خلال زيارته إلى تونس عام 2021، طرح رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون مبدأ يبدو بسيطا في ظاهره، لكنه بالغ العمق في جوهره: "لا يحق لأي دولة أن تتدخل في الشؤون الداخلية لدول أخرى". ولم يكن ذلك مجرد تصريح خطابي عابر، بل تحذيرا صريحا من خطورة تمزيق الصف العربي. يومها استحضر الرئيس تبون المثل الشهير: "أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض"، مؤكدا أن معظم الدول العربية مهيّأة للتقسيم ما لم تتحصن بالتكاتف والتآزر. كثيرون ممّن كانت الحماسة تسيطر عليهم في زمن ما سُمّي بـ"الثورات العربية'" رأوا في تلك الكلمات مبالغة لا أكثر، لكن مسار الأحداث لاحقا كشف أنها لم تكن سوى خريطة إنذار مبكر لما هو آت. وبمرور الوقت، وقعت دول عربية تباعا في مصائد الفوضى، وانكشفت الأزمات بندا بعد بند، فهنا تقصف الطائرات بلدا من الجو، وهناك تنهش الانقسامات جسد دولة أخرى، وثالثة ينتهك الأعداء مقدساتها، ورابعة تغرق في حرب أهلية أشعلتها أموال وسلاح عربيان. وهكذا لم يعد المشهد العربي مجرد أزمات متناثرة، بل لوحة واحدة يجمعها خيط ناظم: كل غياب للتضامن يفتح الباب لتدخل خارجي، وكل خيانة للمبدأ تتحول سريعا إلى عدوان على الأرض والإنسان. فما نشهده اليوم في فلسطين وسوريا والسودان، وما تعيشه ليبيا منذ أن فُتحت أبوابها أمام تدخل الناتو ليستبيح أرضها، وما تعرضت له قطر نفسها قبل أيام قليلة.. كلها شواهد دامغة على أن من يشارك في تمزيق شقيقه أو يتواطأ على معاناته، إنما يكتب بيده فصول تمزيقه هو، ولا يمكن أيضا تجاهل ما جرى في لبنان من محاولات منظمة لإضعاف مقاومته وتجريده من سلاحه الموجَّه نحو العدو الأكبر: «إسرائيل».
من هذه الزاوية، لا تبدو القمة العربية الإسلامية الطارئة في الدوحة اجتماعا بروتوكوليا عابرا، بل استحقاقا وجوديا يضع العرب أمام امتحان مصيري يتعلق بقدرتهم على حماية كيانهم الجماعي وصون مستقبلهم، فإما أن يظلوا أسرى بيانات دبلوماسية عاجزة عن تغيير شيء في الواقع المتفجر، وإما أن يستعيدوا زمام المبادرة – كما تدعوهم الجزائر إلى ذلك – قبل أن يكتمل مخطط التفكيك الذي يزحف على المنطقة بخطوات متسارعة ومدروسة.
أمس الأحد انطلقت في العاصمة القطرية أشغال الاجتماع التحضيري لوزراء خارجية الدول العربية والإسلامية، برئاسة رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن جاسم آل ثاني، تمهيدا للقمة الطارئة التي تعقد اليوم الاثنين. وناقش الوزراء مشروع بيان يدين العدوان الصهيوني الذي استهدف قطر الثلاثاء الماضي، حين شنّت الطائرات الصهيونية هجوما صادما على مقرات سكنية يقيم فيها أعضاء من المكتب السياسي لحركة «حماس» في الدوحة.
لم يكن الهجوم حدثا عابرا، بل محطة فاصلة كشفت الكثير من المستور. فقد وقع في بلد يحتضن أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في المنطقة، قاعدة يُفترض أنها تمثل صمام أمان وضمانة للاستقرار، غير أن المشهد جاء معكوسا على نحو صادم: «إسرائيل» قصفت بوضوح، والولايات المتحدة لزمت الصمت المدوي. بل إن تسريبات إعلامية صادرة من «تل أبيب» أوضحت أن واشنطن لم تكتف بالصمت، وإنما منحت الضوء الأخضر للهجوم ووفرت تغطية مباشرة عبر طائراتها الاستخبارية التي واكبت العملية لحظة بلحظة.
