2025.11.09
أيهما يحسم معركة النكهة..  دونات جوهانسبرغ أم كعك تلمسان؟ ثقافة

أيهما يحسم معركة النكهة.. دونات جوهانسبرغ أم كعك تلمسان؟


محمد بوحفص
منذ 14 ساعة

على رصيف مزدحم في إحدى ضواحي جوهانسبرغ، تقف امرأة خمسينية تُدعى نومسا، ترتدي مئزرا بسيطا وتغطي رأسها بوشاح مزركش. أمامها طاولة خشبية صغيرة، عليها صحنان كبيران من الدونات الساخنة، تفوح منهما رائحة الزيت والسكر والفانيليا. تمرّ السيارات والحافلات، يعلو صخب السوق، لكن نومسا تبتسم بهدوء وهي تردد: “أنا لا أبيع الحلوى فقط، أنا أبيع لحظة دفء في صباح بارد.”

بعيدا شمال القارة، في مدينة تلمسان الجزائرية، يجلس عمي موسى أمام فرن صغير من الطين قرب باب القرمادين العتيق، يرصّ أقراص الكعك الذهبي برائحة اليانسون والسمسم. تقترب منه طفلة صغيرة، تضع عملة معدنية في يده وتقول بلهجة تلمسانية محببة: “اعطيني كعكة سخونة يا عمّي موسى.” فيبتسم ويجيب: “ربي يدفّي قلبك كيما سخونة الكعك.”

ما بين نومسا في الجنوب الإفريقي وعمّ موسى في غرب الجزائر، تمتدّ خيوط حكاية ثقافية وإنسانية واحدة. حكاية البسطاء الذين يصنعون من لقمة العيش فنّا للعيش. فهؤلاء الباعة المتجولون الذين يبيعون الحلوى الساخنة على الأرصفة ليسوا مجرّد تجار؛ بل رواة حكايات المدن الصغيرة، وحراس الذاكرة الشعبية.

نومسا بدأت عملها قبل عشر سنوات، بعد وفاة زوجها. لم تجد مصدر رزق سوى وصفة الدونات التي تعلمتها من صديقتها في الكنيسة. تقول وهي تراقب أطفال الحي يلتفون حولها: “كنت أبحث عن طريقة لإطعام أولادي، واليوم لا يمر صباح دون أن يأتي الناس لتذوقها. يقولون إن رائحتها توقظ القلب قبل المعدة.” قصتها ليست نادرة في جنوب إفريقيا، حيث تنتشر نساء كثيرات مثلهن في الأسواق الشعبية، يبعن “الماجادو” أو “البينيه”، وهي كعكات مقلية تشبه تماما كعك تلمسان. هذه المهنة البسيطة تحولت إلى رمز للمقاومة الاقتصادية للنساء، ووسيلة للحفاظ على الكرامة في وجه البطالة والفقر.

في الجزائر، لا تختلف الحكاية كثيرا. عمّ موسى يروي لنا: “بدأت البيع وأنا شاب صغير، كنت أرافق والدي إلى السوق المركزي. الكعك التلمساني سرّه في الصبر، يجب أن يرتاح العجين كما يرتاح الإنسان قبل ما يخرج للحياة.” ثم يضيف بابتسامة: “كعكي صار معروفا حتى بين طلبة الجامعة، يقصدونني من بعيد من أجل تذوقه لا غير.”

من منظورٍ ثقافي، تمثل الدونات في جنوب إفريقيا والكعك في الجزائر أكثر من مجرد وجبة شعبية. هما رمزٌ للدفء الجماعي، ووسيلةٌ للاندماج الاجتماعي. في المجتمعات الإفريقية، حيث تتقاطع الصعوبات اليومية مع الأمل، يصبح إعداد الحلوى وبيعها طقسا اجتماعيا يذكّر الناس بأن البساطة قادرة على مقاومة القسوة. تقول الباحثة الجنوب إفريقية ناتالي موكوينا: “كل دونات تُقلى على الرصيف هي شهادة على بقاء الإنسان في وجه التهميش. إنها مقاومة ناعمة لكنها فعّالة، لأن كل زبون يشتري ليس فقط الطعام، بل أيضا قصة حياة.”

