تحوّلت المنصّات الرقمية – أكثر من أي وقت مضى – إلى مرآة تعكس حيوية المجتمع الجزائري وفاعليته، حيث يبرز جيلٌ جديد من صنّاع المحتوى الهادف يفرض حضوره بمضامين تستثمر في الوعي الجمعي: جيل يرى في الكلمة مسؤولية لا مجرّد “ترند”، ويحوّل الشاشة من وسيلة لهو إلى منصّة لبناء الإنسان والمجتمع.
ظلّ المحتوى الرقمي في الجزائر، كما في كثير من المجتمعات ولسنوات طويلة، رهينا لمنطق "الترند"، حيث تحصد الفيديوهات السطحية والمواضيع المثيرة النصيب الأكبر من المشاهدات والتفاعل، فيما يُدفع بالمحتوى الهادف إلى الهامش.
وبدا لوقت قصير أنّ الجمهور لا يبحث إلاّ عن الترفيه السريع والمثير والمسلّ، مقابل تغييب وإهمال كل ما يحمل قيمة فكرية أو اجتماعية أو دينية، غير أنّ هذا الواقع بدأ يتغير مؤخرا، إذ يشهد الفضاء الرقمي الجزائري صعودا تدريجيا لنمط ونوع جديد من الخطاب، يقوده شباب ومؤثرون اختاروا أن يكون لمحتواهم رسالة تناقش من خلالها قضايا اجتماعية ودينية وسياسية واقتصادية ورياضية، في خطوة تهدف لإعادة الاعتبار لقيم مُغيّبة وسط زخم المحتوى السائد.
الإشكالية التي يطرحها هذا التحول لا تتعلق بالمنافسة بين "السطحي" و"الهادف"، بقدر ما تكمن في سؤال أعمق: هل يشهد الفضاء الرقمي الجزائري تحوّلا حقيقيا في ذوق الجمهور واتجاهات التأثير؟ وهل يمكن الحديث اليوم عن بروز جيل أو تيار جديد يفرض محتوى هادفا كخيار قابل للحياة، لا مجرد استثناء عابر.
من ملل التفاهة إلى زمن الوعي الجمعي
ترى الأخصائية الاجتماعية حورية مقفوجي في تصريح لـ"الأيام نيوز" أنّ التحول نحو متابعة المحتوى الهادف لم يأت صدفة، بل هو نتيجة إرهاق جماعي من التفاهة الرقمية، ورغبة متزايدة لدى الشباب في إيجاد محتوى يُشبههم فكريا وقيميا.
وتضيف مقفوجي أن بداية انتشار منصة "تيك توك"، وما شابهها، في الجزائر كانت مرحلة غلب عليها الطابع السطحي، حيث كان المؤثرون الذي يقدمون محتوى ذا قيمة يُعدّون على الأصابع، بينما كانت المقاطع الساخرة والتافهة تتصدر المشاهدات، غير أن هذا الواقع بدأ يتغيّر مع الوقت.
وتُرجع الأخصائية هذا التحول إلى ثلاثة عوامل أساسية، أوّلها نضوج الوعي الجمعي بعد سنوات من الاستهلاك الرقمي المفرط، وثانيها تزايد الحس الديني والاجتماعي داخل الأوساط الشبابية، وثالثها تجربة الجائحة التي أعادت الاعتبار للمحتوى الإنساني والتثقيفي، بعدما اكتشف الناس أهمية المعلومة الموثوقة والمضمون البنّاء في أوقات الأزمات.
منصات التواصل ليست فضاء للترفيه فقط
من جهته، شدد صانع المحتوى سالم دحماني المعروف بتقديم محتوى تعليمي في مجال صناعة الأفلام على أن صنّاع المحتوى الهادف باتوا اليوم مطالبين بـ "مزاحمة المحتوى الرديء" داخل الفضاء الرقمي، وعدم ترك المجال للمضامين السطحية لتحتكر اهتمام الجمهور.
وقال دحماني في تصريح لـ"الأيام نيوز" إنّ "وسائل التواصل الاجتماعي لم تعد مجرد منصات للترفيه، بل تحوّلت إلى فضاء تأثير واسع، ومن الخطأ أن نتركه خاليا من المحتوى الجاد". وأضاف "علينا أن ننتج أعمالا بصرية محترفة تعبّر عن قضايا الناس، وتجمع بين الرسالة الفنية والتأثير المجتمعي".
ورأى المتحدث أن قوة الصورة وقيمة الفكرة يمكن أن تخلق محتوى قادرا على التنافس، بشرط أن يُقدَّم بأسلوب إبداعي يواكب طبيعة المنصات وذوق الجمهور، لا أن يُختزل في خطاب نخبوي منفصل عن الواقع الرقمي.
وحول حضور المحتوى الهادف في المنصات الرقمية، خاصة القيمي والديني، نفى صانع المحتوى يونس خليفة، المهتم بنشر مضامين توعوية ودينية أن يكون الجمهور الجزائري يتابع فقط المضامين التفاهة والسطحية، واعتبر أنّ هذا الحكم ليس صحيحا ولا يعكس الواقع الفعلي، بل يتجاهل تجارب ناجحة في المحتوى الجاد.
وقال خليفة: "أقدّم محتوى ديني وتوعوي بشكل منتظم، ويتابعني أكثر من مليوني شخص عبر مختلف المنصات، ما يؤكد أن هناك جمهورا كبيرا يبحث عن الفائدة ويقدّر الكلمة الصادقة والمضمون الهادف".
وأضاف المتحدث: "صحيح أن بعض المضامين السطحية تحصد مشاهدات عالية، لكنها لا تمثّل ذوق الجميع. فالمحتوى الجاد حين يُقدَّم بإخلاص واحترافية، يجد تفاعلا حقيقيا، بل ويبني جمهورا وفيّا، لا مجرد متابعين عابرين".
