في تقديري، لا يُتوقع أن تترك القرارات الأخيرة للإدارة الأمريكية بشأن فرض رسوم جمركية إضافية أثرًا مباشرًا على الاقتصاد الجزائري، وذلك لعدة أسباب موضوعية تستند إلى واقع المبادلات التجارية بين البلدين. أول هذه الأسباب أن حجم المبادلات الجزائرية–الأمريكية يُعد محدودًا نسبيًا، ولا يمثل نسبة كبيرة من إجمالي التجارة الخارجية للجزائر، ما يعني أن التأثر المباشر بهذه الرسوم سيكون هامشيًا ولا يرقى إلى مستوى الصدمة. ثانيًا، طبيعة الصادرات الجزائرية تغيّرت بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة، حيث أصبحت تشمل - بالإضافة إلى تلك المتعلقة بقطاع المحروقات - سلعًا مثل الحديد والإسمنت، وهي منتجات استراتيجية ومطلوبة في أسواق عالمية أخرى يمكن توجيهها بسهولة، مما يُضعف من تأثير هذه الإجراءات على قدرتنا التصديرية.
كما أن الجانب المقابل في العلاقة التجارية، أي السوق الأمريكية، يخضع أيضًا لرسوم جمركية مرتفعة تفرضها الجزائر على الواردات القادمة من الولايات المتحدة، وهو ما يخلق أساسًا غير متوازن في طبيعة التبادل التجاري بين البلدين. بناءً على ذلك، فإن أي تعديل في السياسات الأمريكية لن يكون له انعكاس قوي على مستوى المبادلات الثنائية، لأن هذه المبادلات نفسها ليست مبنية على قاعدة عريضة أو شراكة تجارية استراتيجية معمقة.
لكن الأهم من ذلك، أن السياق التجاري العالمي المتغير – بما فيه من رسوم وقيود ومراجعات للاتفاقيات – يجب أن يكون دافعًا حقيقيًا للجزائر كي تسرّع من خطى الإصلاح الاقتصادي وتوجّه سياساتها نحو التنوع. فمواصلة الاعتماد على تصدير المواد الأولية وحدها يُبقي الاقتصاد الوطني في حالة تبعية غير آمنة لتقلبات الأسواق الخارجية، ويجعله عرضة للتأثر بأية تغييرات سياسية أو مالية خارجية لا يمكن التحكم فيها.
إن اللحظة الراهنة تفرض علينا أن نعيد ترتيب أولوياتنا، عبر دعم الاستثمار في القطاعات المنتجة التي تخلق قيمة مضافة فعلية، وخصوصًا تلك التي ترتبط بالصناعة والفلاحة والخدمات، مع التركيز على المؤسسات الصغيرة والمتوسطة التي تمتلك قابلية أكبر للتكيف والولوج إلى الأسواق الخارجية. بهذه الطريقة، يمكن للاقتصاد الجزائري أن يعيد تموقعه بطريقة مرنة في خارطة التجارة العالمية التي تتغير باستمرار.
كل هذا يعيدنا إلى سؤال جوهري: ما الذي يمكن فعله لبناء منظومة اقتصادية أكثر مرونة واستقلالًا، وأكثر قدرة على التكيف مع المستجدات العالمية؟ في السياق الجزائري، لا يمكن أن يكتمل الحديث عن التحول الاقتصادي دون التطرق إلى ريادة الأعمال كمحرك بديل وقادر على خلق ديناميكية إنتاجية جديدة. فالمقاولاتية أصبحت ضرورة في ظل تقلّص هوامش التحرك التقليدية.
وفي خضمّ هذه التحديات والتغيرات، تبرز ريادة الأعمال كواحدة من أبرز المسارات التي يمكن للجزائر أن تراهن عليها لتقوية قاعدتها الاقتصادية. لكن الرهان وحده لا يكفي، اذ يحتاج إلى أدوات حقيقية وبيئة حاضنة ناضجة. وهنا تبدأ الإشكالية الجوهرية: هل البنية الحالية لريادة الأعمال في الجزائر قادرة على لعب هذا الدور؟ وهل ما تحقق إلى اليوم يُعد كافيًا لتفعيل اقتصاد ريادي حقيقي؟
اقتصاد ريادي في طور التشكل... لكنه يحتاج إلى أدوات أكثر نجاعة
رغم التحسن التدريجي في البيئة القانونية والدعائية لريادة الأعمال في الجزائر، إلا أن واقع المقاولاتية لا يزال محصورًا في مرحلة التأسيس المؤسساتي، ولم يتحول بعد إلى عنصر فعلي داخل بنية الاقتصاد الوطني. فالدولة قامت بخطوات ملموسة في مجال تشجيع المبادرة الفردية، من خلال إدماج مفاهيم ريادة الأعمال في المناهج الجامعية، وإطلاق الحاضنات والمنصات الحكومية المختصة، مما يدل على وجود وعي رسمي متزايد بأهمية هذا التوجه.
لكن هذه المبادرات لا تزال إلى حد الآن في إطار البناء القاعدي، حيث لم تصل إلى مستوى التأثير الاقتصادي الملموس. التحدي الحقيقي اليوم يتمثل في إنشاء الآليات وكيفية توجيهها نحو تحقيق نتائج حقيقية على الأرض، من خلال دعم المشاريع الناشئة لكي تتحول إلى مؤسسات قائمة تخلق مناصب عمل وتساهم في الناتج المحلي الإجمالي.
