لم تعد بيونغ يانغ تتحدث من خلف ظلال العقوبات والحصار، بل باتت تصعد إلى الواجهة على مسرح بحريٍّ تضيئه شرارات السلاح وتلمع فيه ملامح مرحلة جديدة، فبينما ضجّت العاصمة بزوار معرض "تطوير الدفاع الوطني 2025" الذي جمع رموز قوتها الصاعدة، كانت المدمّرة «تشوي هيون» تدشّن شعار مرحلة جديدة تقول فيها كوريا الشمالية للعالم بثقة: ها نحن هنا. غير أن الصدى لم يأت من بيونغ يانغ وحدها، إذ دوّى من برلين صوت آخر لوزير التوحيد الكوري الجنوبي، جونغ دونغ يونغ، وهو يعترف صراحة بأن كوريا الشمالية أصبحت واحدة من ثلاث دول فقط قادرة على ضرب الأراضي الأمريكية. وهكذا اقترن تصريح الوزير بظهور المدمّرة، مثل صفحتين من كتاب واحد عنوانه: "تحوّل ميزان الردع في شرق آسيا": فالقمة التي جمعت كيم جونغ أون ودونالد ترامب عام 2018، لم تُنه التوتر كما ظنّ البعض، بل أطلقت سباقا جديدا يؤسس لصعود كوريا الشمالية نحو القمة مع الكبار. وها هي بيونغ يانغ اليوم، بثقة متزايدة، تتحدث بلغة القوى العظمى، بينما يقف الأمريكيون أمام واقع لم يرغبوا يوما في سماعه: "نحن مضطرون للاعتراف بهذه الحقيقة".
في خطوة تُعد من أبرز محطات التحديث العسكري في كوريا الشمالية منذ إعلانها عن الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، كشفت بيونغ يانغ عن جاهزية مدمّرتها الحديثة "تشوي هيون" لدخول الخدمة. وقد جاء الإعلان وسط أجواء احتفالية خلال معرض "تطوير الدفاع الوطني 2025" الذي افتتحه الزعيم كيم جونغ أون بنفسه، بمشاركة كبار قادة الجيش ومسؤولي الحزب. وأشادت وسائل الإعلام الرسمية بالمدمّرة الجديدة، معتبرة إياها "ثمرة القيادة المتميزة والتصميم الحديدي" للجنة المركزية لحزب العمال الكوري، في حين رأت صحف غربية متخصصة أنّ هذه الخطوة تمثل قفزة نوعية في القدرات البحرية الكورية الشمالية، بعدما ظلت تعتمد لعقود على فرقاطات وكورفيتات سوفيتية قديمة تجاوزها الزمن.
تبلغ إزاحة "تشوي هيون" بين 5000 و5500 طن، ما يضعها في فئة المدمرات المتوسطة القادرة على العمل في عرض البحر بعيدا عن السواحل. ويرجّح محلّلون أن تصميمها يدمج تقنيات تقليل الرصد الراداري عبر بنية علوية مائلة وزوايا مصقولة تخفّض البصمة الرادارية. وتظهر على متنها منصتان عموديتان للإطلاق في المقدمة والمؤخرة، كلّ منهما تحتوي خلايا متعددة لإطلاق الصواريخ، ويُقدَّر إجمالي عدد الخلايا بما بين 64 و76 خلية.
يتيح هذا التكوين للسفينة حمل صواريخ متوسطة وطويلة المدى، وقد تكون من طراز "كي إن-27" أو "هواسونغ-2" التي تصيب أهدافا تفصلها أكثر من 1500 كيلومتر، وبذلك يشمل مدى إطلاقها اليابان وكوريا الجنوبية وأجزاء من المحيط الهادئ حيث تتمركز القوات الأمريكية في غوام. كما زوَّدت المدمّرة بمنظومة دفاع قريب من نوع CIWS تشبه النظام الروسي AK-630 ومدفعا رئيسيا عيار 127 ملم يوفّر دعما للعمليات الهجومية الساحلية. وتبقى تفاصيل نظام الدفع غامضة، لكن محلّلين يشيرون إلى احتمال اعتمادها على محركات ديزل تقليدية بدلا من توربينات غازية متقدمة؛ هذا الخيار قد يقيد مدى دورياتها التشغيلية لكنه لا يؤثر على قيمتها الرمزية كوسيلة ردع متحركة على سطح البحر.