وبينما كان العمل جاريا على تهيئة القاعة التي اجتمع فيها وزراء الخارجية في الدوحة أمس، آثر وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو أن يغادر متوجها إلى «تل أبيب»، في رسالة سياسية لا تحتمل أي تأويل أو التباس: الاصطفاف الأمريكي الكامل إلى جانب «إسرائيل»، حتى ولو جاء الثمن باستهداف عاصمة عربية احتضنت في السابق جولات عديدة من المفاوضات غير المباشرة بين حماس والكيان المحتل، وسعت بكل إمكاناتها للحفاظ على خيط أمل واه في التهدئة.
وهكذا وجدت قطر نفسها في مواجهة امتحان ثلاثي الأبعاد: عدوان صهيوني مباشر يختبر قدرتها على الصمود، وخيانة واضحة من شريك استراتيجي يقدَّم على أنه الضامن الأول لأمنها، ثم تقويض مقصود لفكرة المفاوضات ذاتها ولجدواها المستقبلية.
ومع وضوح الصورة، لم يعد الدرس خافيا على أحد: كل من يظن أن الحماية الخارجية تكفي يكتشف عند أول اختبار أن الضمانات الورقية تتبخر سريعا، وأن البيت العربي إذا لم يتحصن داخليا بمنظومة تضامن فعلي وبتوافقات راسخة، سيظل مكشوفا أمام التفكك والضياع. أما الحديث المتكرر عن السلام والمفاوضات، فلم يعد يتجاوز كونه وسيلة لتخدير الوعي الجماعي وتغطية عملية اصطياد متواصلة تستهدف فرائس عربية جديدة يوما بعد يوم.
من غزة إلى القدس
أما غزة، ففي اللحظة نفسها التي جلس فيها وزراء الخارجية العرب داخل قاعات الدوحة أمس الأحد للتحضير للقمة الطارئة، اشتعلت سماء القطاع بأعنف موجة قصف منذ السابع من أكتوبر. إذ نفّذت قوات الاحتلال الصهيوني تفجيرات مدمرة في جنوبي مدينة غزة، ثم صعّدت الهجمات بغارات جوية ومدفعية استهدفت أحياء تل الهوى والزيتون والشجاعية، قبل أن تمتد إلى دير البلح حيث قصفت خيمة نازحين وأوقعت ستة شهداء بينهم نساء وأطفال، وصولا إلى خان يونس التي دوّت فيها القذائف بلا توقف.
الأرقام ترفع الصوت بما يغني عن أي بيان: أكثر من 64,871 شهيدا و164,610 مصابا منذ بدء العدوان، غالبيتهم نساء وأطفال، فيما بقي آلاف آخرون مطمورين تحت الركام أو عالقين في الطرقات المقطوعة. وخلال الساعات الأخيرة وحدها، ارتفعت حصيلة الضحايا مجددا، بينهم من قضوا في طوابير المساعدات، ليلتحقوا بقائمة "شهداء لقمة العيش". هذه الأرقام لا تجسد فقط حجم الكارثة، بل تكشف أيضا انهيار الحد الأدنى من الضمير العربي والدولي في آن واحد.
وفي القدس، لم يكن المشهد أقل خطورة أو فداحة. ففي الوقت الذي ترددت فيه كلمات الوزراء داخل قاعات الاجتماع التحضيري، اقتحم عشرات المستوطنين باحات المسجد الأقصى تحت حماية مكثفة من قوات الاحتلال. نفخ أحدهم بالبوق (الشوفار) قرب مصلى باب الرحمة في استعراض فجّ لطقوس رأس السنة العبرية، بينما أغلقت القوات أبواب المسجد في وجه المصلين الفلسطينيين لتأمين الاقتحام. هذه الصورة تختصر المعادلة المأساوية: في غزة تُستباح الحياة، وفي القدس تُستباح المقدسات، وبينهما يكتفي العرب بصياغة عبارات دبلوماسية جوفاء لا تغير شيئا من الواقع.
