تمرّ اليوم الثلاثاء، 7 أكتوبر 2025، الذكرى الثانية لملحمة «طوفان الأقصى»، التي كشفت الحقد الصهيوني في أبشع صوره، تجلّى في حرب إبادةٍ تُعدّ من أفظع ما شهده العصر الحديث. حرب لم تُبقِ من غزة إلا الاسم، ولم تترك في ذاكرة العالم سوى رائحة الغبار والدم والدخان، حرب كتبت على هذا الشريط الضيق من الأرض أن يكون مقبرة للأحياء ودرسا للعالم في القسوة والخذلان. سنتان من النار، من الحصار، من الجوع، من البكاء، من القنابل التي لا تتوقف عن صناعة الجحيم. فمنذ فجر السابع من أكتوبر 2023، لم تترك «إسرائيل» وحشية إلا واستحضرتها، ولا نارا إلا وأشعلتها، ولا نازية إلا وأفرغتها على المدنيين، فأحرقت أطفال غزة ونساءها، ليحترق بذلك ما تبقّى من الضمير الإنساني، في مشهد عرّى هذا العالم وكشف عجزه الفاضح عن أن يكون إنسانيا.
لقد ظن الاحتلال أن القصف سيُسكت غزة، وأن الحصار سيُطفئ روحها، لكنه لم يدرك أن هذه المدينة الصغيرة قادرة على جعل الموت نفسه يخجل من تكرار الزيارة، وأنها، رغم الركام، استطاعت للمرة الأولى منذ عقود أن تعيد قضيتها إلى قلب العالم، وأن تهزّ أركان النظام الدولي الذي طالما تغنّى بالعدالة والحقوق وهو يغضّ الطرف عن المذبحة.
إنه اليوم الـ 732 من الحرب، حرب لم تتوقف فيها الغارات ليوم واحد، ولم يذق فيها سكان قطاع غزة طعم الهدوء منذ لحظة الانفجار الأولى. الطائرات الصهيونية ما تزال تمزّق سماء القطاع بلا هوادة، وكأنها تصرّ على محو هذه الأرض من الجغرافيا، فيما الدخان المتصاعد من الأحياء المدمرة يملأ الأزقة التي تحوّلت إلى مقابر جماعية تلتهم جثث الشهداء.
منذ فجر يوم أمس وحده، أعلنت المصادر الطبية استشهاد سبعة فلسطينيين في قصف استهدف مناطق متفرقة من مدينة غزة ووسط القطاع، فيما أصيب عشرات المدنيين الذين كانوا يقفون في طوابير انتظار المساعدات، التي قد لا تصل أبدا.
تجاوز عدد الشهداء والمفقودين منذ بداية الحرب 76 ألفا و639 شخصا، بينهم آلاف الأطفال والنساء وكبار السن، ولا تزال فرق الإنقاذ تحاول انتشال جثث متفحمة من تحت الركام بعد شهور طويلة من الصمت المخيف. لقد أنهت الحرب الصهيونية الوحشية على قطاع غزة اليوم عامها الثاني، مخلفة أكبر كارثة إنسانية في العالم وأبشع مأساة يومية يعيشها السكان، تتجسد في القتل والتجويع والتعطيش والنزوح القسري، وكل أشكال الموت التي استباحها جيش الاحتلال.
وحسب المكتب الإعلامي الحكومي، ألقى جيش الاحتلال أكثر من 200 ألف طن من المتفجرات تسببت في تدمير ما يقارب 90% من القطاع، فيما تعرض 15 قطاعا حيويا لتدمير هائل تجاوزت خسائره الأولية المباشرة 70 مليار دولار. شملت هذه القطاعات الصحة، حيث استشهد 1,670 من الطواقم الطبية، ودُمرت 38 مستشفى و96 مركز رعاية و197 سيارة إسعاف، بينما في السكن، دُمّرت 268 ألف وحدة سكنية تدميرا كليا، و148 وحدة فقدت صلاحيتها للسكن، إضافة إلى تدمير 247 مقرا حكوميا. وعلى مستوى العائلات، تعرضت 39 ألف أسرة لمجازر مباشرة، وأبيدت 2,700 أسرة بالكامل، فيما بقي شخص واحد ناجٍ من كل مجموعة من ستة آلاف أسرة أُبيدت.
