2025.05.15
مقالات رأي

نؤجر رغم أنوفنا: شعار من قلب غزة


ليلة حامية الوطيس على حدود رفح الشمالية وسط أصوات إطلاق الصواريخ من الطائرات الحربية وقذائف الدبابات والزوارق البحرية، وتفجير المربعات السكنية بالمتفجرات في محور ميراج وضواحي رفح الغربية، وطنين الطائرات المسيّرة الذي لا يفارق سماء مخيمات النزوح في خان يونس، اجتمعت جميعها كعادتها حيث تتراكم الحروب على جسد الأرض في حضور رئيس أركان الشياطين. وأنا ليس ببعيد مع جموع النازحين المكلومين. كنت أقلب صفحات أبحث بين ثنايا الأخبار عن قبس أمل يضيء عتمة المشهد. وربما أبحث عن كلمات ترفع الأرواح في لحظات انكسار، وتعيد الأمل في قلوبٍ يكاد يطغى عليها الظلام.

وإذا بي ومن غير سابق إنذار، أسمع عبارةً استوقفتني ثم استوقفتني طويلاً: "يؤجر المرء رغم أنفه"، "يؤجر المرء رغم أنفه يا خال". أعادها مرة وربما مرتين، ابتسمت بمرارة وشعرت أن هذه الكلمات تُلخص بدقة حالنا في غزة؛ حيث نصبر على البلاء ونحتسب عند الله ما لا تحتمله الجبال. كانت هذه العبارة قد نطق بها ابن أخي علاء، يخاطب خاله المقيم في دولة الإمارات، في لحظة عفوية صادقة لكنها حملت في طياتها من الحكمة ما يفوق السنين. ففي مخيمات النزوح يحاول الناس يداووا جراحهم أن يصبروا بكل ما أوتوا من قوة، ويستعينون على البلاء بالدعاء، يرجون من الله ما لا يرجوه أعداؤهم، ويتمسكون بخيط الرجاء الرفيع حين تنقطع كل أسباب الأرض. هنا حيث الحجارة تبكي قبل البشر وحيث تتراكم الأحزان ولا يفتأ الأمل يشق طريقه بين الركام، تتعلم الأرواح أن تثق بأن الله أقرب مما نتصور وأنه لا يضيع أجر الصابرين، وأن لكل دمعة وكل تنهيدة وكل رجفة خوفٍ، موعداً مع الفرح وإن طال انتظاره.

وفي مشهد آخر أكثر وجعاً وتأثيراً، تهادت إلى مسامعي في ذات الجلسة رسالة صوتية وِجدت في خلفية أحد أجهزة الهواتف الخاصة بأحد أفراد الدفاع المدني الذين ارتقوا شهداء قبل شهر في شمال رفح. كان صوته هادئاً مطمئناً ثابتاً رغم الوجع ورغم اقتراب الرحيل، يلهج بالدعاء: أن يتقبله الله من الشهداء، ويرسل إلى أمه رسالةً ملؤها الحب والبر، يستحلفها بالله أن ترضى عنه، وأن تسامحه إن قصّر يوماً في حقها وهو لا يعلم أن أمه مثل كل أمهات الشهداء تدفن قلبها قبل أن تدفن جسده في الثرى. كانت كلماته ترتقي فوق أنين الحرب تهزّ القلب هزاً، وتخبر العالم كله دون مواربة: هنا شعبٌ يؤجر رغم أنفه يمضي إلى ربه راضياً مرضياً، يحمل قلبه عامراً بالرضا رغم كل ما يحيط به من القهر والخذلان. فلم يكن صوتاً عابراً بل كان شهادة حياة ونور إيمان، ورسالة وداع من رجل ممن ذكرهم الله في كتابه العزيز (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين) عرف أن الموت قد يدنو في أي لحظة، فسلّم أمره لربه راضياً محتسباً.

عندها أيقنت أن العبارة التي سمعتها لم تكن مجرد كلمات بل كانت دستور حياة نعيشه في غزة: نُؤجر رغم أنوفنا، نصبر رغم آلامنا، ونحيا رغم محاولات الموت الذي يطوقنا من كل الجهات. توقفت طويلاً أمام هذا المشهد وشعرت أن الكلمات تختصر حكاية أمة كاملة... فنؤجر رغم أنوفنا، لأننا نحمل بين ضلوعنا إرث الصابرين الأولين، ونكتب بدمائنا تاريخ شعب لا ينكسر... شعب أدرك أن رضا الله هو أعظم مكافأة، وأن الجراح إذا حملت في طياتها نية الصبر والاحتساب، صارت وسام فخر لا ينطفئ بريقه مهما طال الزمن. هنا يتجلى المعنى الحقيقي للصبر الجميل، حين يتحول الألم إلى عبادة، والاحتساب إلى طريقٍ معبّد بالجنة، والدموع إلى لآلئ تُزيّن جباه الصابرين. هنا حيث الصمود ليس خياراً أو ترفاً، بل قدرٌ يعيشه الناس كما يتنفسون، يعرف العالم أن النصر لا يُولد من فائض القوة، بل من قلوبٍ تؤمن أن وعد الله حق. هكذا نحن في غزة نحيا بالإيمان ونتنفس الصبر، ونمشي على درب محفوفٍ بالجراح واليقين معاً. نخطو خطواتنا بثباتٍ نحو المجهول، مستمدين قوتنا من الله، الذي لا يضيع أجر المحسنين. مستبشرين بعطاء الله، وملتمسين رحمةً خاصة لا يعلمها إلا هو، ولا نملك إلا أن نرفع أكفنا إلى السماء قائلين: "اللهم صلي وسلم وبارك على سيدنا محمد، اللهم اجعل صبرنا شاهداً لنا لا علينا، وبلغنا منازل الصابرين الصادقين، ولا تحرمنا أجر البلاء، ولا تفتنا بعده. وأكتب لنا في كل شهقة وجع وكل دمعة فراق وكل نظرة نحو السماء الملبدة برائحة البارود، رحمة خاصة لأهل غزة من رحماتك التسعة والتسعين التي اذخرتها لعبادك، فرحمتك وسعة السماوات والأرض. واجعل صبرنا عبادة، واجعل من هذه الجراح زاداً يرفعنا إليك في الدنيا ويقربنا لرضاك في الآخرة، ومن هذه المحن سبباً لبلوغ أعلى درجات الجنة في الآخرة وصلي وسلم على سيدنا محمد". آمين يا أرحم الراحمين.