ومنذ أكتوبر 2023، لم يكتف الاحتلال بشن حرب إبادة في غزة، بل شدّد قبضته الأمنية على القدس، فمنع المصلين القادمين من الضفة الغربية والداخل الفلسطيني من دخول المسجد الأقصى، ورفع أعداد المقتحمين من جماعات الهيكل بشكل غير مسبوق، حتى تجاوزوا 8,588 مستوطنا في شهر واحد فقط. إنها سياسة ممنهجة تستهدف الجسد والروح معا: قتل الإنسان في غزة، وقتل الرمز في القدس، لتصفية القضية الفلسطينية من جذورها وإخراجها من وجدان الأمة والعالم.
في سوريا، وحين كانت العواصم العربية منشغلة بترتيب أوراق القمة في الدوحة، كانت القوات الصهيونية تنفّذ توغلا جديدا في ريف درعا الغربي، مستهدفة قريتي صيصون وسرية جملة. ولم يكن ذلك مجرد حادث عابر، بل محطة إضافية في مسار ممتد منذ أكثر من عقد: انهيار الدولة تحت وطأة الحرب الأهلية والتدخلات الخارجية، وما رافقها من دعم وتمويل عربي مباشر للفصائل المسلحة، فتح الباب أمام «إسرائيل» لتتحرك بحرية داخل الأراضي السورية.
والمفارقة أن الاستهداف وقع في درعا بالذات، التي وُصفت يوما بأنها – وفق مصطلحات ربيع الخراب العربي - "مهد الثورة"، فإذا بها اليوم تتحول إلى ساحة رخوة تتقاسمها الفوضى والاحتلال، بعدما صفق بعض العرب لانهيار دمشق، غير مدركين أن العدو الحقيقي لم يكن ينتظر سوى لحظة الوهن ليزرع أقدامه العسكرية. وهكذا، بينما يُعقد اجتماع عربي على الورق، يُكتب في الميدان فصل جديد من الغياب العربي، حيث يواصل الاحتلال توغله بلا رادع.
ولا يتوقف المشهد عند سوريا؛ فلبنان بدوره يواجه ضغوطا داخلية وخارجية لنزع سلاح حزب الله، في وقت تتواصل فيه الاعتداءات الصهيونية على الجنوب. هذه المفارقة تكشف حجم الاختلال في المقاربة العربية: بدل دعم المقاومة التي تشكل خط الدفاع الأخير في وجه المشروع الصهيوني، تبرز أصوات عربية تطالب بتجريدها من قوتها. وقد حذّر النائب حسن عز الدين من أنّ مثل هذه الدعوات تمثل محاولة خطيرة لنزع قدرة لبنان على الدفاع عن نفسه، مؤكدا أن المعادلة واضحة: نزع السلاح يساوي فتح الطريق أمام اجتياح جديد، كما حدث في سوريا.
وشدد عز الدين خلال كلمة ألقاها في حفل تخريج طلابي، على أن سلاح المقاومة لم يعد ملكا لحزب الله وحده، بل أصبح أمانة في أعناق غالبية اللبنانيين الذين يرونه الضمانة الوحيدة لوحدة البلاد وسيادتها. وأوضح أن نشأة المقاومة جاءت كاستجابة طبيعية للاجتياح الصهيوني، وأنها استطاعت عبر ثمانية عشر عاما أن تفرض معادلة التحرير والانتصار من دون أي قيد أو شرط، في واحدة من أهم المحطات العربية في مواجهة «إسرائيل».
