2025.05.22
فسيفساء

شعراء يكتبون الطلاسم وقرّاء لا "يفهمون"! ما جدوى الغموض في الشعر العربي؟


للغموض جماليّاته في الإبداع الشعري عندما يكون مبرَّرًا ويُحدث المتعة التي يرجوها المتلقّي ويوسّع من آفاقه الفكرية والخيالية.. غير أنّه يغدو أشبه بعقوبة له حينما يصبح الغموض هدفًا بذاته يسعى إليه المبدع، فيحوّل نصّه الأدبي إلى تميمة من الطّلاسم يصعب على القارئ فكّها للوصول إلى المعاني المخبوءة فيها إن كانت فيها معاني! وقد خاض النقّاد والباحثون والكُتّاب في مسألة الغموض في الشعر العربي على امتداد العصور، واختلفوا بين قابل له وفق شروط ومعايير وبين رافض له لأسباب واعتبارات، ولعلّ المتلقّي وهو الطّرف الوحيد المعني بالغموض والمُستهلك الأكبر للإنتاج الأدبي لم يكن له رأيٌ في المسألة، وناب عنه النقّاد في ذلك دون انتخابٍ ولا ديموقراطية! يقول مؤسِّس السوريالية الكاتب والشاعر الفرنسي "أندريه بروتون": "الخلود هو البحث عن ساعة يدٍ قُبيل منتصف الليل عند الأرض المواجهة للماء"، هذه المقولة قد تُدهش القارئ وتثيره وتحفّز خياله على الجموح في سماوات المعاني بحثا عن معنى يستجلي غموضها وإبهامها. وبصفتي قارئا فإنّني أعترف بأنني لم أصل إلى أيّ معنى، ربّما لقصوري في "الفهم الأدبي" أو لعجزي عن تذوّق الإبداع! غير أن الشاعر والكاتب الأمريكي "أرشبيلد ماكليش" يقدّم رؤيةً تبرّر الغموض حيث يرى أنّ المطلوب من القصيدة هو "أن تكون وليس أن تعني، إنّها تنتمي إلى تجربة ولا تنتمي إلى تفسير"، بمعنى أن الشعر يُخاطب الوجدان أولا وليس مُلزمًا أن يُخاطب العقل والفكر، والشاعر مُطالبٌ بتقديم الصّوَر الشعرية الساحرة وليس تقديم الأفكار المثيرة! ربّما أنّ القارئ "المسكين" مُطالبٌ بامتلاك حاسّة أخرى - سنسمّيها مجازا "الحاسّة الشعريّة" - تمكّنه من الإحساس بالقصيدة وتذوّقها والاندهاش بها، وليس عليه أن يفهمها ويُفسّرها، لا سيما قصائد هذا العصر التي لا يكاد كُتّابها أنفسهم أن يفهموها.. ثم يحمّلون القارئ مسؤولية "عدم الفهم" أو الكسل والخمول الذهني الذي يمنع من مُطاردة المعاني، وكأنّ القارئَ صيّادٌ حالم والقصيدةُ بريّةٌ للخيال والمعاني غزلانٌ من وميض البرق! من المتناقضات أنّنا نعترف بضعف المقروئية وتردّي العلاقة بين اللغة العربية والقارئ، ولكننا لم ندرس كل أسباب هذا الضعف والتردّي، فقد يكون الغموض سببًا "وجيهًا" نفَّر القارئ من القراءة، وأوجد العداوة بينه وبين الكِتاب! ويُفترض أنّ واجب الأديب والمبدع أن يوطّد العلاقة بين القارئ واللغة والكِتاب والقراءة! بل واجبه أن يغوي القارئ ويورّطه في القراءة إلى الدرجة التي تصير فيها عنصرًا أصيلا من يومياته.. وحتى لا نظلم الشعر والشاعر والقصيدة، توجّهت جريدة "الأيام نيوز" إلى نخبة من الكُتّاب والباحثين بهذه التساؤلات: ما هي رؤيتكم للغموض في الأدب العربي المعاصر؟ وهل أنتم من أنصاره؟ وهل تعتقدون بأنّه يرتقي بالأدب ويحفّز على القراءة أم العكس؟ وهل هو ظاهرة صحيّة أو "مَرَضية"؟ ثم ألا يكون الغموض عائقًا أمام الوعي الأدبي والمعرفي عموما الذي يتطلّب الوضوح الذي لا يُخلّ بالعناصر الجماليّة في التعبير الأدبي واللغوي؟ وهل تعتقدون بأنّ الغموض قد يكون ستارا يتخفّى خلفه المُبدعون "المزيّفون" الذين يتّهمون القارئ بسوء الفهم إذا لم "يفهم" أو يتذوّق ما يكتبون؟ وأنت عزيزي القارئ ألستَ معنيًّا بمسألة الغموض في الشعر والأدب العربي؟ أم أنّك تركتَ شأن الحديث في هذه المسألة للنقّاد والباحثين والدارسين، رغم أنّك المعني بتلقّي ما يكتبه الشعراء والكُتّاب فهم لا يكتبون من أجل أنفسهم على كل حال! ولن أطيل الكلام فخير الكلام ما قلّ ودلّ.   مروى فتحي منصور (روائية وكاتبة من جنين – فلسطين)

ارحمونا من تسوّلكم اللفظي ونصوصكم الجرداء!

مروى فتحي منصور (روائية وكاتبة من جنين – فلسطين) كثيرا ما نسمع التركيب الآتي: في كلامه غُموضٌ، وفي "لسان العرب" تفسير غموض الكلام هو: الإِبهَام، أي عدم الوُضوحِ، ومن يوضِّح غُموضه: يجعله سهلاً.. وفي النصوص الأدبية أو القطع الفنية أيًّا كان شكلها نجد توجُّهَين أثناء عملية التلقّي، أحدهما الغموض والآخر هو البساطة، وينتشر كلا منهما وفقا لعوامل مساندة لهذين الاتجاهين، فهل أحدهما سلبي والآخر إيجابي بشكل مطلق؟ أم أن الأمر لا يصحّ تناوله في بوتقة هذه الأحكام؟ عندما ترى أمرا غامضا بعموم التناول حتى لو كانت لعبة أطفال أو مسألة رياضية أو حبكة مسرحية أو رواية أو فيلما سينمائيًّا.. يشدك إليه ويستفز ذكاءك لاكتشاف الثغرات التي تركت في إدراكك حُجُبا بينك وبين الشيء فتسعى إلى تفكيكها وتحليلها وإعادة بنائها وفق المنطق، وفي طريقك إلى الحل تشعر بلذة الاكتشاف، ولا تعود إلى معاودة الكرة في بحر التناول والتحليل والمناقشة الداخلية الحرة مرغما، بل تشعر بأنك تغوص في عوالم خلق عقلك فقط لاكتشافها وسبر غورها وإخراجها المتلقين العاديين كصورة حلٍّ او إنجاز أو بصورة نص نقدي مواز للنص الأدبي (إن كانت المادة المتناولة بالتحليل نصا أدبيا). لكن هل حدث أنك نزلت إلى بحر نص يقال أنّه شعر أو رواية أو قصة قصيرة بلغة شعرية ووجدته بحرا لجِّيًّا متلاطم الحروف والكلمات، وخرجت منه دون أن تشعر بأيّ عاطفة أو توجّه أو معنى تحتفظ به في ذاكرتك الوجدانية أو محفظتك الإلكترونية أو الورقية؟ إذن أنت وقعت في نص ذي ثلاث شُعب، لا أمتعك ولا روى ما في قلبك وفكرك من لهب، وتجد الكلمات بمواقعها التراكبية تضرب شررا في عقلك فتصنع تشويشا ذهنيا وتلوّثا بصريا، فلا علاقة يمكن تخمينها تربط بين هذه الكلمات وهذه التراكيب، وهذا النوع من الغموض المفتعل الملتبس على القارئ المثقف والناقد والقارئ البسيط الذي يبحث عن الحكمة والإنسانية والرفعة الوجدانية بطريقة جاذبة ماتعة هو غموض مذموم قولا واحدا، إنه يعني انحدار النص وغيابه عن التلقّي وكأنه لم يكن، أما الغموض المُحبّب هو الذي يترك العقبات ثم يترك المفاتيح للأبواب لتجاوز تلك العقبات، فيتفتح بوّابات النص على مصراعيها مع كل تلق له. ليس المطلوب من الأدب أن يبتدع لغة غير إنسانية كلغة الجنّ مُستغلقة ضبابية كأنه وحي يوحى إليه من عالم الجن، وليس المطلوب منه أن يكون مباشرا خطابيا إن لم يكن الغرض الأدبي يفرض عليه ذلك! لكن إن صمت النقاد أمام هذه الحالة المطروحة في النقد المعاصر قسرا على مسامعنا ومكاتبنا وصفحات التواصل الاجتماعي المفروضة علينا.. خجلا لأنهم لا يفهمون النص ولا يقدرون على أن يلعبوا دور الوسيط التفسيري الموازي له لإيصاله إلى العامة لا يجب أن يفهم على أنه تصريح للكتاب بالإغراق في هذا النفق، الذي بدوره يزيد من عزلة الفن الأدبي ويسبب في عزوف القرّاء عن التطوّر والمتابعة لمثل هذه الأعمال. قد يميل الكاتب أحيانا إلى طرح نفسه كحالة ضبابية لا تحدّها حدود ولا تؤطّرها هوية، فمثلا يقول الشاعر "محمود درويش"، في محاولة لإضفاء الغموض على نفسه وشعره: طُوبَى لِشَيْءٍ غَامِضٍ طُوبَى لِشَيْءٍ لَمْ يَصِلْ وكذلك يقول في موضع آخر: لَنْ تَفْهَمُونِي دُونَ مُعْجِزَةٍ لِأَنَّ لُغَاتكُمْ مَفْهُومَةٌ إِنَّ الوُضُوحَ جَرِيمَةٌ وفي هذا النص أعلن "درويش" تحوّله من الطابع الثوري الخطابي الغنائي الوطني إلى الطابع الوجودي الفلسفي. لكن التحول إلى الفلسفة الوجودية في الأدب لا يعني التقعّر في اللغة والمعنى وعدم ترك أيقونات مضيئة في عتبات النص ومتنه. عدم اتضاح الرؤية في ذهن الكاتب وتشتّته بين الفكرة واللغة وإيقاع الحياة المتسارع الذي ينتزعه من حالات التأمل العميق اللازمة لبناء العمل الأدبي تؤدي أحيانا إلى بتر الأجزاء المفصلية والتراكيب المفتاحية التي تعرّي مغزاه وتبيّن مرماه فيقع في الغموض. لكن أن يصبح الغموض سدًّا مُسلّحا بينه وبين القارئ هذا ما لا يحمد عقباه ويُلقي بالأدب في جزيرة جرداء خالية من الحياة.. ولم يكن مقنعا يوما بأنّ المعنى في بطن الشاعر، وأن الفن للفن، وأن الهدف هو المتعة اللفظية والإيقاعية، وإلا لِم نكتب بلغاتنا! إن كان الشكل كفيلا بإيصالنا إلى المتعة، وما فائدة أن يغرّد طائر ونحن لا نسمعه لانخفاض وتيرة صوته مثلا! سعى الإنسان منذ القِدم للتعبير عن مشاعره وأفكاره للآخرين، ومن هذا الهدف انطلق إلى رحاب اللغات والفنون والآداب، لذلك تعدّ خاصية الغموض في الشعر العربي المعاصر آفة برأيي يجب التخلّص منها قبل لوم القرّاء والمتلقّين على ضعف تفاعلهم من النصوص الأدبية، فالمتلقي العربي يتوافد بنهمٍ على المواد المسموعة والمرئية على كافة المنصّات التواصلية والرقمية وينهل منها ما يفيده ويعينه على المعرفة ويغذي ذائقته ويوسّع مداركه، فلماذا يعجز عن مواصلة قراءة كتاب أدبي واحد في الشهر مثلا؟! والجواب واضح ومن ألسنة المتلقّين العرب وهو أن تلك النصوص تتّسم بالغموض وكأنها طلاسم سحرية تحتاج إلى من يفسرها، في الوقت الذي يعزف النقاد عن تفسيرها بسبب غموضها ولجوئهم إلى مناهج أسلوبية ولسانية وإحصائية في النقد. ومن أهم الأسباب التي تقذف بالكاتب إلى الغموض هو إجبار نفسه على الكتابة في الوقت الذي لا يضخّ عليه عقله بفكرة واضحة ولا ينساب بين حروفه سيلُ لغةٍ طاغٍ يستحوذ على عواطف المتلقي ويؤججها دون تكلف، فتراه مهتما كيف يثبت اسمه على الساحة الأدبية الافتراضية بالذات، يصطاد الكلمات والمصطلحات من كُتّاب آخرين قدماء وجُدد ويلدها قيصريا في نص قاحل لا روح فيه ولا ترابط بين كلماته، فكم من نص لا يقع بين شعر ولا نثر لافتقاره للإيقاع والوزن والجملة الشعرية المتكاملة تعيد قراءاته عشرات المرات ولا تفهم مراد الكاتب أو الكاتبة القيصرية منه، ولا تجتاحك أيّ عاطفة جرّاء اعتراكك معه، فما تفسير ذلك سوى أن منشؤه يعتقد نفسه نجما في سماء الأدب وعلينا أن نتقبّل تسوّله اللفظي العبثي وأن نصفّق له على صنيعه الأجوف!  

هل ما زال الأدب مرآة المُجتمع؟

 سعاد عبد القادر القصير (باحثة وكاتبة من لبنان) تعرّضت البشريّة للعديد من التغيّرات والتّبدلّات نتيجة للتّيارات الفكريّة المختلفة التي عصفت بها على مرّ العصور، منها ما ساهم في تطوّر الإنسانيّة ورقيّها، ومنها ما كان عائقًا، رادعًا، أمام الفكر الإنسانيّ ضمن بيئة مجتمعيّة معيّنة. فلم يكن الإنسان يومًا مخلوقًا ثابتًا، وحمل معه اللّغة لتكون العنصر المطواع في علاقاته اليوميّة، يعبّر من خلالها عمّا يحمله فكره وثقافته ورؤيته. لكن، ومع الانفتاح الثّقافي الذي طرأ على العصر الحديث، أصبح الأدب في مأزق، بين اللّغة واللّغة المستوردة. وحيث إنّه لم يعد مناطًا بمجتمع معيّن، يمكن القول إنّ الأدباء المعاصرين قد انقسموا إلى ثلاثة إقسام: قسم تماشى مع اللّغة اليوميّة التي تعبّر عن البيئة الدّاخليّة، يحاول عرض مشكلاتها، وقسم اندمج مع الخلط بين اللّغة وكلّ ما هوغريب عنها، من أساطير، وكلمات غربيّة، وأفكار فلسفيّة بعيدة عن الفكر العربيّ، وقسم ثالث تشبّث بأبي النوّاس، والمتنبّي، وغيرهم من الأدباء والشّعراء القدماء الذين أصبحت لغتهم لا تشبه لغة شباب اليوم وبيئتهم. واعتمد أدباء العصر الحديث على هذه الأقسام في اختيار موضوعات الأدب والشّعر التي لا يمكن أن تكون حكرًا على الأديب بقدر ما هي علاقة مشتركة بينه وبين المتلقّي. فهل متلقّي العصر الحديث يتفاعل مع الأدب والشّعر كما تشتاق له روحه وأهواؤه؟ ما هو معترف به أنّ الشّعر أساسه التّكثيف والموسيقى والصوّر التي تأخذ بالقارئ إلى ما هو أبعد من حدود السّطور والكلمات. والغموض من لوازم الشّعر الحديث ليرقى به إلى المستوى المبتغى، فينتج عنه معانٍ قيّمة تُشغل بال المتلقّي وتجعله يغوص في عالم الخيال. إذ يقول "أدونيس": حيث الغموض أن تحيا حيث الوضوح أن تموت وأيضًا، معتمدًا على الأساس الذي يُبنى عليه الشّعر أولًا، وعلى تعدّدية التّأويل التي قال عنها "إيكو" ثانيًا، فكلّما كان الغموض الذي يحيط بالنّص مستفزًّا للمتلقّي، ازدادت التّأويلات المختلفة والاحتمالات المتعدّدة، كلٌّ وفق خلفيّته الثقافيّة والقاعدة الفكريّة التي بنى عليها شخصيّته الإنسانيّة. والغموض بمفهومه الشّعريّ يطال التّراكيب، والألفاظ، والصّور، والموسيقى. ومع التّدافع الثّقافي في عالم العولمة، ومع اختراق الثّقافات المتعدّدة للثّقافة العربيّة، لم يعد الغموض مقتصرًا على خدمة الشّعر، حيث أصبح الغموض يتعدّى فكرة الجماليّة ليتحوّل عند البعض إلى طلاسم وشيفرات يصعب على القارئ فكّها، وكأنّها موجّهة لفئة معيّنة من القرّاء معنيّة بهالة الكلام المبهم، وفق ثقافتهم ورؤيتهم دونًا عن غيرهم. هذا وقد يتطرّق البعض إلى عالم الأساطير وما يتعدّاه من فلسفة الكفر والإيمان التي قد تكون متنافية مع الأديان السّماويّة، فقط لأجل الهوَس بكلّ غريب، ومع جهل بعض القرّاء بهذه التّراكيب من الممكن أن يقعوا بحفرة الكفر دون أن يدرون، أو من يلجؤون إلى التشبّث بالقديم الذي لم يعدّ مفهومًا في اللّغة الحديثة، أومن يصرّ على تطويع كلّ ما هو أجنبيّ في قالب الأدب العربيّ من أجل إيهام الآخرين بأهميّته الثّقافيّة، هذا ما يجعل الشّعر الحديث النّابع من هذه القوقعة، بعيدًا كلّ البعد عن لغة الشّباب واتّصالهم بمجتمعهم، لأنّه ببساطة فقد القدرة على التّفكيك والتّحليل بوجوده أمام شعر أو أدب لا يشبه لسانه، فكيف سيكتشف الأفكار المخفيّة بين قطبان الحروف؟! إنّ الغموض الذي يحاوط الأسلوب والأفكار، بطريقة تجعل القارئ وكأنّه أمام أحجية يصعب حلّها، يجعله مع الوقت نافرًا منتقدًا للشّعر المعاصر، لدرجة أنّه قد يفقد لذّة الإقبال على ما يشكّل له عالمًا من الحياة. حتى أصبح الشّعر بعيدًا عن مشكلات الحياة، بعيدًا عن الطّرح كما المعالجة، مختنقًا بحبال الجماليّات الوهميّة. فكيف نحيا حياة لا نفهم معانيها ولا نستطيع الغوص في أمواج جماليّاتها الحقيقيّة؟ ومَن أقنع أدباء عصرنا أنّه كلّما كانت حبكة الغموض متينة، كان الأدب أكثر اشراقًا؟! مَن قال أنّ الحقيقة غير مُقدّر لها أن تطفو على أسطح الإبداع؟! حتى أنّهم ينتقدون من يقدّم أدبًا بسيطًا شبيهًا بلغة العصر، مُتّهمينها بالرّكاكة والضّعف والاهتزاز. كيف وهي تطوّرت مع الأجيال المتلاحقة حتى وصلت إلينا بصيغتها هذه، وستتابع مسيرتها مع الأجيال القادمة لما يناسب تواصلهم بعضهم ببعض، أوليس الأدب مرآة العصور؟ فكيف يجرؤ البعض على مهاجمة مرآتنا واتّهامها واتّهامنا بما ليس فينا؟ ولماذا يصرّ البعض على وضع اللّغة والأدب والشّعر بقالب الطّلاسم واعتباره قالب الثّقافة وجماليّاتها؟!   د. شعبان عبد الجيِّد

ما ليس جميلًا ليس أدبًا وما ليس واضحًا ليس عربيا!

