في خضمّ الاضطرابات الاقتصادية والسياسية التي تهزّ العالم منذ مطلع العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، يبدو أن أسواق المال العالمية دخلت مرحلة غير مسبوقة من التحوّل البنيوي العميق. الذهب، المعدن الأصفر الذي يلمع كلّما اشتدّ الخوف، عاد إلى واجهة المشهد المالي محققا مستويات قياسية غير مسبوقة، فيما يعاني الدولار الأمريكي، رمز القوة الاقتصادية لعقود طويلة، من تراجع مقلق يثير مخاوف المستثمرين وصنّاع القرار على حدّ سواء. وبين الصعود الذهبي والانكسار الأخضر، يطرح السؤال نفسه بإلحاح: هل نحن أمام دورة اقتصادية عابرة، أم أمام انهيار تدريجي للنظام المالي الذي وُلد بعد الحرب العالمية الثانية؟
منذ بداية عام 2025، تجاوز سعر أونصة الذهب (تساوي نحو 31.1 غرامًا) حاجز 3900 دولار، في سابقة تاريخية، بينما واصل مؤشر الدولار الأمريكي هبوطه أمام العملات الرئيسية وسط فقدان الثقة بالسياسات النقدية لواشنطن، وتفاقم العجز الفيدرالي، وبلوغ الدين العام مستويات تنذر بانفجار وشيك. هذا المشهد المزدوج — صعود الذهب وتراجع الدولار — لم يعد مجرد مؤشّر اقتصادي، بل أصبح انعكاسًا لتحوّل جيواستراتيجي عميق في ميزان القوة المالية العالمية.
يصف الخبير الاقتصادي د. علي عبد الرحمن ما يجري بأنه "تصحيح تاريخي متأخر"، موضحًا: "منذ عقود يعيش العالم على ثقة عمياء في الدولار، رغم أنه لم يعد مدعومًا بالذهب منذ سبعينيات القرن الماضي. اليوم بدأت الدول والمستثمرون يدركون أن رمزية العملة الأمريكية لم تعد توازي قيمتها الفعلية، خصوصًا بعد التوسع الهائل في طباعة النقود خلال جائحة كورونا وما تلاها من إنفاق عسكري وتمويلي ضخم."
أما الخبير المالي الأمريكي جوناثان ميلر فيرى أن الظاهرة أعمق من مجرد فقدان الثقة، قائلاً: "الدولار لا ينهار، بل يُعاد تقييمه. نحن ننتقل من نظام الهيمنة المطلقة إلى نظام تعددي، حيث تسعى دول مثل الصين وروسيا والهند، ضمن تكتل البريكس، إلى فرض عملاتها أو الذهب كبدائل للتسويات التجارية. المسألة ليست نهاية الدولار، بل نهاية احتكاره."
لكن ما الذي يجعل الذهب يعود بهذه القوة؟ وهل نحن أمام فقاعة سعرية ستنفجر قريبًا، أم أمام تحوّل استراتيجي طويل الأمد؟
يرى المحلل الاقتصادي د. فهد النجار أن الجواب يكمن في عاملين رئيسيين: الخوف والتخطيط. فالخوف يدفع الأفراد والمستثمرين نحو الذهب حين تتزعزع الثقة بالأسواق والحكومات، فيما يتجسّد التخطيط في سياسات البنوك المركزية الكبرى — من الصين وروسيا إلى الهند وتركيا — التي راكمت احتياطيات ضخمة من الذهب منذ 2023، ضمن ما يعرف بـ"استراتيجية فكّ الارتباط بالدولار".
وتؤكد تقارير مجلس الذهب العالمي أن مشتريات البنوك المركزية من الذهب بلغت مستويات قياسية، في مؤشر على استعداد هذه الدول لمرحلة جديدة من التبادل التجاري القائم على الأصول الحقيقية لا على العملات الورقية. وهو ما عبّر عنه الخبير الروسي أناتولي ديمتروف بقوله: "عصر الدولار كعملة احتياط عالمية يقترب من نهايته. نحن ننتقل ببطء نحو نظام جديد تكون فيه المعادن الثمينة هي الضامن الحقيقي للقيمة الاقتصادية."
في المقابل، يقلّل ريتشارد هاوز، المستشار المالي السابق في البيت الأبيض، من خطورة ما يحدث، معتبرًا أن ما يجري "تصحيح مرحلي" لا أكثر: "نعم، هناك ضعف مؤقت للدولار، لكنه لا يزال يستند إلى عوامل قوة جوهرية: اقتصاد ضخم، قاعدة تكنولوجية متقدمة، وأدوات ضغط سياسية وعسكرية تضمن بقاءه في مركز اللعبة الدولية."
غير أن الأسواق لا تعبأ بالشعارات. فمؤشرات الدولار تواصل التراجع، بينما يزداد الطلب العالمي على الذهب والمعادن النفيسة. والأهم أن دولًا عدة — بينها الصين وروسيا والهند والسعودية وإيران — بدأت تبرم اتفاقيات تبادل تجاري بعملاتها المحلية، ما يقلّص الحاجة للاحتفاظ باحتياطيات ضخمة من الدولار.
