2025.05.22
نوستالجيا

أبعدُ ما يكون عن الشِعر أقرب ما يكون للرقص


"أكاد أن أطير": هذه هي أقرب عبارة يستحضرها اللسان ـ لدى أغلب الناس ـ خلال الحديث عن لحظة شعور عارمة بالسعادة، كما أن صورة شخص يقف على ربوة عالية ـ أو حتى وسط حقل مزهر ـ مادّا ذراعيه أفقيا مثل جناحين إنما هو تعبير مألوف عن السعادة التي ترتبط في أذهان الناس بالطيران.

ومن الناحية العملية، فلا أحد استطاع ـ عبر التاريخ ـ أن يطير فعلا من شدة الشعور بالسعادة، الكل يشعر بأنه يكاد أن يطير.. يكاد فحسب، أو يقول ذلك، كتعبير مجازي عن شعور بالغ بالسعادة يتفجر داخل خلايا الجسد دفعة واحدة بأكثر مما يمكن استيعابه، وهكذا تغيب القدرة على التحكم في الحركة التي يندفع الجسد من تلقائه للقيام بها وقد تكون مجرد حركة غير معقولة متسمة بالارتباك وهو ما يختصر عبارة: "أكاد أن أطير".

تبدو راقصة الباليه كأنها تتحدى الفيزياء ـ بإلغاء وزن جسدها، وهي تقلل ـ إلى أدنى حد ممكن ـ من تلامس أصابع القدمين بالأرض، إنها تهفو إلى الطيران روحيا عبر جسدها، وبالمقابل فإن الراقصة الإفريقية تحاكي حركات الطيور، باستخدام ذراعيها على شكل جناحين ترفرف بهما، لكنها ـ على العكس من راقصة الباليه ـ تستمر في التشبث بالأرض من خلال تثبيت قدميها بقوة، مع تحركيهما بنوع من التوتر على أن يكون ذلك بالتناغم مع حركة الرأس الذي غالبا ما يكون مزينا بالريش.

وفي كلتا الحالتين فإن راقصة الباليه ـ كما الراقصة الإفريقية ـ أداؤها ـ بالحركات والأضواء والموسيقى وملامح الوجه ـ يوحي بأنها "تكاد أن تطير".. تكاد فحسب، لكنها لا تطير فعلا، إنه مجرد تعبير بحركات الجسد، عن جملة مشاعر يتضمّنها العرض الراقص (حيرة، تردد، خوف، قلق..)، تماما، مثل ذلك التعبير المجازي عن الشعور ـ خلال بلوغ درجة عالية من السعادة ـ والذي يجعل هذه العبارة (المتفق عليها): "أكاد أن أطير"، أقرب ما تكون إلى اللسان.

إن اندفاع الجسد إلى الأعلى ـ كنوع من التحفز للطيران لا يمثل الحركة التعبيرية المناسبة عن السعادة الغامرة في حد ذاتها، بل يمثل حالة العجز عن التعبير بعدما بلغت السعادة درجة لم يعد بإمكان الجسد احتواءها،  وهكذا يحدث نوع من الانفلات غير القابل للتحكم ـ في اللحظة ذاتها ـ فلا يكون أمام الجسد ـ من فرط الحماس ـ سوى استنهاض تلك الرغبة الدفينة في أعماق كل منا نحو فكرة الطيران، وهذا ما يتردد في أحلامنا خلال النوم.

قد تكون عبارة "أكاد أن أطير" ولدت مع بداية استخدام الإنسان للغة مع نفسه (وليس كمجرد وسيلة للتواصل مع الآخرين فحسب)، لكنْ، من المستبعد أن تكون قد ولدت على لسان شاعر يُفترض أنه كان قادرا ـ كراقصة الباليه والراقصة الإفريقية ـ أن يستخدم فنه (الشعر) للتعبير عن سعادته الغامرة، لقد ولدت على لسان إنسان ـ أبعد ما يكون عن الشعر أقرب ما يكون للرقص ـ تجاوز إحساسه بالسعادة طاقة الاستيعاب لديه فانطلقت من داخله تلك العبارة؛ إنها عبارة من إبداع الجسد ذاته.