د. شعبان عبد الجيِّد (كاتبٌ من مصر) أنا لا أحبُّ من الكلام سوى البسيطِ الليِّنِ الواضــحِ السهلِ.. القريبِ جـناهُ للمتفنِّنِ كالماء يَجري في الغدير يَهزُّني ويروقُني أما الغريبُ الصعبُ منـه فلا أراه يَشُدُّني! (الكاتب) العربية لغةُ البيان الأُولى، بلا مبالغةٍ ولا ادِّعاء، ومُعجَمُها الثَّرِيُّ الواسعُ عنوان ذلك ودليلُه؛ فأُلوفُ ألوفِ مفرداتها لم توضَع عبثًا، ولم تطلَق سُدى، من أحاط بها فقد أحاط بالمحسوسات والمكنونات، وتخلّقت عنده القدرة على وصف المُدركات والمجردات، واستطاع أن يتصوّر ما يُعقل وما لا يُعقَل، وليس من باب المصادفات أن يُنزِّل الله كتابه الخاتم "بلسان عربيٍّ مبين"، وفيه من المعاني والأحكام ما لا تقدر أيَّةُ لغةٍ أخرى على تحديده وتقييده، ومن الألفاظ ما لا يمكن لما يشبهها من أي لسانٍ أن ينوب عنها أو يَحِلَّ محلَّها. والبيان كما يقول "الجاحظ" هو اسمٌ جامعٌ لكلِّ شيءٍ كشفَ لك قناعَ المعنى، وهتك الحجابَ دون الضمير، حتى يُفضِيَ السامع إلى حقيقته، ويهجم على محصوله كائنًا ما كان ذلك البيان، ومن أيِّ جنسٍ كان الدليل؛ لأن مدار الأمر والغاية التي إليها يجري القائلُ والسامعُ إنما هو الفهم والإفهام؛ فبأيّ شيءٍ بلغتَ الإفهامَ وأوضحت عن المعنى، فذلك هو البيان في ذلك الموضع. والعربيُّ منذ كان يُحِبُّ الوضوح والصراحة والمكاشفة، وينفِر من الغموض والإلغاز والإخفاء، فهو يعيش في صحراءَ ممتدةٍ مكشوفة، يُظلُّها أفق ساطعٌ قلَّما يغيم، وحياته السريعة القلقة لا تحتمل الخفاء والاشتباه. إن الظلام يزعجُه، والنور يطمئنه، ولذلك تراه في شعره ونثره يميل إلى ما يُجَلِّي المعاني ويبرزها، ويتجنّب ما يُعقِّدها ويُشَوِّشها، ويصف من لا يحسنون الإبانة عن أنفسهم بالعُجمة واللكنة والفهاهة والبربرية. وليس ذنب العربي القديمِ أننا نقرأ كلامه في أيامنا هذه فلا نفهمه، وليس عيب العربية (الفصحى!) أن الكثرة الكاثرة من أبناء الجيل الحالي من العرب أنفسِهم، لا يحسنونها قراءةً ولا تعبيرًا، وما كان أبلغَ "أبا تمام" حين قال مباهيًّا بشعره أمثال هؤلاء الذين لا يفقهون ما يسمعون: عليَّ نحتُ القوافي من مقاطعِها -- وما عليَّ لهم أن تفهمَ البَقَر! ويذكِّرني هذا بالشاعر النقّادة "ت. س. إليوت" حينما وُجِّهَ إليه الاتهامُ بالغموض، فقال إن المذهب الذي يَدين به، هو أنه ليس هناك ما يوجبُ على الفنان أن يكون واضحًا؛ فإن شأنَه أن يبرزَ أفكاره ومشاعره وتخيّلاته، وعلى جمهور القرّاء أن يبذلوا جهدهم، ويُكِدُّوا أذهانهم، في استبانة معانيه واستيضاح أهدافه. و"أبو تمَّام" نفسه هو الذي كان يُضرَب به المثلُ في تعقيد المعاني وإغماضها، حتى سأله أحدُهم: يا أبا تمَّام، لماذا لا تقول ما يُفهَم؟ فأجابه في عنجهية واثقة: ولماذا لا تفهم أنت ما يُقال؟! ولا يعني هذا أن "أبا تمام" لم يكن متصنّعًا في كلامه، يتكلف المعاني البعيدة ويدفعه هذا أحيانا إلى التركيب المعقد، فلقد كان شغوفًا بالمعاني الغامضة التي لا تُستخرَج إلا بعد طول تفكير، ويُغرِب في تشبيهاته واستعاراته، ويستكره الألفاظ ويأتي بغرائبها، بل ويتكلف أصناف البديع في شعره، ويتَّكِل على نفسه في استنباط الفِكَر وتركيب الخيالات. لكن الرجل كان صاحب ذكاء حادٍّ وبديهة حاضرة وذاكرة قوية وثقافة واسعة وعلم غزير، وكانت لديه قدرةٌ فائقةٌ على استيعاب حصيلة مخزون الشعر العربي، واستثمار ذلك كلِّه فيما أتى به من مدهشات. ولعلَّ هذا ما جعل ناقدًا كبيرًا كـ "الآمدي" يذكر أنه "إنما أعرضَ عن شعر أبي تمام من لم يفهمه لدقَّة معانيه، وقصور فهمه هو، وفهِمَه العلماءُ والنقّاد في علم الشعر". وهو ما لاحظه "ابن رشيق القيرواني" حين قال: إنَّ قارئ شعر أبي تمام يقف حائرًا أمام طلاسمه وغموض معانيه، فإذا تمكَّن من فهم مرادَه وجد لذة في عمق معانيه". وهو ما سبق به "أبو بكر الصُّولي" في كتابه "أخبار أبي تمام"، حين قال: "إنَّ أبا تمام يصنَعُ الكلامَ ويَخترِعُه ويَتعَبُ في طلَبِهِ حتى يُبدعَ". أمَّا القاضي "الجرجاني" صاحب "الوساطة بين المتنبي وخصومه" فقد كان منصفًا وموضوعيًّا حين ذهب إلى أنه لو كان التعقيد وغموضُ المعنى يُسقطان شاعرًا لوجبَ ألا يُرى لأبي تمام بيتٌ واحدٌ، فإنَّا لا نعلمُ له قصيدةً تسلَم من بيت أو بيتَين قد وَفَرَ من التعقيد حظَّهُما وأفسدَ به لفظَهُما. ولقد كان يؤخذ على "المتنبي"، وهو من هو، استكراه اللفظ وتعقيد المعنى، وهو أحد مراكبه الخشنة التي يتسنّمها، ويأخذ عليها في الطُّرق الوعرة فيَضلّ ويُضلّ ويَتعب ويُتعب ولا ينجح، وقد وجد "المتنبي" من يدافع عنه ويجعل من تعقيده ميزة لا عيبًا، ومن إغرابه كمالًا لا نقصًا؛ فالدكتور "محمد كامل حسين" في مقاله عن "التعقيد في شعر المتنبي" (مجلة "الكاتب المصري"، نوفمبر 1945) يذكر أن شعر المتنبي عُرِف بكثرة الأبيات المعقدة معنى وتركيبًا ولفظًا، حتى عُدَّ التعقيد من خصائصه، وكثُر ذلك كثرةً أدهشت المعجبين به وعشاق شعره. وأظن أن كثيرًا من المتأدّبين لا يجدون غضاضةً في هذا التعقيد، بل منهم من يلذ له هذا النوع من القول، وأحسبهم يشعرون بشيءٍ من الغبطة حين يجلو الشرحُ لهم المعنى المغلق البعيد. ولكن الدكتور "محمد كامل حسين"، للأمانة والإنصاف، قد أنهَى كلامه بأنّ في أحسنِ شعر المتنبي إسرافٌ شديدٌ في العقلية المحضة الخالية من كلِّ أثرٍ للخيال  الخصب، الذي يرى في الحياة والطبيعة ما لا يراه غيرُه، والذي ينقل الصور ذات خطرٍ لم يستطع المتنبي أن ينتفع بها في كثيرٍ أو قليل، إنما حذا حذو غيرِه فأجاد الاحتذاء. وهو من حيث الشعر العربي قد يكون عظيمًا، ولكنه من حيث الشعر إطلاقًا لا يمكن أن يكون ذا خطر. والذين يقرؤون ديوانه جملةً يشعرون بكثيرٍ من الضيق لا يشعر به مَن كلُّ همِّه تذوّق الأبيات منفردة. وقد ردَّ عليه الأستاذ "علي النجدي ناصف" في مقال له يحمل العنوان نفسَه، وعلى صفحات المجلة ذاتها، (الكاتب المصري، يناير 1946)، بقوله: "أمَّا أن الأستاذ الدكتور يضيق بطول القراءة في شعره، ولا يأنس إلا بتفاريق منه، فما أظن أن الناسَ ولا كثيرًا منهم يشاطرُه هذا الشعور؛ فالرأي في شعر المتنبي متعالم مشهور، والإعجاب به أو بجملته يوشك أن يكون مجمَعًا عليه. وما أعرف شاعرًا من شعراء العربية القدماء والمحدثين نال من سعة الشهرة وحفاوة الدرس والنقد مثل ما نال المتنبي... ولا يزال البحث الأدبي إلى الآن حفيًّا به، ماضيًا في استخراج ذخائره، واكتناه مذاهبه، وسيظل مذكورًا أبدًا ما بقي للعربية والثقافة والأدب وجود. على أن ضيق القارئ بشعر الشاعر أو انبساطه له، لا يعني حتمًا أن الشعر معيبٌ أو سليمٌ من العيب؛ فقد يعني كذلك أن ثمة توافقًا أو تخالفًا بين القارئ ومزاجه، أو بينه وبين ثقافته، وفهمه للشعر، وتصوّره له، ومطالبه منه. فليس إذًا يصحُّ أن يحمل الشعر وحده تبعة ضيق القارئ به، ولا أن يستأثر وحده كذلك بفضل الانبساط له وطول الإقبال عليه، فكلا الإحساسين لا ينبعث من جانبٍ واحد، ولكنه نتاج المجاوبة أو التنافر بين الشعر وقارئه. وهذا الإحساس الفرد الخاصُّ لا يصلح على كلِّ حالٍ أن يكون مقياسًا عامًّا لتقدير الأشعار والمفاضلة بينها والحكم لها أو عليها، مهما يكن له من القيمة والشأن. الوضوحُ والغموضُ إذًا أمران نسبيان، ولا يمكن أن يقوم أحدُهما بذاته على أنه أفضل أو أسوأ؛ لأن الأمر، كما يقول الدكتور "عبد الرحمن بدوي"، (مجلة الثقافة، 6 يوليو/ جويلية 1965)، يتوقف على ما يعبّر عنه: هل هو ممّا يحتمل الوضوح التام، أو مما لا يُرى إلا في الظلال وفي ضوء العتمة، هل هو بسيطٌ أوَّليٌّ ساذجٌ ماديٌّ غليظ، فلا يملك المرء إلا التعبير عنه بوضوح ساذجٍ غليظ، أو هو معقَّدٌ لطيفٌ خفيُّ الجوانب مُركّب البناء، فلا يمكن التعبير عنه إلا أن يجيء مغلَّفًا بالغموض مشوبًا بالظلال المتفاوتة في السواد. لهذا لا يحقُّ لأحدٍ، في أيِّ بابٍ من أبواب الفكر الإنساني: الفلسفة، الأدب، العلم، الفن، الاجتماع.. أن يمجِّدَ إنتاجًا لأنه واضحٌ فحسب، أو يحطَّ من قدرِ إنتاجٍ لأنه غامض؛ إذ العبرة هي بما يعبر عنه: في أي بابٍ يندرج، وأي نوعٍ من التعبير يحتمل، فإن جاء التعبيرُ واضحًا مع الوفاء بكل ما في الفكرة من عمق، فهو أفضل مما لو كان غامضًا، أمَّا إذا كان وضوح التعبير مَرَدُّه إلى التزام السطح والبُعد عن الأعماق وتفاهة الفكر، بحيث لا يبقى من جوانبها الحافلة غير الجانب الظاهريِّ الأوَّلِي، فهذا أسوأ ما يمكن أن يقوم به مفكِّرٌ أو أديبٌ أو عالم. وخلاصة الراي كما يقول الدكتور "عبد الرحمن بدوي" أنه:
    ليس للوضوح قيمةٌ في ذاته، بل القيمة في الفكرة التي يعبّر عنها. ليس الغموض عيبًا إذا كان مردُّ ذلك إلى عمق الفكرة واستقصائها، وطبيعة المشاكل التي تثار، ونوع المعاني التي يعبّر عنها. يجب ألا يُضَحَّى بالدقة والعمق في سبيل الوضوح، في حالة التأليف والتعبير عن الرأي الخاص، ولا بالأمانة والشمول والتحقيق، في حالة النقل أو عرض آراء الغير، ويجب أن نتساءل أولًا: غامضٌ على مَن؟ إن كان على غير أهل الاختصاص فليس هذا غموضًا. العمق والدقة والأمانة، ولو أدّت إلى الغموض، أفضل ألف مرة من التفاهة والعميم والتحويم، ولو كانت ثمرتها الوضوح. التقدم الإنساني في كل نواحيه يسير من البسيط إلى الأكثر تركيبًا، ومن الساذَجِ الأوَّلِيِّ إلى الأعمق والأشدِّ تعقيدًا، ومن التعميمات الإجمالية إلى التدقيقات التحليلية.
وقد لاحظ الدكتور "عز الدين إسماعيل" في مقاله عن "الغموض في الشعر الجديد"، (مجلة الثقافة، 22 أكتوبر 1963) أن هذا الشعر يتّسم في معظمه، بخاصة في أروع نماذجه، بالغموض. وهناك حقيقةٌ عامة تقول إنه إذا كان "الوضوح" ممكنًا، فإن "الغموض" عجز. وهي حقيقة ينبغي إعادةُ النظر فيها، بخاصةٍ عندما نتحدّث عن الشعر، ولكنها على كل حال تسند موقفَ أولئك الذين يرفضون الشعر الجديد لما يغلب عليه من طابع الغموض. فهم يقولون عندئذٍ أن هناك قدرًا هائلًا من الشعر الذي يتّسم بالوضوح والبساطة، هو في الوقت نفسِه قادرٌ على أن يهزَّنا ويثيرَنا، وكم انفعلنا بهذا الشعر الواضح البسيط، فالعدول إذًا عن البساطة والوضوح إلى الغموض لا يمثل ضرورةً فنيةً وشعرية على الإطلاق. وهذا الجدل يبدو منطقيًّا ومعقولًا، ولكننا أميَلُ إلى التريّث في قبوله. فنحن متفقون مبدئيًّا على أن الشعر قد يكون بسيطًا سهلًا وأنه مع ذلك يهزُّنا، ولكن ليس كل الشعر الذي يهزُّنا بسيطًا وسهلًا، وإنما هناك كذلك من الشعر ما يثيرنا وإن كان غامضًا، فالغموض إذًا ليس خاصية ينفرد بها الشعر الجديد، وإنما هي خاصية مشتركة بين القديم والجديد على السواء، وكل ما في الأمر هو أن الغموض قد صار ظاهرةً واضحة في الشعر الجديد تدعونا إلى التأمل. فلا يمكن أن تكون المسألة في هذا الشعر عُدولًا متعمَّدًا عن الوضوح إلى الغموض، ولا يمكن أن تكون كذلك مجرّد رغبة من الشعراء في إرضاء ذواتهم عن طريق إغاظة متلقّي الشعر، بوضعه في إطار من الطلاسم التي تُعيي الفَهم، كما كان المتنبي يصنع، فيبيت ملء جفونه ناعم البال، ويترك الناس ساهرين يجادلون ويختصمون فيما قال من شعر، فما زال هذا العَمدُ إلى الإغرابِ شيئًا رخيصًا لا علاقة له بالشعر نفسِه. وقد أعاد الدكتور "عز الدين إسماعيل" طرح هذا الرأي في كتابه "الشعر العربي المعاصر: قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية" (دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، 1967) وإن كان قد جار فيه بعض الجور على الشعر القديم، وذكر في آخره أن الغموض في الشعر ليس نقيضًا للبساطة، وأن الشعر البسيط الذي يهزّنا هو في الوقت نفسه عميق، لأن البساطة الساذجة في الشعر لا يمكن أن تهزّنا من أعماقنا. وهذه البساطة العميقة التي نصادفها لدى بعض الشعراء لا تجعلنا بحيث نرفض الشعر الغامضَ بل هي أحرى أن تعطفَنا إليه، لأن البساطة العميقة والغموضَ كلاهما شديدُ المساسِ بجوهر الشعر الأصيل. ومن ثمَّ يمكننا أن نقول إن القدر الأكبر من الشعر القديم يغلب عليه طابع الوضوح والسهولة، لأنه يستخدم لغةً محدَّدة الأبعاد، منطقية، لا يميّزها عن لغة النثر إلا ما فيها من ارتباطٍ بالأوزان العروضية، إنها حقًّا تعرف الاستعارةَ والمجاز، ولكن في صورةٍ جامدة، يندر فيها الابتكار والأصالة. ولعل القارئ يسأل عن الأسباب التي تؤدّي إلى الغموض في الشعر والأدب، وهو سؤالٌ منطقيٌّ في هذا السياق، وقد أجاب عنه الأستاذ "عباس فضلي"، في مقاله الرائد "حول الوضوح والغموض"، (مجلة الرسالة، 11 ديسمبر 1933)، وردَّه إلى أسبابٍ معينة:
