"محمّد" اسمٌ ينادي به الجزائري جزائريًّا آخر لا يعرفه، ليسأله عن حاجةٍ ما، وقد يناديه أيضا: أخي أو خُويَا.. فلا يشعر الجزائري بأنه غريب أينما كان في ربوع الجزائر، فكل الجزائريين إخوته، ومن حقّه عليهم أن يطلب منهم مساعدته بمجرّد أن ينادي على أحدهم: مُحمّد. وقد غنّى المطرب الجزائري المرحوم "عبد الرحمان عزيز" نشيدًا هنّأ فيه الشعب الجزائري باستقلال الجزائر واعتبر فيه أن كل جزائريٍّ هو "محمد"، حينما قال في مطلع نشيده: "أمُحمَّد مبروك عليك -- الجزائر رجعت ليك".
"محمّد"، كلمة بسيطة ولكن مدلولها عظيمٌ جدًّا يؤكّد على عمق وقوّة تلاحم الجزائريين على قلب مُحمّديٍّ واحد، وقد تنبّه المعجمي السوري "هشام النحّاس" إلى هذا الأمر فأورده في دراسته حول "الفِصاح في العاميّة الجزائرية". و"محمّد" الجزائري ينتمي إلى ثقافات شعبية متنوّعة، ويتكلّم لهجات عاميّة عديدة، ولكن جميعها تلتقي في ثقافة واحدة تعتبر أنّ كل جزائريٍّ هو "محمد". ولعل هذا ما يُميّز الثقافة الجزائرية عن غيرها من الثقافات الأخرى..
واللغة العربية الفصحى تجمع الشعوب العربية، فهي "الوحدة اللسانية" وأداة العلم والفكر، بينما اللهجات العاميّة في مختلف أقطار العالم العربي على تنوّعها واختلافها تُثري وتضيف جماليات أخرى في التعبير والتخيّل.. ولا يجب أن تكون مدخلا إلى الفُرقة أو لضرب العربية الفصحى كما سعى إلى ذلك المُستعمرون والمستشرقون ومن والاهم من بعض المثقفين العرب الذين طالبوا بتغليب العاميّة على الفصحى في مجالات التعليم والإعلام والأدب. ومن أهم المعاجم التي اهتمّت بردّ المفردات العاميّة إلى أصولها في العربية الفصحى "معجمُ فِصاح العاميّة"، الذي ظهرت طبعتُه الأولى في لبنان عام 1997، للمعجمي السوري "هشام النّحاس". وقبل إصدار هذا المعجم بعشر سنوات، نشر صاحبه دراسةً في المجلة الفصلية "التراث العربي" (أفريل 1987)، تحت عنوان: "قبس في اللغة: فِصاح العامّة.. الفِصاح في العاميّة الجزائرية".
من خلال الدراسة، نستشفّ أن "النحّاس" زار الجزائر وتنقّل بين بعض مُدنها، ثم صاغ محاورة في سوق الخُضار وظّف فيها بعض المفردات من قاموس العاميّة الجزائرية، ثم بنى عليها دراسته وتتبّع تلك المفردات باحثًا عن أصولها في اللغة العربية الفصحى.
لم يتعرّض "النحّاس" إلى اختلاف القواميس في العاميّة الجزائرية من منطقة إلى أخرى، لا سيما فيما يتعلّق ببعض المفردات أو العبارات التي يتمّ تداولها في منطقةٍ بينما تُعتبر في منطقةٍ أخرى من "المحظورات" على اللسان العامي، ولعل هذا الأمر من أخطر الأمور التي قد يقع فيها الجزائري الذي لا يعرف "الخصوصية" اللغوية لكل منطقة!
نُشير إلى أن المجلس الأعلى للّغة العربيّة في الجزائر أصدر مجموعة من الأعمال القيّمة حول العاميّة الجزائرية وما يتّصل بها من موضوعات في الثقافة الشعبية الجزائرية، من ذلك: "معجم العامِّيَّة الجزائريَّة: معجم عربي لَهَجيٌّ في أُصولِ العامّيَّة الجزائريَّة وجُذورِها"، وأعمال أخرى كثيرة.