لكي تصبح ريادة الأعمال أداة فعالة ومؤثرة في التنمية الاقتصادية، يجب العمل بالتوازي على ثلاثة محاور متكاملة. أولًا، تحسين مناخ الأعمال من خلال تقليص التعقيد الإداري الذي يواجه المقاول في بداية مساره، لأن العقبات البيروقراطية تستهلك من جهده ووقته أكثر مما تستهلكه المنافسة السوقية. ثانيًا، ربط المشاريع الريادية بالفرص الحقيقية الموجودة في السوق، من خلال تشجيع المقاولين على الاستثمار في القطاعات الواعدة مثل الفلاحة الذكية، الاقتصاد الأخضر، والصناعات الثقافية والرقمية. وهذا الربط يتطلب دراسات سوق دقيقة ومرافقة استراتيجية، لا مجرد تمويل أو تحفيز عابر. ثالثًا، يجب دمج منظومة الجامعة والبحث العلمي في الدورة الاقتصادية، لأن الابتكار والتكنولوجيا يمثلان عصب أي نشاط مقاولاتي حديث، ولا يمكن فصلهما عن هذا المسار.
ورغم أن الطريق لا يزال طويلًا، فإن المسار واضح، وهناك مؤشرات مشجعة على أن البيئة الجزائرية بدأت تتهيأ تدريجيًا لاحتضان اقتصاد ريادي حقيقي. فالخطى وإن كانت بطيئة، إلا أنها تسير في الاتجاه الصحيح نحو بناء مقاولاتية قوية ومؤثرة في الاقتصاد الوطني.
لكن نجاح المبادرات الريادية لا يتوقف عند مرحلة التأسيس أو توفير الحوافز الأولية، وإنما يبدأ التحدي الحقيقي عندما يخطو المشروع خطواته الأولى في السوق ويُواجه الواقع العملي بكل تعقيداته. فالتحول من فكرة إلى مؤسسة منتجة ومستقرة يتطلب أكثر من مجرد تشجيع رمزي أو قانوني، ويحتاج إلى منظومة متكاملة من المرافقة والدعم المستمر.
بعد التأسيس... تحديات الاستدامة وغياب المرافقة في قلب المشهد
غالبًا ما يُختزل الحديث عن الصعوبات التي تواجه المقاولين الشباب في مرحلة ما قبل التأسيس، لكن الواقع يشير إلى أن التحديات الكبرى تبدأ بعد التأسيس مباشرة، عندما يدخل المشروع مرحلة المواجهة الحقيقية مع السوق، ويُطالب صاحبه بتحقيق الاستدامة. في هذه المرحلة تحديدًا، يعاني عدد كبير من المقاولين من غياب منظومة مرافقة فعالة، مما يؤدي إلى توقف نسبة كبيرة من المشاريع خلال السنوات الأولى من انطلاقها.
من أبرز العراقيل التي يواجهها الشباب المقاول بعد التأسيس، ضعف التأطير التقني والتسويقي الذي يُفترض أن يواكب المشروع في أولى خطواته نحو التوسع. في غياب هذا النوع من الدعم، يبقى صاحب المشروع متخبطًا في تحديات يومية دون توجيه واضح، ما يؤدي إلى إهدار الموارد وتعطيل النمو. يضاف إلى ذلك ضعف الثقافة المالية لدى فئة واسعة من الشباب، مما يؤدي إلى مشاكل في تسيير الميزانيات، وفهم التدفقات النقدية، والتعامل مع التزامات المشروع بطريقة عقلانية.
تواجه المؤسسات الناشئة أيضًا صعوبات في اختراق السوق، نتيجة احتكار بعض الفاعلين القدامى للمجال، ووجود منطق غير شفاف في توزيع الفرص، حيث تبقى الكفاءة في بعض الأحيان أقل تأثيرًا من العلاقات الشخصية. كما تفتقر منظومة ريادة الأعمال في الجزائر إلى شبكات دعم بيئي متكاملة (Ecosystem Networking)، تقدم التشبيك، والتوجيه، والدعم غير المالي الذي يُعتبر أساسيًا في بناء الثقة وتعزيز فرص النجاح.
ولمواجهة هذا الواقع، أقترح إنشاء خلايا مرافقة محلية، على مستوى البلديات، تُعنى بتتبع المشاريع بعد التأسيس، وتقديم الاستشارات التقنية والتجارية اللازمة. كما يجب ربط التمويل بالأداء، عبر صرف القروض والدعم بشكل مرحلي بناءً على مؤشرات إنجاز واقعية، لضمان الاستخدام الفعّال للتمويل. ومن المفيد كذلك تخصيص نسب من الطلبيات العمومية للمؤسسات الناشئة، مع تبسيط دفاتر الشروط لتتلاءم مع طبيعة هذه المشاريع الفتية. ولا يجب إغفال أهمية تنويع أدوات التمويل من خلال تشجيع رأس المال المخاطر، والصناديق التشاركية التي تمنح تمويلًا أكثر مرونة واستجابة لمتطلبات الابتكار.