    أولها ضعف الأسلوب في التعبير عن الشعور. وثانيها غرابة التعبير وعدم انطباقه على الطريقة المألوفة عند جمهور القراء. وثالثها نقص جزء مهمٍّ في الصورة التي يتخيّلها الشاعر ويريد إبلاغَها إلى النفوس. ورابعها ازدحام جملة من الصور الفكرية وتداخلها في رقعة واحدةٍ ضيقة، بحيث يُتعِبُ العينَ تبينُها دفعة واحدة، ويجهد الذهنَ تصور علاقة أجزائها بعضها بعض. وخامسها إظهار القطعة الفنية قبل نضوجها في الفكر، وقبل اختمارها في النفس. وسادسها ابتعاد الصورة التي يرسمها الشاعر عن تصوّر الجمهور ومداركهم، مما هو ملوف عندهم ومعهود لديهم في معارفهم ومشاعرهم التخيلية، وأجزاء الصورة التي ترتسم في ذهن الإنسان تتكون في الحقيقة في الموادِّ التي تتألف منها معارفُه ومشاعرُه الماضية والحاضرة عينُها.
ولم يشأ الأستاذ "عباس فضلي" أن يموِّه على القرّاء فيرغمهم على أن يتصوَّروا في القطعة المعقدة، لسبب من هذه الأسباب، غموضًا ينطوي على إبداعٍ فني، أو يقول لهم إن أذواقكم الفنية أحطُّ من أن تصل إلى هذا الإبداع، وأن مستوى شعوركم وتفكيركم أوطأُ من أن يدرك هذا الفن البديع المتلفِّع بهذا الغموض. وانتهى إلى أن القصيدة إذا لم تتمكن من بيان المعاني التي يودعها الشاعر فيها فهي إذًا ليست قصيدة، ولك أن تُسمِّيها ما شئت، وأن الشاعر الذي لا يستطيع أن يُودِع المعاني التي تريدها الألفاظ التي يقولها هو والصامت أو الهاذر سواء. فإذا أنشأ الشاعر قصيدةً، وجاء الناس يتساءلون منه ماذا أراد أن يقول بها؟ فهذه القصيدة إمَّا أن تكون خاليةً من المعنى، وإما أن يكون صاحبها عند نظمها مرتبك الأفكار والخواطر، مزعزع الحس والشعور، إلى حد أنه لم يستطع أن يودع قصيدته معنى معيَّنًا. فإذا كنا نسمّي هذا شاعرًا ويعتبر ما يودع في منظوماته من أفكار مشوشة غير معينة ولا مفهومة "غموضًا"، ثم نتحرَّى تحت هذا الغموض إبداعًا فنيًّا يزينه لنا خيالُنا المحض، فيجب أن نعتبر عوامَّ الناس طرًّا شعراء مبدعين، بكل ما تمرّ بين شفاههم من عبارات مرتبكة يسوقونها عندما تتأثر نفوسُهم ببعض الظواهر والمشاعر. ويجب أكثر من ذلك أن نعتبر الجمل المرتبكة المتقطعة المبهمة التي يتمتم بها الطفل عندما يجابه منظرًا غريبًا أو حادثةً جديدةً غموضًا ينطوي على إبداعٍ فني. وبهذا نكون قد أسرفنا في الإساءة إلى الفن وإلى الإبداع، وإلى الشعر والبيان إساءةً عظيمة. ويبدو أن هذا الرأي لم يرُق كثيرًا للدكتور "شوقي ضيف"، فرد عليه ردًّا هادئًا ومقنعًا، (مجلة الرسالة 8 يناير/ جانفي 1934) ودافع فيه عن لون آخر من "الغموض الجميل"، لا تنفر منه النفس ولا تستوحش، وإنما تقبل عليه وتهش له، وتجد فيه لذَّةً ومتاعًا كبيرًا، وهو أشبه ما يكون بالظلال لا تحجب النور ولكن ترسله بقدر، ومهما كثر هذا الغموض وفاضَ فلن يحول بيننا وبين التأثر الجميل بالقطعة الشعرية وما يغمرها من سحرٍ وإبداع، بل ربما كان هو مثار إعجابنا وتقديرنا، ومبعث سرورنا وغبطتنا، هو غموضٌ حقًّا ولكنه غموضٌ ذو بهجة، تَقَرُّ به النفس ويُسَرُّ به الذهن، وما أشبهه بهذه السُّدولِ الرقيقة التي يرخيها الضباب على الطبيعة، فلا يزيدها إلا سحرًا وجمالًا، ولا يَزيدنا إلا إعجابًا واستحسانا. وغموض الشعر لا يأتي دائمًا من الشاعر وشعره، بل كثيرًا ما يأتي من القارئ وقراءته، فالناس يختلفون في فهم القصيدة بل في فهم البيت الواحد، ولا سبيل إلى كبح جماح هذا الخلاف، لأنه يرجع إلى حوادث سيكولوجية، فإن كل صورةٍ في الشعر أو فكرةٍ فيه حين ننقلها من عالمها الخارجي إلى عالمنا النفسي الداخلي، تصادف مناطق من الشعور تختلف باختلاف القرّاء، ولهذا ينتهي كل قارئ غالبًا إلى صورةٍ أو فكرةٍ لا يشترك معه فيها غيرُه، ولكي يكون حكم القارئ للشعر صحيحًا، يجب أن يكون ماهرًا في إخراج نفسه من كل ما يؤثر فيه، بارعًا في فهم الحالات العقلية التي تلائم الموضوعَ الشعريَّ الذي يقرأ فيه، كما يجب أن يتخلّى عن  كل النزعات فلا يُؤْثِرُ شيئًا لقِدَمه وبقائه، ولا يحتقر شيئًا لجدّته وطرافته. وإذًا فالغموضُ الشعريُّ يجب أن نقدِّرَه التقديرَ اللائقَ به، فلا نغالي في ازدرائه وتحقيره، يجب أن نعرف أنه من أهم أسباب جمال الشعر وحسنه، ومن يدري؟ ربما كان من أهم أسباب خلود الشعر وبقائه، فإن الآثار الشعريةَ تشرق على الحياة في العصور المختلفة، بينما تبلَى القطعة العلمية بمرور الزمن، وتنطمس معالمُها، وأكبر ظنِّي أن هذا يرجع إلى وضوح القطع العلمية؛ فالشيء الذي يتّضح أمام الإنسان لا يفكر في ترديده وتكرار النظر فيه. وأيّ حاجةٍ تستدعي ذلك؟ أمَّا الآثار الشعرية فإنه تنضج أمام الإنسان جملةً واحدة، ولهذا نحن نقرؤها مرّةً ومرتين وثلاثًا، وقد نحفظُها ونكرّرها ولا نحس بضجرٍ ولا ملل، بل نحن نجد في ذلك لذَّةً مغريةً ومتعةً طيبة. في تلك الفترة نفسها، ثلاثينيات القرن الماضي، كانت مشكلة الغموض والإبهام تشغل الأوروبيين أيضًا، وأذكر أنني قدر قرأت كتابًا ضخمًا للناقد الإنجليزي "وليم إمبسون"، ألّفه سنة 1930، عنوانه "سبعة أنماطٍ من الغموض" (Seven Types of Ambiguity) تُرجِم إلى العربية منذ ربع قرن ترجمة عجلَى، لم أستسغها وأزعجني جدًّا كثرة الأخطاء الإملائية فيها، وقد حلل "إمبسون" صفة الإبهام تحليلًا ذكيًّا، أعتقد أنه من النافع الاستفادة منه والإشارة إليه؛ فالإبهام عنده (صفة نحوية) بصورة أساسية، أي أنها ترتبط بالنحو وتركيب الجملة، في حين أن الغموض (صفة خيالية) تنشأ قبل مرحلة التعبير المنطقية، أي قبل مرحلة الصياغة اللغوية النحوية. وقد ذهب الناقد البريطاني "إيفور براون"  إلى أن الشائع في هذه الأيام في عالم الأدب هو ألّا تعرف ماذا تعني، فإذا تحدّاك إنسانٌ فما عليك إلا أن تهزَّ كتفك غير حافلٍ، وتقول إنك تكتب ما تكتب، وأن على القارئ أن يتبيّن المعنى، وأن ما يُبديه المؤلف من الملحوظات يحمل الكثير من المعاني، والقارئ يقوم مقام القابلة التي تستولد هذه المعاني، وليس من عمل العبقري ـ على طريقة أبي تمام التي ذكرناها ـ أن يجعل كلامه واضحًا مفهومًا. ويبدو أن كثيرًا من الشعراء قد عملوا بهذه النصيحة الخطِرة، فأغربوا في كلامهم حدَّ الإلغاز، وصار الإبهام سمة شعرهم الأولى، وشايعهم في ذلك وأدوا عليهم معظم شعرائنا المعاصرين، ظنًّا منهم أن هذا دليل الإبداع والعبقرية، وقد درس الدكتور "عبد الرحمن محمد القعود" هذه القضية دراسةً مستفيضةً في كتابه القيّم عن "الإبهام في شعر الحداثة: العوامل والمظاهر وآليات التأويل" (سلسلة عالم المعرفة، مارس 2002) استنتج فيها أن الشعر في كل زمانٍ ومكانٍ معرَّضٌ للغموض بسبب منبعه الشعوري المُعقّد الغامض، وبسبب الطريقة الخاصة التي تُنسَج وتُركَّبُ بها لغتُه، مما أفرز مصطلح "اللغة الشعرية" التي تحمل من السّمات الخاصة ما يميزها عن لغة أيِّ خطاب آخر، وليس الشعر العربي بدعًا في هذا، فقد تعرّض للغموض حتى في ظروفٍ كانت فيها عوامل الوضوح هي السائدة. لكن هذا الشعر، في ظل الحداثة الشعرية العربية المعاصرة، انتقل من مستوى الغموض الذي لا نتردّد في عَدِّه مظهرًا فنِّيًا في كثيرٍ من حالاته، إلى مستوى الإبهام الذي تجسَّد في كثيرٍ من حالاته، إشكاليةً عند بعض الدارسين والباحثين. فصار الإبهام في شعر الحداثة العربية المعاصرة شيئًا قارًّا فيه، محايثًا له، وكانت الثقافة الغربية التي انبهر بها شعراؤنا فاتبعوها مُقلّدين من أهمّ مسارب الإبهام إلى شعر الشاعر العربي الحداثي، تمامًا مثلما كانت الرمزية والدّادية والسريالية وقصيدة النثر مسربًا آخر. إن الإبهام الذي نواجهه في شعر الحداثة العربية المعاصرة ليس إبهامًا سهلَ الإزاحة والتبديد، وعلى هذا فالدلالة في هذا الشعر ممعنة في الاختفاء إلى درجة الغياب، وهو ما يهدد بقطيعة بيننا وبين لغتنا (العربية المبينة)، وبقطيعة أخرى بين المبدع والمتلقي، حيث صار كلٌّ منهما في وادٍ غير الوادي الذي فيه صاحبه، وهذا هدمٌ لإبداع هذه الأمّة ومحاربة لبيانها الأول. ومن الطريف أن نذكر أن الإبهام والغموض ليسا قاصرَين على الشعر وحده؛ فالمتصوّفة قد اشتهروا بهذا شهرةً ذائعة، وقد قال بعض المتكلمين لأبي العباس بن عطاء: ما بالكم أيها الصوفية اشتققتم ألفاظًا أغربتم بها على السامعين وخرجتم على اللسان؟ هل هذا إلا طلبًا للتمويه وسَترًا لعوار المذهب؟ فقال أبو العباس: ما قلنا ذلك إلا لغيرتنا عليه لعزّته علينا، كي لا يشير بها غير أهل طريقتنا. وهذا بابٌ واسعٌ من القول لا مكان هنا لبسطه أو تفصيله. وليسمح لي القارئُ الكريمُ ختامًا لهذه الكلمة أن أعرض له في وجازةٍ، من خلال تجربتي الخاصة، مذهبي في الإبداع والنقد؛ فأنا: ـ أَكتُبُ ما أفهَمُ وما أُدرِكُ وما أُحِسّ؛ بلغةٍ يفهمُها القارئ ويدركُها ويحسُّها . ـ لا أحب التعقيد في الكلام ولا المعاظلة في التعبير ولا الإلغاز في التصوير. ـ مذهبي أن اللغة وسيلةٌ لا غاية، وعلينا ألّا نرهقها بأثقال التكلف اللفظي أو الغموض التّخييلي الذي يبعدها عن طبيعتها وما جُعلت له. ورأيي أن التكلف في التعبير والتصوير يفسد الأدب. والتكلف في التفسير والتقدير يفسد النقد. وأعوذ بالله أن أكون من المتكلّفين! ـ إن ما ليس جميلاً ليس أدبًا، وما ليسَ واضحًا ليس عربياً ـ اللغة أداةٌ ننقل بها أفكارنا ونصور مشاعرنا؛ ولا بدَّ أن تقول شيئاً في خاتمة المطاف. أما من يريدونها لهوًا فنيًّا وعبثًا تشكيليًّا؛ فإنهم يعودون بها إلى أزمنة سذاجتها الأولى، أو يريدونها لعبةً يتسلى بها الناسُ ولا يفهمون منها شيئا. ـ العربية عندي ليست لغة قومٍ فحسب؛ بل هي لسانُ دين، وترجمان عقيدة، والذين لا يريدون لها أن تبلِّغ رسالةً للناس - فيتغيروا ويتحركوا ـ لا يحبون هذه الأمة، ولا يرجون لها أن تفلح. ـ إن موجة التّخييل الملغّز والتصوير الغامض الذي يربك عقل القارئ ويشغله عن (المعنى والمقصود) ترفٌ لغويٌّ لا تحتمله أمّتنا ولا تطيقه أحوالُنا. ـ لقد شغب في هذه اللغة طُغمة من الكَتبة والنّظامين وأحدثوا فيها بدعًا من الكلام "تُفهَمُ مفرداتُه ولا تُدرَكُ مركباته"، يعجبك مظهره ويسوءُك مخبرُه، وتعجب له أأعجميٌّ وعربي؟ ـ ولقد انتهى هؤلاء المتفيهقون إلى ما يليق بهم من مصير، حيث انصرف عنهم جمهور القرّاء والمستمعين وأداروا لهم ظهورَهم، فصاروا يحدِّثون أنفسَهم ولا يقرؤهم أحدٌ سواهم.. ولن تمرّ أعوامٌ قليلةٌ حتى يَسخَر منهم الزمن وتلعنهم الأجيالُ التي خدعوها عن نفسها وضيَّعوا وقتها وشغلوا تفكيرها بما لا يُفهم وما لا يُستساغ. أما عن لغة الشعر: كيف تكون، فهذا ما أرجو أن أعرِض له قريبًا إن شاء الله!   أ.د. صبري فوزي أبو حسين