وفي موازاة هذه المواقف، أقر مجلس الوزراء اللبناني يوم 5 أوت خطة لحصر السلاح بيد الدولة وتكليف "الجيش" بتنفيذها قبل نهاية 2025، وبدأ بالفعل استلام السلاح الفلسطيني من بعض المخيمات في بيروت وصور. غير أن الأمين العام لحزب الله، نعيم قاسم، أعلن بوضوح أن الحزب لن يسلم سلاحه إلا بعد انسحاب «إسرائيل» من الأراضي اللبنانية، ووقف اعتداءاتها، والإفراج عن الأسرى، والشروع في عملية إعمار جدية. وهكذا يتضح أن ملف السلاح في لبنان ليس مسألة تقنية أو إجرائية، بل جزء من الصراع المفتوح على مستقبل المنطقة، حيث يستهدف المشروع الصهيوني تفكيك كل خطوط المقاومة وإفراغها من مضمونها.
أما اليمن، فالحرب التي اندلعت عام 2015 لم تبقَ في حدود نزاع داخلي، بل تصاعدت إلى واحدة من أعظم الكوارث الإنسانية في العصر الحديث. بلد عريق يمتلك تاريخاً حضارياً غنياً تحول إلى ساحة مدمرة وخرابة واسعة، فيما يعيش شعبه تحت حصار خانق وجوع متواصل وتشريد قاسٍ يفتك بالأسر جيلاً بعد جيل. القوى الإقليمية واصلت إدارة هذا النزيف المؤلم، وسعت إلى إخضاع اليمنيين وإجبارهم على السير في ركب التطبيع مع الاحتلال، غير عابئة بعمق معاناتهم ولا بصرخات أطفالهم.
والأشد خطورة أن بعض الجيوش العربية صوّبت نيرانها نحو اليمن، فعمّقت الجراح وحاولت تحويله إلى لقمة صائغة أمام الأطماع الخارجية. ومع ذلك، تمكن اليمنيون بفضل صمودهم الأسطوري من إعادة بلادهم إلى ساحة مقاومة فاعلة، ووقفوا على أقدامهم من جديد ليردوا بصلابة على اعتداءات «إسرائيل»، مؤكدين أن إرادتهم الوطنية أقوى من كل مشاريع التفتيت، وأن قدرتهم على الصمود تصنع معادلة جديدة تفرض حضورهم في وجه كل المؤامرات.
وفي السودان، لم تعد الحرب مجرد مواجهة داخلية بين "الجيش" وقوات الدعم السريع، بل تحولت إلى ساحة صراع إقليمي مفتوح غذّته أطراف خارجية بالمال والسلاح. بلد المليون ميل مربع يتآكل اليوم تحت وطأة حرب طاحنة وتدخلات متشابكة تهدد وجوده كدولة موحدة. السودان إذن شاهد جديد على غياب المبدأ: لو كان التضامن العربي قائما منذ البداية، لكان بالإمكان تطويق الأزمة قبل أن تتحول إلى نزيف مفتوح يهدد حاضر البلاد ومستقبلها.
وفي التوقيت نفسه الذي كانت فيه الدوحة تستضيف الاجتماع التحضيري لوزراء الخارجية العرب، شنت «قوات الدعم السريع» المدعومة إماراتيا هجمات بطائرات مسيَّرة استهدفت مواقع عسكرية وبنى تحتية مدنية في مدينة كوستي جنوب السودان، بعد أقل من أسبوع على هجمات مماثلة في العاصمة. وبحسب مصدر عسكري، فقد استهدفت المسيَّرات مقر الفرقة 18 التابعة "للجيش"، ومستودعات الوقود على ضفاف النيل الأبيض، إلى جانب القاعدة الجوية ومطار كنانة ومحطة كهرباء أم دياكر. شهود عيان أكدوا سماع دوي انفجارات قوية في المنطقة، على بعد نحو 320 كيلومترا جنوب الخرطوم.