أصوات نسائية بين معركة التأثير والإعجاب
الجانب النسوي في عالم صناعة المحتوى بدا لافتا أيضا، حيث برزت شابات جزائريات وجدن في المحتوى الديني والاجتماعي منصة للتأثير الإيجابي وإيصال رسائل توعية قّيمة.
وفي هذا الإطار، كشفت صانعة المحتوى حيفا رقاد، المتخصصة في المجالات الدينية والاجتماعية في حديثها لـ"الأيام نيوز" أنّ بداياتها كانت بنشر مقاطع بسيطة تتناول قضايا دينية وتوعوية، قبل أن تتحول إلى منصة أوسع بفضل التفاعل الكبير الذي تلقتها.
وقالت رقاد: "حجم التفاعل وتدفق الرسائل التي تصلني من فتيات يُعبّرن عن أثر ما أقدمه على حياتهن تجاوز كل توقعاتي، وهذا ما يدفعني للاستمرار والمضي قدما في رسالتي".
أما صانعة المحتوى ملاك، التي تقدم موادا توعوية متخصصة، تؤكد لـ"الأيام نيوز" أن قيمة التأثير الحقيقي للمحتوى لا تقاس بمجرد عدد الإعجابات أو عدد المتابعين، بل بعمق التغيير الإيجابي الذي يحدثه في حياة الجمهور.
وتقول ملاك: "لقد أثبتت مواقع التواصل الاجتماعي قدرتها الفعلية على تحسين سلوكيات الفتيات، وهو أمر أعيشه يوميا من خلال الرسائل التي تصلني من متابعات أبلغنني بأنهن غيَّرنَ من بعض العادات والسلوكيات الخاطئة بعد متابعة المحتوى الذي أقدمه، وهذا التأثير العميق يجعلني أشعر بأن رسالتي ليست مجرد مشاركة رقمية، بل مسؤولية حقيقية تجاه مجتمعي".
وتأتي تصريحات هؤلاء الفاعلون في مجال صناعة المحتوى على هامش فعاليات الطبعة الثانية من مخيم صُناع المحتوى الذي نظمه المجلس الأعلى للشباب بالجزائر العاصمة تحت شعار "مسؤولية الكلمة ورهانات الوعي"، حيث شكّل هذا الحدث منصة حيوية جمعت أكثر من 300 مؤثر وشاب ناشط في الفضاء الرقمي من مختلف ولايات الوطن، لتبادل الخبرات ومناقشة تحديات صناعة المحتوى الهادف في الجزائر. كما شهدت فعالياته تنظيم ورشات متخصصة ومسابقات تهدف إلى تعزيز مهارات الشباب وتشجيع الإنتاج الرقمي المسؤول والهادف.
المحتوى الهادف.. تنوع في الرسائل واتساع رقعة التأثير
وعلى ضوء ما سبق، لا تتوقف صناعة المحتوى في الجزائر على الجوانب الاجتماعية أو الدينية أو التعليمية أو التوعوية الصحية أو الرياضية فقط، بل امتدت إلى مجالات أخرى مهمة مثل البيئة والطبيعة، حيث تعزز المشهد بصناع محتوى يقدمون نصائح بيئية مثل فؤاد معلى صاحب مبادرة "الجزائر خضراء"، التي يحثّ خلالها على التشجير وحماية الثروة الغابية لما تلعبه من دور حيوي في الطبيعة والبيئة، حيث توجت جهوده بإعلان وزير الفلاحة ياسين وليد عبر صفحته الرسمية إطلاق أكبر حملة وطنية لغرس 1 مليون شجرة خلال 24 ساعة، وذلك يوم الـ25 أكتوبر الجاري.
ويعكس هذا النشاط البيئي الرقمي بوضوح اتساع رقعة المحتوى الهادف في الجزائر، ويؤكد أنّ منصات التواصل باتت فضاء فاعلا في تعزيز الوعي وتحفيز العمل الجماعي لخدمة الوطن.
وفي سياق الموضوع ذاته، شهد المشهد الرقمي الجزائري على مدار السنتين الماضيتين تزايد عدد صناع المحتوى الذين انخرطوا بجدية ومسؤولية في تغطية ودعم القضية الفلسطينية انطلاقا من طوفان الأقصى.
وسعى العديد من المؤثرين الجزائريين إلى فضح حقيقة الكيان الصهيوني، وإبراز حجم المعاناة، بعيدا عن التعتيم الإعلامي والتضليل الإعلامي الصهيوني والغربي، حيث لم يقتصر دورهم على نقل وتصوير ما يجري على أرض الواقع، بل شمل إطلاق حملات لجمع التبرعات والمساعدات الإنسانية لغزة، مما أعطى للعمل الرقمي بعدا إنسانيا عمليا يتجاوز مجرد الكلمات.
ويعكس هذا التفاعل والتعبير الرقمي المكثف التحوّل الحاصل في طبيعة المحتوى الهادف بالجزائر، الذي تجاوز القضايا المحلية إلى العربية، بل أصبح أداة قوية في الحشد والتوعية والتعبئة، وهو ما يعكس أنّ مواقع التواصل لم تعد مجرد فضاءات ترفيهية، بل ساحات للنضال الفكري والإنساني.
ورغم التقدّم الجلي في المضامين الرقمية التي يُقدّمها من يطلق عليهم بـ"المؤثرون" تبقى المعركة مُستمرة من أجل صناعة المحتوى الهادف مفتوحة وقائمة أمام أصحاب المحتوى السطحي والهابط والسريع، الذي تغذّيه خوارزميات المنصات الرقمية.