ثالوث "البيان والغموض والإبهام" وعلاقته بالإبداع الأدبي

أ.د. صبري فوزي أبو حسين (أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بمدينة السادات بجامعة الأزهر - مصر) عندما تطرح قضية اللفظ والمعنى أو الشكل والمضمون في الخطاب النقدي نجد اصطلاحات ثلاثة تهيمن على هذا الخطاب، وهي (البيان) وما يرادفه من وضوح وظهور وانكشاف، و(الغموض) وما يرادفه من خفاء وغرابة، و(الإبهام) وما يرادفه من إبهام وتعقيد، وللأسف حدث لهذه الاصطلاحات ما يحدث في الاصطلاحات العربية – حديثًا - من تداخل وسوء توظيف وسوء فهم وسوء تطبيق! فبعضهم يستخدم (الغموض) في سياق الذم ويراه طلسمة وتعقيدًا وتلبيسًا وظاهرة فنية مَرَضِية وعقوبة للمتلقي، ومعوقًا أمامه في رحلة وصوله للمعنى، بل إن أستاذنا الدكتور "عبد العظيم المطعني" سمّاه (سرطان العصر) في كتابه (ظاهرة الغموض في الشعر الحديث)! بسبب الخلط بينه وبين مصطلح (الإبهام)، ومن ثم تجدهم يدعون الأديب المبدع إلى أن يوطّد علاقته بالقارئ عبر نصه، وبعض النقاد والباحثين يستخدم (الغموض) في سياق المدح باعتباره تقنية جمالية، وظاهرة فنية صحية، تجذب المتلقي، وتوسع من آفاقه الفكرية ورؤاه الخيالية، ولكلٍّ وجهة هو مولِّيها! فما المقصود بالغموض، ومتى يكون مقبولا، ومتى يكون مذمومًا، وما سبب الدعوة إليه، ومن هؤلاء الدّعاة، وما أضرار انتشار الإبهام في النصوص الأدبية والنقدية؟ تلك أسئلة تطرأ على العقل المنهجي الناقد في عرضه هذه الإشكالية، ولعل في مقالتي العجلى هذه طرحًا لإجابات عن هذه الأسئلة! إشكالية مفهوم الغموض (الغموض) في اللغة يدور حول التداخل والخفاء قال "ابن فارس" (ت395هـ): "الغين والميم والضاد أصل صحيح يدل على تطامن في الشيء وتداخل"، و(الغموض) نفسيًّا واجتماعيًّا: "إخفاء الحقيقة فيما يتعلّق بالمشاعر والأحاسيس الداخلية تجاه الآخرين، والشخصية الغامضة، هي الشخصية التي تحتفظ بكل سرٍّ وبكل شيء في داخلها، وهي من الشخصيات التي تثير الفضول أو الخوف في نفوس الأشخاص المحيطين". و(الغموض) في الاصطلاح الأدبي له مفهومان: من يقرأ كلام الدارسين لقضية الغموض في الأدب يجد لهذا المصطلحين مفهومين، يكادان يتناقضان، هما: الأول: مفهوم إيجابي (الغموض الفني): عندما يقصد به أن يكون تقنية إبداعية تعتمد على طريقة سرد القصص أو إبداع الأشعار أو غيرها من الفنون، حيث يعمد المبدعون إلى إنجاز النص بطريقة خفيّة لإضافة طبقة من التعميق العقلي إلى النص؛ ولذا نجد المبدعين المحدثين يدعون إلى أن يكون (الغموض) من لوازم الشعر المعاصر؛ حيث يقصد بالغموض في الشعر ذلك الذي ينتج عنه معان قيّمة وعميقة ومؤثرة في الوقت نفسه، وإلى الحالات التي يمكن فيها لجملة أو عمل أدبي أو قطعة إعلامية أن يكون لها تفسيرات متعددة محتملة! فالأديب، يحقق الغموض اللذيذ لنصّه في عناصر رئيسة منه، هي: غموض الألفاظ، وغموض التراكيب، وغموص الصورة، وغموض الموسيقى والإيقاع. وخير من أبان عن هذا المفهوم إمام البلاغيين والنقاد العرب "عبد القاهر الجرجاني" (ت471ه)”، حيث قال: "من المركوز في الطبع أن الشيء إذ نيل بعد الطلب له والاشتياق إليه، كان نيله أحلى، وبالميزة أولى، فكان موقعه من النفس أجلّ وألطف، وكانت به أضنّ وأشغف، وكذلك ضرب المثل لكل ما لطف موقعه ببرد الماء على الظمأ…. فإن قلت: فيجب على هذا أن يكون التعقيد والتعمية وتعمد ما يكسب المعنى غموضًا مشرفا له وزائدا في فضله، وهذا خلاف ما على الناس، ألا تراهم قالوا: إن خير الكلام ما كان معناه إلى قلبك أسبق من لفظه إلى سمعك؛ فالجواب أني لم أرد هذا الحد من الفكر والتعب، وإنما أردت القدر الذي يحتاج إليه في نحو قوله: فإن المسك بعض دم الغزال". وفي قوله: "وإنما نحن في أمور تدرك بالفِكَر اللطيفة، ودقائق يُوصَل إليها بثاقب الفهم، فليس درك صواب دركًا فيما نحن فيه حتى يشرف موضعه، ويصعب الوصول إليه، وكذلك لا يكون ترك خطأ تركًا، حتى يُحتاج في التحفظ منه إلى لطف نظر، وفضل روية، وقوة ذهن، وشدة تيقظ. وهذا باب ينبغي أن تراعيه، وأن تُعنَى به..." الثاني: مفهوم سلبي (الغموض الإبهامي)، ويقصد به الأدب القائم على الإخفاء والإبهام والإيهام، أو التعقيد اللغوي، الذي لا طائل من ورائه، عندما يكلفها الأديب لغة النص أكثر مما تتحمل؛ فيفرض عليها مسؤولية كبيرة ويحمّلها من الدلالات أكثر مما تحمل وتتحمّل، فيتجاوز النص الكثير من الإدراك، ولا يخضع للواقعية أو العقلانية أو المنطقية، ويكون فيها المعنى غير واضح أو غير مفهوم، ولا يصل إلى المتلقين ويتعبهم إتعابهم، وينفرهم تنفيرًا! وهو حادث بسب تبنّيه من قبل مذاهب غربية بعينها قادت موجة الغموض العاتية ودافعت عنها ونقلتها إلى ما حولها من ثقافات منها: المذهب السوريالي، والمذهب الرمزي، والمذهب العبثي، ومذهب اللاوعي. وقد شكّل المذهبُ السوريالي "الغموضَ" في أوضح صوره، وكان نتاجه يهدف إلى الهروب من الواقع، وينسج عالمًا من الخيال، وجاء شعر شعراء هذا المذهب ذا ألفاظ غريبة ومتداخلة مشتركة، وتراكيب متعسّفة، ومعانٍ مبهمة، وفيه توظيف لمصطلحات صعبة الاستيعاب حتى على أهل اللغة! وتضمين لهواجس وأضغاث أحلام وهلوسات لا تخضع لعقل أو منطق أو نظام! إنه (التعقيد المذموم المنفّر) الذي حدّده الإمام "عبد القاهر" (ت471ه) بقوله هو الذي: "أحوجك إلى فكر زائد على المقدار الذي يجب في مثله، وكدَّك بسوء الدلالة، وأودع المعنى لك في قالب غير مستوٍ، ولا مُمَلَّس، بل خشن مُضرَّس، حتى إذا رُمت إخراجه منك عسُر عليك، وإذا خرج خرج مشوَّهَ الصورة، ناقص الحسن!". ومن أسباب تحوّل (الغموض) إلى ظاهرة في الشعر الحديث وجود دُعاة إليه وربطه بالحداثة ذلك اللقب البرّاق الجذّاب الخادع، حتى صار شعارهم: (كن غامضًا تكن حداثيًّا)، ومن أبرز هؤلاء الدعاة "أدونيس" في قوله: "ليس من الضروري لكي نستمتع بالشعر أن ندرك معناه إدراكًا شاملاً، بل لعل مثل هذا الإدراك يفقدنا هذه المتعة، ذلك أن الغموض هو قوام الرغبة بالمعرفة، ولذلك هو قوام الشعر"، وفي قوله: حَيْثُ الغُمُوضُ أَنْ تَحْيَا! حَيْثُ الوُضُوحُ أَنْ تَمُوتْ! وهذا الشاعر الفلسطيني المقاوم "محمود درويش" يقول: لن تفهموني دون معجزة لأن لغاتكم مفهومة إن الوضوح جريمة وفي قوله: طُوبَى لِشَيْءٍ غَامِضٍ طُوبَى لِشَيْءٍ لَمْ يَصِلْ ومن الكتب النقدية الدارسة لهذه الظاهرة كتاب "الحداثة سرطان العصر: ظاهرة الغموض في الشعر العربي الحديث" للدكتور "عبد العظيم المطعني"، وكتاب "الخروج من التيه دراسة في سلطة النص" للدكتور "عبد العزيز حمودة"، وكتاب "الإبهام في شعر الحداثة: العوامل والمظاهر وآليات التأويل" تأليف "عبد الرحمن محمد القعود"، وغيرها من الكتب والأبحاث.. وأرى أن الحل العمَلي لهذا الخلط بين مفهومي الغموض: الإيجابي والسلبي، هو أن نفرّق بينهما بتحديد الغموض الإيجابي بنعت مُحَدِّد كأن نقول ونكتب دائمًا (الغموض الفني)، أو الغموض (الجمالي) أو (الغموض اللذيذ)! الغموض في التراث البلاغي والنقدي العربي تكاد تكون كلمة البلاغيّين العرب متّفقة على أهمية البيان، وأن الأدب العربي أدب البيان والإيضاح، ومن ثم كان (البيان) أحد علومهم الثلاثة، ومما يتعلق بقضية الغموض في "البلاغة السكاكية" - نسبة إلى صاحب كتاب "مفتاح العلوم"، السكاكي الخوارزمي (ت 626 هـ) - مصطلحَا: الغرابة والتعقيد، حيث يذكر متأخرو البلاغيين أن الغرابة قسمان، هما: القسم الأول: ما يُوجب حيرة السامع في فَهم المعنى المقصود من الكلمة؛ لتردّدها بين معنيين أو أكثر بلا قرينة. القسم الثاني: ما يُعاب استعماله لاحتياجٍ إلى تتبُّع اللغات، وكثرة البحث والتفتيش في "المعاجم وقواميس متن اللغة المطولة". ويذكرون أن التعقيد قسمان: التعقيد اللفظي: هو كون الكلام خفي الدلالة على المعنى المراد به بحيث تكون الألفاظ غير مرتبة على وفق ترتيب المعاني. وينشأ ذلك التعقيد من تقديم أو تأخير أو فصل بأجنبي بين الكلمات التي يجب أن تتجاور ويتصل بعضها ببعض، "وهو مذموم؛ لأنه يوجب اختلال المعنى واضطرابه، من وضع ألفاظه في غير المواضع اللائقة بها!". التعقيد المعنوي: كون التركيب خفي الدلالة على المعنى المراد بحيث لا يُفهم معناه إلا بعد عناء وتفكير طويل. وذلك لخلل في انتقال الذهن من المعنى الأصلي إلى المعنى المقصود بسبب إيراد اللوازم البعيدة، المفتقرة إلى وسائط كثيرة، مع عدم ظهور القرائن الدالة على المقصود "بأن يكون فهم المعنى الثاني من الأول بعيدًا عن الفهم عُرفا"، كما يذكر الأستاذ "السيد أحمد الهاشمي" في كتابه (جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع)! ومن جميل النقدات المأثورة عن سيدنا "عمر بن الخطاب" -رضى الله عنه - أنه يقدّم "زهيرًا" على غيره من الشعراء لعدة أسباب من بينها "أنه كان لا يعاظل في الكلام، أي: لا يداخل بعضه في بعض، ولا يتتبع حوشي الكلام"، فالمعاظلة والمداخلة في الكلام هي التعقيد أو ما سمّاه "بِشر بن المعتمر" (ت210هـ) بـ "التوعّر"، وقد حذر منها الأدباء بقوله في صحيفته مخاطبًا كل أديب: "وإياك والتوعّر، فإن التوعر يسلمك إلى التعقيد، والتعقيد هو الذي يستهلك معانيك، ويشين ألفاظك. ومَن أراغ معنًى كريمًا فليلتمس له لفظًا كريمًا، فإن حقّ المعنى الشريف اللفظ الشريف، ومن حقهما أن تصونهما عما يفسدهما ويُهجِّنهما، وعما تعود من أجله أن تكون أسوأ حالاً منك قبل أن تلتمس إظهارهما، وترتهن نفسك بملابستهما وقضاء حقهما". و(الوضوح) الذي نادى به النقاد القدماء لا يعني أن يأتي المعنى مبتذلاً، أو سطحيًّا، كما لا يتنافى مع الإيحاء والإشارة، واستخدام الرمز، والأسطورة ولغة المجاز والتصوير، وفي هذا المعنى ورد كلام "ابن أبي الحديد" (ت656هـ)، في كتابه "الفلك الدائر على المثل السائر"، حيث قال: "وكلما كانت معاني الكلام أكثر، ومدلولات ألفاظه أتمّ كان أحسن، ولهذا قيل خير الكلم ما قلّ ودلّ، فإذا كان أصل الحسن معلولا لأصل الدلالة. وحينئذ يتم إشعاع الجملة، لأن المعاني إذا كثرت، وكانت الألفاظ تفي بالتعبير عنها احتيج بالضرورة إلى أن يكون الشعر يتضمن ضروبا من الإشارة وأنواعا من الإيماءات والتنبيهات، فكان فيه غموض، كما قال البحتري: وَالشِعرُ لَمحٌ تَكفي إِشارَتُهُ -- وَلَيسَ بِالهَذرِ طُوِّلَت خُطَبُه لسنا نعني بالغموض أن يكون كأشكال إقليدس والمجسطي، والكلام في الجزء، بل أن يكون بحيث إذا ورد على الأذهان بلغت منه معاني غير مبتذلة، وحكما غير مطروقة". إننا أمّة ذكرها الله تعالى وأنعم عليها بنعمة البيان، حيث يقول في سورة "الرحمن": "علمه البيان"، وجعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - البيان مردفًا للأدب في قوله: "إن من البيان لسحرًا"، فالبيان خصِّيصة فنية أولى في الأدب ويقصد به وضوح المعنى وهو سبب من أسباب صفاء الأسلوب وجودته، ويتصل بنعمة (البيان) في القبول والمدح ما أشار إليه "عبد القاهر الجرجاني" في دلائله وأسراره من (الغموض الفني) حيث يكون المعنى لطيفًا ومستورًا لا يصل إليه المتلقي إلا بعد شيء من التأمل الهادئ الذي يعمق المعنى - بعد وصوله - في النفس، ويجعله أشد وقعًا، وأبلغ تأثيرًا. أما الإغراب والتعقيد أو ما يُسمّى (الإبهام) فمرفوض ومذموم في كل عمل أدبي! الغموض تقنية في الفنون الحداثية تتنوّع فنون الأدب العربي الحديث في موقفها من هذا الثالوث: (البيان والغموض والإبهام)، فالخطابة والرسالة والمقالة والرواية – مثلا - فنون تقوم على (البيان) في المقام الأول، ويكون (الإبهام) خاصًّا بفن (الشعر الحداثي) سرياليًّا وعبثيًّا ولا معقوليًّا! ويأتي (الغموض الفني) أو ما يُسمّى (التكثيف) تقنية رئيسة فارقة في فنّي: القصة القصيرة، والرواية البوليسية، و(القصة الشاعرة) (Alkessa Alsha'era)، ولي كتاب خاص بدراسة هذا الفن الحداثي بعنوان "القصة الشاعرة تاريخًا وفنًّا"، ذلك الذي يعرف بأنه الفن الذي يعدّ تجديدًا أدبيًّا عربيًّا خالصًا من أية تأثرات خارجية: غربية أو شرقية، ويُقصَد به عند مؤسِّسه المصري المبدع "محمد الشحات محمد" أنه "قص إيقاعي تدويري وفقَ نظام التفعيلة، مؤسَّسة على التكثيف والرمز والمرجعيات الثقافية"، أو أنها "قص إيقاعي تدويري مكثّف لأحداث ترميزية مؤسسة على المرجعيّات الثقافية وطاقات إبداعية تشكيلية ذات وحدة وجدانية لرموز متباينة في فضاءات حتمية المغايرة، ترفض سلطة القوالب الموروثة".. فالغموض اللذيذ المُوحي هو التقنية المهيمنة فيها، إنه الغموض الذي ليس يصعب فتح أقفاله وتَخَطِّي أسواره ليصل إلينا، بل هو السّمة الطبيعية الناجمة عن آلية عمل (القصة الشاعرة) العربية المبينة إبانة فنية خاصة، بعناصرها المكوّنة لها مع تضافر قوات عدّة من الشعور والروح والعقل والثقافة، متستِّرة وراء اللحظة الفنية، إنه غموض يشدنا إلى حوار مع هذا الفن، ويستفزنا بمشاعره وفكره وعباراته وصوره وموسيقاه ودرامياته، وما فيه من ثراء إبداعي، حيث يكون حمَّال أوجه، متعدد الدلالات، قابلا لكثير كثير من القراءات والمقاربات والتأويلات؛ مما يخلق نوعًا من اللذة الحسية والذهنية تجاه خبايا هذا الفن وغير المتوقع أو غير المنتظر في صوره وجمالياته الفنية. إن فن "القصة الشاعرة" هو فن معنى المعنى، أو المعنى الثاني الذي نعته الإمام "عبد القاهر" قائلاً: "ضرب آخر أنت لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، ولكن يدلّك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة، ثم تجد لذلك المعنى دلالةً ثانية تصل بها إلى الغرض... أن تقول (المعنى) و(معنى المعنى)، تعني (بالمعنى) المفهوم من ظاهر اللفظ، والذي تصل إليه بغير واسطة، و(بمعنى المعنى) أن تعقل من اللفظ معنًى، ثم يُفضي بك إلى معنًى آخر". وهذه الحال القرائية العالية تخلق نوعًا من التواصل واللذة والدهشة والألفة بين النص والقارئ، ويشعر أنه بحاجة إليه، مهما كان غامضًا؛ ليطفئ من خلاله لهيب مشاعره، وطموحه الذهني. ومن ثم يكون الغموض اللذيذ المُوحي ذا دلالة جمالية إذ يتحوّل بموجبها إلى تقنية فنية، مرتبطة بطبيعة القصة الشاعرة! ومن نماذج القصة الشاعرة عملي "صبحًا") الذي أبدعته في (22 سبتمبر 2020)، ونصه: صبحًا: "عُمَرٌ" مصريٌّ يمشي في الشارعِ، يرمقه كلبٌ إرهابيٌّ، يرفعُ..، من نسل الذئبِ وجهدًا يذهبُ للمقلب، يطلب..، يبحثُ عن صيد، ختم سليمانَ لتفجأه أنثى كبرى وشباب هرموا، أكلَت منه الكوبرا فتمطى والتقيا: تنبح ضده، تصرخ: يسقط..، تنهش.. يجري، يخفض..، مسرعة ترفع إشعارا:..، يصمتُ   نوران فؤاد

