2025.09.30
عاجل :



روسيا في الساحل.. يا لها من معادلة مقلوبة! حديث الساعة

روسيا في الساحل.. يا لها من معادلة مقلوبة!


حميد سعدون
28 سبتمبر 2025

من يتأمل في خريطة العلاقات الدولية اليوم، يلحظ بوضوح أن روسيا تحاول بشتى الوسائل كسر طوق العزلة الذي يحاول الغرب فرضه عليها منذ اندلاع حربها على أوكرانيا في فيفري 2022، فموسكو، التي تواجه حصارا اقتصاديا وعقوبات غير مسبوقة، تبحث عن متنفس سياسي وجغرافي جديد يتيح لها توسيع دائرة نفوذها والتخفيف من وطأة العزلة الدولية. وبينما كان بوسعها أن تختار مسارات أكثر عقلانية وتوازنا في أماكن مختلفة من العالم، فضلت أن تبالغ في تمديد أذرعها إلى أبعد مما يجب حتى منطقة الساحل الإفريقي، حيث الأنظمة الهشة والانقلابات العسكرية المتلاحقة. هناك وجدت روسيا أرضية تبدو مهيأة لممارسة نفوذها، لكنها في حقيقة الأمر أرضية رخوة محفوفة بالمخاطر، إذ تكشف هذه الاستراتيجية أن موسكو باتت – في لحظات مربكة– تبدو كدولة تلعب مع الصغار وتستعملهم بيادق في جولة شطرنج جيوسياسية، قد تنقلب عليهم أولا، ثم تحرق أصابعها هي ذاتها قبل أن تجني أي مكاسب ملموسة.

أحدث صور هذا التورط برزت عندما قام – مؤخرا - سفراء مالي وبوركينا فاسو والنيجر بزيارة رسمية إلى شبه جزيرة القرم، في خطوة أثارت غضب النظام الحاكم في أوكرانيا ودَفعته إلى التهديد باتخاذ إجراءات عقابية. وبغض النظر عن أن كييف تعتبر القرم أرضا محتلة، فيما تصر موسكو على أن القضية "أُغلقت نهائيا" منذ استفتاء 2014، فإن ما يلفت الانتباه أن هذا الملف لا يخص الأفارقة بشكل مباشر، ولا يمس مصالحهم الحيوية. ومع ذلك، قررت الدول الثلاث إدخال نفسها في أتون صراع جيوسياسي معقد وبعيد عنها آلاف الكيلومترات، إذ لم تكن زيارة السفراء مجرد مجاملة بروتوكولية، بل حملت رسالة سياسية واضحة مفادها أن هذه الأنظمة لا تكتفي بموقف الحياد أو الدعم غير المعلن، بل وضعت نفسها في خانة العداء الصريح لأوكرانيا، وهو ما يثير تساؤلات عميقة: ماذا تكسب دول الساحل من هذا الاصطفاف المبالغ فيه؟ أليس الأجدر بها أن تركز جهودها على أزماتها الداخلية التي تفتك بأمنها واستقرارها، بدلا من الانغماس في صراع لا ناقة لها فيه ولا جمل؟

الحقيقة أن موسكو – وهذا ما يدعو للأسف - تستغل عزلة هذه الأنظمة عن المجتمع الدولي وعن القوى الإقليمية الكبرى بعد سلسلة الانقلابات العسكرية التي وضعتها في مواجهة مفتوحة مع الجميع بما في ذلك مع المؤسسات الإقليمية كالمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا. ومن هذا الباب، تقدم روسيا نفسها بديلا وحليفا أوحد لهذه الأنظمة، لكن مقابل ثمن سياسي باهظ يتمثل في الانخراط في خطابها، بدءا من أوكرانيا وصولا إلى الغرب مجتمِعا. وفي المقابل، تمنح موسكو لهذه الأنظمة وعودا بالحماية العسكرية والدعم السياسي، وتفتح أمام قادتها الانقلابيين نافذة أمل للبقاء في السلطة تحت مظلتها، مع إغراءات مرتبطة بالاستفادة المستقبلية من ثروات دولهم الهائلة من ذهب ويورانيوم وغيرها. غير أن هذه المعادلة مضللة، إذ أن تلك الثروات لا تُستثمر إلا في بيئة مستقرة وآمنة، بينما تأمينها يتطلب أعباء عسكرية وأمنية تتجاوز بأضعاف مضاعفة أي أرباح قد تجنيها موسكو أو هذه الأنظمة من شراكة كهذه.

