في القرن الحادي والعشرين، حيث يفاخر العالم بتقنياته الخارقة وقدرته على إيصال الطرود إلى أقاصي الأرض عبر طائرات مسيّرة، يُترك شعب بأكمله، يفوق عدده مليوني إنسان، ليواجه أقسى أشكال البربرية الحديثة: الجوع، العطش، والموت المتعمد برصاصة في الرأس تصيب كل من يسعى إلى شربة ماء أو كيس طحين. ففي غزة، لا تُسحق الأجساد فقط تحت القصف، بل تُسحق الكرامة الإنسانية تحت وطأة صمت دولي مدوٍّ، لا يقلّ إجراماً عن الصواريخ التي تنهال على المدنيين.
لا تكتفي "إسرائيل" باستخدام آلة القتل ضد الفلسطينيين، بل تُخضعهم لحصار ممنهج، وتستثمر في جوعهم وعطشهم كأدوات حرب باردة وساخنة معاً. تُحوّل طوابير الانتظار على المساعدات إلى أهداف عسكرية، وتستخدم النداء الإنساني ككمين قاتل. وبينما تستمر آلة الدمار في اجتياح حياة الناس في غزة، لا تزال "إسرائيل"، بمفارقة فجّة، تُقدَّم في المحافل الغربية كنموذج للديمقراطية، متناسية أن الديمقراطية التي تُروّى بالدماء ليست إلا قناعًا لسلطة استعمارية عنصرية.
إنّ ما يجري في غزة اليوم يتجاوز تعريف العدوان العسكري، ويتخطّى حدود الجرائم التقليدية. إنها حرب إبادة بطيئة ومعلنة، تُنفذ بوسائل متعددة: القصف، الحصار، التجويع، العطش، التهجير، والمجازر الجماعية. وهي تجري على مرأى ومسمع عالمٍ يُبرّر، ويُماطل، ويصمت. وما بين فصول المجازر اليومية، تسقط آخر أوراق التوت عن منظومة القيم الدولية التي لم تعد تقيم وزنًا للحق ولا للضحايا، ما دامت "إسرائيل" هي الجلاد.
في آخر حصيلة مروعة أعلنت عنها وزارة الصحة الفلسطينية، ارتفع عدد الشهداء إلى 54,418، فيما بلغ عدد الجرحى 124,190، أرقام مهولة لا تشمل آلاف الضحايا الذين ما زالوا تحت الأنقاض، محرومين من جهود الإنقاذ بسبب الحصار والتدمير الممنهج. ومنذ استئناف العدوان في 18 مارس، سقط أكثر من 4,149 شهيداً و12,149 جريحاً، في ظل انتهاكات متواصلة لبنود وقف إطلاق النار المعلن في يناير، والذي لم يلتزم به الاحتلال يومًا.
ولكن كما لو أن آلة القتل لا تكفي، ظهر شبح آخر يهدد حياة الفلسطينيين في القطاع: العطش. فقد دقّت بلدية غزة ناقوس الخطر محذّرة من كارثة مائية وصحية قادمة، نتيجة تدمير الاحتلال لما يقارب 75% من آبار المياه، وحرمان الآبار الباقية من الوقود اللازم لتشغيلها. من أصل 120 ألف كوب ماء يوميًا كانت تُضخ قبل الحرب، لم يتبقّ سوى 35 ألف كوب، في مدينة تأوي أكثر من مليوني إنسان. لقد أصبح الحصول على شربة ماء تحديًا يوميًا يعادل النجاة من القصف.
سياسة التجويع الممنهج التي تنتهجها "إسرائيل" هي سلاح إضافي في هذه الحرب، إذ عمدت إلى إغلاق المعابر بشكل شبه تام، ومنعت دخول المساعدات لأسابيع طويلة، ما أدّى إلى مجاعة حقيقية تفترس الأطفال والنساء والشيوخ على حد سواء. لكن الأخطر أن الاحتلال حوّل المساعدات نفسها إلى فخاخ موت، مستغلاً الجوع القاتل لاستدراج المدنيين إلى مواقع توزيع المساعدات، ثم قصفهم أو إطلاق النار عليهم بدم بارد.
وقد تجسّد هذا المشهد المأساوي أمس الأحد، حين وقعت مجزرة غرب رفح، بعدما أطلق "جيش" الاحتلال نداءً زائفًا يدعو السكان الجوعى إلى التوجه إلى مركز توزيع مساعدات تابع لما يُعرف بـ"مؤسسة غزة للإغاثة الإنسانية"، المدعومة صهيونيًا وأميركيًا. وعند وصول الآلاف من المواطنين، فُتحت عليهم النيران، فاستشهد أكثر من 35 مواطنًا وأصيب نحو 150 آخرين، وفق ما أعلنت حركة "حماس".