ما علاقة الغموض في الأدب العربي بطابوهات الدين والجنس والسياسة؟

د. نوران فؤاد (أكاديمية وكاتبة وناقدة أدبِيَّة وتشكيلية ومُترجمة من مصر) لم يكن أحد يسأل عن سر التحريم أو يحاول مناقشته، فما أكثر ما يُحرّم على الأطفال والأولاد ولا يستطيعون مناقشته، وهل يستطيع أحد أن يناقش أباه حين يقول له هذا عيب أو هذا حرام؟ الناس يولدون وهم مزودون بقدرات عقلية متميزة، وبإمكانات تتواصل بغير انتهاء، وبمواهب شتى، وبخيال خصب، إلا أن هذه القدرات، وتلك المواهب، وهذه الإمكانات تظل خبيئة في داخلنا، تحتاج إلى من يخرجها من حيز الكمون إلى حيز التحقّق الخلّاق في الواقع ودون غموض في الإبداع.. فالناس يولدون وهم مزودون بقدرات عقلية إبداعية متميزة، وبإمكانات تتواصل بغير انتهاء، وبمواهب شتي، وبخيال خصب. ويصبح حين ذلك الإبداع الأدبي مطلبا لا مناص منه، ليجد المبدع القاسم المشترك في النسق المجتمعي والثقافي هو الإبداع، فالإبداع فينا، هو نحن، هو المبدع الإنسان والإنسان المبدع، والاختلاف هنا ليس في جوهر الإبداع بقدر وضوحه وقياسه لمجتمعه الإنساني من خلال الإيمان بأنّ المبدع هنا إمكانية مفتوحة تنطوي على وجود إنساني وثقافي ومجتمعي، يتجلى في ثراء نفسي وعقلي ممتلئ، مفعم بالإمكانات والقدرات، بيد أن المبدع يكتب مقيدا في ظل ثقافات متعددة وأجواء إنسانية متباينة، وفي عصر الغموض والتورية سمته لنفسه، وقد يسمح أو لا يسمح ذلك النسق المجتمعي للأديب علي اختلاف الصنوف الأدبية من شعر ونثر... الخروج الآمن بعمله الإبداعي الي ارض الواقع، أو يتم التقييد الإبداعي له التابوهات المجتمعية الثلاثة: (الجنس، الدين، السياسة) ... السياسي في كتابات الشاعرة العراقية المبدعة الكبيرة "نازك الملائكة"، والتي ولدت في بغداد وأقامت في مصر فترة طويلة من (1990 - 2007) حين غلبت الرمزية السياسية تعبيرات قصيدتها (كآبة الفصول الأربعة).. فالزمن قد يكون رمزا للحكّام، ووصفها أننا كالأشباح يرمز إلى الوضع الذي وصلت له البلاد من تدنّي الوضع المادي والمعنوي والشكلي، تقول الشاعرة: نحن نحيا في عالم كله دمـ -- ـع وعمر يفيض يأسا وحزنا تتشفّى عناصر الزمن القا -- سي بآهاتنا وتسخر منا في غموض الحياة نسرب كالأشـ -- ـباح بين البكاء والآهات كلّ يوم طفل جديد وميت -- ودموع تبكي على المآساة ثم ماذا؟ في أيّ عالمنا المحـ -- ـزن نلقى العزاء عمّا نقاسي؟ عند وجه الطبيعة الجهم أم عنـ -- ـد فؤاد الزمان وهو القاسي وأيضا كما اختلط الديني والسياسي، فكتبت الشاعرة المصرية الدكتورة "نوران فؤاد" وباللهجة العامية المصرية: الأرض مسجدنا وقبلتنا ونواحينا ويرسموا خرايط في حقهم لينا الدم عمره ما يبقي ميه ولاده هيرضينا... غير لمانتني ميل رقابهم تحت خطاوينا... وتعود زغاريد الفرحة لطعم الحزن تنسينا والفرقة تبقي جمعة مباركة وتحلي ليالينا..   ثم يجيء السياسي والجنسي في شعر "أحمد مطر" وقصيدته المتوهجة "يا قدس معذرة" ويحاكيها كامرأة عربية، قال: يا قدس يا سيدتي معذرة فليس لي يدان وليس لي أسلحة وليس لي ميدان كل الذي أملكه لسان والنطق يا سيدتي أسعاره باهظة والموت بالمجان.. إلى أقصي درجات التحدي المجتمعي لتلك التابوهات في أشعار "محمود درويش" الفلسطيني المبدع العظيم، وفي مكاشفة يحسد عليها... يقول: "إن سألوكَ عن غزة قل لهم بها شهيد، يسعفه شهيد، ويصوره شهيد، ويودعه شهيد، ويصلي عليه شهيد". ونعود إلى قمة الغموض المجتمعي لرائد مدرسة المهجر العظيم "إيليا أبو ماضي"، يقول: " كلُّ ما في الأرض من فلسفة لا يُعزّي فاقدًا عمن فقَد". فمن هنا الفاقد وما فقد غير فقد المواطنة والوطن... وعودة إلى شعر المرأة المتواري خلف التابوهات المجتمعية: الجنس والدين والسياسة، والشاعرة الكبيرة "لميعة عباس" الآتية من حضارة بلاد الرافدين على خلفية وثنائية الجسد والروح المسكوت عنهما، تقول: أحتاجُ إليكَ حبيبي الليلةَ فالليلةَ روحي فرسٌ وحشيّة أوراقُ البردي أضلاعي فَتِّتْها أطلقْ هذي اللغةَ المنسيّة جسدي لا يحتملُ الوجدَ ولا أنوي أن أصبحَ رابعةَ العدويّة إذًا هنا الغموض شمولي يجمع بين العناصر الجمالية في القصيد من ذكر وإظهار في القليل وتورية في الكثير بحكم التابوهات المجتمعية أكثر منه رغبة في طلسمة النص هدفها إرهاق المتلقي للعمل الشعري الإبداعي أو العقوبة القرائية للمتلقي، بفعل التوترات المجتمعية والإنسانية المحيطة بالمبدع العربي. كما يرجع ذلك أيضا إلى طلسميّة كثير من المفردات العربية على تنوعها، ومثال لذلك ما يحاك أدبيا حول الليل فهو الليل الطويل، السرمدي، اللامتناهي، الداجي، الدجي، الحالك، البهيم.. وهذه مفردة واحدة فما بالنا بلغة معجمية خاصة بكل شاعر وما تعوّده في سرديّته ونظمه ومتابعاته المجتمعية وكتاباته؟   جنان الحسن

قصائد خالية من المعنى وأدب في متاهة اللف والدوران!

جنان الحسن (كاتبة من سورية) حين كان الإنسان منذ القدم بحاجة إلى التواصل مع غيره وُجدت الكلمة ليزيح بها عوائق البعد ويتواصل مع الأخرين ويعبّر بطريقة واضحة ومفهومة عن غاياته ومطالبه واحتياجاته ورغباته الخاصة والعامة، ولم يكن إيجادها هو الهدف المُبتغى منها بحد ذاته.. لذا كان السابقون يحرصون على نطق الكلمات التي تؤدي إلى هدفها مباشرة دون اللف أو الدوران، وتعتبر تلك الحالة في وقتها بلاغة في القول وقدرة على توصيل وتوضيح المطلوب طالما هي وصلت إلى هدفها والمعنى المراد منها.. واستمر هذا الحال طويلا في الحياة العامة والأدب والشعر حتى أدخلنا بعض الشعراء إلى غموض وطلاسم الشعر الحديث والذي هو خروج عن المألوف في استخدام بعض المفردات ورسم صور بيانيّة في الشعر بسيطة جدا بغالبها وقد تكون خالية من المعنى العظيم بتراكيب نحوية مُعقّدة تفتقد إلى الجمال في خيالها.. بلاغة الشعر العربي قديما اهتم الشعر العربي القديم بمواضيع عديدة تدور جميعها حول الفخر بالقوة والأنساب والحماسة والهجاء والرثاء والغزل والمديح والوقوف على الأطلال وغيرها.. وكان الشعراء يستخدمون اللغة العربية الفصحى بجزالة كبيرة وإتقان طبيعي غير متكلّف فتجد أغلب أهل ذلك الزمان يقرضون الشعر ببساطة متناهية وببديهة عالية وبشعر أقل ما يوصف به أنه عظيم، دون أن يستخدموا طلاسم من اللغة دخيلة عليهم تضيع المعنى وهم الذين لطالما كانوا على تماس متواصل بحضارتين كبيرتين آنذاك هما حضارة الروم وحضارة الفرس، لكنهم لم يتأثروا بهما في تسخير اللغة لكتابة الأدب والشعر.. وكما أن المتلقي في ذلك الزمان لا تخفى عليه معاني اللغة التي يتحدّثها ورغم أن الشعراء يغرقون في طلب الجناس والاستعارات والطِّباق والتشابيه في قرض الشعر، إلا أنهم لم يغرقوا في الغرابة.. فنجد مثلا "امرؤ القيس" يصف حصانه ببيت من الشعر عظيم يقول فيه: مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقبِلٍ مُدبِرٍ مَعًا -- كَجُلمودِ صَخرٍ حَطَّهُ السَيلُ مِن عَلِ روعة الوصف هنا بأقل المفردات وأبلغها معنى وأبهاها وقعا ترسم صورة جميلة وواضحة في خيال المتلقّي وسمعه وذلك حين يتباهى بحجم قوة حصانه في الهجوم والكر دون أن يلجأ للغة غير مفهومة أو تراكيب معقدة تحير السامع، يقول "النابغة الذبياني": فبِتُّ كأني ساورتني ضَئِيلةٌ -- مِن الرُّقْشِ في أنيابها السمُّ ناقِعُ ليس أوضح من ذلك المعنى في توصيف الألم رغم التشبيه المبالغ فيه.. وهكذا نرى بأن الشعراء القدماء أيضا لجأوا أحيانا إلى المعنى المستور في الشعر ولكنه بالمقابل سهل الوصول إلى المتلقّي بتأمل بسيط وهادئ بعيدا عن بذل جهود كبيرة في التفكر به لإدراك معناه مما يفقده متعة المعنى.. وهذا ما اختلف فيه حول قصيدة النثر اليوم والتي استهوى بعض شعرائها الغرق في الغموض، فغالبا لا نعرف في نصوصهم حقيقة إن كانوا هم من يتألمون أو جدران بيوتهم أو أقلامهم أو أي شيء حولهم! لماذا يلجأ بعض الشعراء إلى الغموض؟ لجأ الشعراء حديثا إلى هذا الأسلوب المعقد في نظم الشعر لأسباب عديدة منها: -  منها ما يخصّ الشاعر نفسه والذي غالبا ما يكون قد تأثر بأنماط من الشعر غير العربي، فنجده يميل إلى تكريس هذا اللون طلبا للتجديد، ومنهم من بذل قصارى جهده في الإيغال في الغرابة وذلك بهدف التميُّز فيه حين رأى كيف أقبل بعض النقاد على كيل المديح لهذا النوع من الشعراء رغم أن أغلبهم تفتقد قصائدهم إلى المعاني السامية رغم غرابة الكلمات والصور.. - ومنها ما يخصّ موضوع القصيدة فنجد أن بعض المواضيع تحتمل هذا النوع من التّواري والتخفّي بل وتستحب ذلك، وهذا ينطبق غالبا على الشعر السياسي أو نقد الأنظمة والحكام.. وهذا ما برع فيه الشاعر الكبير "نزار قباني" رغم أنه لا يُصنّف من شعراء الغموض وإنما هو السهل الممتنع بذائقة فائقة الجمال.. - ومنها ما يتعلق بالمتلقّي نفسه فكما أن هناك المتلقّي القارئ، هناك أيضا المتلقّي الكاتب والذي يستهويه تفكيك النص وطلاسم اللغة ليصل إلى الفكرة.. - ومنها ما يتعلق بشخصية الشعراء الغامضة في حقيقتها، فبعضهم يملك عادة أفكارا متطرِّفة نوعا ما في الدين أو في الأخلاق الإنسانية فلا يستطيعون البوح بها بشكل مباشر وواضح، ممّا يدفعهم إلى اللجوء إلى التمويه مؤمنين بأن من يستطيع فك هذه الرموز لا شك أنه سيكون على خط واحد معهم بالفكر والنظرة.. أبرز شعراء الغموض ولعل أبرز شعراء الغموض من المشاهير في العهد الحالي هو الشاعر "أدونيس" الذي يقول في ديوانه "تنبأ أيها الأعمى" في توصيف الفراغ والضياع: "أيّهما أكثر مواتًا على ضفاف البحيرة الميتة... شتات الذات، أم تشتيت الأخر". كما يُعدّ "محمود درويش" أحد شعراء الغموض، يقول في إحدى قصائده: نحن أيضا لنا صرخة في الهبوط إلى حافة الأرض. لكننا لا نخزن أصواتنا في الجرار العتيقة. لا نشنق الوعل فوق الجدار، ولا ندّعي ملكوت الغبار وأحلامنا لا تطل عل عنب الآخرين ولا تكسر القاعدة! وهؤلاء يمثلون ما يُسمّى بالغموض الممتع الذي يدفع القارئ إلى البحث والتفكر دون أن يفقد متعة القراءة.. كيف تلقّى القارئ والناقد شعر الغموض؟ في النهاية نستطيع أن نقول بأن الغموض في الشعر حالة اختلف عليها النقاد والقراء معا، منهم من تقبّله كنوع من التطوّر الذي صاحب كل خطوات حياتنا وأثنى عليه بعض النقاد الذين وجدوا فيه نقلة نوعية في الشعر والأدب العربي، وبالمقابل هو لم يجد له صدىً جيّدًا لدى كثير من القرّاء. كما وأنه هوجم بشدة من قبل بعض النقاد الذين ما زالوا يحرصون على الطابع الخاص للأدب والشعر العربي والذي يمثل مجتمعنا وتفاصيل حياتنا ويحفظ قسما كبيرا من تاريخنا وثقافتنا وحضارتنا بعيدا عن الغرب.. وتبقى المسؤولية هنا على النقاد في القيام بعملية الفرز ما بين الغموض المُحبّب والقريب إلى القلوب.. وما بين الغموض الذي نجهل ما الذي يريد كاتبه إيصاله إلينا والذي ربّما هو أيضًا بدوره يجهل ما يريد...!   وحيد حمّود

أدب ما بعد الحداثة.. "لاوعي" المُبدعين وطلاسم المتسلّقين

 وحيد حمّود (كاتب من لبنان) لا شكّ أنّ التّعريفات التي طالت مصطلح الأدب على مرّ الحقبات والحضارات كثيرة. هذا اللّفظ الذي حمل في دهاليزه ثقافات الشّعوب، عاداتها وحيواتها المتنوّعة من سياسات واجتماعيّات، معتقدات وأخلاقيّات، كان بمثابة البصمة التي يخطّها الأدباء والشّعراء بأيديهم ليُبقوا على تراث حضاراتهم حيًّا على ألسنة الورق للأجيال القادمة. الأدب تعبيرٌ صافٍ عمّا يجول في بال الفرد والجماعة على حدّ سواء، ففي الحروف وبين السّطور تنصهر العلاقة الفرد/ الجماعة لتشكّل أمامنا بنيانًا من كلمات ترسم أفقًا جديدًا أحيانًا، تُظهِر واقعًا فتدعو إلى تقويضه أو مجاراته أو تغييره أحيانًا أخرى، وتحدّد مسارًا ذاتيًّا نفسيًّا عن الفرد/ الجماعة في جميع الأحيان. في زمن الحداثة وما بعدها، اجتاحت الكتابات التي تحمل طابع التّفكيك مدن الأدب، في شِعره وفي نثره، وممّا ساعد على انتشارها هو ذاك الانتقال الذي فرضته تغيّرات الحياة في كافّة الصّعد، فإذا ألقينا بنظرةٍ إلى المناهج التي صارت تدرس النّصوص الأدبيّة فتقرأها وتحلّلها سنجد المناهج الحداثويّة أو التي سُمّيت بالمناهج النّسقيّة، وهي التي تُعنى بدراسة النّص بحدّ ذاته بمعزَلٍ عن كلّ ما يحيط به. ولعلّ هذه المناهج تنطوي جميعها تحت جملةٍ واحدة نطقها الناقد الأدبي الفرنسي "رولان بارت" (1915-1980) داعيًا فيها إلى موت المؤلف تمامًا عبر مقال له عام 1968م، وذلك في كتابه "درس السيميولوجيا" إذ يقول: "إن النّصّ من الآن فصاعدًا على كافة مستوياته وبجميع أدواته، منذ صناعته وحتّى قراءته؛ يظهر بشكل يغيب فيه المؤلّف غيابًا بالكامل". مؤكّدًا بذلك مقولة زميله "جاك دريدا" (1930-2004م): "لا شيء خارج النص".. تحدّثنا عن أدب ما بعد الحداثة، فما هي مرتكزاته؟ مرتكزات ما بعد الحداثة الأدب في مرحلة ما بعد الحداثة أخذ منحى تفكيكيًّا في قراءة النّصوص، ولهذا المنحى مرتكزات اعتُمدت في المنهج التّفكيكي لقراءة النّصوص الأدبيّة ورائده "جاك دريدا" صاحب مقولة: "ما لا يُمكن قوله، لا ينبغي السّكوت عنه، ويكفي أن يُكتب".
    التقويض: يعني هدم كل الأفكار الثابتة والتشكيك فيها وتعرية الخطابات والنصوص وفضح الإيديولوجيات عبر استعمال لغة الاختلاف والتضاد والتناقض. 2. التشكيك: وهي جزء من التّقويض وتسير وفق مبدأ الشكّ الذي يدلّنا على اليقين، وهنا في هذه المرحلة تعتبر التّفكيكيّة أنّه ما من شيء حقيقي ويقيني، وبالتّالي يجب أن يتم الطعن بالفلسفات والمقولات كلها بدءًا من أفلاطون وإلى يومنا هذا، أي يجب التّحرّر من هذه الفلسفات وهزّ الثّوابت من أجل إنتاج تفكير خارج الصّندوق، وبذلك يكون النّصّ قد انتقل إلى مرحلة التّشظّي. 3. الفلسفة العدمية: يعني نشر فلسفة الفوضى، ولكن الفوضى الخلّاقة الباعثة إلى معاني لا حدود لها وغير مقيّدة، دون ثوابت أو قواعد. التفكك واللاانسجام: وههنا أيضًا جزء من التقويض والتشكيك، ويظهر هنا الفارق بين المناهج النّسقيّة أي بين التفكيكي والبنيوي والسيميائي، لأن المنهجَين البنيوي والسيميائي يفكّكان النص إما حسب بنيته، أو حسب العلامات التي فيه ليعيدا بناءه وفاقًا لفكرة واحدة، في حين أنّ التفكيكية تقوم على تفكيك النص وتشظّيه بشكل تخلق من المعنى ألف معنى وألف تأويل حسب كل قارئ وناقد تفكيكي. هيمنة الصورة: الصورة في عهد ما بعد الحداثة لها تأثير كبير، وبخاصّة في ظلّ التكنولوجيا والذّكاء الإصطناعي، إنّها قادرة على حمل معاني سيميائية كبيرة ذات تأثير بالغ بالمُشاهد قد تفوق اللغة أحيانًا. الغرابة والغموض: التفكيك هو أن نصل إلى معاني كثيرة وتأويلات عديدة حسب النص، وكل شيء فيه تعدّد وفاقًا لفكر القارئ سيغلّفه الغموض والغرابة. 7. التناص: هو استلهام نصوص، وحكم، وأفكار سابقة بطريقة واعية او غير واعية، في نصوص حديثة، والتّناص أنواع: أدبيّ، دينيّ، تاريخيّ، شعبيّ، أسلوبيّ، لغويّ. 8. تفكيك المقولات المركزية الكبرى: تفكيك جميع المقولات المتّبعة في العهد الحديث من المناهج، مثل: الدال والمدلول، اللسان والكلام، الحضور والغياب. وانتقاد مفاهيم متل الجوهر والعقل والوجود.. الانفتاح: يعني بالتفكيكية الرّجوع إلى السياق الخارجي التي قامت البنيوية بإهماله وهذا الأمر يعدّ نوعًا من الانفتاح في التفكيكية. 10. قوة التحرر: تحرير الإنسان من كل المؤسسات التي تعطي معاني ثابتة للخطاب والإيديولوجيا والمركزية... ووضعه بفلسفات الهامش والعرضي واليومي والشعبي. إعادة اعتبار للسياق والنص الموازي: وهنا بعكس البنيوية، نرجع للسياق التاريخي للنص، وللمؤلف، وللسياق الاجتماعي والسياسي والاقتصادي... تحطيم الحدود بين الأجناس الأدبية: تلتزم البنيوية بالنوع الأدبي للنص شعرًا كان أم نثرًا، أما التفكيكية فيهمّها النص، دون النظر إلى جنسه. الدلالات العائمة: الدلالات في عهد ما بعد الحداثة، تتميز بالغموض والالتباس والإبهام، ما يعني عدم وجود مدلول واحد للنص، لكلّ نصّ دلالات وتأويلات متعددة، متناقضة ومتشعبة. ما فوق الحقيقة: لا حقيقة ثابتة بفلسفة ما بعد الحداثة. التخلص من المعايير والقواعد: لا معايير وقواعد منهجية ثابتة،
لأن الحصول على تأويلات ودلالات مختلفة في النص، لا يمكن الحصول عليه إن التزمنا بمنهجيات ثابتة قديمة. الأديب الحقيقي والأديب المزيّف بعد أن قمنا باستعراض لمرحلة الأدب ما بعد الحداثة والتّطرّق إلى مرتكزاته وفاقًا للمناهج النّسقيّة وبخاصّة المنهج التّفكيكيّ، يخطر ببالنا سؤال: هل يستطيع المنهج التّفكيكيّ الدّاعي إلى تفتيت النّص وتتشتيت المعاني عبر كسر القواعد والثّوابت والحقائق السّابقة، هل يستطيع أن يميّز بين الأدب المؤثّر القيّم النّاتج عن أديب مبدع حقيقي، يسوقه لا وعيُه إلى الإبداع، وبين الأدب المزيّف الذي يتقصّد الغموض والغرابة عبر طلاسم غير مفهومة والنّاتج عن متسلّق للأدب؟ للإجابة عن هذا السّؤال علينا التّبحّر جيّدًا في الكتابات، وهنا تبرز مشكلة جديدة وهي المقروئيّة عند المجتمعات، والتي تتدنّى وتصبح انتقائيّة أكثر فأكثر وفاقًا لأصحاب التّسويق الأكثر، فليس كلّ ما يسوّق له هو الأكثر إبداعًا، وليس كلّ منسيّ ومهمل هو أقلّ إبداعيّة! إنّ النّشر المتاح والمفتوح على مصراعيه في كلّ مكان قد أسّس مجتمعات لا تميّز في بعض الأحيان بين النّصّ الجيّد والنّصّ الرّديء، ولكي يُنزع هذا اللّثام عن نوعيّة الأدب المنتشر مجّانًا على صفحات السوشيال ميديا، والممتزج في الكثير من الأحيان بأدوات الذّكاء الاصطناعي وأبرزها (CHATGPT)، نحن بحاجة إلى رقابة صارمة ولأهل اختصاص، وهذا الأمر نفتقده للأسف، فالسوشيال ميديا وأدواتها أتاحت للمهمّشين وأصحاب الفكر الرّديء والأساليب الأدبيّة التي تفتقر إلى أدنى مقوّمات الإبداعيّة، أتاحت لهم أن يصولوا ويجولوا بأفكارهم ونصوصهم عبر نشرها أمام العامّة، ومن ثمّ التّخفّي وراء أسماء كبيرة في الأدب كالرّمزيّة، والعبثيّة والسّورياليّة وغيرها من المدارس والمناهج التي لو عَلِمَ مؤسّسوها بما ستؤول إليه الأمور في الزمن القادم لأحرقوا الأرض بكلّ ما قدّمت أياديهم من فكر جديد. وهنا نعرّج على دُور النّشر التي اكتسحت غالبيّتها المفاهيم الماديّة على المفاهيم النّوعيّة في الأدب، فهُيّئت لأصحاب الفكر الضعيف والمقتدرين ماديًّا أرضيّةً لنشر طلاسمهم أمام الملأ، ولو علم النّاشر بقباحة المنشور لما تجرّأ على نشره، ولكنّه المال، ساد الفكر والأدب في الكثير من الأحايين وفي العديد من الدّول، وهنا تكمن خطورةٌ أخرى يجب الحدّ منها والعمل عليها من قبل وزارات الثّقافة وأهل الإختصاص. ختامًا، والموضوع طويل وشائك ويحتاج للكثير من السّطور التي يجب تسليط الضّوء عليها في هذا الأمر، إنّ للأدب ميزات وقواعد، ولا يمكن أن يكون الغموض غير المبرَّر والغرابة غير المفهومة إحدى ميزاته، فالأدب قبل كلّ شيء يحاكي روح المتلقّي، عواطفه، قضاياه وذاته، وبمقدار أدبيّة الأدب والأديب تكون قيمة المجتمعات أكبر، فإن لم تحقّق هذه الأمور أثرًا يُلحَظ في المجتمعات فهي خربشاتٌ مقيتة يجب أن تُحرق قبل أن تحرق ثقافتنا ومجتمعاتنا بلهيب التّفاهة.   بسيم عبد العظيم عبد القادر

