2025.10.06
عاجل :



\ ملفات الأيام

"البخت" في حياتنا اليومية.. لا نهضة بـ "ضربة حظ" ولا تاريخ تصنعه الصدفة!


يُحكى أن أحد "المنحوسين" ذهب إلى حديقة الحظوظ باحثا عن نصيبه، لعلّه يجده ويوقظه من سُباته. شاهد هناك حظوظا طائرة، وأخرى مزهوّة تغنّي، فتجولت عيناه بين جمالها وسحرها. وبينما كان يمشي في أرجاء الحديقة، تعثّر بحظّ زاحف، يسحب نفسه على مخاطه مثل الحلزون، فلا يقوى على التثاؤب من فرط عجزه وكسله. واشتعل غضب المنحوس، ممتزجا بالدهشة، فصرخ في وجه الحظ الحلزوني: "انهض، لعن الله شيطانك!" فتثاقل الحظ واستدار ببطء وقال: "ألم تعرفني؟ أنا حظّك أيها التعيس، وإذا لم تنصرف عنّي بسلام، فأقسم بشرف كل حلازين العالم أن أنام نوما لا صحو بعده!"

لا أنصحك عزيزي القارئ أن تفكّر بزيارة حديقة الحظوظ، وأرجو ألاّ تطلب مني عنوانها، ولكنني أدعوك أن تغرق في هذا الملف، وتتعرّف إلى أراء ورؤى الكُتّاب حول الحظ، لعلك تكتشف بأن الحديقة التي يقيم فيها حظّك موجودة في داخلك.. داخلك، حيث إرادتك وعزمك وإيمانك وكل قواك الكامنة.

ولكن دعنا نتّفق في البدء أن ثقافتنا الشعبية لا تكاد تفرّق بين الحظ والصدفة والزَّهر والبخت ومُسمّيات أخرى كثيرة تلتقي في معنى: اللاّمتوقّع الذي يحدث فجأة بلا موعد ولا تخطيط ولا تفسير لأسباب حدوثه. نعم، ليس في اللغة العربية كلمةٌ تفسّر كلمةً أخرى تمام التفسير، وتؤدّي معناها كاملا غير منقوص، لذلك لن نفرّق نحن أيضًا بين تلك الكلمات، ولسان حالنا يقول ما قاله الشاعر "دريد بن الصمة":

وهَل أَنا إلاّ مِنْ غَزِيَّةَ إنْ غًوَتْ -- غَويْتُ وإنْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أرْشُدِ

فلنترك التفريق بين الصدفة ومشتقّاتها "الشعبية" إلى أهل اللغة، وإن شئت أن أتفذلك عليك قليلاً وأضع لك بعض الفروق بينها فيما لم يتّفق في تحديده علماء اللغة، فأزعم بأن الصدفة تتعلّق بالماضي فهي في الغالب قد حدثت وانتهى زمنها، بينما البختُ مرتبطٌ بالمستقبل لذلك يُقال: "قارئ البخت" أو الطّالع، ومنه تمّ اشتقاق أسماء: البختي، المبخوت، بختة، بخيت.. والبخت أو المبخوت هو الجَمل الناتج من تزاوج بين بعيرٍ بسنامَين وناقة بسنامٍ واحد أو العكس (هذا ما تقولوه الثقافة الشعبية، والمعنى قريب من هذا في معاجم وقواميس اللغة العربية). وأما الحظ فقد يكون حليف الإنسان في أمر واحد فيُقال: "ضربة حظ"، وقد يكون حليفه طوال حياته فيُقال: "فلان ابن حظ أو مُزَهَّر".. ولاحظ عزيزي القارئ أنني لم أقحم مسمّيات أخرى في قائمة مُشتقّات الصدفة مثل: النّصيب، المكتوب، القدر.. حتى لا أنحرف بك إلى اختلافات فقهية وفلسفية شغلت العقل العربي قرونًا من الزمان ولم يُفصل فيها حتى الآن! وأيضًا حتى لا أميط اللثام عن الوجه القبيح لتفكيرنا البائس، فغالبًا ما يُقال لمن ارتكب جُرمًا أو خطيئة أو ظلَم غيره: فلانٌ أغواه الشيطان، ونصيبه أن يدخل السجن مثلا؟ ويُقال لمن جدَّ واجتهد فحقّق نجاحا أو ثروة أو مكانةً: فلانٌ فتح الله عليه، أو فلان محظوظ يضرب الصخرَ فيصير ذهبًا.. طبعًا، لا ننكر بأن التوفيق من الله، ولكننا نتساءل عن مسؤولية الإنسان إن كان أمره بين ضربة الحظ وغواية الشيطان ومشيئة الله!

هذا الوجه القبيح في التفكير يزداد قُبحًا مع أولئك الذين "يؤمنون" بـ "الصدفة الكونية"، فالكون عندهم قد وُجد صدفةً وكذلك الخلق والمخلوقات على كوكب الأرض، وبينهم علماء في الفيزياء والكيمياء وغيرهما من العلوم البحتة والتطبيقية.. والكتب كثيرةٌ في هذا الموضوع منها كتاب "عالم الصدفة" للكاتب "بول ديفيز"، فهو يتحدث عن ماهية المصادفات الكونية وطبيعتها والظواهر "المحظوظة والمدهشة" التي لولاها لكان وجودنا مستحيلاً، وعالمنا الذي قد يكون "صدفة من صدف الطبيعة".. ولسنا ندري إن كانت الصدفة قد توقّفت صدفةً عن "الخَلق" مثلما توقّفت الكائنات عن التطوّر في نظرية "داروين"، أم أن الطبيعة استغنت عن الصدفة واستسلمت لمنطق العلوم؟

ويحدّثنا كتاب "ملكات بمحض الصدفة: نساء حكمن في العصر الحديث"، للكاتبة الإيطالية "شيزارينا كازانوفا"، عن زوجات وعشيقات وصلن إلى حُكم دول كبرى في أوروبا، لا سيما في إنجلترا مثل الملكة: "ماري تيودور" أو "ماري الدموية".. والحق أن كُتب التاريخ العربي حافلة هي أيضًا بمثل هذه القصص عن "الصدفة" التي قادت جواري وعبيدا إلى الجلوس على عرش الحُكم، بل قادت حَمّارًا (مَن يحمل بضائع الناس من الأسواق إلى بيوتهم على ظهر الحمار) إلى حُكم الأندلس. ويُمكن اعتبار "كافور الإخشيدي" ممن قادتهم "الصدفة" إلى حُكم مصر وقد كان عبدًا مخصيًّا، ورغم أن كثيرين تحدّثوا عن فضائله وأخلاقه النبيلة، فإن ما شاع بين الناس هو ما أنشده الشاعر "المتنبّي" في قصيدته التي هجا فيها كافورًا، ومطلعها:

عيدٌ بأيّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ -- بمَا مَضَى أمْ بأمْرٍ فيكَ تجْديدُ

أمّا الأحِبّةُ فالبَيْداءُ دونَهُمُ -- فَلَيتَ دونَكَ بِيدًا دونَهَا بِيدُ

ويقول في آخر القصيدة:

مَنْ عَلّمَ الأسْوَدَ المَخصِيّ مكرُمَةً -- أقَوْمُهُ البِيضُ أمْ آبَاؤهُ الصِّيدُ

أمْ أُذْنُهُ في يَدِ النّخّاسِ دامِيَةً -- أمْ قَدْرُهُ وَهْوَ بالفِلْسَينِ مَرْدودُ

أوْلى اللّئَامِ كُوَيْفِيرٌ بمَعْذِرَةٍ -- في كلّ لُؤمٍ، وَبَعضُ العُذرِ تَفنيدُ

وَذاكَ أنّ الفُحُولَ البِيضَ عاجِزَةٌ -- عنِ الجَميلِ فكَيفَ الخِصْيةُ السّودُ؟

وتحدّثنا كتبُ أخرى عن الصدفة في مجال الاكتشافات العلمية الكبرى التي غيّرت مجرى التاريخ البشري وانتقلت بالإنسان من ضفّة "البدائية" إلى ضفاف التطوّر المذهل، فهذا "إسحاق نيوتن"، أشهر عالم فيزياء ورياضيات وكيمياء.. وأبرز قادة الثورة العلمية في القرن 17، يكتشف قانون الجاذبية الأرضية من صدفة التفاحة التي سقطت على رأسه (لا ندري لماذا تفاحة بالذات رغم أن شجرة التفاح ليست مناسبة للجلوس تحتها). وهذا رجلٌ كان يغلي الماء في إناءٍ مغلق، ومن ملاحظته لحركة الغطاء، أدرك قوة البُخار، فدخلت البشرية في عصر الآلات البخارية. وهذا رجلٌ آخر كان يستحمّ فرأى قطعة فلّين فوق الماء فاكتشف قانون الطفو.. والقائمة طويلة لمثل هذه الاكتشافات العلمية التي لعبت فيها "الصدفة" دور البطولة في التطوّر العلمي للبشر!

من المُجدي الإشارة إلى أن تاريخ العلوم عند العرب والمسلمين يخلو تمامًا من أيّ دورٍ للصدفة رغم الاكتشافات العلمية التي حقّقوها في مجالات: الطب والكيمياء والضوء.. ربما لأن الغرب يريدونا أن نستسلم للصدفة ولا نتعجّل تحقيق نهضةٍ علمية من ذاتنا وأصالتنا (غير مستوردة)، أو لعله يخشى على رؤوس علمائنا من التفّاح!

كل ما أوردناه يبقى مجرّد حكايات حتى وإن جاءت في كُتب "علميّة"، فالصدفة لا تنهض بالأوطان ولا ترتقي بالإنسان، ومن العبث أن ننتظر الصدفة لتُنهي حرب الإبادة المُعلنة على غزّة أو تُحرّر فلسطين مثلا، فيجب السّعي والعمل بجد واجتهاد وإخلاص، وليس مهمًّا أن تنتهي الجهود إلى الفشل، لأن الإنسان مُطالَبٌ بالحركة الفعّالة والعمل المُجدي، وأما التوفيق وتحقيق النجاح فذلك أمر الله وحده.

في سياق هذه الأفكار، توجهت جريدة "الأيام نيوز" إلى نخبة من الكُتّاب الأفاضل بهذه الرسالة: الصدفة، ضربة الحظ، وكلمات أخرى بالمعنى نفسه في القواميس الشعبية، تُشعرنا وكأن الحياة هي مضمار رهان يفوز فيه الإنسان بالصدفة أو بضربة الحظ. وفي معنى هذا السياق، وجّه ملك مملكة بروسيا، "فريدريك الثاني" (1712 ـ 1786)، رسالة إلى الكاتب والفيلسوف الفرنسي "فولتير"، قال فيها: "كلما تقدّمنا في السن، اكتشفنا أن صاحبة الجلالة المقدّسة: الصدفة، تقوم بتدبير ثلاثة أرباع عمل هذا العالم التعيس".

وكثيرةٌ هي الكتابات التي تتحدّث عن اكتشافات علمية جاءت بطريق الصدفة مثل: البنسيلين، أعواد الكبريت، الأشعة السينيّة، البلاستيك... كما أن كُتّابا ومبدعين وفنانين قالوا بأنهم وجدوا أنفسهم في المجالات الإبداعية بطريق الصدفة..