كما نُشير إلى أن بعض الجزائريين تنبّهوا إلى ضرورة توثيق العبارات العاميّة الجزائرية فأطلقوا المدوّنات الإلكترونية في هذا المجال، ومنهم مَن بذل جهودًا كبيرة ولكنها لم تتواصل، وقد نعود لاستعراض بعضها في أعداد قادمة.. ولعل جريدة "الأيام نيوز" بإعادة نشرها لدراسة "هشام النحّاس" تحفّز المهتمّين بالكتابة "التوثيقية" في مجال العاميّة الجزائرية، لا سيما فيما يتعلّق بالأمثال والحِكم والعبارات الشائعة المتداولة بين الناس، فالأمر يحتاج إلى تظافر الجهود من مختلف مناطق الجزائر. وفيما يلي، نترك القارئ مع رؤية مُعجميٍّ سوريٍّ للعاميّة الجزائرية..
تأمّلات لغوية في نص محاورة سوق الخضراوات
السّومة: القيمة أو السِّعر أو التَّعريفة..
السّومة لفظة فصيحة منتشرة على ألسنة الناس في العديد من العامّيات في أقطار الشمال الإفريقي، وخصوصًا في الجزائر، حيث يستعملها الناس بالمعنى الذي وردت عليه في كُتب اللغة، أي بمعنى الثمن، أو مثلما نعني في الشرق بالتعريفة أو التسعيرة أو السعر، مع أن السّومة أصحُّ وأدقّ تعبيرًا، ففي "الوسيط" (معجم المجمع في القاهرة):
- التعريفة قائمة تحدّد أسعار السلع وأجور العمل، أو رسوم النقل.
ـ وفيه أيضا، أسعر: النار والحرب: سعَرَهما أو سعَّرَهما، وأسعر الشيء: قدَّر سعره، ويقال: "أسعر الأمير للناس"..
- وكذلك فيه، السّومة: القيمة، يُقال: إنه لَغالي السومة.
وقرأتُ عن التّعرفة في كتاب "تاريخ الحضارة" (للأول الثانوي للعام 1986- 1987، سورية من تأليف عبد الرحمن بدر الدين وآخرين) أن عرب الأندلس كانوا يستوفون ضرائب العشور، وهي الضرائب التي تدفع على بضائع التجار إذا انتقلوا بها من بلادهم إلى بلاد أخرى، وهي تقابل "الجمارك" اليوم، فتدفعها لهم السفن المارّة في مضيق "جبل طارق"، وكانت تُدفع في مدينة "طريف" وقد سمّاها الفرنجة (Tarifa)، ومنها: التعرفة. (وفي المعجم "الوسيط" ذاته لا تجد في الفعل "عرف" شيئا يتعلق بهذا المعنى).
ومن الملاحظ أن فئات من الكُتّاب والمثقفين المعاصرين يبتعدون عن استخدام عبارات دارجة على ألسنة العامّة أو يستبدلون بها عبارات أُخر يظنونها أعلى كعبًا في الفصاحة.
والسّومة من الأمثلة على ذلك، فهم يتوهّمون أنها من الدخيل المأخوذ من اللغة الفرنسية (La Somme)، ويساعد على هذا الوهم أن نُطقها في اللاتينية قريب من نطقها في العاميّة الجزائرية، ولكن معناها في الفرنسية واللاتينية (نتيجة حساب يتألّف من عدّة كميّات)، فهو لا ينطبق بدقة تامة على المعنى المقصود بها على ألسنة الجزائريين الذين ما زالوا يستخدمونها بالمعنى الذي تحدثت عنه كتبنا اللغوية القديمة التي أُلِّفت قبل أن يقع انفصال الفرنسية عن أمّها اللاتينية.