ومضات حول تاريخ الغموض في الشعر العربي

د. بسيم عبد العظيم عبد القادر (شاعر وناقد أكاديمي، كلية الآداب جامعة المنوفية، رئيس لجنة العلاقات العربية بالنقابة العامة لاتحاد كتاب مصر) للغموض جمالياته في الإبداع الشعري خصوصا عندما يكون مُبرّرًا ويُحدث المتعة التي يرجوها المتلقّي ويوسّع من آفاقه الفكرية والخيالية.. غير أنّه يغدو أشبه بعقوبة للمتلقّي حينما يصبح هدفًا بذاته يسعى إليه المبدع، فيحوّل نصّه الأدبي إلى تميمة من الطّلاسم يصعب فكّها للوصول إلى المعاني.. ومن المتناقضات أنّنا نعترف بضعف المقروئية وتردّي العلاقة بين اللغة العربية والقارئ، ومع ذلك فقد تحوّل الغموض في الشعر العربي المعاصر إلى ظاهرة قد تُعمّق أزمة المقروئية وتُباعد بين القارئ واللغة العربيّة.. بينما يُفترض أنّ واجب الأديب والمبدع أن يوطّد العلاقة بين القارئ واللغة والكِتاب والقراءة! ويمكننا تتبّع ظاهرة الغموض في الشعر العربي بدءًا من العصر الجاهلي مرورا بالعصر الإسلامي والأموي ثم العصر العباسي والعصر الأندلسي، والعصر الفاطمي ثم العصر الأيوبي والمملوكي، وأخيرًا في الشعر العربي المعاصر، لنتبيّن ملامح الغموض ومظاهره وتجلّياته في شعرنا العربي وأثر ذلك الغموض في نفوس متلقّي الشعر باختلاف العصور والبيئات والثقافات والتطوّر الفكري والفلسفي، وذلك على النحو الآتي بعد تعريف الغموض في اللغة: الغموض في اللغة: يشير إلى حالة تكون فيها الكلمة أو الجملة غير واضحة أو متعدّدة المعاني، ممّا يجعل فهم المقصود منها يحتاج إلى سياق إضافي أو تفسير، ويحدث الغموض عادةً عندما تكون الكلمة ذات معانٍ متعددة، أو عندما تكون الجملة قابلة للتأويل بأكثر من طريقة، ويمكن أن ينشأ الغموض أيضًا من التركيب النحوي الذي يسمح بتفسيرين مختلفين للجملة نفسها، والأمثلة على ذلك كثيرة في شعرنا العربي على مرّ العصور، وقد وضع النقاد أيدي الشعراء على هذه العيوب التي يجب أن يتحاشوها في شعرهم. ويجدر بنا أن نشير إلى أنَّ هناك نوعين رئيسين من الغموض:
    1. الغموض اللفظي: ويحدث عندما تكون الكلمة الواحدة تحمل أكثر من معنى، مثل كلمة "عين" التي قد تعني عين الإنسان أو عين الماء أو عين البصر أو الجاسوس، ويتحدد المعنى في هذه الحالة من خلال السياق الذي ترد فيه الكلمة. 2. الغموض النحوي: وينشأ عندما يؤدّي ترتيب الكلمات في الجملة إلى احتمالية أكثر من معنى واحد وهو ما يعرف بالمعاظلة، وقد كان "حسان بن ثابت" - رضي الله عنه - يمدح بأنه لا يعاظل بين الكلام ولا يتبع وحشيّه.
وقد يكون الغموض أداة في الأدب والشعر، حيث يستخدمه الكاتب أو الشاعر ليترك المجال للقارئ للتفسير والتأويل، مما يُثري النص ويفتح الباب لطبقات متعدّدة من الفهم، وهو ما أشار إليه "عبد القاهر الجرجاني" بالمعاني الأُوَل والمعاني الثواني، فكلما قلب القارئ أو الناقد نظره وفكره في النص كشف له النص معنى جديدا لم يخطر له على بال عند القراءة الأولى. فالغموض في الشعر هو استخدام الشاعر للغة والتراكيب والتلميحات بطريقة تجعل المعنى غير واضح بشكل مباشر، مما يفتح الباب أمام تعدّد التفسيرات ويثير خيال القارئ. ويعدّ الغموض أحد الأساليب الأدبية التي تضفي عمقًا وجمالًا على القصيدة، حيث يتعمّد الشاعر ترك المعنى مفتوحًا ليتيح للمتلقي فرصة استكشافه من عدة زوايا. وينشأ الغموض في الشعر من عدة عناصر، منها:
    1. الرمزية: استخدام رموز تعبّر عن معانٍ عميقة أو مجازية بدلًا من الإفصاح المباشر. التلميح: الإشارة إلى أحداث أو مفاهيم ثقافية أو تاريخية بدون توضيح كامل. 3. الصور الشعرية المركبة: الاعتماد على صور خيالية مركبة ومعقدة قد تبدو غير واضحة. 4. التورية: استخدام كلمات تحمل أكثر من معنى بحيث يفهم القارئ المعنى المقصود ضمن سياق معين.
الغموض في الشعر يضيف جاذبية وتحدّيًا للقارئ، ويجعله شريكًا في بناء المعنى والتأويل، مما يجعل التجربة الشعرية أكثر تفاعلًا وثراء. الغموض في الشعر الجاهلي هو سمة ظهرت بأسلوب مختلف عمّا نجده في العصور اللاحقة، حيث اعتمد الشعراء الجاهليون على الإيجاز، والتعبيرات الرمزية، والإيحاءات البعيدة التي تركت المعاني في كثير من الأحيان مفتوحة أمام التأويل. وعلى الرغم من أنَّ شعراء العصر الجاهلي كانوا يميلون إلى الوضوح والصراحة، إلا أنَّ الطبيعة البدوية للحياة الجاهلية وتداخل الأساطير والعادات أضفَت على شعرهم لمسة من الغموض. ويتجلى الغموض في الشعر الجاهلي من خلال:
    الإيحاءات والتلميحات: اعتمد الشعراء على تلميحات ذات خلفية ثقافية، بحيث تكون معانيها واضحة فقط لأبناء البيئة الجاهلية، بينما تحتاج إلى تفسير وشرح للمتلقي المعاصر. الرمزية: استخدم الشعراء الرموز المستمدة من بيئتهم الصحراوية، مثل رمزية "الخيل" و"الصحراء" و"الليل"؛ إذ حملت هذه العناصر دلالات عميقة عن الشجاعة، والصبر، والصمت، وأحوال الإنسان الجاهلي. التشبيه والاستعارة: في كثير من الأحيان، تكون التشبيهات والاستعارات المستخدمة غير مألوفة ومبنية على بيئة الصحراء، مثل قولهم عن الشجاعة والجبن "أسد عليّ وفي الحرب نعامة". فالصور المركبة قد تحمل تأويلات بعيدة، وهذا يجعل من بعض القصائد ألغازًا شعرية تحتاج إلى فهمٍ عميق للثقافة والعادات الجاهلية. الأسطورة والخرافة: ارتبطت بعض القصائد بالعوالم الأسطورية والخيالية، حيث كان العرب ينسبون بعض الأحداث الطبيعية إلى الجنّ والعوالم الخفية، مثل ذكرهم "الغول" و"السعالي"، مما أضاف أبعادًا غامضة للشعر، وأوحى بتفسيرات روحية وخرافية تجعل القصائد ذات طابع غامض.
ومن الأمثلة على الغموض في الشعر الجاهلي، قصيدة "لامية العرب" للشنفرى، حيث يمزج فيها بين الوصف الواقعي لحياته كشاعر صعلوك وبيئة الصحراء، واستخدامه لصور معقدة وإيحاءات رمزية تمزج بين القوة والانتقام، ممّا يجعل القصيدة مفتوحة على معانٍ عدة تتجاوز المفهوم المباشر. الغموض في الشعر الجاهلي، إذًا، لم يكن عبثيًّا أو لمجرد التجمُّل، بل كان نتاجًا طبيعيًّا لثقافة الحياة الصحراوية والبيئة الجاهلية المعقدة، وجعل من الشعر الجاهلي ميدانًا رحبًا للتحليل والدراسة وتعدد التأويلات. الغموض في الشعر خلال عصر صدر الإسلام وبني أمية تأثّر الشعر بالتغيّرات الدينية والاجتماعية التي أحدثها الإسلام، فظهر بأسلوب جديد عن العصر الجاهلي، حيث اتخذ الشعراء في تلك الفترة من الإسلام والمفاهيم الدينية مرجعًا أساسيًّا، وكان الشعر يتناول قضايا جديدة تعكس تحوّلات المجتمع. ومع أنَّ الوضوح والبساطة في التعبير كانا من السمات التي روّج لها الإسلام، إلا أنَّ الغموض لم يختفِ تمامًا، بل ظهر بشكل مختلف ومضمر أكثر. من مظاهر الغموض في شعر صدر الإسلام وبني أمية
    الغموض المتأثر بالرمزية الدينية: فمع بزوغ فجر الإسلام، صار الشعراء يستخدمون ألفاظًا وتعبيرات مستوحاة من الدين، مثل: "الجهاد" و"التوبة" و"الآخرة"، ولكن مع معانٍ قد تتجاوز الظاهر، وفي بعض الأحيان كان الشعراء يشيرون إلى معانٍ عميقة وأبعاد روحية، مثل معاني الزهد والموت والحياة الآخرة، والتي قد تحتمل عدة تأويلات. الغموض في الشعر السياسي: برز الشعر السياسي بوضوح في العصر الأموي، وكان الشعراء يستخدمون الغموض للإشارة إلى مواقفهم السياسية دون التصريح المباشر، تجنّبًا للمخاطر، خاصة مع التوترات بين مختلف القبائل وبين الأمويين والمعارضين لهم. فاستخدم الشعراء الرموز والصور لتجنّب المواجهة المباشرة، وتجد أمثلة على ذلك في أشعار الفرزدق وجرير اللذين كانا يلمّحان أحيانًا بنقد سياسي غير صريح. التعبيرات الغزلية الغامضة: في العصر الأموي، برز الشعر الغزلي، وخاصة شعر الغزل العذري الذي اتّسم بالرمزية في وصف الحب والعلاقة مع المحبوب، فكان الشاعر يستخدم صورًا وتعبيرات مجازية مستوحاة من بيئته ونمط حياته الصحراوية للتعبير عن مشاعره العميقة دون كشف مباشر عن تفاصيل الحب أو المحبوبة، وأبرز مثال على ذلك شعر قيس بن الملوح، الذي كان يوحي بمعانٍ أعمق من مجرد وصف للحب العذري. الغموض في الأسلوب واللغة: عاد بعض الشعراء لاستخدام ألفاظ وصور من الشعر الجاهلي ولكن بمضامين جديدة تتناسب مع السياق الإسلامي، ما جعل بعض القصائد مفتوحة للتفسير بأكثر من معنى، إذ كان الشاعر يوظّف الكلمات القديمة بإيحاءات مغايرة ومفهوم جديد يعكس فكر العصر.
أمثلة على الغموض في شعر صدر الإسلام وبني أمية شعر الحطيئة: الذي استخدم أسلوبًا مليئًا بالتعقيد والغموض في بعض مدائحه وهجائه للأشخاص، حيث كان يسعى في بعض الأحيان لإخفاء نواياه الحقيقية خلف أسلوب مليء بالتورية. شعراء الغزل العذري: مثل جميل بن معمر وقيس بن الملوح ومجنون لبنى، الذين كانوا يعبّرون عن مشاعرهم بلغة غنية بالرموز والإيحاءات التي جعلت من قصائدهم مفتوحة لتفسيرات متعددة. كان الغموض في الشعر خلال عصر صدر الإسلام وبني أمية إذًا ظاهرة موجَّهة في كثير من الأحيان للحفاظ على التوازن بين متطلبات الدين الجديد والتحوّلات الاجتماعية، وحافظ على الشعر كأداة للتعبير عن مواقف إنسانية وسياسية وعاطفية، مع التلميح بدلًا من التصريح. الغموض في الشعر العربي خلال العصر العباسي أصبح الغموض ظاهرة أدبية بارزة بسبب التطورات الثقافية والفكرية التي شهدتها تلك الفترة، فقد كان العصر العباسي زمن ازدهار الثقافات وتلاقحها، وتأثر الشعراء فيه بالفلسفة، والعلوم، والفكر الصوفي، ممّا أضاف طبقات جديدة من المعاني والتعابير الرمزية إلى الشعر. وقد اعتمد الشعراء العباسيون على الغموض كأداة لتكثيف المعنى وإثراء النصوص الشعرية، حيث أصبحت القصائد تجمع بين المعاني العميقة واللغة الرمزية. من أسباب الغموض ومظاهره في الشعر العباسي
     التأثر بالفكر الفلسفي والصوفي: اتّجه العديد من الشعراء العباسيين إلى تبنّي أفكار فلسفية وصوفية، حيث تطرّقوا إلى موضوعات مثل البحث عن الحقيقة، وتأمّل الكون، والعلاقة بين الروح والجسد. ولأنّ الأفكار الصوفية كانت تعتمد على الإشارات والإيحاءات الروحية، فإنّ هذا أضاف بُعدًا غامضًا إلى الشعر، حيث أصبحت بعض القصائد تعبّر عن حالات روحية معقدة لا يمكن فهمها إلا بالتأمل العميق. ويعدّ الشاعر "الحلاج" من أبرز الشعراء الذين طبعوا شعرهم بالغموض، إذ كان يعبّر عن تجاربه الروحية بأسلوب رمزي يصعب فهمه مباشرة. التلاعب باللغة واستخدام الصور المركّبة: اعتمد الشعراء العباسيون على الصور الشعرية المركّبة والاستعارات العميقة التي جعلت الشعر أكثر تعقيدًا وغموضًا، فكان الشعراء مثل أبو تمام والبحتري، يستخدمون التلاعب بالألفاظ وبناء الصور الشعرية البعيدة التي تتطلب جهدًا من القارئ لفهمها. وعلى سبيل المثال، كان أبو تمام يميل إلى توظيف استعارات دقيقة ومجازات بعيدة تتضمن أبعادًا فلسفية وفكرية، مما أضفى على شعره طابعًا من الغموض حتى سأله بعضهم: لم لا تقول ما يُفهم؟ فقال له: ولم لا تفهم ما يقال. التورية واستخدام الإشارات الأدبية والثقافية: التورية من الأساليب التي اعتمد عليها الشعراء العباسيون لإخفاء المعنى الحقيقي وراء معانٍ سطحية، حيث كانت التورية وسيلة تعبيرية تتيح للشاعر تقديم النقد أو التلميح بشكل غير مباشر، فكان الشعراء يستخدمون إشارات ثقافية، وتاريخية، وأدبية معروفة فقط لمن لديهم معرفة عميقة بالثقافة العربية والفكر العباسي، ممّا جعل القصائد تحتمل تفسيرات متعددة. التنوع الموضوعي والتجديد في الأغراض الشعرية: بسبب توسّع الخلافة العباسية وتداخل الثقافات، توسّعت موضوعات الشعر لتشمل أغراضًا جديدة مثل الغزل الصوفي، ووصف الخمر، والمديح المغلّف بالحكمة. وانعكس هذا التنوّع في أساليب جديدة من التعبير الشعري، فأصبح الشاعر يدمج بين الرموز الفلسفية والصور الحسية، مما زاد من تعقيد المعنى.
أمثلة على الغموض في الشعر العباسي أبو نواس: كتب في وصف الخمر بطريقة غامضة ومليئة بالرموز، حيث استخدم الخمر كرمز للتحرّر والرغبة في الهروب من الواقع، ممّا أضفى على شعره بُعدًا صوفيا. أبو تمام: يُعدّ من الشعراء الذين لجؤوا إلى التلاعب بالألفاظ والصور المركبة، فكانت قصائده تحتاج إلى تأمّل عميق لفهم معانيها، مما جعلها تمثل أنموذجًا للغموض في الشعر العباسي. الحلاج: الشاعر الصوفي الذي طبع شعره برموز روحية وإشارات غامضة، تعبّر عن تجربته الصوفيّة وفكره العميق في علاقة الإنسان بالإله، مما جعل قصائده تحمل أبعادًا رمزية عميقة. ويمكن القول إنَّ الغموض في الشعر العباسي كان جزءًا من التجديد الأدبي الذي تميزت به تلك الحقبة، وعكس تحوّلًا ثقافيًا وفكريًّا كبيرًا. وقد أضاف الغموض بُعدًا فلسفيًّا وجماليًّا للشعر، وجعله ميدانًا للتأمل والتفسير، حيث كان القارئ مطالبًا بفهم الإشارات والرموز ليصل إلى المعنى الحقيقي وراء الكلمات. الغموض في الشعر الأندلسي تميز العصر الأندلسي بطابع مختلف عن غيره من العصور، إذ امتزج فيه الحس الجمالي بالطبيعة، وأُضفيت عليه مسحة من العمق العاطفي والفني. فكان الشعر الأندلسي امتدادًا للتراث العربي في الشرق، لكنه تأثر بالبيئة الأندلسية الفريدة التي جمعَت بين جمال الطبيعة والحياة الثقافية المتنوّعة. وانعكس هذا الغموض في تعدّد الأساليب الشعريّة والصور الفنية المتنوعة، حيث استخدم الشعراء الأندلسيون الغموض أداة للتعبير عن معانيهم بطرق غير مباشرة وبأسلوب فيه كثير من الدقة والابتكار. من مظاهر الغموض في الشعر الأندلسي
    التوظيف الرمزي للطبيعة: الطبيعة في الأندلس كانت مصدر إلهام كبير للشعراء، فاستخدموها كرموز للتعبير عن حالاتهم النفسية والعاطفية. فالورود، والأنهار، والجبال.. كانت تُستخدم كرموز تشير إلى الحب، أو الفراق، أو الصراع الداخلي، مما أضفى على القصائد عُمقًا وغموضًا. ومن أشهر الشعراء الذين اعتمدوا على هذه الرموز "ابن خفاجة" الذي وصف الطبيعة وكأنها تجسد مشاعره وتعكس أفكاره، فجعل الطبيعة لغة شعرية رمزية غامضة، وقد أمضيت مع ديوانه أربعة أعوام كاملة في رسالتي للماجستير عن الصورة الشعرية عند ابن خفاجة. التعبير بالإيحاءات واللمحات: اتّسم الشعر الأندلسي بأسلوب الإيحاء الذي يترك المعنى مخفيًا خلف الكلمات، مما يدفع القارئ إلى استكشافه. وكان ذلك واضحًا في شعر الغزل، إذ كان الشاعر يعبّر عن شوقه وحبّه بطريقة غير مباشرة، مستخدمًا إيحاءات ولمحات غامضة تجعل القارئ يعيش حالة الترقّب والتأمّل في المعنى، كما فعل "ابن زيدون" في قصائده العاطفية التي كتبها في حب "ولّادة بنت المستكفي". التعبيرات الصوفية والروحانية: تأثّر بعض الشعراء الأندلسيين بالتصوّف الذي انتشر في تلك الفترة، فكانوا يستخدمون الغموض للتعبير عن تجاربهم الروحيّة ومشاعرهم الصوفية. وكان "ابن عربي" من الشعراء الصوفيين الذين استخدموا لغة غامضة مفعمة بالرموز الروحية والإشارات الغامضة، حيث كان يعبّر عن تجربته الروحية بشكل غير مباشر، مما جعل فهم شعره يتطلب تأملًا عميقًا. التورية والتلاعب بالألفاظ: اعتمد الشعراء الأندلسيون على التورية، وهي إخفاء المعنى الحقيقي خلف معنى ظاهري، مما يضفي على الشعر أبعادًا مختلفة. وكانت التورية وسيلة للتعبير عن أفكارهم وآرائهم، وأيضًا للهروب من بعض القيود الاجتماعية والسياسية، فيظهر المعنى الظاهري بسيطًا، بينما المعنى الحقيقي يتّسم بالغموض والعمق. استلهام الثقافة المتنوعة في الأندلس: كان المجتمع الأندلسي مجتمعًا متعدّد الثقافات، حيث اختلطت الثقافة الإسلامية بالمسيحية واليهودية، مما أضفى على الشعر عناصر من الغموض الثقافي والفكري، فانعكس ذلك في إشارات الشعراء إلى معتقدات أو مفاهيم مستعارة من هذه الثقافات، مما جعل بعض النصوص الشعرية أكثر غموضًا وتطلّبًا للتفسير.
أمثلة على الغموض في الشعر الأندلسي قصائد ابن زيدون: ففي قصيدته الشهيرة "أضحى التّنائي بديلاً عن تدانينا"، يعبّر عن شوقه لـ "وَلّادة" بأسلوب مليء بالإيحاءات والصور الغامضة، مستخدمًا الطبيعة كرمز للفراق والألم، ما جعل القصيدة تحتمل معانٍ وتأويلات متعددة تتجاوز المعنى الظاهر. ابن خفاجة: تميز بوصف الطبيعة بأسلوب رمزي، إذ كان يرى الطبيعة بعيون شاعر يتأمّل الكون من منظور فلسفي، وقد استخدم صورًا معقدة في وصف الجبل والقمر والنهر، مما جعل قصائده تفيض برموز وإيحاءات تعبّر عن حالات نفسية وعاطفية بعمق وغموض. ابن عربي: استخدم الغموض في شعره الصوفي للتعبير عن أفكاره الروحية ورؤيته للوجود، حيث قدم قصائد تفيض بالرموز الصوفية، مثل الحب الإلهي والحقيقة المطلقة، بأسلوب غامض وصور رمزية بعيدة تحتاج إلى فهم عميق للتمكن من تأويلها. وبهذا فقد مثّل الغموض في الشعر الأندلسي جانبًا جماليًا وثقافيًا عميقا، عكَس تفاعل الشعراء مع الطبيعة، وتجاربهم العاطفية، وفكرهم الروحي، مما جعل هذا الشعر مميزًا بأبعاده الفنية وعمقه الرمزي الذي يجمع بين التقاليد الأدبية العربية والأفكار الجديدة التي برزتْ في تلك الفترة. الغموض في الشعر المصري خلال العصر الفاطمي اتخذ طابعًا خاصًّا تميز بالتعبير الرمزي والإيحاءات العميقة، نتيجة للبيئة الفكرية والدينية المميزة التي شهدتها مصر خلال تلك الفترة. إذ كان العصر الفاطمي (909 – 1171 م) حقبةً مليئة بالأحداث السياسية والتحوّلات الفكرية، وارتبطت به ثقافة صوفية وإسماعيلية أثّرت بشكل واضح على الأدب، خاصةً الشعر. واستطاع الشعراء في هذا العصر أن يبتكروا أساليب شعرية تستند إلى الغموض والرمزية، سواء في القضايا الدينية أو السياسية أو حتى العاطفية. مظاهر الغموض في الشعر المصري خلال العصر الفاطمي