لم تكن سياسة التجويع والتعطيش أقل فتكا بسكان القطاع من القصف المباشر، حيث استشهد أكثر من 2,600 شخص وأصيب أكثر من 19,100 آخرين أثناء محاولتهم البحث عن لقمة عيش أمام مراكز توزيع المساعدات، كما قضى 460 شخصا، بينهم 154 طفلا، بسبب المجاعة وسوء التغذية. كما دمر الاحتلال مقرات المؤسسات الإعلامية المحلية والدولية واستهدف العاملين فيها بشكل ممنهج لإسكات صوت الحقيقة، ما أسفر عن استشهاد 254 صحفيا وإصابة المئات من العاملين الإعلاميين.
على الصعيد السياسي، لم يدم اتفاق وقف إطلاق النار الذي جاء تحت وساطة قطرية طويلا، وعاد "جيش" الاحتلال إلى القتل والتدمير في 18 مارس الماضي، على الرغم من أن هذا الاتفاق، الذي تم في 19 جانفي، شهد سبع دفعات لتبادل الأسرى، وتمكن النازحون خلالها من العودة إلى منازلهم المؤقتة، أو بالأحرى نصبوا خياما على أنقاض وركام بيوتهم. وفشلت كل محاولات الوساطة القطرية في الظفر بهدنة جديدة تسمح للغزيين باستعادة أنفاسهم، إذ ظل الجانب الصهيوني يتماطل أو يرفض المقترحات جملة وتفصيلا، مواصلا اعتداءه بلا هوادة.
لم يتوقف البطش الصهيوني داخل غزة فحسب، بل امتد إلى دول مجاورة، حيث نفذ عدة هجومات في لبنان واليمن وإيران وسوريا وقطر، مستهدفا الوساطات التي تحاول إحلال التهدئة، وكان آخرها الهجوم على الدوحة في التاسع من سبتمبر الماضي، وهو ما يعكس عزم الاحتلال على تمديد دائرة العنف وعدم السماح لأي مبادرة تهدف لوقف الحرب. خلف هذا العدوان، يرزح سكان غزة تحت وطأة الموت اليومي، ويعيشون مأساة إنسانية مركبة لم يشهد لها التاريخ الحديث مثيلا، بين القصف العشوائي، وغياب أبسط مقومات الحياة، والتهجير المستمر، بينما العالم يكتفي بالمشاهدة أو التصريحات الباردة، دون تدخل جاد لإنقاذ حياة مئات الآلاف الذين أصبحوا رهائن لصراع لا يرحم.
مواليد تحت النار
في أحد أركان المخيمات، يولد أطفال لا يعرفون من العالم سوى صوت الطائرات، يكبرون على الخوف بدل الحكايات، وعلى البارود بدل الحليب. من بينهم ماسة صقر وعلي الطويل، وُلدا في اليوم نفسه الذي اشتعلت فيه النار — السابع من أكتوبر 2023 — اليوم الذي فتح فيه العالم عينيه على بداية الجحيم. كان من المفترض أن يحتفل والداهما اليوم بعيد ميلادهما الثاني، لكن لا عيد في الخيام، ولا كعكة في النصيرات، ولا شموع في خيمة يغمرها المطر وتثقلها رائحة الدخان.
رُلى صقر، والدة ماسة، تضحك بمرارة وهي تحدّق في طفلتها الهزيلة. تقول بصوتٍ يخنقه الغصّة: "كنت أحلم أن تكبر ماسة قوية، لكنها ضعيفة، جسدها لا يحتمل الجوع، تزن ثمانية كيلوغرامات فقط منذ خمسة أشهر. حين تسمع صوت الطائرة، تسرع نحوي وتختبئ في حضني. تعرف أن الموت يقترب." نزحت الأسرة من بيت لاهيا إلى النصيرات بعد أن سوت القذائف منزلهم بالأرض، واليوم يعيشون في غرفة ضيقة تفوح منها رائحة الرطوبة، مفروشة بكرسي بلاستيكي وسجادة ممزقة وبضع أوانٍ معدنية فقدت بريقها. لا ألعاب في الزاوية، لا سرير يضمها، لا نافذة تُطلّ على شيء سوى الفراغ. كل ما لديهم انتظار طويل يشبه الصبر حين ينكسر ولا يموت.
