حلت الذكرى الخامسة والعشرون لاتفاق الجزائر الذي أنهى النزاع الحدودي بين إريتريا وإثيوبيا، وهو الاتفاق الذي شكّل منذ توقيعه إطارا قانونيا ودبلوماسيا بالغ الأهمية لتحقيق الاستقرار والسلام بين البلدين. وتأتي هذه الذكرى في وقت تتجدد فيه التوترات بين أديس أبابا وأسمرة، ما يعيد التأكيد على أهمية الالتزام الكامل بالنصوص والروح القانونية للاتفاق، في ظل تحولات إقليمية ودولية معقدة.
تعود جذور النزاع بين إريتريا وإثيوبيا إلى أكثر من قرن، إذ كانت إريتريا منذ عام 1889 ولمدة نصف قرن تحت إدارة المستوطنين الإيطاليين، قبل أن تنتقل إدارتها إلى الجيش البريطاني بعد هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية.
في مرحلة لاحقة، ارتبطت إريتريا بإثيوبيا في إطار فيدرالي، لكن في عام 1962 ألغى الإمبراطور هيلا سيلاسي نظام الفيدرالية، وأصبحت إريتريا جزءا مندمجا في إثيوبيا، ما أشعل شرارة حرب استمرت ثلاثة عقود. وانتهت هذه الحرب بهزيمة إثيوبيا في عام 1991، وتبعه استفتاء شعبي عام 1993 أقر باستقلال إريتريا رسميا، ليضع نهاية لمسار طويل من الصراع المسلح.
شهدت العلاقات بين أديس أبابا وأسمرة تحسنا نسبيا خلال التسعينيات، غير أن الخلافات الحدودية أدت إلى اندلاع حرب جديدة عام 1998. هذه الحرب كانت مدمرة وأسفرت عن مقتل ما بين 70 ألف و80 ألف شخص من كلا الجانبين، قبل أن تتدخل الجزائر، بصفتها وسيطا محايدا، لرعاية اتفاق السلام الذي وقع في عام 2000.
وقد أسس الاتفاق إطارا قانونيا واضحا لإنهاء الحرب ومنع تجددها، لكنه لم يمنع ظهور توترات لاحقة بين البلدين، حتى عام 2018، حين سعى رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد إلى حوار مباشر مع الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، وأفضى هذا الحوار إلى توقيع إعلان إنهاء الحرب، مما أكسب آبي جائزة نوبل للسلام. ومع ذلك، أعاد التحالف بين الحكومتين خلال الحرب الأهلية الإثيوبية في منطقة تيغراي بين 2020 و2022 تصعيد التوتر، مؤكدا هشاشة الوضع الأمني في المنطقة.
جوهر اتفاق الجزائر والالتزامات القانونية
يؤكد الدكتور عبد الناصر سلم حامد، مدير برنامج السودان وشرق إفريقيا في مركز فوكس للأبحاث بالسويد، أن جوهر اتفاق الجزائر يكمن في إرساء تسوية قانونية ملزمة للنزاع الحدودي عبر التحكيم الدولي، مع التزام الطرفين باحترام نتائج لجنة ترسيم الحدود، ووقف الأعمال العدائية، وضمان عدم اللجوء إلى القوة مستقبلا. ويشير الدكتور سلم حامد في تصريح خص به "الأيام نيوز" إلى أن هذه العناصر تمنح الاتفاق صفة قانونية واضحة يمكن أن تكون أساسا لأي جهود لاحقة لتحقيق الاستقرار الدائم.
ويرى الباحث – في تصريح خص به الأيام نيوز - أن الاتفاق، رغم صلاحيته القانونية والسياسية، يظل مرهونا بالتصرفات السياسية للطرفين، خاصة في ظل التحولات الإقليمية المعقدة. ويصف التزام أديس أبابا وأسمرة بأنه متذبذب، إذ غالبا ما طغت الحسابات السياسية والأمنية على الالتزامات القانونية، ما أضعف روح الاتفاق رغم استمرار النصوص القانونية في البقاء سارية وملزمة.
في سياق الاحتفال بالذكرى الخامسة والعشرين للاتفاق، جدد الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، دعم المنظمة الدولي لاتفاق الجزائر "التاريخي"، وحث البلدين على إعادة الالتزام برؤية السلام الدائم واحترام السيادة والسلامة الإقليمية المنصوص عليها في الاتفاق، وتعزيز العلاقات الطيبة وحسن الجوار بينهما. وأوضح ستيفان دوجاريك، المتحدث باسم الأمين العام، أن قادة البلدين جددوا قبل سبع سنوات التزامهم بالسلام من خلال إعلان مشترك، ما يعكس قوة الحوار والتعاون المستمر بين الطرفين.
يشير الدكتور سلم حامد إلى أن تجديد الدعم الأممي يأتي في ظل مؤشرات قلق من احتمالية تصعيد النزاع، ويهدف إلى توجيه رسالة ردع دبلوماسية مفادها أن المجتمع الدولي لن يقبل بالعودة إلى منطق القوة خارج الأطر القانونية المتفق عليها. كما دعا غوتيريش كلا البلدين إلى العمل المستمر مع الشركاء الإقليميين والدوليين لتعزيز التعاون الإنمائي بما يخدم مصالح شعبيهما ويعزز الاستقرار في المنطقة.
التحديات وتأثير النزاع على الاستقرار الإقليمي
ويؤكد الدكتور سلم حامد أن أي توتر بين إثيوبيا وإريتريا ينعكس مباشرة على استقرار القرن الإفريقي، حيث يسهم في تغذية النزاعات بالوكالة، وتسهيل نشاط الجماعات المسلحة، وتهديد خطوط الملاحة والتوازنات الأمنية في منطقة شديدة الهشاشة.
ويبرز الباحث أن الالتزام بالاتفاق لا يعني فقط الحفاظ على حدود السلام بين البلدين، بل يمتد أثره ليشمل استقرار المنطقة ككل، وتعزيز قدرة الدول المجاورة على التصدي للتحديات الأمنية المشتركة، بما في ذلك الإرهاب وانتشار الأسلحة غير النظامية.
ويختم الدكتور سلم حامد بالتأكيد على أن الجزائر، بصفتها راعية اتفاق السلام، تمتلك القدرة على إعادة تنشيط المسار الدبلوماسي بالتنسيق مع الأمم المتحدة، من خلال مبادرات وساطة هادئة تستند إلى الشرعية القانونية للاتفاق، وخبرتها التاريخية الطويلة في إدارة النزاعات الإفريقية، والتي جعلت من الوساطة الجزائرية نموذجا دوليا يُحتذى به في حل النزاعات الإقليمية.
مرور ربع قرن على اتفاق الجزائر يسلط الضوء على مدى صعوبة الحفاظ على السلام في منطقة معقدة من الناحية السياسية والجيوستراتيجية، ويؤكد أن السلام الدائم يحتاج إلى إرادة سياسية حقيقية، ودعم دولي وإقليمي متواصل، فضلا عن إدارة ذكية للأزمات وتحويل التوترات إلى فرص للحوار والتعاون.