فما رأيكم في "الصدفة"، وهل تؤمنون بها، وكيف تفهمونها؟ وهل يُمكن للصدفة أن تغيّر حياة الإنسان أو الأوطان أو حتى العالم؟ وهل تداولُها في الثقافة الشعبية - مثلا - هو تعبير عن التفكير السلبي والمراهنة على حدوث "المعجزات" لتأتي بالحلول للمشاكل.. أم هو دلالة عن الكسل والعجز وعدم السعي إلى العمل الفعّال؟ وهل لكم قصص مع الصدفة في مجال الحياة أو الكتابة الإبداعية؟ وما دور الكاتب والمُبدع عمومًا في محاربة أيّ فكر انهزاميّ؟

وماذا عنك عزيزي القارئ، هل تؤمن بالصدفة والحظ؟ أم أنك من أنصار التفكير الذي يكتفي بإسناد الخير إلى الله، والشرّ إلى الشيطان، ويُخلي مسؤوليته من كل ظُلم أو سوء يُلحقه بغيره؟ حاول أن تقدّم إجابة وأنت جالسٌ تحت شجرة ولكن احترس فقد لا تسقط على رأسك تفاحة مثل "نيوتن"، بل تسقط أفعى لم تجد عصفورًا تُفرغ فيه سمّها.. لعلك تقول في نفسك: "الدنيا حظوظ"، أو ربما طاف في خيالك قصة من أقاصيص الذين يلجؤون إلى العرّافين والدجّالين ليحصلوا على "خاتم سليمان" في حجاب (تميمة حظّ)! المهم أن تحترس من التفاحة فلسنا إلى حاجة إلى جاذبية أخرى تُضاعف التصاقنا بالأرض..

وحيد حمّود (كاتب من لبنان)

ما ثمن هذه "الصدفة" يا أبي؟

كان والدي - رحمه الله - أكثر الذين لا يأبهون بشيء، ولا يقيمون وزنًا للمصائب مهما عظُمَت، وكان يرى الحياة برمّتها سماءً وماء، إنّها فلسفةٌ لطالما أحببت أن أفقهها، يسخر من كلّ الأشياء التي تستدعي الهمّ والنكد، وهو إلى جانب ذلك وُلِد فقيرًا وعاش فقيرًا وودّع الدّنيا وهو فقير.

كان لديه حسُّ "جورج برنارد شو"، وسخرية "عزيز نيسين"، وجرأة "مظفّر النوّاب"، ولم يكن كاتبًا أو قارئًا، بل كان هو، هو فقط، وعلّمنا أن نكون نحن، نحن فقط، لكنّنا بالطبع لن نفلح بأن نكون نحن نحن كما كان هو هو.

كنّا جالسَين، ذات يوم، أنا وهو، في مجلس عزاء، وكان الميت أحد التّجار الذين تعاملوا مع والدي، آه، نسيت أن أذكر لكم أنّ أبي كان إسكافيًّا، أو كما يقولون "كندرجي"، ويشهد الله أنّ عمله كان يدرّ الكثير من المال، إذ إنّه كان صانعًا محترفًا، وكانت بضاعته تملأ السوق في المناسبات، ولكن على طريقة البيع مقابل المردود المؤجّل وأعني "بالدَّيْن"، وماذا يحدث بعدها؟ يدفع أبي رأسماله كلّه ثمّ ينتظر المردود المالي من التجّار، على طريقة المزارعين، بالتنقيط، والتقطير، فيذهب المال والرأسمال. ولطالما حاول أن يعلّمني "المصلحة"، لكنّني كنت أتمتّع بذهنٍ سميك، ولا أزال. وحدث أنّه في مرّاتٍ عدّة حاول إقناعي بطريقته المعهودة في الإقناع إذ قال لي: التعامل مع رؤوس الأحذية خيرٌ من التعامل مع رؤوس بعض البشر. ويقهقه، ثمّ يكاد يبتلع كومة المسامير الموضوعة في فمه، وأقلب بدوري على ظهري من الضحك كتمساحٍ شَبِع.

 المهم، كنّا في المجلس، همست بأذن أبي:

- المرحوم مات قبل أن يسدّد الحساب.

رمقني بنظرةٍ حزينة وقال:

- يا بنيّ. صمت قليلًا ثمّ أردف يقول: حسبي الله ونعم الوكيل فيك، نحن في العزاء اصمت.

كتمت ضحكةً في صدري، ثمّ أكملت:

- لو دفع ثمّ مات، ألم يكن..

- اصمت يا شيطان، اصمت. قاطعني أبي بلهجةٍ حرّكت الضحكة المكتومة في صدري فخرجت علانيّةً في العزاء.

صاح الشيخ القارئ رافعًا صوته في التلاوة، وزادت ضحكتي، وبدأ أبي بقرصي هامسًا: الله يأخذك، فضحت أمّي.

قاطع الحشود صوت أبي، بعد أن استأذن الشيخ وطردني من المجلس وقال:

- اعذرونا يا جماعة، وبالنسبة للمبلغ الذي اقترضه والدكم مني فليشهد الله أني سامحته.

 وقف فجأةً أحد الأولاد، دقّ يده على صدره وقال:

- لن نقبل، حقّك سيصل إليك، إن مات المديون فالدّيّان لا يموت.

- اقشعرّ بدني. قال أبي.

كنت أسند الجدار وسمعت الردّ فأحسست بأنّ مصيبةً سوف تحدث، اقتربت من المجلس، وقفت بقرب أبي وهمست: حسنًا فلنذهب.

- لا انتظر لقد وُلِد شيخٌ من أولاده صدفة وأريد أن أسمعه. أكمِل يا شيخ أكمل، الديّان لا يموت أكمل.

- كم المبلغ؟

- ألف وخمسمئة دولار. قال أبي.

- أكمل القراءة يا شيخ. قال الولد الذي دقّ على صدره منذ لحظة.

خرجنا من المجلس أنا وأبي، دفعت السيّارة كعادتي، وضع أبي المفتاح يحاول جاهدًا تشغيل المحرّك الذي يصدر صوته كرجلٍ مبحوح يقهقه، وظللنا على هذه الحال حتى اشتغل المحرّك وركضت لأصعد قبل أن ينسى أبي وجودي.

في السيّارة دار بيني وبين أبي حديث لا أزال أذكره:

- كيف تعرّفت إلى المرحوم يا أبي؟

- صدفة. قال.

- وما ثمن هذه الصدفة؟

- ألف وخمسمئة دولار، وقهقهتك اللعينة في العزاء، وهذه السيارة التي تدفعها لكي تعمل. أصلًا أنا أعرف أنّك نحس، كان ابنه سيدفع المبلغ، هههههه، لكنّه باعنا كلامًا ونفض أثر يده عن صدره حين ذهبنا.

- يا أبي، هل كنت تنتظر مبلغًا من ميت؟

- ولا من حيّ يا شيطان، تبّا لك، انزل من سيّارتي، يا نحس.

- ومن "سيدفشها"؟ قلت مقهقهًا.

- أقنعتني، ابقَ.

 زينب أمهز (كاتبة وباحثة من لبنان)

أعود إليّ عبر بوابة الصدفة

لن أُحدّثكم حديثًا فلسفيًّا معقّدًا عن الصدفة، ولن أُغرقكم في سيلٍ من الأقوال المأثورة، ولا بالأحاديث التي طالما سمعناها عن "الصدف والنصيب"، ولن أُرهق المعنى بمحاولةِ شرحٍ كيف تغيّر الصُّدف مسار الحياة، وكيف تُنصف أحيانًا من لا يستحق، وتُقصي من يستحق دون مبرّر.

لا ولن أمسك أذني من وراء رأسي! سأتحدث ببساطة عن ذلك الحضور العذب للصدفةِ في حياتنا، عن تلك اللحظة المفاجئة التي تُشبه نسمةً باردة في يومٍ حار، لحظة لا نخطط لها، ولا نتوقّعها، لكنها تفعل في قلوبنا فعل المعجزة. يكفي أن تلتقي شخصًا يغيّر مزاجك، أو تصلك كلمة تُحيي فيكَ ما كاد يخبو، أو تقع عينك على مشهدٍ يُعيد ترتيب فوضاك.

الصدفة ليست دومًا عبثًا، ففي لحظةٍ واحدة، قد تجعل هرمونات السعادة تفيض داخلك، لا لدقائق أو لساعات.. بل لأيامٍ كاملة، وربّما لذكرياتٍ تدوم العمر.

متعددةٌ هي الصدف في حياتنا، تتناثر كنجومٍ في سماء العمر، بعضها يمرُّ خافتًا، وبعضها يشعُّ في الذاكرة كوميضٍ لا يخبو.. بعضٌ منها يجلب الحزن لك كما عشته سابقًا، والبعض الآخر يُفرح القلب والرّوح، لكنني سأحدثكم عن ثلاثٍ منها، والجميلة فقط.

وعلى سبيل تلك الصدفة الساحرة، كنتُ في زيارةٍ لطبيب الأسنان، حين باغتني الزمان بلقاءٍ لم أكن أتوقّعه، لقاء أعاد إليّ فصولًا من طفولتي، حيث التقيت "جنان" رفيقة الدّرب منذ نعومة أظفارنا وحتى آخر مقاعد الثانوية.

كان ذلك في الثالث من حزيران/ جوان الفائت، وقد مرّت سنوات طوال لم ألتقِ فيها بها، لكنني بطبيعتي، كما أخبرتكم سابقًا، لا أزال أحتفظ بدفتر الذكريات.. دفترٌ أصفر الحواف، لكنه نابضٌ بالحياة، أفتحه كلّما ضاقت عليّ الذاكرة، أتصفّحه بقلبي لا بعينيّ، فأمضي بين صفحاته كمن يعود لمسقط الرّوح، أسترجع الضحكات، والدموع، وأتوقف عند كل اسمٍ وكلمة، وأتنهد على ما مضى..

حين رأيتها، كانت كما تركتها تمامًا: الضحكة ذاتها، والنظرة ذاتها، وكأنّ الزمن قد اعتذر منها ومضى. كانت تجلس مع طفلها "علي"، فابتسم قلبي قبل وجهي، وتعانقنا عناقًا ألغى المسافات، واحتضن السنوات. بلحظةٍ واحدة، عدنا سنين إلى الوراء، كأننا في فناء المدرسة، وكأنّ شيئًا لم يتغير سوى أعمارنا.

اتفقنا أن نكمل اللقاء في مقهى تحبّه، على طريق "رأس العين". ما كنت أدري أن تلك اللحظات، التي بدأتها بألم ضرس، ستنتهي بدفء روح. جلسنا هناك، حيث اختلط عبق القهوة بصوتِ الذاكرة، وبدأنا نروي لبعضنا ما لم تقله الرسائل ولا السنين.

ضحكنا كأننا لم نعرف الألم قطّ، وأنا، التي عادةً ما أخجل من الضحك في العلن، نسيت كل من حولي، وكأنّ المقهى صار لنا وحدنا، لا غرباء، لا أصوات، سوى صوتين: صوت الضحكة القديمة، وصدى الحنين.

تحدّثنا عن أيّامنا، عن معلمي الثانوية، عن تلك اللّحظات التي كبرنا بها دون أن نشعر. كانت القلوب تفيض، لا بالكلام، بل بالمحبة التي نجت من غبار الزمن. آهٍ، ما أجمل ذلك اللقاء.. لقد عدنا، لا كما كنّا، بل كما نحن اليوم: أنضج، أهدأ، وقد عجننا الدهر بطحين التجارب، فعرفنا قيمة النقاء حين نراه.

مرّت ساعتان ونصف، وسرقنا الوقت كما يسرق الغيم لون الغروب.. تمنيت لو أنّ الزمن يتوقف، لو أنّ عقارب الساعة تُشفق علينا، لكن الوقت لا يتوقّف، لا يُرجى منه وفاء، بل يُخلَّد: بصورة، بكلمة، بلحظةٍ تختبئ في القلب، تمدّك بقوةٍ غير مرئية لتكمل المسير.