في الجهة الأخرى من المخيم، تجلس أمل الطويل على أرض خيمة في مدرسة تابعة للأونروا، تحمل طفلها علي وتحدّثه كما لو تحاول إقناعه بأن الحياة ما زالت ممكنة. تقول وهي تمسح دموعها بسرعة كي لا يراها: "علي لم يرَ بيته قط، لم يعرف سريره، لم يلعب بلعبة واحدة. تمنيت أن يولد في بيت تملؤه أشعة الشمس، لا في خيمة يختلط فيها المطر برماد القصف." كل كلمة تخرج منها تحمل وجعا غائرا، كأنها تحفر في قلبها لتبقيه حيّا.
تحولت الأمومة في غزة إلى معركة يومية ضد الفناء، وصار الحنان شكلا من أشكال المقاومة. لا وقت للنوم، لا مكان للأمان، كل ما تستطيع الأمهات فعله أن يَكْتُمْنَ صرخاتهنّ كي لا يُرعبنَ أبناءهنّ أكثر مما فعلت الطائرات. في هذا المكان، يحتفل الناس بالنجاة كما يحتفل غيرهم بالحياة. فكل يوم يمر دون قصف هو عيد، وكل صباح تُفتح فيه العينان على الضوء لا على الركام هو معجزة صغيرة.
الأطفال الذين وُلدوا في الحرب كبروا على الخوف. تعلّموا أن يميّزوا بين صوت الطائرة الصهيونية وصوت الانفجار، بين الصمت الذي يسبق القصف والصمت الذي يليه. صار الخوف لغتهم الأولى، ورائحة الدخان ذاكرة طفولتهم. بعضهم يرسم السماء رمادية في دفاتر المدرسة، وبعضهم يكتب "بيت" ولا يعرف شكل البيت. هؤلاء ليسوا ضحايا فقط، بل شهود على زمنٍ فقد إنسانيته، وأطفالٌ حُمِّلوا منذ ولادتهم عبء النجاة في عالم يخذلهم كل يوم.
دم وجدران منهارة
ورغم حجم الإجرام الذي مارسته «إسرائيل» ضد الفلسطينيين، ارتدت نار الحرب التي أشعلتها عليها، فأجبرتها على تجرّع مرارة الخسارة التي طالما تجنبتها، وفتحت ضربات المقاومة المتواصلة فصارت «إسرائيل» تتحدث اليوم من موقع المتألم الذي يحاول إخفاء نزيفه، إذ أعلنت وزارة الدفاع الصهيونية أن 1,152 جنديا من "الجيش" والشرطة والشاباك ومصلحة السجون سقطوا يوم 7 أكتوبر وحده، وأكثر من 40% منهم لم يتجاوزوا الحادية والعشرين، وفي العام التالي، حتى أكتوبر 2025، أضافت الجبهات 262 قتيلا جديدا إلى القائمة، ليرتفع العدد الإجمالي إلى أكثر من 1,400 قتيل خلال عامين من الحرب التي أعقبت طوفان الأقصى.
ومع ذلك، مضت «إسرائيل» في حربها بلا توقف، كأنها تسير مدفوعة بغريزة الانتقام لا بحسابات العقل، تبحث عن وهم الأمن عبر المزيد من الدم، وتغطي عجزها الأخلاقي بالمزيد من الدمار. تُقصف غزة يوميا لأن المؤسسة العسكرية الصهيونية تخشى الاعتراف بالهزيمة المعنوية قبل الميدانية، وتخوض حربا ضد الذاكرة بقدر ما تخوضها ضد الإنسان. فكل صاروخ تسقطه على القطاع لا يعيد لها هيبتها، بل يفضح ضعفها أمام فكرة بسيطة لا تستطيع تدميرها: أن المقاومة ما زالت قائمة، وأن الخوف لم ينجح بعد في كسر الفلسطيني.
وتزامنت الذكرى الثانية للحرب على غزة مع اليوم العالمي للإسكان في السادس من أكتوبر – يوم أمس الاثنين – لتكشف المفارقة عن عمق الفاجعة. أصدر الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني تقريرا صادما قدّم صورة دقيقة عن حجم الدمار الذي ضرب القطاع: 190,115 مبنى أصابته الغارات، بينها أكثر من 102 ألف مبنى سوّته «إسرائيل» بالأرض، و330,500 وحدة سكنية تحولت إلى رماد. وهذه الأرقام لم تبقَ بيانات في تقرير، بل جسّدت مدنا اختفت وأحياء ابتلعها الركام. لم تعد غزة مدينة مأهولة، بل مساحة من الأطلال المعلّقة بين البحر والدمار.