هذه التطورات ليست معزولة. فوفق تقرير لمنظمة العفو الدولية في مايو الماضي، ثبت خرق الإمارات لحظر الأسلحة المفروض على إقليم دارفور منذ 2005، بعدما زودت قوات الدعم السريع بأسلحة متطورة لا تتوافر حتى لدى جيوش نظامية في المنطقة. أسلحة وُصفت بالفتاكة والنوعية، استُخدمت على نطاق واسع منذ اندلاع القتال، وارتبطت باتهامات أممية ودولية بارتكاب جرائم حرب.
ومع تصاعد القتال، انتقلت الهجمات بالطائرات المسيرة لتطال مدينة بورتسودان، حيث تعرضت قاعدة فلامنغو البحرية لقصف متكرر. هذا المسار يكشف أن الحرب لم تعد تهدد السودان وحده، بل تنذر بتحويل البحر الأحمر ومحيطه إلى مسرح جديد للفوضى، في ظل غياب موقف عربي جاد يضع حدا للتدخلات الخارجية ويعيد الاعتبار لمبدأ سيادة الدولة.
ليبيا.. الجرح المفتوح
منذ عام 2011، لم تعرف ليبيا طعماً للاستقرار أو فرصة حقيقية لبناء مؤسساتها الوطنية. فقد غذّت أطراف عربية الانقسام الداخلي، ومولت ميليشيات متناحرة، وفتحت الأبواب أمام تدخلات أجنبية متزايدة. وكانت النتيجة انقساماً حاداً بين شرق وغرب، وصراعاً بين حكومتين، وصعود ميليشيات تحولت تدريجياً إلى أمراء حرب يتحكمون في المدن والثروات.
ليبيا التي كان من المفترض أن تستثمر ثرواتها النفطية الهائلة في بناء دولة مزدهرة وقادرة على قيادة المنطقة في مجال الطاقة، تحولت إلى ساحة صراع إقليمي ودولي مفتوح، تتشابك فيه الحسابات السياسية والمصالح الاقتصادية. وما يزيد خطورة الوضع أن بعض العواصم ما زالت حتى اليوم تمارس السياسات ذاتها، فتغذي الانقسام الداخلي وتعيق أي مسار جدي للتسوية. وهكذا تقدم التجربة الليبية تذكيراً صارخاً بأن غياب المبدأ لا يؤدي فقط إلى سقوط الدولة، بل يحولها أيضاً إلى بؤرة تهديد لجوارها المباشر ولمجمل الأمن الإقليمي والدولي.
كل ما جرى – من قصف غزة وتجويع أهلها، إلى اقتحامات الأقصى، ومن توغلات الاحتلال في درعا إلى حروب الطائرات المسيَّرة في السودان – لا يمكن التعامل معه كسلسلة حوادث متفرقة. إنها حلقات متصلة في سلسلة واحدة، تضع العرب جميعا أمام امتحان تاريخي. هنا بالضبط تبرز قيمة القمة الطارئة في الدوحة: فهي ليست مجرد لقاء دوري لإصدار بيان سياسي، بل لحظة مفصلية لاختبار ما إذا كان العرب قادرين على استعادة المبادرة قبل أن تُستكمل فصول مشروع التفكيك الذي يزحف على المنطقة خطوة خطوة.
إن العدوان الصهيوني على قطر لم يكن حادثا عابرا، إذ يظهر جوهر الأزمة العربية بكل وضوح: غياب منظومة أمنية وسياسية موحَّدة قادرة على حماية المصالح المشتركة. فمنذ عقود طويلة، عملت السياسات المتناقضة على إفراغ معاهدات الدفاع العربي المشترك من مضمونها الفعلي، حتى تحولت إلى نصوص معطلة لا وزن لها في لحظات الاختبار.