كان يومًا استثنائيًا، وصدفة من تلك الصدفِ التي لا تمرّ عابرة، بل تأتي لتضع لمسةً من نورٍ على يومك، لتجعله مختلفًا، ليكون في دفتر العمر مؤرّخًا بعنوان: "هنا التقيت بقطعة من روحي".

وسأطلعكم على بعض ما كتبت في ذلك اليوم: "وستُدرك بعد كلّ هذا التيه، وبعد انقضاء نصفِ الطّريق، وتعثُّر الخطى، أن لا دفءَ كدفءِ صديقٍ نشأ وصاحبَك منذ عهد الطفولة حيثُ صدق الضحكات ونقاء القلوب، وحيث الذاكرة تكتب بحبرِ البراءة، لا وجع التجارب".

ومن غرائب الأقدار ولطائفها، أن أعود إلى مقاعد الجامعة بعد انقطاعٍ دامَ عشر سنوات، تلك السنوات التي ظننتُ أنّني قد ودّعت فيها دروب العلم إلى غيرِ رجعة. لكنّ الأقدار كانت تُخبّئ لي صفحةً جديدة، ودفعة دفءٍ جاءت من صديقةٍ عزيزة على القلب، "هبة"، التي رأت فيّ ما لم أره أنا في نفسي، فشجّعتني على العودة، بل وأقنعتني باختيارِ الأدب العربيّ، بعد أن قرأت شيئًا من خواطري، كلماتٍ كنتُ أكتبها لنفسي، لا أتوقّع أن تجد فيها أحدهم دليلاً على مساري القادم.

ولم يكن هذا التّخصص يومًا من بين اختياراتي، بل كان ميلي نحو مسارٍ مختلفٍ تمامًا، ولكن ما أجمله من انحراف، حين يُعيدك إلى ذاتكَ الحقيقية دون أن تدري.

ومن جمالِ المصادفات أيضًا، أنني التقيت بأصدقاءٍ لم يكن العثور على أمثالهم في زمن السرعة والتقلّب أمرًا يسيرًا. لم يكونوا كُثُرًا، لكنهم كانوا من النّوع الذي يُزهر القلب بقربه، إذ تعلّمنا مع مرور الوقت، وبعد أن عجنتنا التجارب، أنّ القيمة في النوعِ لا في الكمّ، وفي الصدقِ لا في الكثرة.

واليوم، أَحمدُ الله كثيرًا أنني أتممت رحلتي الجامعية في الوقت المطلوب، وأنني كنت، بشهادة أساتذتي، من بين الطلبة المميزين.. وكأنّ الأقدار كانت تُمهّد لي هذا الطريق بصبرٍ ولُطف، حتّى أصلَ إليه في الوقت المناسب، لا قبل ولا بعد.

والآن، اسمحوا لي أن أختم حديثي بآخرِ صدفة.. صدفةٍ أنتم جزءٌ منها، بل تنالون منها نصيبًا. كيف؟ تعالوا أُخبركم.

سبق وأن حدّثتكم عن الأصدقاء الذين تعرّفت إليهم خلال رحلتي الجامعية، أولئك القِلّة النادرة الذين لا يزال الوصل بيننا ممتدًّا رغم تغيّر الأزمنة. في أحد الأيام، أخبرتني صديقتي "أماني" بأنها تنوي نشر بحثٍ لها في مجلةٍ مرموقة، وكانت على درايةٍ تامّة بمدى الجهد الذي كنت أبذله في إعداد بحوثي، خاصّة في بعضِ المقرّراتِ الجديدة التي كانت تتطلّب عملاً دؤوبًا ودِقةً بالغة.

أقنعتني أماني أن أُقدِّم أحد أبحاثي، وكان بعنوان: "تأثير البيئة في الأدب والأديب، إيليا أبو ماضي أنموذجًا". في البداية، ترددت. لكن كلمات أستاذ "وحيد"، كانت النور في لحظة ترددي، شجّعني بقوّة. كان صوته مطمئنًا، وكلماته تضيء زاوية خافتة في داخلي، فدفعتني لأن أخطو تلك الخطوة.

تمّ نشر البحث بنجاح، وتبِعته ثلاث مقالاتٍ أخرى، وقد حثّني الأستاذ والصديق "وحيد" على الكتابة في الملف الأسبوعي لجريدة "الأيام نيوز". ولا أنكر فضله عليّ، إذ منحني بريقًا من ضوءٍ جميل، ونافذةً أطلّ منها على نفسي بعد طولِ غياب، فكانت الكتابة بالنسبة لي مُتنفسًا، وملاذًا أستعيد فيه توازني بعد أن أرهقتني مسؤوليات الحياة، وأخذت من ذاتي ما لم أكن أظن أنني سأسترده.

وكلمات مشرف الملف الثقافي، الأستاذ محمد، كان لها وقعٌ خاص في نفسي. وجد في أسلوبي ما يلامس الصدق، وفي كلماتي ما يترك أثرًا. كانت شهادته وشهادة صديقي وحيد وسامُ عزّ وموضع فخر، أعادتني إلى نفسي، بل أعادت ثقتي بنفسي، بعد أن ضيّعتها زحمة الأيام، وأثقال الواقع.

وازداد امتناني حين تصدّرت مقالتي عن "بعلبك مدينة الحضارة" المرتبة الأولى، وحققت أعلى نسب مشاهدة لعدّةِ أيامٍ متتالية.. كانت لحظة فارقة، شعرتُ فيها أنني على الطّريق الصحيح.

كانت البداية في فبراير الماضي، وها أنا اليوم بينكم، أشعر وكأنني فردٌ من عائلةِ هذه الجريدة، التي تحتضن آلامنا وأحلامنا، وتمنح لأصواتنا صدىً يستحقّ أن يُسمَع.

أكتب لكم بكلِّ حبّ وتقدير، وأنتظر كلّ مقالة بشغف، لألتقي بكم من وراء المسافات. تقرأونني، وربما تقرأون بين السطور بعضًا من حياتي، وأفكاري، ومعتقداتي، التي أحرص على أن أضمّنها كلّ مقال.

أشتاقكم وكأنني أعرفكم، وأتوق إلى آرائكم، وانتقاداتكم، بكلّ رحابةِ صدر وصدقٍ احترام.

وهكذا، تمضي بنا الحياة في طرقٍ لم نكن نتخيّلها، نُفاجأ بأبوابٍ تُفتح بعد أن ظننّاها أُغلِقت إلى الأبد، وبأحلامٍ تعود لتطرق أبواب أرواحنا بعد أن بعناها لصالح الواجبات والمسؤوليات. ما حسبناه نهايات، لم يكن في الحقيقةِ سوى بدايات متخفّية، تنتظر منّا أن نُصغي، أن نُؤمن، أن نخطو.

ومن بين كلّ تلك المنعطفات، تبقى الصدف من أعجبِ أسرار الحياة.. لحظات تبدو عابرةً في ظاهرها، لكنها تُحدث فينا تغييرات لا تُرى بالعين، بل تُحسّ في القلب، وتُترجَم مع الوقت إلى واقعٍ جديد.

كانت صدفة حديثٍ عابر مع صديقتي "هبة"، هي بذرة هذا التحوّل. صدفة أن أكتب خاطرًا فترى فيه بوادر كاتبة، صدفة أن أشارك بحثًا فتُفتح لي أبواب النشر، صدفة أن يؤمن بي أحدهم فأمضي بثقة. سلسلةٌ من الصدفِ التي لم تأتِ عبثًا، بل جاءت كأنها أُرسلت في التوقيتِ الذي كنتُ أحتاج فيه إلى نافذة ضوء، تُعيدني إلى نفسي بعد طول غياب.

ولعلّ أجمل ما في الصدف أنها لا تستأذن، تأتي في اللّحظة التي نظن أننا انتهينا، لتخبرنا أنّنا بالكادِ بدأنا.

أكتبُ اليوم لا لأنني وصلت، بل لأنني بدأت.. ولأنني من خلالِ الكلمة وجدتُ نفسي، وتصالحتُ مع ماضٍ أثقلني، وانفتحتُ على حاضرٍ أتنفّسه بامتنان، ومستقبلٍ أنتظره بشغف.

إلى كل من يقرأني الآن، إلى كل من يسير في طريقه مثقلًا بالتردّد أو الشكّ، تذكّروا أن الصدفة قد تحمل في طيّاتها رسالة، فرصة، حياة جديدة.. فقط لا تغلقوا الأبواب، ولا تصدّوا الطرق التي لا تشبه مخططاتكم. فالجميل في هذه الحياة، أنّ أجمل الأشياء، غالبًا لا تأتي على موعد.

والبدايات الحقيقية.. تبدأ من لحظة نقرّر فيها أن نختار أنفسنا، ولو بعد حين.

سعاد عبد القادر القصير (باحثة وكاتبة من لبنان)

هل تنتظرون الصدفة؟

هل مرّ معكم أن وقفتم عاجزين أمام فكرة؟ لست أقول موقف، ففي المواقف من الوارد جدّا أن تخوننا ذاتنا في التّعامل معها، وفقًا لصعوبة الموقف وخطورته ربّما، ولكنّي أقصد حرفيًّا الفكرة، وكأنّ الدّماغ يتجمّد، مُغيّب تمامًا عن ساحة الكلمات، هذا بالضّبط ما أشعر به الآن.

حين أشعر أنّي محاصرة في دائرة الفراغ، عادة ما أستأنس بصديقي العزيز (google) باشا، وأمّا لماذا أطلقت عليه لقب باشا، فلأنّه ببساطة يمتلك هذه الهالة التي تجعلنا نلجأ إليه في كلّ ما يخصّ حياتنا، فهو القدوة التي اعتدنا أن تقدّم لنا يد المساعدة عند العجز. وكي لا أطيل عليكم الكلام، ولأنّي أشعر بانقطاع الحبل السّري الذي يربطني برحم أفكاري، استسلمت لحاجتي أن أسأله: ما هي أجمل العبارات التي تعرض رؤية النّاس عن الصّدفة؟ ربّما أجد عنده طرف خيط يكرّ خيط أفكاري، ويعيد ولادتها من جديد.

الجميل في السّيد "غوغل" أنّه سريع الإجابة، ومن دون أن يُكثر في الكلام، قدّم لي طبقًا من أهمّ العبارات التي أغدق عليّ بها من الثقافة التي تلقنّها:

-      الصّدفة أمر أقلّ شيوعًا بكثير ممّا يتصوّر العالم.

-      جودة العمل لا تأتي صدفة أبدا.

-      إنّ الصدفة هي نتاج لحركة قانون غير مرئي لنا.

-      هل نظامٌ أنبأ عنه الخالق قبل أن يعرفه الإنسان سيكون نظامًا نشأ بالصّدفة؟

-      صدفة! إنّ دفاتر الغيب لا تعرف معنى هذه الكلمة.

وغيرها الكثير من الكلمات المصفوفة على طبق شهيّ من التّنوع الرّؤيوي، ولكن ما لفتني أنّي لم أكن أنتظر مثل هذه العبارات، في الحقيقة كانت توقّعاتي في نطاقها الضّيق الشّعبيّ عن: صدفة خير من ألف ميعاد، وكان يوم حبّك أجمل صدفة، وإلى ما هنالك من القناعات التي تشرّبناها والتي أصبحنا نردّدها في حياتنا اليوميّة.

