2025.06.12
\
حوارات

"تقلبات السياسة الأمريكية تعجّل باهتزاز حلف الناتو"


حاوره طاهر مولود
25 ماي 2025

إن الهيكل الأمني عبر الأطلسي، القائم على حلف شمال الأطلسي (الناتو) والاتحاد الأوروبي، يعد ضروريًا لاستقرار أوروبا وأمريكا الشمالية، لكنه يواجه تحديات متزايدة في التعامل مع التهديدات القادمة من روسيا والصين. هذا ما تراه الباحثة ليا بيريمارتي من جامعة كيبك في مونتريال (كندا).

تُركز الباحثة، المتخصصة في القانون الدولي العام واستخدام القوة في العلاقات الدولية، على أن "تعزيز الناتو لدفاعات أوروبا الشرقية ومساهماته المالية في العمليات العسكرية بأوكرانيا يظهر مدى استجابته لتلك التهديدات"، لكنها تشير إلى أن "اعتماد الاتحاد الأوروبي على القيادة الأمريكية في حلف الناتو يبرز، حسب رأيها، نقاط ضعف مستمرة".

وتؤكد بيريمارتي في تحليلها لتطور العلاقات داخل الهيكل الأمني الأوروبي أن "فرنسا أخذت زمام المبادرة بالدعوة إلى السيادة الأوروبية وزيادة التعاون بين الناتو والاتحاد الأوروبي". أما كندا، فالتزاماتها تعكس تركيز إمكاناتها الاستراتيجية بشكل رئيسي على منطقة القطب الشمالي، على الرغم من أوجه القصور في دفاعها الوطني. وتضيف الباحثة أن "المخاوف لا تزال قائمة بشأن تماسك الناتو، وموثوقية الدعم الأمريكي، واستعداد أوروبا لتحمل مسؤولية أكبر في الأمن القاري".

ومع احتمال مواجهة حلف الناتو وأوروبا أخطر أزمة "حرب مباشرة" منذ الحرب العالمية الثانية، تبرز حسبها التساؤلات حول الخطوة المقبلة للأمن عبر الأطلسي.

وتعرف الباحثة "الهيكل الأمني عبر الأطلسي" باعتباره "شبكة معقدة من التحالفات الدبلوماسية والدفاعية، على رأسها الناتو والاتحاد الأوروبي"، تضمن الأمن الجماعي والاستقرار في أوروبا وأمريكا الشمالية، عبر ردع تهديدات قوى متعارضة مثل روسيا والصين. وترى أن هذا الهيكل الدفاعي الأوروبي-الأطلسي "يشكل أساسًا استراتيجيًا ومنصة لتعزيز الاستقرار الإقليمي"، مما يمكن الدول الأعضاء من "تنفيذ مبادرات دفاعية تعاونية والدفاع عن القيم الديمقراطية المشتركة".

وفي السنوات الأخيرة، ازدادت أهمية هذا الهيكل الأمني، إذ يعتبر الناتو أن "الحرب التي تشنها روسيا على أوكرانيا هي التهديد الأخطر والأكثر إلحاحًا لأوروبا". وتوضح أن هذه القضية "تتصدر جدول أعمال الناتو، في ظل محاولات روسيا مواصلة توسعها غربًا". كما ترتبط الصراعات في رأي بيريمارتي "بأمن عالمي أوسع، بما يشمل صعود الصين، وساحة القطب الشمالي الجيوسياسية الجديدة، والحاجة إلى التصدي للتهديد الروسي هناك".

وفي ظل ما تراه أوروبا وقياداتها "انتهاكات روسية متزايدة للنظام الدولي، والتهديد المستمر باستخدام الأسلحة النووية"، توضح الباحثة أن "الناتو حدّث استراتيجياته العسكرية، وعزز وجوده في أوروبا الشرقية بنشر تشكيلات قتالية جاهزة". كما كثفت المنظمة مهام المراقبة الجوية وقواتها البحرية في مياه البلطيق والبحر الأبيض المتوسط.

ورغم وصف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للناتو عام 2019 بـ"الميت دماغيًا"، أعادت الحرب في أوكرانيا للناتو أهميته لدى القادة الأوروبيين، وخصوصًا الفرنسيين. وأدى الصراع أيضًا، بحسب بيريمارتي، إلى انضمام دول محايدة تقليديًا مثل السويد وفنلندا إلى الحلف، مضيفة بذلك "منطقة عازلة أمنية بطول 1300 كيلومتر على الحدود الفنلندية الروسية".

وتشير الباحثة إلى تحول جيوسياسي مهم، يتمثل في "تراجع أهمية سياسة الحياد منذ الحرب في أوكرانيا"، مؤكدًة أن "مبادئ الحياد وعدم التدخل الدبلوماسية التقليدية أصبحت بالية بشكل متزايد في أوروبا الحديثة".

من جهته، يواصل الاتحاد الأوروبي "لعب الدور الجيوسياسي الرئيسي في الحرب الروسية-الأوكرانية". وبرغم افتقاره إلى قوة استراتيجية كاملة، يقدم الاتحاد كتجمع سياسي "مساهمة مالية كبيرة في التدريب العسكري في أوكرانيا، متجاوزًا حتى الولايات المتحدة".