ونستطيع أن نفتح أيّ معجم قديم، ففي معجم "ابن منظور" (لسان العرب).. وإنه لَغالي السّومة والسذِيمة إذا كان يغلي السَّوْم.. والسَّوْم عرض السلعة على البيع، ويقال: سُمتُ فلانًا بسلعتي، أسُوم بها سومًا، وساومتُ واستَمْتُ بها وعليها غاليتُ، واستمته إيّاها، وسامَنِيها: ذكر لي سومها. واستمتُ عليه بسلعتي استيامًا، إذا كنتُ أنت تذكر ثمنها. ويقال: استام منِّي بسلعتي استيامًا، إذا كان هو العارض عليك الثمن. وسامني الرجل بسلعته سومًا، وذلك حين يذكر لك هو ثمنها، والاسم من جميع ذلك: السُّومة والسِّيمة.
وليس من الضروري أن ننقل ممّا ورد في المعجمات القديمة الأخرى في هذه المادة فنقع في التكرار والإعادة، ولكننا يمكن أن نضيف من قول "الفيروز آبادي" في (القاموس المحيط) و"الزمخشري" في (أساس البلاغة): (السّوم في المُبايعة كالسَّوام والسُّومة والسُّومه).
ولكن "المنجد" (معجم لويس معلوف الرائج في عصرنا هذا) أهمل هـــذا المعنى بالذات من معاني "السُّومة"، مكتفيًّا عنه بذكر معانٍ أُخر مما يتردد في النصوص القديمة، فلا أدري أساعد بذلك على انتشار الوهم بأنها من الدخيل؟!
الخَوخ: الدُّرّاقِن. أرجو ألا ينصرف ذهن القارىء عندنا إلى ما يُسمّونه في الشام خطأ بـ "الخوخ"، فذاك هو "البرقوق" الذي يكني عنه الجزائريون فيُسمّونه "عين البقرة". وفي الجزائر كما في مصر، يُسمّون بالخوخ ما نسمّيه في الشام: الدُّرّاق، والتسميتان صحيحتان، وليرجع القارىء معي إلى ما كتبه "مصطفى الشهابي"، رئيس مجمع اللغة العربية، في (معجم المصطلحات الزراعية بالفرنسية والعربية. طبعة القاهرة، 1957، صفحة 490): دُرَّاقنة: خوخة (Peche)، الأولى في الشام والثانية في مصر، وكلاهما صحيح يدلّ على هذه الثمرة. وعثرت في "شرح أسماء العقار" (مُؤلِّفه موسى بن ميمون القرطبي، منذ ثمانية قرون) على ذِكر "الدراقن الزهري"، وفي "الغوطة" – في سوريا - اليوم ضربٌ (نوع) من الدراقن بهذا الاسم.
خوخ دراقن. دراقن. فرسك (Pecher) الدراقن، والفرسك من اليونانية. والخوخ تستعمل في مصر، والدراقن في الشام، والأسماء الأربعة صحيحة تدلّ لغويًّا على هذا الشجر، أما الخوخ في الشام فيطلقونها اليوم غلطًا على الشجر المُسمّى (Prunier). وفي كتاب "المُخصّص": الخوخ والفرسك والدراقن واحد. قلت: "وهي تدل على هذا الشجر المثمر المشهور من الفصيلة الوردية وفيه ضروب".
وتجد في صفحة 539 من المعجم نفسه: "إجّاص. برقوق (Prunier). الإجّاص في المعجمات الأصلية وفي كتب الزراعة القديمة هو هذا الشجر، وغلط أصحاب بعض المعجمات الحديثة فأطلقوا الإجّاص على الكمثري (Poir)، جريًّا مع العامة في الشام، والشاميّون يُسمّون هذا الشجر الذي نتكلم عليه خوخًا، وهو غلط".
أما "عين البقرة" فيذكر "الشهابي" (صفحة 484) أنها في عاميّة الدماشقة "زهرة المرغريت" الصغيرة، ويُسمّونها في دمشق أيضا: "شاش القاضي".
- يكنون عن "الكرز" بـ "حَبّ الملوك".