وفي المقابل، فضّلت أغلب الدول الانخراط في تحالفات منفردة مع واشنطن أو غيرها من القوى الخارجية، لتجد نفسها في نهاية المطاف وحيدة في مواجهة العاصفة. لو وُجدت إرادة جماعية حقيقية لبلورة مشروع ردع عربي شامل، لما تجرأت «إسرائيل» على انتهاك سيادة الدوحة، ولما تحولت غزة إلى مسرح إبادة يومية، ولما تُرك السودان يواجه مصير الحرب المفتوحة بلا غطاء سياسي أو دعم استراتيجي.
إن الخطر لا يكمن في العدوان الصهيوني وحده أو في ازدواجية الموقف الأمريكي فحسب، بل يتجسد أيضاً في هشاشة البنية العربية ذاتها التي أصبحت مكشوفة أمام الجميع بلا غطاء. المنطقة اليوم تحولت إلى فسيفساء متشظية من الأزمات العميقة والمتداخلة: اليمن يقاوم في أنفاسه الأخيرة وهو غارق في المجاعة ويواجه «إسرائيل» بإصرار، وليبيا تحولت إلى ملعب مفتوح تتنازع فيه المصالح الأجنبية وتتصادم فوق أرضها الحسابات الإقليمية والدولية، وسوريا تترنح تحت وطأة التدخلات المتناقضة التي أنهكت مؤسساتها ومزقت نسيجها الداخلي، أما السودان فيتآكل يوماً بعد يوم أمام أنظار العالم من دون أي مبادرة إنقاذ جادة توقف نزيفه المستمر.
هذه الأوضاع لا تمثل مجرد جروح سطحية يمكن مداواتها بمسكنات سياسية عابرة، بل تكشف عن نزيف مفتوح يهدد بتفكيك الكيان العربي من الداخل، ويحوّل الخلافات الطبيعية إلى انقسامات مصيرية عميقة لا رجعة فيها، بما يضع مصير الأمة كلها على حافة الانهيار.
إما مشروع ردع عربي.. أو مزيد من الانكسار
من هذا المنطلق، يجب قراءة القمة الطارئة في الدوحة كاستحقاق مصيري لا كاجتماع عابر. فهي إما أن تتحول إلى محطة تعيد الاعتبار لفكرة التضامن العملي، وتؤسس لمسار عربي قادر على الفعل، أو تصبح مجرد حلقة إضافية في مسلسل البيانات الإنشائية التي تراكمت عبر عقود. وهنا، يبرز لزاما التفكير في خيارات محددة ومخرجات ملموسة تمنح الشعوب أملا عمليا، لا مجرد وعود فضفاضة سرعان ما تتلاشى في الهواء:
- إعادة تفعيل اتفاقية الدفاع العربي المشترك لا ينبغي أن يبقى في إطارها الشكلي، بل يستوجب ترجمتها إلى قوة ردع حقيقية عبر إنشاء قوة عربية مشتركة للتدخل السريع، تمتلك الجاهزية الكاملة لحماية أي بلد يتعرض لعدوان خارجي. هذه الخطوة لا تعني بالضرورة الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة، لكنها تبعث رسالة واضحة بأن السيادة العربية تمثل خطاً أحمر لا يقبل الانتهاك. والأهم أن هذه القوة يجب أن تُسخّر حصراً للدفاع عن الأمن القومي العربي، لا لخدمة أجندات معادية ولا لتبرير تدخلات في شؤون الدول العربية نفسها، حتى لا تتحول أداة حماية الأمة إلى أداة تفتيت جديدة.
- بناء منظومة اقتصادية موحدة: فالعرب يملكون أوراق قوة هائلة – من الطاقة إلى الأسواق – لكنهم نادرا ما يوظفونها كورقة ضغط استراتيجية. بإمكانهم مثلا ربط أي شراكة اقتصادية مع الغرب بوقف الدعم غير المشروط لـ«إسرائيل»، أو بفرض التزامات حقيقية تجاه إعادة إعمار غزة.
- تنويع الشراكات الدولية: الارتهان لواشنطن أثبت أنه وصفة للخذلان. المطلوب فتح قنوات استراتيجية مع قوى دولية أخرى – من الصين إلى روسيا، ومن الاتحاد الإفريقي إلى أمريكا اللاتينية – لتوسيع هامش الحركة وكسر احتكار القرار الأمريكي.