    الرمزية الدينية والسياسية: بسبب الطبيعة الفاطمية الإسماعيلية الشيعية للدولة، أصبح من الشائع في الشعر استخدام الرمزية للتعبير عن الولاء السياسي أو الديني. وكثيرًا ما كان الشعراء يستخدمون ألفاظًا وإشارات رمزية تشير إلى العقائد الإسماعيلية أو تُلمح إلى الخلافات السياسية، حيث يُضمر الشعر المعاني بدلًا من التصريح بها. وكان هذا الأسلوب يُستخدم من قبل المؤيّدين والمعارضين على حد سواء، ممّا أضفى طابعًا من الغموض على القصائد التي احتاجت إلى تأويلات دقيقة لفهم مقاصدها. التصوف والغموض الروحي: انتشرَت النزعة الصوفية في العصر الفاطمي، وكانت مرتبطة بشكل كبير بالبحث عن المعرفة الروحية والتجربة الباطنية. وقد أثر هذا على الشعراء، الذين عبّروا عن تجاربهم الروحية وعلاقتهم بالخالق من خلال رموز وإشارات عميقة وغامضة. وهذا الأسلوب الصوفي في التعبير جعل الشعر يغدو أحيانًا أشبه بلغز يتطلّب تأمّلًا عميقًا لفهم معانيه، وقد تميز شعراء مثل "ابن الفارض" بأسلوبهم الغامض في التعبير عن حبهم الإلهي وأفكارهم الروحية. 3. استخدام التورية والإشارة: كان التلاعب بالألفاظ والتورية أسلوبًا شائعًا، حيث استخدم الشعراء كلمات تحتمل أكثر من معنى، ليتركوا للقارئ فرصة للتأويل. وكانت التورية أداةً مهمة للتعبير عن الأفكار والآراء المحظورة، سواء أكانت سياسية أم دينية، فأصبحت القصائد تروي ما هو ظاهر وتخفي المعنى الحقيقي الذي لا يُفهم إلا لمن يعرف خلفيات الموضوع، مما أضاف غموضًا مميزًا للشعر في هذه الفترة. الغزل العذري والغموض العاطفي: امتاز الشعر في العصر الفاطمي أيضًا بأسلوبه في التعبير عن الحب العذري، حيث كان الشعراء يعبّرون عن عواطفهم بطرق غامضة ومجازية تتجنّب الإفصاح المباشر. كان الشاعر يعتمد على الإيحاء والإشارة إلى المحبوبة دون ذكرها صراحة، مما أضفى بُعدًا من الغموض على المعاني، خاصةً عندما يُستخدم الغزل كرمز للتعبير عن الحب الإلهي أو الوجد الروحي. التأثر بالفلسفة والفكر الباطني: تأثر الأدب في العصر الفاطمي بالفلسفة والفكر الباطني الذي كان جزءًا من الثقافة الإسماعيلية، ممّا جعل بعض الشعراء يعبّرون عن أفكار فلسفية تتعلق بالوجود والحياة والموت، مستخدمين أسلوبًا غامضًا يتطلب من القارئ فهمًا عميقًا للفلسفة والدين لتفسيره.
أمثلة على الغموض في الشعر المصري خلال العصر الفاطمي ابن الفارض: الذي يُعدّ من أهم شعراء التصوّف في العصر الفاطمي، حيث استخدم لغة رمزية عميقة، وكتب قصائد غزلية يغلب عليها طابع الغموض، حيث يعبّر عن الحب الإلهي بكلمات تبدو كأنها تتحدّث عن الحب البشري، ولكنها في جوهرها تشير إلى تجارب صوفية روحية. الشعراء الدينيون الفاطميون كتب الشعراء الدينيون الفاطميون قصائد دينية وسياسية تضمّنَت إشارات رمزية، حيث كانوا يعبّرون عن عقائدهم في شكل مدائح أو رثاء للخلفاء والأئمة الفاطميين، محاولين بذلك نشر الفكر الإسماعيلي من خلال رموز تتطلب تأويلًا خاصًا. ابن هانئ الأندلسي: الذي بدأ شعره في الأندلس، إلا أنه وصل إلى مصر واندمج في الثقافة الفاطمية، فكتب شعرًا يمجّد الخلفاء الفاطميين ويعبّر عن الولاء لهم بأسلوب رمزي وإيحاءات خفية، مما جعل شعره يمتاز بالغموض وعمق المعاني. ويمكن القول إنَّ الغموض في الشعر المصري خلال العصر الفاطمي كان وسيلة للتعبير عن الأفكار والآراء التي لا يمكن التصريح بها علنًا، سواء بسبب الظروف السياسية أو التوجهات الدينية. وقد أثرى هذا الغموض الشعر، حيث أضاف له أبعادًا رمزية وثقافية عميقة جعلت النصوص الشعرية بحاجة إلى تأمّل وتدبّر لفهم معانيها الباطنة. الغموض في الشعر العربي خلال العصرين الأيوبي والمملوكي اتخذ الشعر أبعادًا جديدة، إذ شهد هذان العصران ظروفًا سياسية واجتماعية ودينية معقدة أثّرت على طبيعة الأدب والشعر بشكل خاص. فقد كان الشعراء يستخدمون الغموض كوسيلة للتعبير عن آرائهم وتوجّهاتهم، خاصة في ظل الأوضاع السياسية غير المستقرة، مثل الصراعات العسكرية بين الأيوبيين والصليبيين، وبين المماليك والمغول، إضافة إلى ازدياد نفوذ المتصوّفة وأهل الفكر، مما أضفى بُعدًا فلسفيًا وروحيًا على القصائد الشعرية. من مظاهر الغموض في الشعر الأيوبي والمملوكي
    الغموض السياسي والرمزي: خلال تلك الفترة، عاشت المنطقة العربية صراعات سياسية شديدة، خاصة مع الحملات الصليبية والتدخّلات الأجنبية. ونتيجة لذلك، لجأ الشعراء إلى الغموض في التعبير عن مواقفهم السياسية، إذ كانوا يستخدمون الإشارات والرموز للتعبير عن الولاء أو النقد السياسي، فكان الشاعر يعتمد على أسلوبٍ غير مباشر للتعبير عن آرائه، وغالبًا ما كان يتناول الأمور السياسية بلغة غامضة تجنّبًا للملاحقة أو التصادم مع السلطة. الغموض الصوفي والروحاني: ازدهر التصوّف بشكل ملحوظ في العصرين الأيوبي والمملوكي، وقد تأثّر الشعراء بهذه الحركة، حيث عبّروا عن تجاربهم الروحية بألفاظ غامضة ورموز غنية، تتطلّب تأمّلًا عميقًا للوصول إلى المعنى المقصود. ومن أبرز الشعراء الصوفيين في تلك الفترة ابن الفارض وابن عربي، اللذين استخدما الرمزية والغموض للتعبير عن تجاربهما الروحية وعلاقتهما بالخالق، وكانت قصائدهما تعكس حالات من الهيام الإلهي والأحوال الصوفية بأسلوب يصعب فهمه مباشرة.  التورية والتلاعب بالألفاظ: اعتمد الشعراء على التورية كوسيلة للإيحاء بمعانٍ خفيّة وراء الكلمات الظاهرة. وهذا الأسلوب كان شائعًا أيضًا بسبب حساسية بعض الموضوعات، خاصة في قصائد المديح والهجاء، حيث كان الشاعر يختار كلمات تحتمل أكثر من معنى، ممّا يجعل النص قابلًا للتأويل حسب السياق والموقف. وكان هذا الغموض الفني يخدم الشعراء في إيصال الرسائل المبطّنة إلى القرّاء دون الإفصاح عنها بوضوح.. الغموض في   الغزل العذري: استمرّ الشعراء في التعبير عن مشاعرهم العاطفية بأسلوب غامض مليء بالإيحاءات، حيث أصبح الشعر الغزلي يحمل معاني غير مباشرة، وأحيانًا يمتزج بالتصوّف. وكان الشاعر يستخدم رموزًا وإيحاءات تشير إلى المحبوبة دون الإفصاح عنها صراحة، كما في شِعر "ابن الفارض"، الذي عبّر عن حب روحي غامض، ممّا جعل النصوص الغزلية تحمل دلالات مزدوجة بين العاطفي والروحي. الغموض الفلسفي والفكري: تأثّر بعض الشعراء بالفكر الفلسفي، مما أضفى على أشعارهم بُعدًا غامضًا يعبّر عن تساؤلات حول الكون والحياة والموت. وكانت القصائد تحتوي على مضامين عميقة تعكس التفكير الفلسفي والنزعات التأملية، مما جعلها تتطلب من القارئ معرفة وفهمًا للعلوم والفلسفة.
أمثلة على الغموض في الشعر الأيوبي والمملوكي ابن الفارض: في قصائده الصوفية مثل "التائية الكبرى"، التي كانت مليئة بالرموز والإشارات الروحية، حيث يصف تجربته الصوفية بلغة شعرية غامضة، تعبّر عن حب إلهي تتخلّله إيحاءات عاطفية تتطلب تأملًا في دلالاتها. ابن نباتة المصري: استخدم الغموض في مديحه ونقده للسلطة بأسلوب رمزي، حيث كان يعبّر عن ولائه أو انتقاده بلغة غامضة تعتمد على الرموز والتشبيهات، تجنبًا للصدام المباشر مع السلطة الحاكمة. ابن عربي: كتَب شعرًا صوفيًّا غامضًا استخدم فيه رموزًا فلسفية وروحية تعبّر عن أفكاره حول الحقيقة والوجود والعلاقة مع الله، في ديوانه "ترجمان الأشواق"، حيث استخدم صورًا رمزية غنية تصف تجربته العميقة في البحث عن الحقيقة. البوصيري: في قصيدته "البردة"، التي كتَبها في مدح النبي محمد صلى الله عليه وسلم، استخدم "البوصيري" لغة رمزية غامضة أحيانًا للتّعبير عن المعاني الروحية التي رآها متعلّقة بالنبي الكريم، حيث استخدم الكثير من الرموز الدينية والإشارات التي تعبّر عن حب صوفي عميق للنبي صلى الله عليه وسلّم. كان الغموض في الشعر العربي خلال العصرين الأيوبي والمملوكي جزءًا من تطور الشعر ليعكس تداخل الدين والسياسة والفكر الفلسفي، إذ جعل الشعراء من الغموض وسيلة للتعبير غير المباشر عن معتقداتهم وتجاربهم، مما أضفى على الشعر عُمقًا رمزيًا وجمالًا فكريًا، جعل النصوص تتطلب تأملًا وتدبّرًا لفهم المعاني الكامنة وراء الكلمات. الغموض في شعر الحداثة العربي وقد صار الغموض والإبهام في شعر الحداثة العربي من السمات البارزة التي أضافت إلى الشعر العربي طابعًا مميزًا، حيث جعلا من القصيدة العربية مساحة تأملية مفتوحة على التأويلات والتفسيرات المتعددة. وفي فترة التحوّل نحو الحداثة، شهدت القصيدة العربية انفصالًا عن الأشكال التقليدية من حيث اللغة والأسلوب، متأثرةً بالتجارب العالمية والفكر الفلسفي المعاصر، ما أدّى إلى بروز الغموض كعنصر جمالي وموضوعي يعكس تجربة الشاعر وأفكاره بطريقة غير مباشرة. من أسباب الغموض والإبهام في شعر الحداثة العربي
    التأثر بالتيارات الفكرية والفلسفية: حيث تأثّر شعراء الحداثة العربية بالفكر الفلسفي الوجودي والتيارات الرمزية والسريالية، ما أدّى إلى التعبير عن الرؤى الوجودية والمعاناة الإنسانية بلغة غامضة ومبهمة، وكان لهذا التوجّه أثره في طبيعة النصوص الشعرية، حيث سعى الشاعر إلى استكشاف قضايا الوجود، والذات، والمعنى، باستخدام صور رمزية ومعقدة، مما يجعل النص متعدد الأبعاد، يفسح المجال أمام القارئ ليبحث عن المعاني بين السطور، ويتطلب هذا أن يكون القارئ مثقفا وملمًّا بهذه التيارات الفكرية والفلسفية، ولهذا قد تتعدد التفسيرات للعمل الواحد بتعدّد القرّاء والنقاد بحسب ثقافتهم. التجريب والتلاعب باللغة: مع تحرّر القصيدة الحديثة من قيود الوزن والقافية، أطلق شعراء الحداثة العنان للغتهم، فبدأوا في توظيف تعابير جديدة وتراكيب لغوية غير مألوفة، كما سعى الشعراء إلى كسر النّمطية والتقليدية عبر استخدام الصور الشعرية غير الواضحة، مما أضفى على النصوص غموضًا جعلها تبتعد عن المعنى المباشر، ليصبح الشعر مساحة من الدلالات الخفيّة التي تتطلب فهمًا عميقًا وتأمّلًا لا يطيقه كثير من قرّاء الشعر، فازوَرَّ القرّاء عن شعر الحداثة وولّوا ظهورهم شطره بدلا من الإقبال عليه بوصفه شعرا يعبّر عن همومهم وآمالهم وطموحهم ومشكلاتهم الوجودية في العصر الذي يعيشون فيه، وولّوا وجوههم نحو الشعر الحديث ممثلا في أمير الشعراء أحمد شوقي وشاعر النيل حافظ إبراهيم وشعراء أبوللو وغيرهم من الرومانسيين وشعراء المهجر الذين عبّروا عن هموم الإنسان في العصر الحديث بأسلوب مفهوم مع مراعاة أصول فن الشعر وقواعده، ومنهم من عاد إلى الشعر في بكارته إبّان العصر الجاهلي، أو في العصر الإسلامي والعباسي والأندلسي، وهكذا كل حسب ميوله واهتماماته وثقافته. 3. تجسيد القلق والاغتراب: عاش شعراء الحداثة العربية حالة من القلق الفكري والاجتماعي نتيجة للتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي أثّرت على المجتمعات العربية. وفي ظل هذه الظروف، صار الغموض والإبهام وسيلة للتعبير عن الاغتراب والشعور بالضياع، حيث استخدم الشعراء أساليب غير مباشرة ولغة كثيفة للتعبير عن مشاعرهم، كأنهم يخفون آلامهم أو أسئلتهم خلف حُجب رمزية، ممّا باعد بينهم وبين القرّاء، فانغلقوا على ذواتهم وصاروا يسمعون أنفسهم ويكتبون عن أنفسهم وينجمون أنفسهم ويمنحون الجوائز لأنفسهم أو تُمنح لهم اتّقاء شرّهم ودفعًا لغائلتهم فمعظمهم لا يرقبون في ناقد ملتزم ولا في شاعر ليس على مذهبهم إلًّا ولا ذمة. الرمزية والابتعاد عن المباشرة: تميزت قصائد الحداثة العربية بالتوجه نحو الرمز والابتعاد عن التصريح المباشر، فقد أصبحت القصائد حافلة بالرموز والدلالات المستعارة من الطبيعة، والتاريخ، والدين، والفلسفة، بحيث باتت القصيدة أشبه باللوحة الغامضة التي تتطلب قراءة خاصة لتفسير معانيها، واستُخدم الرمز أداة للتعبير عن المضامين الاجتماعية والسياسية والوجودية دون الإفصاح عنها بوضوح، ليبقى المعنى متواريًّا وراء الألفاظ والصور الشعرية. التجربة الصوفية والروحية: تأثّر العديد من شعراء الحداثة بالنّزعات الصوفية، ما أدّى إلى ميلهم إلى التعبير عن التجارب الروحية والبحث عن الذات باستخدام لغة غامضة تفيض بالرموز، فأمسى الشاعر يعبّر عن حالات من الهيام الروحي والبحث عن المعنى الأعمق للحياة، حيث باتت القصائد تتخذ طابعًا صوفيًّا، يترك للقارئ مهمّة استكشاف العالم الداخلي للشاعر ومعرفة أبعاده الروحية والفكرية.
أمثلة على الغموض والإبهام في شعر الحداثة العربي أدونيس: ويُعدّ أحد أبرز شعراء الحداثة الذين اعتمدوا الغموض عنصرا أساسيا في شعرهم، وقصائده، مثل "المسرح والمرايا" و"أغاني مهيار الدمشقي"، مليئة بالصور الشعرية المعقدة والرموز التي تعبّر عن رؤى فلسفية عميقة، حيث يستخدم "أدونيس" الغموض ليعبّر عن أفكاره حول الوجود والحضارة والحرية، مما يجعل قصائده مفتوحة على تأويلات متعددة، عند من هم على شاكلته ممّن يمجّدونه ويشيدون بشاعريته ويمتدحون شعره، وفي الوقت نفسه جعله منبوذا من شعراء البيان العربي ونقاده. بدر شاكر السيّاب: وفي قصيدته الشهيرة "أنشودة المطر"، يعبّر "السيّاب" عن الهموم السياسية والاجتماعية بأسلوب رمزي وغامض، حيث يستخدم رمزية المطر للتعبير عن الأمل والمعاناة معًا، مما أضفى على القصيدة غموضًا وإيحاءات غير مباشرة، تعبّر عن صراع الإنسان مع نفسه ومع واقعه. محمود درويش: لجأ "محمود درويش" إلى الغموض والإبهام في قصائد عديدة، خاصة في قصائد مثل "جدارية"، حيث تتشابك الرموز والمفردات بشكل يجعل القارئ يشعر بأن النص يتجاوز الوصف المباشر، ليتحوّل إلى تجربة تأمّلية غنيّة بالمعاني الإنسانية العميقة، مثل الحب والموت والوطن. صلاح عبد الصبور: يُعدّ من روّاد شعر التفعيلة في مصر، واستخدم الغموض والإبهام للتعبير عن الهموم الفردية والاجتماعية، حيث لجأ إلى أسلوب رمزي وإشارات تتحدث عن معاناة الإنسان في العصر الحديث، كما في قصيدة "أحلام الفارس القديم"، التي تطرح تساؤلات فلسفية حول الحياة والمعنى بشكل غير مباشر. ويمكن القول إن الغموض والإبهام في شعر الحداثة العربي لم يكونا مجرد أسلوب جمالي بل كانا تحوّلًا فكريًّا يعبّر عن تعقيدات الواقع وتغيراته، وقد سمح الغموض للشعراء بتجاوز القيود التقليدية والتعبير عن أفكارهم بطريقة تتطلب من القارئ التفكير العميق والتأمل لاكتشاف الطبقات المختلفة للنص. وهكذا أصبح الغموض في شعر الحداثة العربية جزءًا من هوية الشعر، حيث بات الشعر نصًّا يتفاعل مع القارئ ويحثه على البحث عن المعاني التي تختبئ خلف الألفاظ. نعم للغموض الشفيف الذي يُحرّر القارئ من الكسل وبوصفي شاعرا وناقدا فإنني من أنصار الغموض الشفيف الذي يجعل قارئ الشعر لا يهدأ ولا يركن إلى الدّعة والكسل، بل يعمل فكره ويكدّ ذهنه لاستكناه المعاني والرموز والإشارات والإيحاءات والتضمينات والاستعارات والمجازات التي يلجأ إليها الشاعر، عامدا لكي يكون نصه نصًّا جديرا بالشاعرية، وأعتقد بأن مثل هذا الغموض يرتقي بالأدب ويحفز على القراءة، ولهذا تعدّدَت قراءات النقاد للشعر في عصوره المختلفة، ولنأخذ مثلا كتاب أستاذنا المرحوم د. مصطفى ناصف بعنوان "قراءة ثانية لشعرنا القديم"، وكتاب أستاذنا د. محمد فتوح أحمد بعنوان "قراءة جديدة لشعر المتنبي" وغيرها من الكتب التي تعود للشعر فتعيد قراءته لاستخراج كنوزه الدفينة واستكناه معانيه المستكنّة في اللغة بآلياتها البيانية المختلفة. وهو على ذلك ظاهرة صحيّة تثري النصوص وتعود على القارئ بالفوائد الجمة لغة وبيانا. أما الغموض الذي يتدابر مع اللغة ويخاصم مفرداتها وتراكيبها ويتنكّر لتاريخها وإيحاءات ألفاظها فإنه ظاهرة "مَرَضية"، ينبغي التصدّي لها ومقاومتها والتّنبيه على خطورتها على اللغة والفكر على حد سواء، ولهذا فقد انبرى بعض النقاد والبلاغيين مثل الدكتور "عبد العظيم المطعني" فوصف مثل هذا الغموض بأنه سرطان العصر، في كتابه "ظاهرة الغموض في الشعر العربي الحديث"، كما تنبّه إلى الغموض كثير من النقاد والبلاغيين العرب القُدامي والمحدثين، ولعل من أبرزهم أستاذنا العلامة البلاغي القدير د. محمد أبو موسى، وغيره من النقاد الأصلاء. الغموض قد يكون عائقا أمام الوعي الأدبي والمعرفي وقد يكون الغموض عائقًا أمام الوعي الأدبي والمعرفي عموما، والذي يتطلّب الوضوح الذي لا يُخلّ بالعناصر الجماليّة في التعبير الأدبي واللغوي، فبيننا لغة عربية فيها من الجماليات التعبيرية والبلاغية ما ألّف فيه علماء البلاغة كُتبًا وقسموه أقساما ثلاثة هي: المعاني والبيان والبديع، وفيها من الطاقات الإبداعية ما استوعب آيات الذكر الحكيم الذي تناول الحياة الدنيا والآخرة وغاص في أعماق النفس الإنسانية وعبّر عن الأحداث التاريخية والاجتماعية والثقافية والدينية بأسلوب أعجز الإنس والجن جميعا، كما استوعبت اللغة العربية أحاديث أبلغ البشر طرًّا وهو الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقد عرضت لكل شؤون الدنيا سِلمًا وحربا واجتماعا واقتصادا وعبادات ومعاملات، فما ضاقت عنها، ناهيك عن الشعر العربي من العصر الجاهلي حتى العصر الحديث في رقعة فسيحة متعددة البيئات الطبيعية والطبائع الإنسانية والأعراف والتقاليد الاجتماعية والتطورات العلمية والتعقيدات الفكرية والفلسفية، فاستوعبتها جميعا وعبّرت عنها خير تعبير. الغموض قد يكون ستارا يتخفّى خلفه "المزيّفون" وقبل ذلك كله، وبعد ما قدّمنا عن الغموض في عصور الشعر العربي المختلفة، فإننا نعتقد بأنّ الغموض قد يكون ستارا يتخفّى خلفه "المزيّفون" الذين يدعون الإبداع ويتّهمون القارئ بسوء الفهم إذا لم "يفهم" أو يتذوّق ما يكتبون من طلاسم وهرطقات ما أنزل الله بها من سلطان ولا يقرّها عرف ولا تستند إلى لغة عربية عريقة هي لغة البيان الراقي الذي تجاوز عمره ستة عشر قرنا من الزمان، ولو بُعث أكبر شعراء العربية كالمتنبي وأمثاله وهم كثر في تراثنا العربي لأنكر لغة هؤلاء المشعوذين، والله المستعان على ما يصفون!!!   مريم غسان المصري