ويحذّر الخبير في العلاقات الدولية د. عمر الكيلاني من أن "انهيار الثقة بالدولار يعني عمليًا اهتزاز الأساس الذي يقوم عليه النظام المالي العالمي. فكل المنظمات المالية الكبرى — من صندوق النقد الدولي إلى البنك الدولي — تعتمد على هيمنة الدولار. وإذا تراجع موقعه، سنشهد اضطرابات اقتصادية هائلة وربما ركودًا عالميًا طويل الأمد."
ويضيف: "ما نراه اليوم ليس أزمة مالية فحسب، بل أزمة حضارية. الغرب الذي قاد الاقتصاد بالدين الورقي يجد نفسه أمام عودة صامتة لنظام القيمة الحقيقية الذي يمثله الذهب."
ويرى الخبير الفرنسي فيليب لوران أن "الذهب أصبح مرآة الخوف من المستقبل"، موضحًا أن تصاعد التوترات في أوكرانيا وغزة وبحر الصين الجنوبي يدفع المستثمرين نحو المعدن الأصفر بوصفه الأصل الوحيد الذي لا يُطبع ولا يُصادر. "الذهب اليوم ليس استثمارًا ماليًا فقط، بل تصويت ضد النظام المالي القائم وضد الثقة في السياسات الغربية."
لكن هل يستطيع العالم أن يعيش من دون الدولار كعملة مرجعية؟
الخبير المالي المصري د. ياسر عبد السلام يرى أن "النظرية ممكنة، لكن التطبيق معقّد. بناء نظام مالي جديد قائم على الذهب أو سلة عملات يحتاج إلى سنوات طويلة وتنسيق دولي غير مسبوق. الدول لا تتخلى عن امتيازاتها النقدية بسهولة، والولايات المتحدة ستدافع عن موقع الدولار بكل الوسائل."
ورغم ذلك، تتجه المؤشرات الواقعية في الاتجاه المعاكس. فالتوسع في طباعة الدولار، وارتفاع معدلات التضخم الأمريكية، وتزايد الإنفاق العسكري، كلها عوامل دفعت حتى الحلفاء التقليديين لواشنطن إلى إعادة النظر في سياساتهم النقدية.
فالصين بدأت تقليص حيازتها من سندات الخزانة الأمريكية لصالح زيادة احتياطياتها من الذهب بنسبة تفوق 20%، فيما أعلنت روسيا وإيران خططًا لاعتماد "الذهب الرقمي" في التسويات التجارية. أما أوروبا، التي كانت تعوّل على اليورو كبديل محتمل، فتواجه تباطؤًا اقتصاديًا وأزمة ديون تجعلها بعيدة عن قيادة النظام المالي الجديد.
على المستوى الشعبي، يتجلّى التحول بوضوح في العالم العربي، حيث ارتفعت مبيعات الذهب في مصر والجزائر والسعودية والمغرب بأكثر من 40% خلال الأشهر الأخيرة. لم يعد الذهب للزينة أو المضاربة، بل أضحى وسيلة ادخار تحمي من المجهول الاقتصادي. يقول الخبير اللبناني جورج خليل: "الناس لم يعودوا يفكرون في الربح، بل في البقاء. من يشتري الذهب اليوم يفعل ذلك هربًا من الورق، لا طلبًا للعائد."
إن التحليل الأعمق للمشهد يكشف أن العالم يدخل مرحلة إعادة توازن قسري، تنتقل فيها الهيمنة من العملة الواحدة إلى تعددية نقدية جديدة قوامها ثلاثة أعمدة: اليوان الصيني، والذهب، والعملات الرقمية السيادية التي تطوّرها البنوك المركزية. معادلة جديدة قد تنهي مفهوم "العملة المركزية" لصالح نظام أكثر تنوعًا وتوازنًا.
ورغم كل المتغيرات، تبقى الحقيقة البسيطة أن الذهب لم يتغير، بينما تغيّر كل شيء من حوله. فمنذ آلاف السنين ظلّ المعدن الأصفر يحتفظ بجاذبيته، وعندما تفقد الشعوب الثقة في الأوراق، تعود دائمًا إلى المعدن الذي لا يصدأ.
كما يلخّص الخبير الكندي مايكل أندرسون المشهد بدقة: "نحن لا نعيش أزمة اقتصادية بل أزمة حضارة نقدية. الورق فقد قداسته، والذهب يعود ليذكّرنا أن القيمة الحقيقية لا تُخلق في البنوك، بل في المناجم."
هكذا، لا يبدو صعود الذهب موجة طارئة، بل تحوّلًا تاريخيًا في رمزية القوة بين الشرق والغرب، بين القيمة الحقيقية والوهم الورقي.
فهل نشهد نهاية الدولار كما عرفناه؟ أم أن الولايات المتحدة ستجد طريقًا لإنقاذ هيمنتها النقدية؟
الجواب — كما يقول الاقتصاديون — لن يُكتب في نشرات البورصة، بل في دفاتر التاريخ عندما تتضح ملامح النظام المالي القادم: مرحلة قد تُعيد للذهب عرشه الأبدي… أو تُعيد رسم معادلة القوة بين المعدن والورق، بين القيمة والحلم.