وبذلك تنكشف الإستراتيجية الروسية في الساحل كمقامرة لا تراعي عواقبها. فهي تبيع لهذه الأنظمة وهم "المظلة السيادية" في مواجهة ما تسميه بالهيمنة الغربية، لكنها في حقيقتها تسوقها إلى معركة تفوق قدراتها وتضعها وسط صراع تتقاطع فيه الحسابات الدولية والإقليمية على أرض رخوة. وبدلا من أن تمنحها حماية أو قوة، تحول أراضيها إلى ساحة لتصفية الحسابات وتحول مواردها إلى مطمع ومصدر تغذية لمليشيات متصارعة بالوكالة. ومن خلال هذا الخيار تعمق تلك الدول عزلتها وتفقد فرص الاندماج في محيطها الإفريقي، بينما يخسر شعبها الاستقرار والتنمية. أما روسيا، فتستنزف ما تبقى من رصيدها السياسي والأخلاقي كقوة كبرى، وتتحول من صورة الدولة المسؤولة إلى مظهر لاعب مأزوم يبدد أوراق حلفائه قبل أن يبدد فرصه في استعادة مكانة القوة العظمى.

في أوت الماضي أخذت العلاقة بين موسكو ودول الساحل منحنى مختلا لا ينسجم مع الوزن الجيوسياسي ولا مع الموقع الاستراتيجي لهذه الدول في خريطة القارة الإفريقية، عندما وقعت روسيا مذكرة تفاهم دفاعية مع مالي وبوركينا فاسو والنيجر، إذ تتعامل هذه الدول كجبهة ثلاثية أشبه بائتلاف أشخاص استولوا على السلطة في ثلاثة بلدان ويتصرفون بمنطق البحث عن شرعية مفقودة، بعيدا عن ثقافة الدولة ومؤسساتها. وقد شكل اللقاء الأول بين وزراء دفاع روسيا ووزراء دفاع "تحالف دول الساحل" إعلانا صريحا عن اصطفاف عسكري جديد، لم يأت من باب الصدفة بل من حسابات سياسية واضحة. فروسيا التي تستنزف مواردها في حرب أوكرانيا، تبحث عن جبهات خلفية وعن حلفاء صغار يمنحونها ذريعة لإثبات أنها ليست معزولة عن العالم. ومع ذلك يظل السؤال قائما: هل تملك هذه الدول الثلاث، وهي غارقة في صراعات داخلية مع جماعات مسلحة، القدرة على تحمل تبعات دخولها في مواجهة جيوسياسية بهذا الحجم؟

إن ما يسمى بالتحالف الدفاعي لا يحمل أي مؤشرات على الاستقرار، بل يعكس في جوهره خطوة تمت إما بإملاء مباشر من موسكو أو باستجداء من أنظمة تبحث عن غطاء خارجي، من دون أي إحساس بالمسؤولية تجاه شعوبها. فالساحل الإفريقي يشكل في الأساس منطقة هشة، وأي محاولة لجره إلى صراع تُدار خيوطه على إيقاع الحرب في أوكرانيا تضعه أمام احتمال انفجار مواجهات بالوكالة، حيث تدفع روسيا مليشيات مرتبطة بها إلى الساحة، بينما يغذي خصومها جماعات أخرى بالمال والسلاح. وفي هذه الحالة، تتحول المنطقة إلى مسرح مفتوح للفوضى، على نحو شبيه بما جرى في سوريا وليبيا، مع فارق جوهري يتمثل في أن هشاشة البنية الأمنية في الساحل تجعل الكلفة أعلى، والانعكاسات أوسع، والمخاطر أشد وطأة.