عرض للقوة واحتفال بالعقيدة واعتراف من الجانب الآخر
لم يحمل افتتاح معرض "تطوير الدفاع الوطني 2025" في بيونغ يانغ طابعا بروتوكوليا، بل عكس استعراضا شاملا لمرحلة جديدة في عقيدة الردع الكورية الشمالية. وأوضح الزعيم كيم جونغ أون، خلال الكلمة التي ألقاها في الافتتاح، أن المعرض يجسّد الإنجازات الكبيرة التي حققتها البلاد في تحديث قواتها المسلحة خلال عام واحد فقط. وقال في خطابه: "حققنا نجاحا واسعا خلال فترة قصيرة لا تتجاوز عاما واحدا، وهذا المعرض يشكل احتفالا رائعا بتاريخ حزبنا الممتد على مدى ثمانين عاما".
ذكرت وكالة الأنباء المركزية الكورية أن المعرض عرض أحدث الأسلحة التي طوّرها العلماء الكوريون، من أنظمة الصواريخ الذكية إلى معدات الاستشعار وتقنيات الذكاء الاصطناعي العسكري. وأشارت الوكالة إلى أنّ ما تضمنه المعرض "يغرس الفخر في صناعة الدفاع ويعزّز الثقة في مستقبلٍ قويٍّ لجمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية". وتظهر مشاهد المعرض أنّ كوريا الشمالية تجاوزت مرحلة التركيز على الردع النووي لتتبنّى مفاهيم أوسع تشمل الردع البحري والفضائي والتقني، ما يعكس انتقال معركتها من حدود الأرض إلى مجالات السماء والبحر والفضاء الإلكتروني.
لكن المفاجأة الكبرى خرجت من برلين لا من بيونغ يانغ. ففي مؤتمر صحفي، أعلن وزير التوحيد الكوري الجنوبي جونغ دونغ يونغ تصريحا قلب موازين التحليل الاستراتيجي، مؤكدا أن كوريا الشمالية أصبحت واحدة من ثلاث دول فقط في العالم تمتلك القدرة على ضرب الأراضي الأمريكية، مضيفا: "نحن مضطرون للاعتراف بهذه الحقيقة". وجاء تصريحه بعد أيام قليلة من اختبارات صاروخية أجرتها بيونغ يانغ على صاروخ "هواسونغ-19" في أكتوبر 2024، حيث استمر تحليقه 86 دقيقة وبلغ ارتفاعا قياسيا وصل إلى 7687 كيلومترا قبل أن يسقط غرب جزيرة أوكوشيري اليابانية. واعتبر كيم جونغ أون تلك التجربة "رسالة عزيمة واضحة للأعداء".
الوزير الجنوبي أضاف في برلين أن القمة التي جمعت كيم جونغ أون بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب عام 2018 لم تُفض إلى نزع السلاح النووي كما كانت واشنطن تأمل، بل فتحت الباب أمام سباق تسلحٍ جديد، حيث انتقلت كوريا الشمالية من مرحلة التهديد إلى مرحلة القدرة الفعلية. وتشير تقارير الاستخبارات الكورية الجنوبية إلى أن بيونغ يانغ تمتلك ما يصل إلى طنين من اليورانيوم عالي التخصيب، إضافة إلى بنية تحتية متكاملة للتخصيب والإنتاج تشمل المناجم ومرافق المعالجة وأجهزة الطرد المركزي، بل وقدرة على تصنيع اليورانيوم المعدني النقي المستخدم في الرؤوس النووية المتقدمة.