ـ الدّلّاع: ذكره "الشهابي" في "معجم الألفاظ الزراعية" (صفحة 488)، فقال: "بطّيخ أخضر. بطيخ شامي. بطيخ هندي. دلّاع. خربز. حبحب (Pasteque). بطيخ أحمر جنوبي الشام. جبس شمالي الشام. رقِّي في العراق نسبة إلى الرقّة. بطيخ في مصر. والخربز معربة قديمًا من الفارسية. والجبس مُحرّفة من "زيش" كانت تطلق عليه في الشام قديمًا وعلى ما ذكره عبد اللطيف البغدادي والنويري وغيرهما، والاسم الفرنسي مُحرّف من كلمة "بطيخ العربية". نبات عشبي حولي من الفصيلة القرعية يزرع لثمره".
وأضيف أن البطيخ الأصفر أو الشمّام أو القاوون، وهذه تركية كما ذكر "الشهابي" أو (Melon) بالفرنسية، يُسمّيه الجزائريون "لمرحوم" وهم يضحكون مدركين ما في هذه التسمية من نكتة بلاغية تشير إلى لونه.
- القارس أو القارص: اللّاذع وقد يُكنى به عن الحامض.
- اللِّيم: الليمون، وذكر "الشهابي" في "معجم المصطلحات الزراعية" (صفحة 164) أن "نون" (حرف) ليمون قد تسقط. وكذلك في كتاب "فضائل الأندلس وأهلها" سُمّي: اللّيم، ولكن ذُكر معه الليمون الذي يجوز أن يكونوا قصدوا به البرتقال كما في بعض اللهجات الدارجة اليوم.
والمعاجم القديمة تنصّ على إسقاط حرف "نون" من كلمة "الليمون". ويقول "الفيومي" في "المصباح المنير": الليمون: وزان زيتون، ثمرٌ معروف، مُعرّب، والواو والنون زائدتان، مثل الزيتون، وبعضهم يحذف النون ويقول: ليمو. وقد ورد في رسالة "محمد بن إسماعيل الشقندي" في وصف إشبيلية: "... والأشجار المتكاثفة كالنارنج واللِّيم والليمون". ولا تنس أن العامة من عرب الأندلس قد غدا كثيرون منهم من عامة الجزائر وأقطار المغرب العربي الأخرى.
- القرع: في صفحة 202 من "معجم المصطلحات الزراعية" لـ "الشهابي": قرع (Cucurbita Courge)، جنس القرع و"الكوسى" وغيرهما. وفي صفحة 191 من المعجم نفسه: قرع دبّاء. يقطين (Courge). اليقطين إما من الآرامية أو من العبرية. جنس نباتات زراعية من الفصيلة القرعية فيه أنواع تزرع لثمارها وأصناف تزرع للتزيين.
قرعٌ كبير: هو هو نوع القرع المعروف وفيه ضروب. وما يُسمّى القرع العسلي في مصر ضروبٌ من هذا النوع، ومن النوع المِسكي، لرائحة ثماره..
وفي صفحة 192 من معجم "الشهابي": "قريع: تصغير قرع، نوع فيه قرع صغار ومنها الكوسا في مصر والشام وهي عامية، وبالفرنسية (Courgette).
وكلمة أخرى من فصاح العامة في شرقي الجزائر أتذكّرها بمناسبة القرع، فقد كنا حين شراء قرع (الكوسى) لا نقول لبائعه الجزائري الذي يمنعنا من الخيرة بين أكوازها: إننا نبغي أن نحشوها، حتى لا يصرخ فينا: أتستسخرون بي؟ فالحشوة في اللغة، كما في "لسان العرب" لـ "ابن منظور"، مثلا: "الحُشوة موضع الطعام وفيه الأحشاء والأقصاب وأسفل مواضع الطعام الذي يؤدي إلى المذهب: المَحشاة، بنصب الميم، والجمع المحاشي، وفي الحديث: محاشي النساء حرام".