وتزداد الصورة قتامة عندما أعلنت مالي والنيجر وبوركينا فاسو انسحابها من المحكمة الجنائية الدولية، متهمة إياها بأنها أداة من أدوات الاستعمار الجديد. غير أن هذا الشعار، على ما يحمله من جاذبية لفظية، لا يكتسب أي مشروعية حين يرفعه من لا يملكون أصلا شرعية الحكم. فقد وضعت هذه الخطوة الدول الثلاث عمليا في الصف نفسه مع الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، إلى جانب روسيا بطبيعة الحال، وهي جميعها دول لم تصادق على النظام الأساسي للمحكمة منذ البداية. وهنا يتضح أثر الارتماء في أحضان موسكو: فهذه السلطات الحاكمة تبرر قرارها بذريعة حماية السيادة، بينما تنخرط في معسكر يسعى بعض أعضائه أساسا إلى الإفلات من الملاحقة الدولية. وبهذا المسار لا تخسر فقط قدرتها على مواجهة الاتهامات بارتكاب انتهاكات حقوقية، بل تزيد من عزلتها داخل القارة وتفقد ثقة شركاء أفارقة ما زالوا يرون في العدالة الدولية ضمانة لحقوق الشعوب. والأسوأ من ذلك أنها تجد نفسها موضوعيا في الموقع نفسه مع الكيان الصهيوني، ما يضعها في مواجهة حرج عميق أمام شعوبها التي ما تزال تعتبر القضية الفلسطينية رمزا مركزيا في معركة الكرامة والحرية.

وفي شمال إفريقيا لا تمر هذه التحركات مرورا عابرا، خصوصا بالنسبة إلى الجزائر التي تملك وزنا إقليميا وسياسيا يصعب تجاهله. فالجزائر تبني سياستها الخارجية على مبدأ السلم والاستقرار، وتتعامل مع أمن الساحل باعتباره امتدادا مباشرا لأمنها القومي. ومن هذا المنطلق يحق لها أن تنظر بريبة إلى محاولات موسكو جر دول الساحل إلى صراعاتها مع الغرب وأوكرانيا، لأن هذه المغامرات تعني زيادة الفوضى على حدودها الجنوبية، كما أن الجزائر تدرك أن لعبة المليشيات لا تفتح باب الحلول، بل تعمق الانقسامات وتحول المنطقة إلى ورقة مساومة في مفاوضات بعيدة عن حاجات شعوب الساحل. وبذلك تخسر موسكو بعضا من رصيدها السياسي مع الجزائر، التي تقوم توجهاتها على مبادئ ثابتة، بخلاف روسيا التي قد تدفعها حربها مع أوكرانيا إلى التحرك وفق مقتضيات ظرفية مرتبطة بصراعها مع الغرب، ما يجعل مواقفها عرضة للتذبذب.

وعند جمع هذه الخطوات معا ـ زيارة القرم، توقيع مذكرات التفاهم الدفاعية، الانسحاب من المحكمة الجنائية ـ يظهر بوضوح أن موسكو لا تنظر إلى مالي والنيجر وبوركينا فاسو كدول ذات سيادة حقيقية، بل كأدوات صغيرة في صراع أكبر. غير أن هذه الأدوات تعيش فوق أراضٍ منهكة بالفقر والتهميش والإرهاب، وهي مجتمعات تحتاج إلى التنمية والتعليم والفرص، لا إلى مزيد من الاصطفافات القاتلة. فإذا تصورت روسيا أنها تكسب نفوذا عبر هذا الطريق، فإن الحقيقة أنها تبني مشروعا هشا لا يملك مقومات البقاء. فالتاريخ يثبت أن التحالف مع أنظمة ضعيفة لا يصمد، وأن الشعوب تبحث في النهاية عن شركاء قادرين على ضمان السلم والاستقرار.

وبذلك تبدو موسكو وكأنها تسقط في فخ الهيمنة الذي طالما اتهمت الغرب به، إذ تحاول فرض نفوذها على دول هشة، وتجعل من الساحل الإفريقي مختبرا لصراعاتها، والنتيجة أنها لا تلعب فقط مع الصغار، بل تلعب بمصيرهم. وبدلا من أن توسع حضورها الجيوسياسي، تضيق أمامها خياراتها وتخسر ثقة شركاء كبار في المنطقة مثل الجزائر، التي تعتبر ما يحدث تهديدا مباشرا للسلم الإقليمي. وهكذا تنزلق روسيا من صورة الدولة العظمى المسؤولة إلى صورة لاعب يائس يبحث عن أي ورقة، حتى لو كانت ورقة محترقة، بينما يدفع الساحل الثمن في وقت يحتاج فيه أكثر من أي وقت مضى إلى سلام حقيقي، لا إلى شعارات فارغة ولا إلى حروب بالوكالة.