ربّما شاءت الصّدفة اليوم أن يتملّكني العجز الفكريّ، لأندمج مع هذه العبارات وأقلّب بزواياها. أخذتني إلى عالم آخر من عوالم المخطّط الكونيّ، فهل الصّدفة حقيقة؟ أم هي مُسمّى إنسانيّ بسيط لفهم الحكم الالهيّ في الأشياء التي تعترضنا من دون تخطيط مسبق من طرفنا؟ وهنا أجدني أفكّر بهؤلاء المؤمنين بخلق الكون عن طريق الصّدفة، هل حصل مع أحدكم أنّه التقى بأولئك المؤمنين ألّا يؤمنوا في مسيرة حياتهم؟

ربّما لم يتسنّ للجميع مناقشتهم، وهم عادة إمّا ملحدون، وإمّا مؤمنون بالمادّة الملموسة، فكلّ شيء محسوس، بالنّسبة لهم، هو حقيقة، وما دون ذلك ليس إلّا فلسفة فكريّة، والرّوح كما وجدت بالصّدفة فهي إلى اندثار بعد الموت، والكون كما نشأ صدفة، أيضًا سيغتاله الدّمار عن طريق الصّدفة. فعن أيّ صدفة يتكلّمون؟

هم لا يقصدون الصّدفة المطلقة، وإنّما يتّجهون أكثر نحو مفهوم التّفاعلات العشوائية، من دون نيّة أو تدخّل إلهي، هذا الفصل بين المعطيات المادّية والرّؤية الدّينيّة إن استمرّ سيكون هلاكنا، ليس لأنّنا سنموت، بل لأنّ الجهل سيتسلّل إلى عقولنا عن طريق الشّك. وهل من سلاح أكثر فتكًا بالبشر من الشّك؟

إن كنّا آمنَّا بالصّدفة، أو بالتّفاعل العشوائيّ بين المكوّنات الطبيعيّة، فلماذا لا نحمل بجنين تحمله أرحامنا بالصّدفة من دون تزاوج؟ ولماذا لا تطرح شجرة التّفاح ليمونًا بالصّدفة؟ ولماذا لا يتغيّر مسار الليل والنهار بالصّدفة؟

لا أظنّ أنّ الصّدفة كلمة حقيقيّة بقدر ماه ي تعبير يجيز جهلنا للماورائيات الكونيّة والأحكام الالهيّة، فحتّى التقاء الأحبّة ليس بصدفة، واختيار مسارات حياتنا ليس قرارًا عشوائيًّا، ومقابلة صديق في الشّارع ليس موعدًا بلا تدبير، كلّ شيء مدروس، أعطانا الله حريّة القرار ضمن مواقف وضعنا هو بها، ليختبرنا لا أكثر ولا أقلّ.

فهل كانت دائرة الفراغ التي ربطت بحبالها حول دماغي محض صدفة؟ أم هي خطّة إلهيّة لأغوّص في موضوع لم يسبق لي البحث فيه؟ وهل صدفة ستقرؤون هذا المقال؟ أم هو نكزة توعويّة لنعيد ربط محيطنا الحياتيّ بالرّؤية الدّينية وأحكامها؟

يوسف الشمالي (كاتب من لبنان)

الصدفة.. "كومبارس" في مسرحية من إخراجك!

تخيّل معي أنّك جالس في المقهى تشرب فنجان قهوة وتنتظر "الصدفة" أن تمرّ من أمامك مثل قطة شاردة، وفجأة تتعثّر بكراسي المقهى وتكسر نظارتك، عندها تقول لنفسك: "آه! صدفة!"، بينما الحقيقة أنّ الأمر كلّه سلسلة من الأسباب الصغيرة: كرسي مكسور من قبل، عامل تنظيف نسِيَه، وأنت قررت أن تجلس في الزاوية الضيّقة بدل الطاولة الواسعة.

في ثقافتنا العربية نحبّ أن نحمّل "الصدفة" أوزارنا: إذا فشل مشروع نقول "صدفة"، إذا خاب حلم نقول "صدفة"، وإذا وقعت في غرام شخص ثم اكتشفت أنّه لا يشبه بطل الرواية ولا حتى بائع التّبغ، تواسي نفسك بالصدفة أيضا. لكن لو دقّقنا قليلاً، نجد أنّ "الصدفة" مجرد شمّاعة نعلّق عليها كسلاً في التخطيط، أو عجلة في القرارات، أو وهمًا صنعناه بيدنا وسمّيناه حبًّا، ثم توقّعنا أن يحرسه القدر كما يحرس الحراس أبواب الملوك.

الأدب العربي مليء بهذه الحكايا: من "قيس" الذي التقى "ليلى" وكأنّ اللقاء مكتوب "صدفة"، إلى بطل "ألف ليلة وليلة" الذي يعثر على مصباح "علاء الدين" تحت الرمل بلا مناسبة. لكن إن تأملتَ جيّدا، ستجد أنّ الأمر ليس "صدفة" أبدًا: "قيس" لم يكن يترك المراعي إلا حينما تمرّ "ليلى"، والمصباح لم يظهر إلا لأنّ الحفر كان مبرمجًا من شيخ ماكر هاكر (Hacker) يعرف كيف يضحك على سذاجة الفتى. نحن الذين نسمّي تراكم الأسباب "صدفة"، ثم نصدّق اللعبة ونعلّق عليها سقوط الأحلام، بدل أن نواجه الحقيقة: أنّ الوهم أقوى من التخطيط في حياتنا.

ولأنّنا نحب الخلط بين الجدّي والمضحك، نجد في ثقافتنا الشعبية إلى الآن شخصيات مثل "الشيخة أم عباس لجلب الحبيب"، التي تقنعك أنّ الحب سيأتيك بدعسة بخور وقرن تَيس أحوَل وسبعة حروف معقودة على خيط أحمر. وهكذا يصبح الحلم بالزواج السعيد أو الحبيب العائد محروسًا لا بخطّة ولا بجهد، بل بـ "صدفة" مدفوعة الثمن على شكل بخور وصوت تمتمة. وما إن ينهار الوهم، حتّى نلعن الصدفة مجدداً، وننسى أنّنا نحن من منحناها مكانة العرّاف.

الفكرة أنّ "الصدفة" لا تحطّم الأحلام، بل تكشف أنّها كانت أوهامًا منذ البداية. نحن الذين نبني القصور على رمل الكلمات، وننتظر أن يثبتها البحر. الأدب العربي فضح هذا منذ قرون، حين جعل من الأبطال ضحايا انتظارات طويلة بلا تدبير، ثم ختم حكاياتهم بدمعة أو مصيبة أو نكسة. وإذا أردنا أن نأخذ عبرة كوميدية من الأمر، فهي ببساطة: لا تنتظر الصدفة، ولا تشترِ بخور "الشيخة أم عباس"، ولا تظن أنّ القدر موظف علاقات عامة يعمل على راحتك. الأحلام تُبنى بالخطط، والوهم يُهدَم بالوعي، وما الصدفة إلا "كومبارس" يمرّ في المشهد ليذكّرك أنّ المسرحية من إخراجك أنت لا من إخراج الغيب.

د. بسيم عبد العظيم عبد القادر (شاعر وناقد أكاديمي، كلية الآداب ـ جامعة المنوفية، رئيس لجنة العلاقات الخارجية بالنقابة العامة لاتحاد كتاب مصر)

بين القدر والصدفة في حياتنا الاجتماعية والثقافية

هذا موضوع طريف ولكنه على جانب كبير من الأهمية على المستوى الشخصي والشعبي والعالمي، ولهذا فقد عرض له الفلاسفة والمفكرون كما اهتمت به الأديان السماوية، بما فيها الدين الإسلامي الذي أولاه عناية خاصة، وإن اختلف منظور الأديان عن منظور الفلسفات والمفاهيم الشعبية.

فالصدفة، أو ما يُسمّى بـ "ضربة الحظ"، كلماتٌ متداولة في القواميس الشعبية، تشي وكأنَّ الحياة مضمار رهان، يفوزُ فيه الإنسان بمحض المصادفة أو الحظ.

وقد عبَّر "فريدريك الثاني"، ملك بروسيا (1712 ـ 1786)، عن هذا المعنى في رسالة بعثها إلى الفيلسوف الفرنسي "فولتير"، حيث قال: "كلما تقدَّمنا في السن، اكتشفنا أنَّ صاحبة الجلالة المُقدَّسة: الصدفة، تقوم بتدبير ثلاثة أرباع عمل هذا العالم التعيس".

وكثيرة هي الحكايات التي تتحدث عن اكتشافات علمية عظيمة جاءت عن طريق الصدفة، مثل: اكتشاف "البنسلين"، و"أعواد الكبريت"، و"الأشعة السينية"، و"البلاستيك". وكذلك نجد في سِيَر الأدباء والفنانين مَنْ يعترف بأنه دخل مجال الإبداع مصادفة، دون تخطيط مسبق.

لكن، هل الصدفة حقيقة؟ وهل يمكن أنْ تُغيِّر حياة الفرد أو حتى مسار أمّة كاملة؟ أم أنَّ تداول مفهوم الصدفة في الثقافة الشعبية هو نوع من التفكير السلبي والركون إلى المعجزات؟

هذه الأسئلة تقودنا إلى استكشاف مفهوم الصدفة وأثره في حياتنا.

1 - مفهوم الصدفة بين الإيمان والعمل

الصدفة، في معناها البسيط، تعني وقوع حدث غير متوقع دونَ ترتيب مسبق، لكنها لا تُنكر دور الإنسان في السعي والعمل، إذ قد تُهيّئ الصدفة الفرصة، بينما يبقى استغلالها مرهونًا بمدى استعداد الفرد وجهده، فكثير من الاكتشافات العلمية وُلدت من لحظة غير متوقعة، لكنها لم تكن لتصبح ثورات معرفية لولا عقول يقظة قادرة على تحويلها إلى إنجاز، كما حدث مع "ألكسندر فلمنج" عند اكتشافه للبنسلين، أو "فيلهلم رونتغن" عند اكتشافه للأشعة السينية.

2 - الصدفة في الثقافة الشعبية: بين السلبية والإيجابية

في ثقافتنا الشعبية، كثيرًا ما تُستَعمل كلمات مثل "ضربة الحظ" أو "الصدفة"، وغالبًا ما تكون مقرونة بالتمنّي وانتظار الفرج، كأنَّ الإنسان يُلقي بمصيره في يد المجهول.

وهذا يمكن أن يكون "سلبيًّا" إذا أدَّى إلى التواكل والكسل، وجعل المرء يتوقف عن السعي والاجتهاد، ظنًّا أنَّ الحلول ستأتيه دون جهد.

لكن للصدفة وجه "إيجابي" أيضًا، فهي قد تمثل فرصة غير متوقَّعة تتيح للإنسان الانطلاق نحو إنجاز عظيم، وهنا يبرز دور الوعي والعمل في تحويل هذه اللحظة العابرة إلى مشروع ناجح، سواء كان في العلم أو الفن أو أي مجال آخر.

3 - أثر الصدفة في حياة الأفراد والمجتمعات

الصدفة قادرة على إحداث تحوّلات جذرية، سواء على مستوى الفرد أو الأمة أو حتى العالم بأسره:

فعلى مستوى الفرد: قد يؤدي لقاء عابر إلى فرصة عمل، أو تغيير مسار حياة شخص بالكامل.

وعلى مستوى الأمّة: كثير من الأحداث الكبرى مثل اندلاع الحروب أو اكتشاف موارد طبيعية مهمة جاءت على نحو غير متوقع، لكن طريقة التعامل معها هي ما يحدد مصير الشعوب.