نزح أكثر من مليوني فلسطيني عن بيوتهم، أي ما يعادل 90% من سكان القطاع. يعيش معظمهم في خيام مهترئة لا تردّ حرّ الصيف ولا تصدّ برد الليل، أو في مدارس مكتظة تتهددها الغارات في أي لحظة، أو بين أنقاض بيوتهم التي لم يبقَ منها سوى الذكريات. صور الأقمار الصناعية التي التقطت بين سبتمبر وأكتوبر 2025 كشفت مشهدا أكثر قسوة: آلاف الخيام اختفت من شمال القطاع، بعضها سُوِّي بالأرض تحت القصف، وبعضها خلت بعد أن رحل عنها أصحابها قتلا أو فرارا نحو الجنوب بحثا عن بقعة أقل موتا.
وفي عمق هذا الخراب، تنهار مقومات الحياة الأساسية. أكثر من 85% من شبكات المياه والصرف الصحي خرجت من الخدمة، وانخفضت حصة الفرد من المياه إلى ما بين 3 و5 لترات في اليوم، أي أقل من ثلث الحد الأدنى الذي حددته منظمة الصحة العالمية. توقفت محطات التحلية، وجفّت الآبار أو تلوثت، وتحولت الخزانات إلى هياكل صدئة فوق أسطح المنازل. تفككت شبكات النقل تحت الركام، وامتلأت الطرق بالحفر والحجارة.
يقدّر الخبراء كلفة إعادة تأهيل قطاع المياه وحده بنحو مليار ونصف المليار دولار، لكن المأساة تجاوزت المال؛ فالمشكلة لم تعد في الموارد بل في البقاء نفسه. في غزة اليوم، الطفل يشرب من ماء البحر، والأم تغلي الماء الملوث قبل أن تسقيه لرضيعها، والجميع يتقاسمون العطش كما يتقاسمون الخوف، في انتظار يوم يعود فيه للمدينة لونها الأزرق ورائحة الحياة.
الضفة الغربية.. التهجير الصامت
في الضفة الغربية تدور مأساة أخرى، أقل صخبا من حرب غزة لكنها لا تقل فظاعة. منذ أكتوبر 2023، واصلت قوات الاحتلال حملات الهدم والتهجير بوتيرة يومية. سجّلت المنظمات الحقوقية 380 عملية هدم دمّرت 588 منشأة، بينها 322 مسكنا مأهولا. شُرّد أكثر من 6,400 فلسطيني قسرا، واضطر نحو 40 ألفا آخرين إلى مغادرة مخيمات جنين وطولكرم بعد اقتحامات متكررة حولت الأحياء إلى ساحات حرب.
في مسافر يطا والقدس والقرى المحيطة بهما، يعيش أكثر من 1,200 فلسطيني تحت خوف دائم من الطرد، حيث تهدم الجرافات منازلهم بحجة غياب تصاريح البناء، وتصادر سلطات الاحتلال أراضيهم لصالح مستوطنين مسلحين يجدون في "الجيش" حارسا رسميا لتوسعهم، ويتحرك هذا الاحتلال ببطء وثبات، ليحوّل التهجير إلى سياسة يومية تغلف جرائمه بعبارة خادعة اسمها “إجراءات أمنية”، وما يحدث هنا لا يمت إلى التنظيم العمراني بصلة، بل هو عملية تطهير عرقي متقنة تغطيها قوانين مصطنعة.
على الصعيد السياسي، لا تزال الجهود الدولية تدور في حلقة التصريحات الباردة. ففي شرم الشيخ، عادت المفاوضات من جديد برعاية مصرية وبمقترح من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لبحث صفقة تبادل الأسرى، لكن المسرح السياسي بدا خاليا من أبطاله. غاب الوفد الصهيوني الرئيسي، وتأخر المبعوثون الأمريكيون، فبدت الجلسة كأنها عرض رديء يكرر نفسه منذ عامين.
دخل وفد حركة حماس إلى القاهرة وهو يحمل شروطا واضحة: وقف شامل لإطلاق النار، انسحاب القوات الصهيونية، ورفع الحصار عن غزة. أما «إسرائيل» فتمسكت بمنطق القوة وشرطها الدائم: "لن نوقف النار قبل إطلاق جميع الأسرى"، وبهذا الموقف، واصلت الحرب طريقها كأنها لا تسمع أصوات الوسطاء، ولا صرخات الأطفال الذين لا يعرفون معنى الصفقة ولا يدركون شيئا عن المفاوضات.