وفي تعقيبها على المجزرة، وصفت الحركة ما جرى بأنه "دليل دامغ على الطبيعة الفاشية للاحتلال"، معتبرة أن استهداف مراكز الإغاثة وتحويلها إلى "مصائد موت" هو جريمة مكتملة الأركان. وأكدت أن "إسرائيل" لا تستهدف البنية التحتية فقط، بل تشن حربًا شاملة على الوجود الإنساني في غزة، مطالبةً مجلس الأمن بتحمل مسؤولياته الأخلاقية والقانونية، وفتح المعابر فورًا أمام تدفق المساعدات الإنسانية، وتشكيل لجنة تحقيق دولية لمحاسبة مجرمي الحرب.
ولم يكن هذا الاستهداف الدموي الوحيد. فقد نقلت الجراحة البريطانية فيكتوريا روز، من داخل قسم الطوارئ في مجمع ناصر الطبي بمدينة خان يونس، مشاهد مروعة لمجزرة أخرى في رفح. وقالت في تسجيل مصوّر بثته وزارة الصحة الفلسطينية، إن المجمع استقبل عشرات المصابين برصاص حي، بعضهم في حالة حرجة، مضيفة: "الوضع هنا مجزرة حقيقية". وأشارت إلى أن جميع الشهداء الذين نُقلوا إلى المستشفى أصيبوا بطلق ناري مباشر في الرأس أو الصدر، مما يعكس النية المبيتة للقتل المتعمّد.
من جهته، أعلن المكتب الإعلامي الحكومي في غزة أن أكثر من 250 مواطنًا أصيبوا منذ فجر أمس الأحد، بينهم عشرات في حالة حرجة، في ظل استمرار استهداف الاحتلال لنقاط توزيع الغذاء، في خطة واضحة لدفع الناس نحو اليأس والنزوح القسري. إذ تؤكد الأمم المتحدة أن تجويع الفلسطينيين يندرج ضمن جرائم الحرب، ويهدف إلى التهجير القسري، خاصة مع استمرار إغلاق المعابر لأكثر من 90 يومًا. ويجري تنفيذ ما تسميه "إسرائيل" "خطة توزيع مساعدات" عبر جهة مشبوهة تُعرف باسم "مؤسسة غزة للإغاثة الإنسانية"، وهي هيئة غير معترف بها من الأمم المتحدة، تدير عملية توزيع الغذاء خارج إشراف المنظمات الدولية. هذه الخطة، بحسب اعتراف إذاعة "الجيش" الصهيوني، تهدف إلى إفراغ شمال القطاع من سكانه، عبر حصر المساعدات في أربع نقاط فقط تقع جنوبي غزة، ما يدفع السكان قسرًا إلى النزوح للجنوب.
وقد حذرت حكومة غزة ومنظمات حقوقية، مثل المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، من أن ما يجري هو تنفيذ عملي لخطة ترامب التصفوية، التي أعلن عنها سابقًا، وتسعى لتوطين الفلسطينيين خارج أرضهم ودفن حلم العودة إلى الأبد. وأكدت هذه الجهات أن رئيس سلطة الاحتلال الصهيوني –مجرم الحرب- بنيامين نتنياهو، المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية، يصرّ على جعل خطة ترامب جزءًا من أهداف هذه الحرب الوحشية.
وفي ظل هذه الفظائع، تبقى النداءات الفلسطينية للمجتمع الدولي والعربي والإسلامي تصرخ في صحراء الصمت. فحركة "حماس" دعت الدول العربية والإسلامية إلى تحرك فوري لكسر الحصار، وإغاثة الشعب الفلسطيني، ووقف هذه المجازر التي تجاوزت كل الخطوط الحمراء في تاريخ الحروب والصراعات. كما طالبت بتدخل أممي عاجل لمحاسبة "إسرائيل" على جرائمها، وإنهاء سياسة الإفلات من العقاب التي شجّعتها الولايات المتحدة طويلاً.
وفي وقت يواجه فيه الغزيون القتل والقصف والجوع والعطش والتهجير في آن واحد، فإن ما يجري ليس فقط عدوانًا عسكريًا، بل هولوكوستًا حديثًا يمارسه الاحتلال الصهيوني بغطاء أميركي، وسط تواطؤ دولي وصمت عربي، يهدد بترك غزة خاوية من الحياة. وهكذا فإن مأساة غزة اليوم، بكل تفاصيلها الدموية والإنسانية، لا تُعدّ مجرد أزمة إنسانية، بل جريمة تاريخية تُرتكب على مرأى ومسمع العالم. وإذا لم يتحرك الضمير الإنساني الآن، فمتى؟