أما على مستوى العالم: فإنَّ بعض الاكتشافات العلمية أو الأحداث التاريخية غيرت مجرى البشرية كلها، مثل الكهرباء أو الإنترنت أو اكتشاف القارة الأمريكية.

4 - تجربة المبدعين مع الصدفة في الإبداع

كثير من المبدعين يروون أنَّ أفكارهم الأولى جاءت مصادفة، فقد يولد نصٌّ أدبيٌّ من مشهد عابر، أو فكرة فيلم من حديث سمعه الكاتب بالصدفة، أو قصيدة من موقف إنساني صادفه الشاعر فجأة.

لكن هذا لا يعني أنَّ الإبداع نفسه وليد المصادفة وحدها، فالمبدع الحقيقي هو مَن يلتقط الإشارة ويحوِّلها إلى عمل فني متكامل من خلال موهبته وجهده.

5 - دور الكاتب والمبدع في مواجهة الفكر الانهزامي

يقع على عاتق الكاتب والمبدع دور كبير في محاربة الفكر الذي يجعل الناس يركنون إلى الصدفة والحظ، مُتخلّين عن العمل والإرادة.

ومن واجب المبدع أن:

ـ يُقدِّمَ في نصوصه شخصيات تسعى وتكافح، لا شخصيات تنتظر الفرج دون جهد.

ـ ينقدَ ثقافة التواكل والركون إلى "الحظ" وحده.

ـ يبثَّ روح الأمل والعمل، ليصبح الإبداع أداة للنهوض لا للانهزام.

6 - موقف الفلسفات والأديان من مفهوم الصدفة والقدر

أولًا: في الأديان السماوية:

في الإسلام:

لا وجود للصدفة بمعناها الفوضوي، فكل ما يحدث في الكون مقدّر بعلم الله وحكمته، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ (القمر: 49).

ومع ذلك، يدعو الإسلام إلى الأخذ بالأسباب، حيث يقول الله تعالى: "وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ" (الأنفال، آية: 60). ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اعملوا فكلٌّ مُيسَّر لما خُلق له".

وقد ضرب لنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أروع الأمثلة في الأخذ بالأسباب وعدم التواكل أو الاعتماد على الصدفة أو الحظ، فقد كان يدعو وفود القبائل التي تفد إلى مكة للحج، كما خرج لدعوة "ثقيف" في "الطائف" ولقي من الذى ما لقي، أما الهجرة فهي درس قائم بذاته في الأخذ بالأسباب مع حسن التوكل على الله، فالصحبة وإعداد الراحلة والزاد واتخاذ الدليل الحاذق، والتمويه على المشركين والاختباء في "غار ثور" ثلاثة أيام حتى ينقطع الطلب، وغيرها من الإعدادات، وحين يقول له صاحبه أبو بكر الصديق وهما في الغار: يا رسول الله، لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، يكون جوابه الواثق من معيّة الله: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ وهذا ما سجله القرآن الكريم حيث يقول تعالى: "إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" (التوبة، آية: 40)، وكل غزوات الرسول (صلى الله عليه وسلم) تمثل فيها الاستعداد قدر المستطاع، وعدم الاعتماد على الصدفة أو الحظ، ولعل غزوة الخندق خير دليل على ذلك.

وقد اقتدى المسلمون برسول الله (صلى الله عليه وسلم) في عصور القوة والازدهار فسادوا الدنيا وعمروا الأرض وتركوا آثارا حضارية وعلمية وعمرانية واجتماعية تغنى بها المستشرقون في كتبهم، ولعل أبرزهم المستشرقة الألمانية (زيغريد هونكه) في كتابها القيم: "شمس العرب تسطع على الغرب: أثر الحضارة العربية في أوروبا" وغيرها من المنصفين للحضارة العربية والإسلامية.

في المسيحية واليهودية

تتفق هذه الأديان على أنَّ الأحداث تجري وفق خطة إلهية، وما يبدو صدفةً للإنسان هو في الحقيقة تدبيرٌ إلهيٌّ خفيٌّ.

في الفلسفة القديمة والحديثة

أرسطو: ميَّز بين الأسباب الطبيعية المتوقعة والصدفة التي تنشأ من التقاء أسباب غير مقصودة.

الرواقيون: اعتبروا أنَّ ما يبدو صدفةً هو في الحقيقة جزءٌ من نظام كوني محكم.

الفلاسفة المحدثون: مثل "فولتير" رأوا أنَّ جزءًا كبيرًا من حياتنا يخضع للمفاجآت، بينما "سبينوزا" رفض الصدفة تمامًا، معتبرًا أنها مجرد جهل الإنسان بالأسباب الحقيقية.

7 - مقارنة بين الموقف الديني والموقف الفلسفي

تعريف الصدفة:  

دينيا: حدث يبدو غير متوقع للإنسان لكنه جزء من تقدير إلهي محكم.

فلسفيا: تلاقي أحداث غير مقصودة نتيجة جهل الإنسان بالقوانين الدقيقة.

مصدر الصدفة:         

دينيا: إرادة الله وعلمه المطلق.                                  

فلسفيا: قوانين الطبيعة أو احتمالات مادية.

عشوائية الصدفة:

دينيا: لا وجود لعشوائية حقيقية، فكل شيء بقدر وحكمة.              

فلسفيا: قد تكون عشوائية محضة أو جزءًا من نظام غير مفهوم.

دور الإنسان:

دينيا: السعي والعمل مع التوكل على الله.                

فلسفيا: فهم القوانين واستثمارها لتحقيق الأهداف.

الهدف من الأحداث:

دينيا: لكل حدث حكمة وغاية إلهية.                                  

فلسفيا: قد لا يكون للأحداث هدف نهائي.

الموقف من التواكل:

دينيا: مرفوض، والعمل واجب ديني وأخلاقي.

فلسفيا: لا مكان للتواكل، بل للعقل والتجربة.

8 - أمثلة تاريخية وعلمية توضح الفرق            

الرؤية الدينية: (قدر إلهي وحكمة خفية).

الرؤية الفلسفية/ العلمية: (قوانين طبيعية أو صدفة).

اكتشاف البنسلين (1928):

دينيا: نعمة من الله لإنقاذ البشرية من الأمراض.

فلسفيا: حادثة غير مقصودة رصدها "فلمنغ" وطوّرها لاحقًا.

فتح الأندلس (711م):

دينيا: نصر إلهي وتمكين للدين.

فلسفيا: نتاج ظروف سياسية وعسكرية سمحت بذلك.

سقوط نيزك تونغوسكا:

دينيا: آية إلهية وتذكير بضعف الإنسان.

فلسفيا: ظاهرة طبيعية نتيجة اصطدام جرم سماوي بالغلاف الجوي.

لقاء يُغيِّر مسار شخص ما:

دينيا: تدبير إلهي ساق شخصين لتحقيق غاية معينة.

فلسفيا: حدث عشوائي سببه حركة الأفراد في مكان وزمان محددين.

9 - الجمع بين الرؤيتين في حياتنا المعاصرة

في عالم اليوم، لا بد للإنسان أن يتعامل مع مفهوم الصدفة بطريقة متوازنة، بحيث:

من جانب الإيمان: يرى الأحداث غير المتوقّعة كجزء من حكمة إلهية، فيعيش مطمئنًا وواثقًا، بعيدًا عن القلق أو الإحباط.

ومن جانب العلم والعقل: يستثمر هذه الأحداث عبر الفهم والعمل، محوّلاً المفاجآت إلى فرص للتقدم والنجاح.

وبهذا التوازن، تتحوّل الصدفة من قوة غامضة إلى "جسر بين الإيمان والسعي"، وبين الحكمة الإلهية وجهد الإنسان الواعي، فيصبح الفرد فاعلًا في مجتمعه، قادرًا على تحويل التحديات إلى إنجازات، مع إدراك عميق أنَّ كل ما يحدث في هذا الكون يجري بعلم الله وتقديره.

الصدفة ليست مجرد حظ أعمى، ولا قوة خارجة عن إرادة الإنسان تمامًا، بل إنها نافذة يطلّ منها المجهول، فتمنحنا فرصًا أو تضع أمامنا تحديات، ويبقى الفرق الحقيقي في طريقة استجابتنا لها:

فإما أن ننتظرها سلبيًّا، مكتوفي الأيدي، أو نستقبلها بعقل واعٍ وقلب مؤمن، فنحوّلها إلى طاقة إيجابية تدفعنا نحو التغيير والنجاح.

وبهذا، تتكامل الحكمة الإلهية مع جهد الإنسان، فيصبح للصدفة معنى أعمق من مجرد حدث مفاجئ، بل علامة على تفاعل الغيب مع الإرادة البشرية في مسيرة الحياة.

وأنا من منظور إسلامي أرفض مصطلح الصدفة وأفضّل مصطلح القدر، لأنَّ فيه تسليمًا لله وتفويضًا له مع بذل غاية الجهد في تحصيل المطلوب.

وقد لعب القدر دورا كبيرا في حياتي فقد شاء الله أن ألتحق بالمدرسة الابتدائية في أسوان عام 1965 لمدة يومين، حيث كان والدي يعمل موظفا هناك في مصلحة الأحوال المدنية، ولما عدنا إلى "المنوفية" تقدّم والدي بأوراقي إلى المدرسة فكان سنّي صغيرا، فلم يقبلوني إلا عن طريق التحويل من أسوان إلى المنوفية، فوفّر القدر لي عاما من عمري.

وفي الشهادة الثانوية عام 1977، كانت رغبتي وبالطبع رغبة أسرتي أن ألتحق بكلية الطب، ولكن ظروفًا صحيّة أثرت على مجموعي، فحالت بيني وبين ذلك، فالتحقت بكلية العلوم الزراعية لمدة ثلاثة أشهر ثم حوّلت إلى كلية التربية أملا في دخول قسم اللغة الإنجليزية، ولكني أعجبت بقسم اللغة العربية وعُيّنت معيدا بالقسم عام 1981م ثم استكملت دراستي في كلية الآداب جامعة عين شمس، وكنت أريد التخصص في الدراسات الإسلامية، ولكن أستاذ المادة (يرحمه الله) سافر إلى الإمارات أثناء السنة التمهيدية، فقررت بقدر الله مواصلة الدراسة في الأدب الأندلسي، وصادف ذلك هوى في نفسي كوني شاعرا مغرما بالطبيعة الريفية، فدرست الصورة الشعرية عند ابن خفاجة الأندلسي الملقب بجنان الأندلس.

وعن حياتي الاجتماعية فقد كانت زوجتي الأولى على قسم اللغة العبرية بآداب القاهرة، ولكنها لم تُعيّن هناك، وعينت في قسم اللغات بكلية التربية جامعة المنوفية، وشاء الله أن نرتبط بالزواج فكان ذلك أجمل أقداري، فلو عينت بآداب القاهرة لما التقينا، فسبحان الله العظيم.

وكانت إعارتي إلى كلية التربية للبنات بواحة "الأحساء" في السعودية قدرا جميلا آخر، فقد وجدتها تشبه محافظة المنوفية التي نشأت بها، من حيث البيئة الزراعية والجمال الطبيعي، علاوة على حلاوة العشرة في أهلها وكثرة الشعراء فيها فصادف ذلك هوى في نفسي وحرّضني على الإبداع الشعري، وتبادل المعارضات الشعرية مع شعراء الأحساء حتى لقد أنتجت ديوانا بعنوان: من وحي الأحساء.