ويرى الأستاذ عبد الرحمن بن علية، الباحث في التراث اللامادي، أن الكعك التلمساني لا يمكن فصله عن نكهة المدينة نفسها: “هو جزء من هويتها الحسية، مثل الموسيقى الأندلسية والزخرفة العربية. إنه شكل من أشكال التواصل الاجتماعي اليومي، الذي يربط الناس بالحيّ وبالماضي.”

في زويرات الموريتانية، يقول الطبيب أمادو ديوب، الذي درس في الجزائر ويعيش اليوم في جوهانسبرغ: “حين أشتري دونات من نومسا، أشعر وكأنني عدت إلى الجزائر. الرائحة نفسها، الحنين نفسه. الحلوى هنا وهناك هي لغةٌ واحدة يفهمها الجميع.” وفي تلمسان، تقول فتيحة بن دحو، وهي سيدة خمسينية تشتري الكعك لتقدّمه لأحفادها: “زمان، كانت أمي تعمل الكعك في الأعياد وتوزعه على الجيران. اليوم صارت الناس تشتريه من عند عمّي موسى، لكن الطعم لم يتغير لأن الحب بقي كما هو.”

أما بدر الدين، شاب جامعي، فيضيف: “الكعك هنا ليس مجرد أكل. لما نخرج من الجامعة نذهب عند عمي موسى، نجلس نحكي عن الدراسة والسياسة، وهو يسمعنا بابتسامته. صار مثل رمز صغير للمدينة.”

يتفق الخبراء الاقتصاديون على أن ما يسمّى بالاقتصاد غير الرسمي في إفريقيا والجزائر ليس مجرد نشاط هامشي، بل هو عمود من أعمدة الصمود الاجتماعي. ففي الأسواق الشعبية من زويرات إلى تلمسان، ومن لاغوس إلى قسنطينة، يشكل هؤلاء الباعة المتجولون نسيجا بشريا يمنح المدن روحها. الباحث الجزائري عز الدين بلقاسم يرى أن بائع الكعك في تلمسان يمثل “نموذجا للتوازن بين الأصالة والضرورة”، ويضيف: “حين يبيع عمّ موسى الكعك، فهو لا يبيع سلعة فحسب، بل يقدّم درسا في الاستمرار رغم التحولات. الكعك مثله مثل الموشحات والأقواس القديمة في المدينة؛ رمزٌ للاستمرارية.”

تلتقي نومسا وعمّي موسى في نقطة واحدة: كلاهما يعمل على حافة الطريق، على تماس مباشر مع الناس. كلاهما يبتسم رغم التعب، ويحوّل الرصيف إلى مساحة للّقاء الإنساني. في عالمٍ تزداد فيه المسافات بين البشر، تبقى مثل هذه المهن الشعبية جسورا صامتة تربط الأجيال والثقافات. تقول نومسا وهي تغلق صندوقها عند المساء: “حين أبيع آخر دونات في اليوم، أشكر الله وأقول لنفسي: أنا اليوم ساعدت أحدهم على أن يبدأ صباحه بابتسامة.” وفي تلمسان، يودّع عمّ موسى زبائنه بعبارته المعتادة: “الله يسهلكم، ما تنساوش الكعك سخون دايما يفرّح القلب.”

هكذا، تذوب الحدود بين شمال القارة وجنوبها. فبين الدونات الإفريقية والكعك التلمساني تمتد خيوط دافئة من المعنى، عن الكرامة والصبر والأمل الذي يُقلى بزيت الناس الطيبين. ومن خلال قصص نومسا وعمّي موسى وغيرهما من الباعة البسطاء، ندرك أن الحلوى التي تُطهى على الأرصفة ليست مجرد طعام، بل شهادة يومية على بقاء الإنسان الإفريقي في وجه الصعاب. إنها صورة من صور الاقتصاد الشعبي الذي يختزن الذاكرة، ويعيد تعريف معنى الكسب والعمل.

فالدونات في جنوب إفريقيا والكعك في الجزائر يرويان قصة واحدة: أن البساطة قد تكون أعمق من الثراء، وأن الناس العاديين يصنعون الاستثناء حين يزرعون في الشوارع نكهة تشبه الوطن.