وتلفت الباحثة إلى تحديات غير عسكرية تواجه الاتحاد الأوروبي، أهمها "اعتماده الكبير على الغاز الروسي اقتصاديًا وطاقويًا"، مما يحد من "مساحة المناورة الأوروبية ويجعل فرض حظر أو عقوبات شاملة على روسيا أمرًا مستحيلاً". ومنذ اندلاع الحرب، تم اتخاذ خطوات للحد من هذه النقاط الضعيفة، لكن استقلال أوروبا في مجال الطاقة "سيحتاج إلى وقت وتوافق سياسي كبير بين الدول الأعضاء، إذا تحقق ذلك أصلاً".

وترى بيريمارتي أن الناتو والاتحاد الأوروبي استجابا للحرب في أوكرانيا بشكل أكبر مما توقعه الرئيس الروسي بوتين، رغم إدراكهما للتحديات التي تفرضها المنافسة الاستراتيجية المكثفة حاليًا.

وتشير إلى "تكامل" الناتو والاتحاد الأوروبي، ونظرة القادة الأوروبيين إلى ضرورة وجود دفاع أوروبي أقوى وأكثر فاعلية، يساهم بفاعلية في الأمن العالمي وعبر الأطلسي، ويكمل عمل الناتو مع ضمان قابلية التشغيل البيني بين القارات.

وعلى الرغم من الاستجابة القوية، تؤكد الباحثة أن "دور الولايات المتحدة في ضمان الأمن الأوروبي على المدى البعيد أصبح غير مؤكد". خلال رئاسة ترامب الأولى، تم التشكيك علنًا في التزام الولايات المتحدة تجاه الناتو، مع تركيز الانتقادات على فشل الدول الأوروبية في تحقيق هدف الإنفاق الدفاعي بنسبة 2%، وهو قلق سبق وظهر خلال إدارة أوباما.

وفي السياق ذاته، حققت 23 دولة من أعضاء الناتو الـ32 هذا الهدف، فيما استطاعت المملكة المتحدة وألمانيا والولايات المتحدة، التي تمثل معًا حوالي 85% من إنفاق الناتو الدفاعي، الالتزام به منذ عام 2024. ورغم ذلك، تستمر المناقشات حول "تقاسم أعباء الناتو" في الخطاب السياسي الأمريكي، مع خطر تعميق الانقسامات داخل الحلف.

وتدعو الاستراتيجية الأمنية الأوروبية الجديدة، حسب بيريمارتي، إلى تركيز استثمارات الناتو على مجالات استراتيجية مثل الأمن السيبراني، مراقبة القطب الشمالي، والتصدي للحروب الهجينة، إلى جانب "تعزيز ثقافة المسؤولية المشتركة داخل الحلف، عبر تحالف متوازن تتوافق فيه مساهمات الدول مع قدراتها العسكرية".

وتؤكد الباحثة أن "تعزيز الشراكات بين دول الناتو والحلفاء الآخرين يساهم في حماية الحلف من تقلبات السياسة الخارجية الأمريكية، ويضمن بنية أمنية قوية وأكثر استقلالية عبر الأطلسي، بعيدة عن التأثر بالتغيرات السياسية في واشنطن".

وتضيف بيريمارتي أن "من الضروري في المرحلة القادمة تطوير آليات تواصل أفضل بين الاتحاد الأوروبي والناتو، وتعزيز التنسيق المشترك في السياسات الدفاعية والاستراتيجية، لضمان استجابة متماسكة وفعالة تجاه التهديدات الجديدة". وترى أن "التعاون الأمني يجب أن يشمل أيضًا تعزيز القدرات التكنولوجية الحديثة، كالاستخبارات السيبرانية والذكاء الاصطناعي، للحفاظ على التفوق الأمني في ظل تصاعد التحديات". وبحسبها، "التوازن بين الاستقلالية الأوروبية والاعتماد على الشراكة عبر الأطلسي سيظل عاملًا حاسمًا في رسم مستقبل الأمن القاري، ولذا فإن الاستراتيجية يجب أن تكون مرنة وقابلة للتكيف مع المتغيرات العالمية".

وتخلص الباحثة ليا بيريمارتي إلى أن الهيكل الأمني عبر الأطلسي يواجه تحديات جوهرية تتطلب إعادة تقييم شاملة لدور الغرب في ضمان استقرار أوروبا وأمريكا الشمالية. ففي ظل التوترات المتصاعدة والتهديدات المتجددة، لا يكفي الاعتماد التقليدي على الولايات المتحدة كقائد وحيد، بل ينبغي تعزيز التعاون الأوروبي الداخلي والاعتماد على الذات الدفاعي. وترى بيريمارتي أن الوقت قد حان لتجاوز أطر التحالفات القديمة وتبني استراتيجيات جديدة توازن بين المصالح الوطنية والأمن الجماعي، مع التأكيد على ضرورة مرونة السياسة الأمنية لمواجهة متغيرات الساحة الدولية المتسارعة، خصوصًا في ظل تصاعد النفوذ الروسي والصيني.