كما أنني أثرتُ في طالباتي فشجعتهنَّ على الإبداع الشعري والأدبي فصار منهن الشاعرات والروائيات والصحفيات، والحمد لله رب العالمين، ولا شك أنَّ هذا يُعدُّ من جميل صنع القدر الإلهي لي ولهؤلاء الطالبات اللواتي يتواصلن معي حتى اليوم بعد مرور عقد ونصف من رحيلي عن الأحساء.

ومن جميل صنع القدر أنني جُبلتُ على الفطرة الطيبة والتسامح وحُبِّ خدمة الآخرين من أصدقائي وطلابي، بالرغم مما ألاقيه أحيانًا من جحود ونكران للجميل، ولكني أنتظر الأجر من الله.

وما كاد لي أحد فسامحته إلا وجدت العوض من الله أضعافا مضاعفة، وأجد ما يساوي عندي كنوز الدنيا وهو حب المخلصين والأسوياء من الناس، ودفاعهم عني وتصديهم للمغرضين والحاقدين.

ما أجمل أقدار الله فيما يحيط بنا، والحمد لله رب العالمين.

وقد قرأت اليوم قدرا على صفحة الأستاذ الدكتور "أسامة شوقي"، أستاذ طب النساء والتوليد بطب القصر العيني جامعة القاهرة، مقالا عن هذا الموضوع يطيب لي أنْ أنقله لكم كما كتبه حيث يمزج بين الفصحى والعامية، حفظا لحقوقه، حيث يقول:

"فلسفة عميقة ومفيدة قوي اللي حيفهمها كويس حيستفيد كويس قوي قوي، في مشوار الحياة:

هناك الناجح وهناك من يفشل، هناك من يحقق إنجازات ويحقق تفوق استثنائي عن أقرانه.. وهناك من يبقي كما هو يعيش حياة تقليدية معتدلة خالية من إنجازات استثنائية.

هنا بقي بنسمع كثيرا لفظ (حظوظ ومحظوظ) في واقع الأمر، ما يطلق عليه البعض "الحظ"، هو ليس إلا الاستخدام الجيد وفي اللحظة المناسبة للفرص المتاحة.. وأيضا البقاء مستعدًّا ومتيقظا منتبها.. والتحيّن والتركيز بكل الحواس لاقتناص الفرصة وتطويرها وتنميتها والصعود بها إلى الأعلى.. الفرص مثل الجناحين، الشاطر اللي يحط إيده فيهم ويطير لفوق.. تاني أكررها، الفرص زي الجناحين لكن برضه لو حطيت ذراعك فيهم لن تطير وترتفع لفوق بدون ما تحرك ذراعيك وتخبط في الهواء بقوة.. وافهم دي كمان، كل ما تحرك ذراعيك بقوه أكثر وتخبط الهواء بمنتهي الإصرار، كلما ارتفعت للأعلى وأعلى وأعلى.. يبقي مفيش حاجه اسمها محظوظ ولا حاجة اسمها مسنود ولا حاجة اسمها بخت ومبخوت ولا حاجة اسمها أصل أمّه داعية له، ما كلنا أمّهاتنا بتدعي لنا.. لكن كام واحد بيكون يستاهل دعوه أمّه ويستاهل رضاها.. دعوة أمك ليك مش حتشتغل مهما كان، لو انت بني ادم مش كويس الفرص والبخت والحظ.. كل دول حيمرّوا أمامك ويعدّوا عليك ولكن لن تستفيد منهم عشان سرحان تايه مشغول في أمور تانية.. يا للا اسمع كلامي خليك مصحصح ومنتبه. خليك مفتح عينيك، مطرطق ودانك.. لا تجعل الفرص تمر عليك زي القطار السريع وأنت قاعد على قهوة المحطة تدخّن شيشة وتلعب طاولة، لا تنتظر الفرصة تخبّط لك ع الباب، قوم اتحرك هز طولك ودوّر أنت على الفرص.. ولما تخبط لك فرصة ع الباب، يبقى سيادتك تفز تقوم تفتح لها وترحب بيها.. وتستقبلها وتهتم بيها.. مش تقعد كسلان مستني اللي يجيبها لك لغاية باب بيتك والنية كمان، بلاش تكون خبيث وشرير النية ولئيم وعايز تسرق الفرصة من إيد غيرك اللي تعب وشقي للوصول لها والحفاظ عليها.. بدل ما تاخد السمكة اللي اصطادها غيرك، روح أنت اصطاد لروحك سمكة غيرها.. البحر كبير ومليان خير، بلاش تبقي عينك فارغة ومستكتر الفرحة لغيرك وعايز تسرقها.. لسه عندي لك كلام كتير تاني.. بس انت ابدأ ومش لازم تستناني يا للا ابدأ".

شكرا لمعالي الأستاذ الدكتور الناجح والمثقف والمحبوب "أسامة شوقي".

وشكرا لجريدة "الأيام نيوز" الجزائرية على طرح هذا الموضوع المهم والمفيد في تصحيح المفاهيم لدى القراء الأحبّاء.

عدوية موفق الدبس (باحثة وكاتبة سورية - لبنان)

صدفة.. أم تدبير إلهي؟

في مساء عائلي هادئ، انقطع الإنترنت لساعات طويلة، فوجدنا أنفسنا مجبرين على الالتفات إلى بعضنا، إلى الأحاديث الدافئة التي كثيرًا ما يسرقها منا ضجيج العالم الافتراضي. بدا الأمر في أوله كأنه فراغ، ثم سرعان ما تحوّل إلى امتلاء، حين بدأ والدي يسرد قصة لقائه الأول بوالدتي.

ابتسم ابتسامةً غمرها الحنين، وقال إن صدفة صغيرة جمعت بينهما، ثم راح يروي تفاصيل غطّاها غبار السنين. أكملت والدتي الحكاية، فذكرت أنه حين سافرا معًا إلى الغربة، قدّرت لها الحياة أن تلتقي بجيران لم تعرف مثلهم من قبل، ولو بحثت عن لطفهم في "خرم إبرة" لما وجدت لهم مثيلًا. ثم تذكّر أبي الرجل الكبير الذي كان سندًا له بعد الله في بدايات عمله، وكيف أن لقاءً عابرًا - صدفة كما يصفونه - فتح أمامه باب رزق وطمأنينة. حتى شقيقي انخرط في الحديث، يحكي عن صدفٍ متكرّرة مع أصدقاء، وأماكن، وتجارب لم يكن ليتوقّعها.

وهكذا انحصر حديثنا كلّه في كلمة واحدة: "الصدفة". لكن في داخلي، كانت كلمة أخرى تُلحّ عليّ: أحقًّا هي صدفة؟

ما يسميه والدي صدفة في لقائه مع والدتي، ألا يمكن أن يكون استجابةً لدعائه بالزوجة الصالحة؟ وما تراه والدتي صدفةً في حسن الجوار بالغربة، أليس انعكاسًا لدعائها الدائم أن يحيطها الله برفقة صالحة؟ وذلك الرجل الطيب الذي كان سندًا لأبي، أليس ثمرةً من ثمرات رضاه عن والده، فجاءه الخير على هيئة إنسان جعله الله جنديًا من جنوده؟

لماذا لا نتوقّف قليلًا عند هذه الحوادث، ونفكر بعمق: هل هي صدف عابرة، أم رسائل مكتوبة بعناية؟ ألا يمكن أن تكون كل واحدة منها خيطًا منسوجًا في نسيجٍ أكبر، لا نراه نحن ببصرنا المحدود، لكنه واضح عند من كتب وقدّر؟

الصدفة في ظاهرها لقاء غير متوقّع، ولكن في باطنها قد تكون ثمرة دعاء في جوف الليل، أو أثر ركعة في سكون الفجر، أو رضًا يزرعه والد في قلب ولده فيثمر بعد حين. قد تكون استجابةً لدعوة بظهر الغيب من قلبٍ محبّ، أو نتيجة عملٍ خفيّ في سبيل الله لم يعلم به أحد، لكن السماء لم تنسه.

وإن تحفظه بصداقه لطيفة، أن يضع أمامك الله من ينتشلك من حزنك، أن تخوض معارك طاحنة وتجد من يهوّن عليك، أن تحظى بمن يشاركك تفاهتك ويحب التفاصيل المملّة مثلك، فكل هذا ليس بمحض الصدفة، بل هو تدبير وعناية إلهية فائقة، حتى يجبر خاطرك ويشفي قلبك وتكون بخير.

حتى الذين يمرّون في حياتنا بثِقَلهم وأذاهم، هم ليسوا صدفًا عبثية، بل أدوات في خطة إلهية، لعلهم جسر نُجبر على عبوره لنصل إلى ضفة أخرى، أو مرآة تعكس لنا ما يجب أن نتغير فيه، أو تجربة قاسية تُعِدّنا لاستقبال نعمة أعظم.

إذًا، ليست هناك صدفة خالصة. هناك حكمة، هناك تدبير، هناك خطة إلهية محكمة تتجلّى في حياتنا على هيئة أشخاص وأماكن وأحداث.

ربما نسمّيها نحن "صدفة"، لأنها تفاجئنا، لكنها في علم الله "موعد مكتوب".

ما أجمل أن نرى الصدفة بعين أخرى: عين المؤمن الذي يدرك أن كل ما يحدث ليس اعتباطًا، بل هو جزء من قصة أعظم بكثير من حدود وعينا. قصة نكتب سطورها بأدعيتنا، بصبرنا، برضا والدينا، بأعمالنا في السرّ والعلن، ثم تأتي الأقدار لتكمل فصولها، فتُظهر لنا كيف تتحوّل الاستجابة الخفية إلى واقع نعيشه.

إنها ليست صدفة إذًا… إنها عناية الله التي تتخفّى أحيانًا في ثوب المفاجآت.

سحر قلاوون (كاتبة من لبنان)

عن خدعة اسمها "الحظ"!

إذا نظرنا حولنا، سنجد أشخاصا كثرا لا يعملون بجدّ، فهم لا يضحّون بالقليل من راحتهم مقابل العمل الجدّي، كما أنّهم ليسوا على استعداد لقضاء وقت لا بأس به وهم يتعبون من أجل بناء مستقبلهم.

وإن سألتهم عن السبب، لقالوا لك عبارات مثل: الموضوع كلّه متعلّق بالحظ أساسا.. أنا ليس لدي حظ جيد منذ ولدت لذلك مهما فعلت لن يحصل أيّ تغيير جيد في حياتي.

وما هذه سوى حجج وهمية يختبئ هؤلاء الأشخاص وراءها، وإن أردتم سؤالي عن الشيء الذي يختبئون منه، فسيكون ردي إليكم بأنهم يختبئون من مواجهة الحقيقة.

إن هؤلاء الأشخاص، الذين ربما تكون أنت أيها القارئ أو حتى أنا، من ضمنهم، لا يريدون مواجهة الحقيقة لكيلا يضطروا لتغيير تصرفاتهم، وكم يخيف التغيير كُثرا!

الحقيقة هي أن الحظ ربما يكون له وجود، والصدفة ليست بالكذبة، لكن أن يعتقد الإنسان أن حياته كلها مبنية على الحظ والصدفة لهي خدعة قد يُقنع بها نفسه، لكنها تبقى مجرد خدعة لا تجرؤ على الاقتراب من الحقيقة.

قد تحصل معنا بعض الصدف السيئة، وكذلك بعض الصدف الجيدة، لكن لا يمكننا اعتبار حياة أيّ إنسان بأكملها مجرد صدفة. فالله عزّ وجلّ لم يرسلنا إلى هذه الدنيا عن طريق الصدفة، ولم يجعلنا على قيد الحياة لكي نكبّل أنفسنا بكلمة "حظ" وبمعتقدات خاطئة قد تتسبب بمرور أعمارنا ونحن لا نفعل أيّ شيء ذا قيمة.