ورغم صعوبة التحقق من هذه التقديرات بدقة، أكدها عدد من الخبراء الروس، بينهم فلاديمير خرستاليوف ويفغيني كيم من مركز الدراسات الكورية في الأكاديمية الروسية للعلوم، اللذان اعتبراها "محتملة بدرجة عالية"، وأوضحا أن كوريا الشمالية نجحت في بناء منظومة إنتاج نووي متكاملة ومكتفية ذاتيا تشمل مراحل التخصيب والتصنيع والتسليح، ما يجعلها اليوم دولة نووية مكتملة الأركان وقادرة على تطوير قدراتها من دون اعتماد خارجي.
البحر كمنصة للردع..
إدخال المدمّرة "تشوي هيون" إلى الخدمة لا يمكن النظر إليه كتحركٍ تقنيٍّ بحت، بل كتحولٍ في مفهوم الردع البحري الكوري الشمالي. فبيونغ يانغ تدرك أن امتلاكها لصواريخ عابرة للقارات لا يضمن وحده الحصانة، بل تحتاج أيضا إلى منصاتٍ متحركة قادرة على المناورة والاختفاء في عرض البحر، تتيح لها ضربة ثانية في حال تعرّضت أراضيها لهجوم. وهنا تبرز "تشوي هيون" كسفينة تمثل هذا المفهوم: قطعة بحرية متقدمة تحمل الصواريخ بعيدة المدى، يمكن أن تصبح رمز الردع الثاني إلى جانب الصواريخ البرية.
أثار هذا التطور قلقا عميقا في سيول وطوكيو وواشنطن، لأنه يشير إلى اقتراب كوريا الشمالية من نموذج الردع المتكامل الذي تحتفظ به القوى النووية الكبرى، والقائم على ترسانة نووية برية متقدمة، وسفن وغواصات قادرة على إطلاق الصواريخ الباليستية، إضافة إلى قدرات فضائية متطورة للمراقبة والتوجيه والاستطلاع. وبهذا الواقع الجديد، يجد شرق آسيا نفسه على أعتاب مرحلة غير مسبوقة من "التوازن المرعب"، حيث يمكن لأي خطأ في الحساب أو سوء تقدير سياسي أن يشعل مواجهة كارثية يصعب احتواؤها أو السيطرة على تداعياتها.
منذ اللقاء التاريخي الذي جمع كيم جونغ أون ودونالد ترامب في سنغافورة عام 2018، ظنّ كثيرون أن العلاقات بين واشنطن وبيونغ يانغ دخلت مرحلة جديدة يسودها الانفراج والتفاهم. غير أنّ الواقع سار في اتجاه مختلف تماما، إذ تحوّل ذلك اللقاء من بوابةٍ للأمل إلى بداية سباق استراتيجي جديد بين الطرفين.
استغلت كوريا الشمالية فترة الانفراج القصيرة بعد قمة سنغافورة لتكثيف برامجها العسكرية والتقنية، وعملت بهدوء وثبات حتى بلغت مرحلة الثقة الكاملة بقدراتها الاستراتيجية. وأصبحت تعرض مدمراتها وصواريخها في معارض عامة أمام الإعلام العالمي، وتعلن مشاريع الردع من دون مواربة أو غموض. لم تعد بيونغ يانغ تعتمد على البيانات المبهمة أو الصور الملتقطة في مواقع سرّية، بل قررت الظهور العلني تحت الأضواء، لتؤكد للعالم أنها حاضرة وقوية ولا تنوي الاختباء بعد الآن. وفي الجهة المقابلة، يجد خصومها أنفسهم يكرّرون الجملة نفسها التي نطق بها الوزير الكوري الجنوبي بواقعيةٍ مُرّة: "نحن مضطرون للاعتراف بهذه الحقيقة".