- إطلاق صندوق دائم لإعمار غزة: بحيث لا يكون مجرد مبادرة موسمية، بل مؤسسة اقتصادية متكاملة تشرف على إعادة الإعمار، وتوفر دعما ثابتا للبنية التحتية، وتساعد الفلسطينيين على الصمود في وجه محاولات التهجير والتجويع.
- تجريم التدخلات العربية ـ العربية: إذ لا معنى لأي حديث عن التضامن إذا واصلت بعض العواصم تمويل الميليشيات أو تغذية الصراعات في دول الجوار. المطلوب التزام صريح بوقف هذه السياسات، لأن أي بلد يُترك للنزيف سرعان ما يتحول إلى مصدر تهديد لبقية الدول.
- تجريم التعاون مع الاحتلال الصهيوني: فما يقوم به المخزن المغربي اليوم يفتح الباب أمام اختراق خطير للأمن القومي العربي، ويمنح الاحتلال فرصة للتغلغل في العمق المغاربي والإفريقي. إن استمرار هذا النهج لا يشكل خيانة لفلسطين فقط، بل يمثل تهديدا مباشرا لوحدة الصف العربي واستقرار المنطقة بأكملها. لذلك يصبح من الضروري وضع حد واضح لهذه السياسات التطبيعية، واعتبارها تجاوزا لخطوط حمراء لا يمكن القفز عليها تحت أي ذريعة سياسية أو اقتصادية.
غير أن المعضلة الأعمق ليست في غياب الآليات فقط، بل في غياب الثقة بين الدول العربية. فكل عاصمة باتت تنظر إلى أختها باعتبارها منافسا أو خصما محتملا، فيما العدو الحقيقي يتمدد على حساب الجميع. ولعل تحذير الرئيس تبون قبل سنوات يجد صداه هنا: من يصفّق لانقسام شقيقه، إنما يوقّع على مقدمة انقسامه هو. الأحداث أثبتت ذلك مرارا: ليبيا التي جرى التآمر عليها صارت بؤرة تهديد لجوارها، اليمن الذي تُرك للحرب صار ساحة استنزاف إقليمي، السودان الذي تُرك للنزاعات الداخلية ينذر بتحويل البحر الأحمر إلى مسرح فوضى شامل.
في هذا السياق، تكتسب قمة الدوحة معنى يتجاوز اللحظة الراهنة. إنها "الفرصة الأخيرة" – ليس بمعنى البلاغة الخطابية، بل بالمعنى العملي. فالتوازنات الدولية تتغير بسرعة: الولايات المتحدة منشغلة بصراعاتها الكبرى مع الصين وروسيا، وأوروبا غارقة في أزماتها الداخلية، فيما «إسرائيل» تواصل سياساتها التوسعية بلا رادع. إذا لم يتحرك العرب الآن لبناء مشروعهم الذاتي، فلن يجدوا غدا من يستمع حتى إلى بياناتهم.
قد يقول البعض إن الظروف غير مواتية، وإن الخلافات العربية أعمق من أن تُحل في قمة واحدة. لكن التاريخ يعلّمنا أن اللحظات المفصلية لا تنتظر النوايا الحسنة. في 1973 مثلا، استطاع العرب أن يستخدموا سلاح النفط لتغيير موازين القوى، رغم أن خلافاتهم لم تكن أقل حدة. واليوم، بإمكانهم – إن توفرت الإرادة – أن يوظفوا ثرواتهم وأسواقهم وجغرافيتهم الاستراتيجية لتثبيت معادلة جديدة: لا أمن في المنطقة دون أمن العرب، ولا استقرار للعالم دون احترام سيادتهم.
