يغضّون من هذه المؤتمرات اليومية التي يعقدها الشباب والخيال. والواقع أنها برلمانات الطّير التي يتحدّث عنها الأدب الهندي. لكن هذه البرلمانات، التي تنعقد في شوارع "وهران"، لا تشقّ على العقول في البحث عن مشكلة الوجود، ولا تجشِّمها السعي نحو الطريق المؤدى إلى الكمال، ولا تستبقي من الأثر إلّا حفيف أجنحةٍ مُرهفة، وزهو أبَّهةٍ مُبهرَجة، ورشاقة مُدلّلة منتصرة، وبهاء غناءٍ مُرسَلٍ غير مُكترثٍ يختفي مع الليل. هذه "سانتا كروز" قد نُقشت في الصّخر نقشا. وهذه الجبال الشاهقة، والبحر المستوى، والريح العاصفة، والشمس المُحرقة، ورافعات الأثقال في الميناء، والقَطر، والمستودعات، والميناء نفسه، وهذه الدّرجات الهائلة التي تتسلق صخرة المدينة، وفي المدينة نفسها هذه الألعاب وهذا الملل، هذه الضوضاء وهذه العزلة. وقد لا يكون في ذلك سموّ كافٍ، ولكن القيمة الكبرى لهذه الجزر المكتظّة بالسكان أنّ القلب يتجرّد فيها من كل شيء. فليس إلى الصمت الآن من سبيل إلّا فى هذه المدن التي تملؤها الضوضاء. وكتب "ديكارت" وهو في "أمستردام" إلى "بلزاك": "إنِّي أتنزّه بين شعبٍ ضخم مختلطٍ فأنعم بحظٍّ من الحرية والراحة لا يقلّ عمّا تنعم به في طُرقات حديقتك".