الغموض.. ترسانة فنية تتكئ عليها الخطابات الأدبية

مريم غسان المصري (كاتبة وباحثة من نابلس – فلسطين) يعدّ الخطاب الشعري والسردي - محورا الأدب - "فعاليتان لغويتان انحرفت عن مواضعات العادة والتقليد، وتلبّسا بروح متمردة رفعتها عن سياقها الاصطلاحي إلى سياق جديد يخصها ويميزها"، والخطاب الأدبي أساسه العملية النقدية، والحديث عن النقدية في النص يتطلب وجود ناقد قارئ متطور يخوض في حلبته، فيقرأه كيفما يشاء، ويحرره كيفما يريد وفقًا لترسانته المعرفية، والثقافية. وبالتالي فإن أي خطاب أدبي لا يمكن أن يفتقر إلى الجينات الإبداعية التي تولد من وعي الفنان الأدبي في رحم الإبداع التراكمي تبعًا للاوعي الجماعي. يهتم الأدب الحديث باللغة المجازية التي تجعل من النص متعدد القراءات التي تساعد على الكشف عن تجلياته المختلفة، وتبحث في طبقاته المتنوعة، وذلك بالكشف عن قوانين الإبداع المختلفة التي تجعل من أي رسالة لغوية ذات أثر فني تصنع ميزاتها، وتنثر عليها خصوصية؛ لإظهار جمالياتها. إن لكل خطابٍ أدبي هويته الخاصة، وأدواته التي تسهم في بنائه وتُميّزه عن غيره، وقد وجهت الدراسات النقدية الحديثة عنايتها للغة هذا الخطاب؛ لأثرها الكبير في جمالياته، وتمتاز لغة الخطاب الأدبي بحيويتها وفاعليتها؛ إذ تقوم بهدم العالم القديم، لتعيد بناءه، أو إعادة تشكيله، وفق دعائم يشكلها كل مبدع بطريقته الخاصة به، من خلال تفجير طاقته الكامنة التي يوظفها جيدًا في ضوء ما يُسمّى بـ "العدول"، أو "الانزياح"، أو "الانحراف"، أو "الغموض"، فالشخصية المبدعة هي التي تنتقي الألفاظ والتراكيب التي تكسو الخطاب الأدبي جمالًا، وهي التي تعمد إلى اختراق المألوف إلى غير المألوف، لتفسح المجال أمام القارئ ليسلط نظرته الخاصة على النص، ويسعى للكشف عمّا يلبّي رغباته الفكرية والنفسية من حينٍ إلى آخر داخل الفضاء الأدبي. وعليه، يشكل الغموض ظاهرة فنية مجازية لافتة في أدبنا الحديث، وتقنية من تقنياته الحداثية؛ إذ أسرف الأدباء شعراءً وكتابًا في استخدامه؛ للتعبير عن تجاربهم، وأفكارهم، ومشاعرهم بطريقة غير مباشرة. فالغموض بمعناه العام هو ما يدل على ما يستتر خلف المعنى الظاهري مع اعتبار المعنى الظاهري مقصودًا أيضا. كما أن الغموض به شيء من الإيحاء والواقع، ومنهم من ربط الرمز بالغموض، وهذه سمة من سمات (الأدب الرمزي)؛ إذ إن "جمال اللغة والتعبير لا يتحققان في الأفكار الواضحة، والمتداولة؛ وإنما يكمن الجمال في بذل المجهود، والتأمل في تلك المعاني المختبئة وراء الكلمات". وحينما يكون الخطاب الأدبي صريحًا فإن الربط بين دلالاته والكشف عنها لا تحتاج إلى مهارة المتلقي في تأويلها، والبحث عن خفاياها، أما إذا كان الخطاب به غموضًا مضمرًا، فإنه هنا يعمل على مضاعفة يقظة المتلقي اتجاه النص؛ لأنه محمّل بالمعاني التي تطلب قارئًا يحفر في طبقاته ليصل بها إلى قراءة، ثم قراءة أخرى تجعل من النص نصًا قابلًا للقراءات المتعددة، والتأويلات اللانهائية. والغموض كونه مهمًّا في العملية النقدية للنصوص الأدبية فلا بد للناقد أن يكون متكئًا على ثالوث نقدي يتمثل بالتجارب المتعددة والتّناص أي أن يدرك النصوص الأدبية، ويدرك ما مدى مفارقة الأدب للغة اليومية، أو اللغة المألوفة العملية، أي أن يدرك مواضع الانزياح والغموض، ولا يشكل الغموض التباسًا على المتلقي باتساع ثقافاته الاجتماعية، والثقافية؛ لأنه قادر على تعيين الفرادة في الأسلوب، والتميز، والغموض لا يعني أن يكون مقرونًا بالحياة اليومية، والعملية، وهو يمتد إلى معرفة تميز الأديب عن أعماله السابقة، وقدرته على التصوير الجديد، والاستعارات الجديدة. وتختتم الباحثة قولها، في أن الغموض وسيلة لتأكيد مدى القدرة على التغيير والخلق والإبداع؛ إذ يجعل النص الأدبي مادة تبوح بما لم تستطع اللغة العادية البوح به؛ لتعبّر عن الموقف، والواقع الذي يصوره الأديب بما يلائم عصره، وبيئته من ملامح رمزية واقعية مفعمة بالأحاسيس، والانفعالات الكثيرة مثل: الثورية، والرومانسية، والدينية وغيرها.