إن الشعوب العربية تتابع ما يجري بعينين مثقلتين بالقلق والغضب المتصاعد. فهي لم تعد تثق في البيانات الدبلوماسية المتكررة، ولا تجد عزاء في العبارات المنمقة التي تتكرر منذ عقود بلا أثر ملموس. ما تنتظره هذه الشعوب هو خطوات عملية وحقيقية: فتح ممرات إنسانية آمنة لإغاثة غزة، إعلان مواقف واضحة ضد التطبيع المجاني الذي يخدم المشروع الصهيوني، وضع آليات صارمة لردع العدوان، وإطلاق مبادرات جدية لإعادة الإعمار على أسس دائمة وليست ظرفية. فالشعوب تدرك اليوم أن استمرار التواطؤ لا يعني مجرد خيانة، بل يساوي انتحارا جماعيا يقوّض حاضر الأمة ومستقبلها معا.
الدرس الذي يجب أن يخرج به القادة من قمة الدوحة بسيط في جوهره، معقّد في تطبيقه: إذا لم يتشكل مشروع تضامن عربي حقيقي، فإن مصير كل دولة – خاصة الدول التي لا تعتمد على نفسها - سيتقرر في عواصم أخرى، لا في عاصمتها. عندها لن يكون السؤال "من التالي؟" بل "متى يحين الدور؟"، وهكذا إن مقولة "أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض" لم تعد مجرد استعارة تُستدعى في الخطب والندوات، بل غدت توصيفا صادقا للواقع العربي الراهن بكل تناقضاته ومراراته:
- قطر اكتشفت أن وجود القواعد الأجنبية لا يعني صون السيادة ولا ضمان الحماية.
- درعا أثبتت أن انهيار الدولة يفتح الباب واسعا أمام الاحتلال الخارجي.
- غزة تؤكد كل يوم أن الصمت العربي والدولي يمهّد الطريق لنكبات أكبر ومجازر جديدة.
- لبنان يواجه خطرا وجوديا، فمحاولات تجريد حزب الله من سلاحه لا تعني سوى تقديم البلد لقمة سائغة لـ«إسرائيل»، وفتح المجال أمام استباحة سوريا مجددا.
- اليمن يكشف أن العدوان عندما يُدار بأيادٍ عربية يصبح أخطر وأعمق أثرا من أي تدخل أجنبي مباشر.
- ليبيا تجسد بوضوح كيف تتحول المؤامرة العربية ـ العربية إلى تهديد إقليمي دائم تتغذى عليه التدخلات الدولية.
- السودان يلخص مأساة الانقسام المزمن الذي يغذيه الخارج بالأموال والسلاح، حتى صار الوطن ساحة تصفية حسابات إقليمية ودولية.
إن لم يتحول هذا الوعي المتنامي إلى مشروع عمل جماعي منظم، فإن القمة الطارئة في الدوحة لن تختلف كثيرا عن عشرات القمم السابقة التي انتهت ببيانات شكلية. أما إذا جرى تحويلها إلى نقطة انطلاق حقيقية نحو مشروع ردعي سياسي واقتصادي وعسكري متكامل، فإنها قد تشكل بداية مسار جديد يوقف اندفاع مخططات التفكيك ويعيد للعرب مكانتهم المستحقة في الساحة الدولية.
الخيارات اليوم باتت واضحة وضاغطة، والزمن لم يعد يسمح بمزيد من المماطلة أو الدوران في حلقة بيانات دبلوماسية. فإما أن تخرج قمة الدوحة بإجراءات عملية مدروسة تُترجم سريعا إلى فعل ميداني ملموس، أو يظل العرب أسرى مشهد قاتم يكتبون نهاياتهم بأيديهم. والفرق بين هذين السيناريوهين لا تحدده فقط موازين القوى العسكرية والاقتصادية، بل تحسمه الإرادة السياسية: هل يرضى العرب بأن يبقوا أوراقا على طاولة الآخرين، أم يقررون أخيرا أن يكونوا صانعي قرارهم، وحماة أوطانهم، ومهندسي مستقبلهم بأيديهم؟