على إيقاع التحولات المتسارعة التي يشهدها الاقتصاد العالمي، تبرز التجارة الرقمية كجسر استراتيجي لإفريقيا نحو الاندماج في السوق الدولية وتحرير طاقاتها الكامنة. ومع دخول اتفاقية التجارة الحرة القارية الإفريقية (AfCFTA) حيّز التنفيذ، لم يعد السؤال مقتصراً على أهمية التحول الرقمي، بل على مدى جاهزية القارة لخلق بيئة مواتية للتجارة الإلكترونية وتوحيد نظمها القانونية والمالية واللوجستية.
في هذا الإطار، شكّلت الجلسة الحوارية المنعقدة خلال اليوم الرابع من فعاليات المعرض التجاري الإفريقي البيني (IATF 2025) بالعاصمة الجزائرية، تحت عنوان: "التجارة الرقمية في إطار AfCFTA: هل توفر بيئة مواتية للتجارة الرقمية؟"، محطة مركزية لتبادل الرؤى بين خبراء التكنولوجيا وصناع القرار والفاعلين الاقتصاديين، في لحظة تبحث فيها إفريقيا عن أدوات جديدة لتسريع التكامل وبناء اقتصاد رقمي تنافسي.
التجارة الرقمية حجر الزاوية للتكامل
في مستهل الجلسة، وضعت ميشيل تشيفونغا، المديرة العامة لـ Global Policy House، الأساس النظري للنقاش، معتبرة أن التجارة الرقمية لم تعد خياراً ترفياً، بل ضرورة استراتيجية لبناء اقتصاد إفريقي متكامل. وأكدت أن اتفاقية AfCFTA توفر الإطار القانوني والتنظيمي الكفيل بتجاوز العوائق التقليدية أمام حركة السلع والخدمات، بما يعزز انسيابية التبادل التجاري عبر الحدود.
غير أن القيمة المضافة بحسبها تكمن في توحيد السياسات الرقمية بين الدول الإفريقية، الأمر الذي من شأنه إرساء قواعد تعاون مشترك أكثر عمقاً وتمهيد الطريق نحو سوق رقمية موحّدة تعزز مكانة إفريقيا في الاقتصاد العالمي.
تمكين المؤسسات الصغيرة والمتوسطة
من جانبه، شدّد كويمي تسووو، المستشار التجاري الإقليمي الأول في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، على أن المؤسسات الصغيرة والمتوسطة تشكّل العمود الفقري للاقتصادات الإفريقية، غير أن قدرتها على المنافسة ما زالت رهينة بتطوير بنيتها الرقمية.
وأوضح أن التحول الرقمي يمنح هذه المؤسسات فرصاً غير مسبوقة للتوسع والوصول إلى أسواق جديدة، لكنه يتطلب استثمارات جادة في البنية التحتية الرقمية والتدريب والدعم الفني المستدام.
وأضاف أن تمكين هذه المؤسسات من أدوات التكنولوجيا الحديثة سيجعلها أكثر قدرة على الاستفادة من المزايا التي تتيحها اتفاقية AfCFTA، وتحويلها من مجرد اتفاقية تجارية إلى محرك عملي للتنمية الشاملة وخلق فرص العمل عبر القارة.
الابتكار محرك التبادل التجاري
أما أمادو تال، المدير العام لشركة Nimba SMS، فقد أضاء على الدور المحوري للشركات الناشئة في دفع عجلة التحول الرقمي داخل القارة. وأوضح أن هذه الشركات لا تقتصر على تقديم خدمات تكنولوجية مبتكرة، بل تُعد بمثابة مختبرات للأفكار الجديدة التي تترجم إلى حلول عملية تعزز التجارة الرقمية.
وأضاف أن الابتكار التقني يفتح آفاقاً واسعة أمام رواد الأعمال لتسهيل النفاذ إلى الأسواق، وتحسين كفاءة المعاملات التجارية، وبالتالي تحفيز ديناميكية نمو اقتصادي قادر على تجاوز الحدود التقليدية للتجارة.
المدفوعات الرقمية تعزز الثقة
وفي محور الخدمات المالية، شدّد إسحاق كاموتا، رئيس قسم المدفوعات وإدارة الخزانة والوصول إلى العملاء في Ecobank، على أن أنظمة المدفوعات الرقمية المتكاملة والآمنة تشكّل حجر الأساس لأي منظومة تجارية رقمية ناجحة. وأشار إلى أن هذه الأنظمة لا تسهّل المعاملات فحسب، بل ترفع مستوى الشفافية وتعزز ثقة المستثمرين بالأسواق الإفريقية، وهو ما يجعلها عاملاً رئيسياً في جذب رؤوس الأموال وتوسيع الاستثمارات. واعتبر أن تسريع وتيرة تطوير نظم المدفوعات الرقمية يعني تسريع اندماج إفريقيا في الاقتصاد العالمي.
حاضنات الأعمال رافعة للابتكار
واختتم بالوكو دونا، مسؤول البرامج في Afrilabs، بالتأكيد على أن الابتكار الرقمي يحتاج إلى حاضنة حقيقية تدعمه وتواكب نموه. وبيّن أن المسرّعات وحاضنات الأعمال تمثل أدوات استراتيجية لتمكين المبتكرين الشباب من تحويل أفكارهم إلى مشاريع ملموسة ذات أثر اقتصادي. فهذه المنصات لا توفر التمويل فحسب، بل تمنح رواد الأعمال البيئة المناسبة للتجريب والتطوير والتوسع، مما يعزز القدرة التنافسية لإفريقيا ويضعها على مسار اقتصاد قائم على المعرفة والابتكار.
نحو سوق رقمية موحّدة
في المحصلة، عكست مداخلات المشاركين في الجلسة الحوارية أن التجارة الرقمية ليست مجرد خيار تقني، بل مسار استراتيجي لإعادة صياغة مستقبل القارة الإفريقية. فمن توحيد الأطر التنظيمية وتطوير القدرات الرقمية للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، مروراً بدعم الشركات الناشئة وتعزيز الابتكار، وصولاً إلى بناء أنظمة مدفوعات آمنة وحاضنات أعمال فعّالة، يتضح أن الطريق نحو سوق إفريقية رقمية موحّدة يتطلب رؤية جماعية وإرادة سياسية واقتصادية صلبة.
وبينما تواصل اتفاقية AfCFTA فتح آفاق جديدة للتكامل، تبقى الرهانات الحقيقية في قدرة إفريقيا على تحويل الخطط إلى سياسات عملية، والابتكار إلى أدوات تنمية، والتجارة الرقمية إلى رافعة للنمو الشامل والاندماج العالمي.