قد يفشل الإنسان منا في أمر ما، فيبدأ بشتم حظه، لكن لماذا لا يفعل شيئا آخر بدلا من ذلك يا ترى؟! لماذا لا يتذكر ما فعله وما لم يفعله، ولماذا لا يقيّم المجهود الذي بذله بدلًا من رمي التهم على الحظ السيء؟!

فقد يدرس التلميذ صفحة واحدة من مُقرّر دراسي يتألف من العديد من الصفحات، ولا يأخذ في الدراسة أكثر من ربع ساعة، ومن ثم ينجز الامتحان، وبعد ذلك تأتي النتيجة ليبدأ بالشكوى من أن حظه سيء لذلك رسب؟! لماذا لا يعترف بأنه هو من أهمل واجباته وبأنه لم يكن على قدر المسؤولية الملقاة على عاتقه؟! ألهذا الحد يصعب على المرء الاعتراف بخطئه؟!

وقد يقود أحد الشبّان السيارة بسرعة جنونية، فتكون النتيجة حصول حادث مروّع، ومن ثم يخرج ليقول لك إن شاحنة قطعت طريقه صدفة فلم يتمكّن من فعل أي شيء. بالله عليكم ألن يكون الحادث أقلّ ضررا وخطورة إن قاد الإنسان سيّارته بهدوء؟!

لكن لماذا يهدأ الإنسان أو يبذل جهدا، في حين أن لديه ما يعلّق عليه كل أخطائه، وهو المدعو "حظ".

إن الحظ أو الصدفة ليسا عدمًا بطبيعة الحال، فقد تحدث أمور عن طريق الصدفة، فقد يكتشف الشخص حبّه للكتابة صدفة، أو للرسم ربما، لكن ما بعد ذلك يكون متعلّقا بالعمل الجاد.

فلا يمكنك أن تصبح كاتبًا مبدعا وناجحا، أو رسّاما مشهورا، أو مهندسا له اسمه في مجال الهندسة عن طريق الصدفة، بل عليك أن تدرس وتعمل وتتعب لكي ترى نتائج ذلك بعدها.

فالصدفة والحظ لحظات، أم العمل الجدي فهو للعمر بأكمله، فإما أن نعمل بجد لنقطف ثمار تعبنا وإمّا أن نرمي كل شيء للحظ فنتحسّر لاحقا على عمر أفنيناه بين جدران سجن اسمه "الصدفة".

بقلم:غنى نجيب الشفشق (كاتبة من لبنان)

"ماري شيلي" وإحياء الموتى.. صدفة أم مفاجأة أدبية؟

"الصُّدفة تُهَيَّأ للأذهان المستعدّة" (باستير).

قد يتجلَّى لنا من الوهلة الأُولى أنَّ الصُّدفة والحظّ هما مضمار هذه الحياة. ولكن لو نظرنا بعينِ العقل لاكتشفنا أنَّ ذلك وهم خدعنا بِهِ أنفسنا.

لنقل أنَّ الحياة قد أعارتنا من خزانتها قميص "فرص" كعربون أو هديَّة لنكمل السَّير حفاة خلف ما نسعى إليه. لقد حاول باستير تفسير الصُّدفة بأنَّها تُهَيّأ للفرد صاحب الذهن المستعدّ، وكأنَّهُ بذلك يخبرنا أنَّ هناك دائمًا ما يدفعنا لاستغلال تلك الفرص، كخلفية تراكميَّة مثلا.

لكن هذا الـ "قميص" لن يدومَ العمر، فأكمامه ستصبحُ قصيرة، أو ربَّما يضيقُ على جسدِ صاحبهِ، فَيُرمى وكأنَّهُ لم يكن! لا بدَّ من السَّعي، فالحياة ليست طبقًا من فضَّة، والحظُّ ليس سيِّد المواقف دائمًا، سوف يتلاشى الحلم ونبقى عراةً في دربِ أمنياتنا. لا يوجد ماردٌ في السَّماءِ، والغيمُ لا يمطرُ صدفًا جميلةً. الإنسان محمَّلٌ بالسَّعي!

صحيحٌ أنّ بعض الفرص تأتي جميلة خالية من الانتظار كمال قال -محمود درويش - وكأنَّها "نقرة فوق الأنفِ" مُلفتةٌ، إلاَّ أنَّ علاء الدين وماردهُ ما هما إلَّا أسطورة.

دائمًا ما أقول: "بعض النُّصوص تكتبنا.. لا نكتبها"، تمسكُ بقلمنا وتسكب الحبر كيفما تشاء، تحرّكنا وتلهو بنا كما يحلو لها حتَّى تكتمل الصّورة فيأتي النَّص عكس المخطَّط، وربَّما عكس الفكرة تمامًا. هنا تأتي المفاجآت الأدبية بمعانيها السحريَّة لتقلبَ الطَّاولة رأسًا على عقِب! ومهارةُ الكاتب هنا عندما يصوّر النَّص بفطرتِهِ للقارئ من دونِ العبثِ بحنكتِهِ.

أُؤمن بأنَّ تلك المفاجآت الأدبيَّة أجمل وأكثر براعة من الصُّدف، فهي حوار خلاّق يبني نفسه بين الوعي واللاَّوعي والكاتب الحقيقي هو الذي يحرّر تلك المفاجآت للوحة فنِّية تذهلُ عين القارئ!

وبعيدًا عن الثّرثرةِ حول الصُّدفة العمياء، فقد كتب أشهر الكتّاب قصصهم عن طريق هذه المفاجآت فالكاتبة الإنجليزية "ماري شيلي" (1797 - 1851) مثلاً التي أصبحت فيما بعد واحدة من أشهر الكُّتاب في الخيال العلمي، ولدت فكرتها من كابوسٍ رأتُه في منامها أن "رجلاً يحاول إحياء الموتى بطريقة سحريّة.."، ولولا المؤهلات والحنكة الأدبيَّة، لمات ذلك الكابوس في ذاكرتها ولم يولد قصّة شهيرة في المكتبةِ الأدبيّة، وغيرها الكثير مثل الكاتب الأرجنتيني "خورخي لويس بورخيس" (1899 - 1986) وولعِهِ المفرط بالفهارس والأفكار الفلسفيّة الذي قدّم للعالم كتاب "مكتبة بابل"، لم يكن ذلك مجرّد صدفة بل تحوّل حدث فجأة  أثناء إعداد لهيكل الرّواية، ليقدّم لا بحذاء السّردية التقليديّة إنَّما بخضوعه للفكرة التي قدمت الفهرس كمكتبة كونية تضمّ التّناقض، المعرفة والجنون.

لحظة السّحر عندما يدير الكاتب الدَّفة باتجاهِ لعبته الأدبية وليس الاستسلام للأفكار الَّتي تولد محض صدفة.

للصُّدفِ أثوابٌ كثيرة تغرينا بها، مفاجآت، ضربةُ حظ، فرصة... لكنَّها ما هي إلّا ملوّثات عقول لتبعدنا عن طريقِ العمل وترمي بنا نحو الكسلِ وخمول الفِكر.. هي تحرّك سكّة القطار كما تشاء إلى أن نبتعدَ عن الهدفِ الحقيقيّ وننتظر الصُّدف، المعجزات وأمنيات تتساقط مع المطر.

ردوان كريم (كاتب من الجزائر)

الصدفة.. هل تقودنا إلى النجاح أم تعطِّل خططنا؟

يردّد الكثير من الناس مقولة: "رُبَّ صُدفةٍ خيرٌ من ألفِ ميعاد" عند الحديث عن لقاء الأحبّة دون موعد، والتعرّف على أشخاص تكنّ لهم الاحترام والتقدير. لكن ماذا عن الأشخاص المنظّمين جدًّا، الذين يحسبون المواعيد بالدقائق، والذين يملكون من الأشغال أكثر من العمر الذي قُدّر لهم أن يعيشوه على الأرض؟ أولئك المشغولون جدًا، الذين يسعون للحاق بأشغالهم ولا يكفيهم اليوم، أليست الصدفة عائقًا لهم؟ لأولئك الذين لديهم برنامج للأسبوع والشهر والسنة، مرسوم جيدًا في عقولهم؟ أليست الصدفة تخريبًا لمخططاتهم؟ أليست الصدفة مضيعة لتعبهم ووقتهم؟ ألا تلعب الصدفة ضد عقارب ساعتهم؟

ولكن ماذا لو جاءت الصدفة في صفّهم، أسرع وأنفع من مخططاتهم! ألا تدفعهم نحو تحقيق المراد وتُمنحهم متّسعًا من الوقت للراحة والتفكير في أشياء أخرى، والاستمتاع بالحياة؟ الصدفة ليست دائمًا سلبية ولا إيجابية طوال الوقت.

حين يكون الشخص طيّب القلب، اجتماعيًّا بطبعه، تصبح الصدفة مأساة له. ففي كل مرة يستيقظ في الصباح للتوجّه إلى عمله، يصادف أشخاصًا يطلبون منه المساعدة والتوجيه، وغير ذلك من أمور الحياة الاجتماعية، فيجد أشغاله متراكمة، ومشاريعه عالقة، وإرضاء الناس غاية لا تدرك. والكائن الاجتماعي كلّما استيقظ يجد صدفة تنتظره. كلما كثر معارفه، أصبحت الصدفة روتينًا يوميا!

إذا خصصنا الصدفة للأشخاص المهمين والأحداث المهمة في حياتنا، فإن بعض المهن تجعلك تصادف كل يوم المشاهير والشخصيات المعروفة، سواء في المجال الرياضي أو الثقافي أو السياسي، إلخ. مما يجعل ذلك روتينًا، فلا تعود لتلك الصدفة أيّ قيمة بعد ذلك. ومن يمتلك روح المغامرة والاكتشاف، أو يعمل دون توقف، يعيش أحداثًا كثيرة ومهمة تجعل الصدف واقعًا مألوفًا. فالصدفة التي تأسر خيال الخامل، تلهمه وتحدث تغييرًا في حياته الهادئة البعيدة عن صخب الحياة، هي مجرد حدث عابر بالنسبة لمن يسعى أن يكون في قلب كل حدث، ويتذوّق كل تجارب الحياة الممكنة.

غالبًا، عندما يظهر أحد الفنانين أو المشاهير في البرامج التلفزيونية أو الإذاعية، يسأل المذيع أو المقدّمُ الضيفَ: "احكِ لنا عن بداياتك مع الموسيقى؟" أو السينما، أو الكتابة، أو السياسة... إلخ. والضيف غالبًا ما يكون في انتظار هذا السؤال منذ زمن، أو ربما فكّر فيه من قبل. فيجيب: "كنتُ في المدينة الفلانية في الثامنة عشرة من عمري، وبمحض الصدفة سمعتُ عن برنامج عنوانه كذا، فذهبت وشاركتُ في المسابقة وتم اختياري، ومن هناك صرت مغنيًا!"، ثمّ بعد مواصلة الحديث، يصل إلى السؤال القائل: "كم كان عمرك عندما بدأتَ الغناء؟" فيجيب: "في سنّ الخامسة، كانت أمي تغني في المطبخ وهي تعدّ الطعام، وكنتُ أغني وراءها! ثم بدأتُ أحفظ الأغاني وأستمع إلى كبار الفنانين".

في تناقض صارخ، يخبرنا أنه دخل عالم الموسيقى بمحض الصدفة في العشرين من عمره، ثم يعود ليقول إنه منذ نعومة أظافره وهو يتعلم، ويحاول، ويتدرّب، ويبحث عن الفرصة حتى حصل عليها. لقد تعب كثيرًا من أجل ذلك، ومع ذلك يقول إنه صدفة! قد تتصادف أن تنجح أغنية لأحدهم، ولكن بناء مسيرة فنية ليس محض صدفة أدخلته إلى غمار الفن.

هناك نوع من الناس تجده يحمل في قلبه غيرة أو حقدًا اتجاه آخرين فقط لأنهم نجحوا في أعمالهم ومشاريعهم. فبدلًا من الاعتراف بأن هؤلاء عملوا بجدٍّ، وتعبوا، وسهروا، وبذلوا كل طاقاتهم في محاولة الوصول إلى ما يحلمون به، فشلوا، سقطوا، ثم نهضوا ولم يستسلموا حتى تحققت رغبتهم، يقول: "نجح بمحض الصدفة!"، لا يصدق أن هناك من يشتغل دون توقف للحصول على ما يريد، لأنه هو لم يقدر على ذلك. فبدلًا من الاعتراف بتفوّق غيره بفضل العمل المكثف، وأنه فشل لأنه استسلم للخمول والكسل ولم يحاول، فقط لأنه كان خائفًا من الفشل الذي اختاره مباشرة دون عناء، يتّهم غيره بأن نجاحه كان بفضل الصدفة، أو ضربة حظ، أو القدر (أما القدر فتغييره بيدك، والله يستجيب للعامل الداعي).

الصدفة قد تجعلك تنجح مرة، ولكن ليس بشكل دائم، لأنها قد تأتي مرة في العمر أو ربما لا تأتي.

في الفن الموسيقي، قد تنجح أغنية بشكل رهيب لأحد الموهوبين الذين يملكون صوتًا فريدًا، لكن إذا لم يكن منضبطًا، ولا يعمل باستمرار وفق مخطط واستراتيجية مبنية على أسس صحيحة، ينتهي به المطاف مغنيًا منسيًّا، أو مغنيًا فاشلًا، لأنه كدّس الأعمال الفاشلة وغير الجديّة. بينما ينجح فنان آخر أقلّ موهبة منه، لأنه تعب من أجل إيجاد الكلمات المناسبة، والنوتة اللائقة، وتعلّم أبجديات الفن، وقرأ واشتغل على ثقافته، ووسّع من فكره وخياله، وعرف كيف يتحدث لجمهوره وكيف يفوز بقلوب الناس.

كلمات الأغنية الناجحة لا تأتي بمحض الصدفة. الصدفة أن تسمع عبارة جميلة أو يأتيك الإلهام إثر حادثة فتكتب نص الأغنية، لكن لكي يكون العمل متقنًا، يحتاج إلى إعادة كتابة وصياغة، وتوظيف الكلمات بشكل احترافي، والموازنة بين الموسيقى والكلمات، والنطق مع الصوت الموسيقي، والعبارة مع الإيقاع، وتناسق الأبيات وانسجامها.

الصدفة قد تمنحك الإلهام بكلمات أو لحن، لكن ليس كلاهما. وحتى لو جاءت الصدفة بأغنية كاملة، فإن مشروع مغنٍّ ناجح لا يُبنى على أغنية واحدة. أحيانًا يكتب أحدهم كلمات أغنية فتكون في غاية الاكتمال الفني، وعندما نأتي إلى الجانب الموسيقي تخيب، فتمرّ مرور الكرام. وبعد مرور سنين، إذا عاد أحدهم إلى ذلك النص المليء بالمشاعر والأحاسيس وغيّر اللحن والموسيقى وطوّرها وكيّفها مع الإيقاع الأمثل، تكتسح الأغنية الميدان وكأنها بُعثت من جديد.

من هنا نفهم أن العمل الجيد يُتعَب عليه، أما الإلهام والصدفة فمجرد حدث عابر.

الدكتورعبد الوهاب برانية - الأستاذ بجامعة الأزهر

بطاقتي

نُبِذَتْ إليَّ قدرًا لا صُدفَةً

في مساء الجمعة الموافق غرة رمضان 1441هـ وفي ظروف حظر التجوال الذي فرضه فيروس كورونا على العالم، حيث لزم الناس بيوتهم ليلا خوف انتشار العدوى، وخرجت بصحبة صغاري إلى أقرب ماكينة صرف من مسكني بدمنهور لصرف راتبي الشهري، وتحقيق رغبات الصغار في الشراء، ولكن الماكينة ابتلعت البطاقة (فيزا المرتب)، ولم أتمكن من إعادتها، فقد اكتشفت أنها معطلة، فعدت مبتئسًا، لأن إعادة البطاقة ستحتاج إجراءات قد تطول بعض الوقت، فاتصلت على بعض معارفي من موظفي البنك المختص لكن دون جدوى، وفي صبيحة السبت انتابني شعور جارف بأن البطاقة في انتظاري، ووجدت لساني يردد دون توقف: (اللهم كما نبذت يونس من بطن الحوت بالعراء فانبذ إليَّ بطاقتي) وذهبت إلى الماكينة وكأني حصلت على وعد بإعادتها، فوجدت موظف الصيانة عندها، وسألته عنها فأخرجها لي في لحظة، وعدت سعيدا مذهولا، ولم يعد أمر البطاقة يعنيني، قدر ما يعنيني استجابة الله عز وجل لدعائي، وأيقنت أنه سبحانه قد فتح لي طاقة نور، هي أهم وأغلى من كل بطاقة، ومن كل أموال الدنيا.

ذهبتُ عشيةً من قبْلِ حَظْرٍ ... إلى الصَّـرَّاف يصحبني صِغاري

فقدمتُ البطاقةَ أرتجيها ... تعود براتبي دونَ ازورارِ

ومِنْ حولي الصِّغارُ لهم أمانٍ ... وقد وقفوا مَلِيًّا بانتظارِ

نظرتُ إلى المكينةِ كي أراها ... تطالبني بأرقامٍ سِرَارِ

فلم تطلبْ ولم تسمحْ بِرُجْعَى ... وعَيَّتْ عن رجاءات الصِّغَارِ

وقالت شاشةٌ دكناءُ إني ... معطَّلَةٌ وجاءت باعتذارِ

وعدتُ مُحَمَّلا هَمًّا وغَمًّا ... وبِتُ الليلَ مبتئسًا بداري

وجاء الصبحُ صبحُ السبتِ يغدو ... بِهَمِّ الأمسِ منقوعَ المرارِ

فقد غدتِ المصارفُ مُقْفَلاتٍ ... سيبقى الهمُّ في طي اجترارِ

وأمسُ طلبتُ بعضَ الصحب  ممن ... لهم في البنك موفورُ اعتبارِ

فصُمُّوا عن نداءاتٍ توالتْ ... وآمالٍ تمادتْ في انهيارِ

ولكني بَصـُرْتُ بزحفِ مَدٍّ ... من الرحمن من غير انحسارِ

رأيت المدَّ يأتيني كغيثٍ ... تَوَالَى في ازديادٍ وانهمارِ

فلذت به وصرت أقول قولا ... كأني قد وصلت وباقتدارِ

إلى سرٍّ من الأسرار يمضـي ... فيطفئ ما تبقى من أوارِ

فقلت مناجيا ربا قديرا ... رحيما بالصغار وبالكبارِ

أعِدْها يا قديرُ ظلمتُ نفسـي ... كيونسَ بعد لأيٍ واحتيارِ

فليس سواكَ يقدر يا إلهي ... على رد المغيَّبِ  في المَغَارِ

غدوت إلى المكينة دون وعي ... كأني قد وُعِدْتُ بالانتصارِ

فألفيت الصيانة قد أتتها ... وألفيت البطاقة في انتظاري

فعدت بها سريعا نحو بيتي ... فَحَدِّثْ عن سروري وانبهاري

تضاءلَ كلُّ شيء في حياتي ... تضاءلتِ البطاقةُ والمصاري

إزاءَ النورِ مؤتلقًا بقلبي ... فلي سندٌ لتيهي أو عثاري

       

سامر المعاني (كاتب من الأردن)

خير من ألف ميعاد!

في كتابي الأخير "رؤى الحروف" كتبت: "لا تغمض عينيك عند المفاجأة فجمالها بالدهشة الأولى". هل الصدفة تمثل الإيجابية أم هي صور كثيرة للخير والشر ولكنها تحفر في ذاكرة الإنسان؟

الصدفة تلعب دورًا كبيرًا في تشكيل حياتنا الاجتماعية والثقافية، فهي تلك اللحظات غير المتوقعة التي يمكن أن تؤدي إلى تغييرات جذرية في مسارات حياتنا. يمكن أن تظهر الصدفة في العديد من الأشكال، من اللقاءات العابرة إلى الفرص غير المتوقعة التي قد تغيّر مجرى الأمور.

في المجال الاجتماعي، يمكن أن تكون الصدفة هي السبب في تكوين صداقات جديدة أو علاقات قد تفتح أبوابًا لعلاقات قد تستمر مدى الحياة. هذه اللقاءات غير المخطط لها تضيف نكهة خاصة إلى حياتنا وتوسع دائرة معارفنا.

من الناحية الثقافية، تساهم الصدفة في تبادل الأفكار والابتكارات. تاريخيًّا، العديد من الاكتشافات العلمية والفنية كانت نتيجة للصدفة. على سبيل المثال، اكتشاف "البنسلين" من قبل "ألكسندر فليمنج" كان نتيجة لصدفة غير متوقعة في المختبر. هذا يظهر كيف يمكن للصدفة أن تكون محفزاً للإبداع والتقدم.

الصدفة أيضًا تلعب دورًا في الفنون، حيث يمكن أن تؤدي اللحظات العابرة إلى إلهام أعمال فنية رائعة. الكتاب والرسامون والموسيقيون غالباً ما يجدون إلهامهم في اللحظات غير المتوقعة.

على الصعيد الشخصي، أتوقّع أن الحركة والنشاط في الحياة اليومية يمكن أن يزيدَا من فرص الصدفة. الأشخاص الذين يتحركون كثيرًا، يسافرون، ويشاركون في أنشطة متنوّعة، يكونون أكثر عرضة للقاء أشخاص جدد وتجربة لحظات غير متوقعة. التنقل بين الأماكن المختلفة والانخراط في مجتمعات متعددة يوسّع دائرة الاحتمالات ويجعل الصدفة أكثر حضورًا في حياتهم. هذا النوع من الحركة لا يفتح فقط أبوابًا للصداقات والعلاقات، بل يمكن أيضاً أن يقود إلى فرص مهنية واكتشافات جديدة.

من خلال المعارف الواسعة والاختلاط مع أشخاص من خلفيات متنوعة يلعبان دورًا كبيرًا في تعزيز تأثير الصدفة. عندما يكون الشخص جزءًا من شبكة اجتماعية واسعة ويكون على تواصل مع أناس مختلفين، تزداد احتمالات اللقاءات المثمرة والصدف الإيجابية. الاختلاط الثقافي والاجتماعي يمكن أن يؤدي إلى تلاقي أفكار جديدة وتجارب غنية، مما يثري الحياة الشخصية والمهنية. في بيئات العمل والتعليم والمجتمعات النشطة، يكون تأثير الصدفة أكثر وضوحًا، حيث يمكن أن تؤدي المحادثات العابرة والنقاشات إلى مشاريع مشتركة وابتكارات مذهلة.. فقد تحولت كثيرا حياة أشخاص في محيطنا من خلال الصدفة واللحظة غير المتوقعة.