2025.09.25
عاجل :



صوت الحرب يعلو.. هل يستعد الناتو لمعركة مفتوحة مع موسكو؟ حديث الساعة

صوت الحرب يعلو.. هل يستعد الناتو لمعركة مفتوحة مع موسكو؟


حميد سعدون
23 سبتمبر 2025

على خشبة مسرح يضجّ بالإنذارات والاتهامات، يقف حلف شمال الأطلسي اليوم الثلاثاء في بروكسل أمام اختبار مصيري قد يعيد رسم ملامح العلاقة المتوترة مع موسكو، فالطائرات المسيّرة التي تجوب الأجواء، والمناورات العسكرية المتسارعة على حدود البلطيق، والاتهامات المتبادلة بين موسكو والعواصم الأوروبية، كلها عناصر تُكثّف من درامية المشهد وتوحي بأننا على أبواب انفجار سياسي ـ عسكري جديد. وبينما ترفع إستونيا الصوت مطالِبة بتفعيل المادة الرابعة من ميثاق الحلف وتدعو إلى جلسة عاجلة في مجلس الأمن الدولي، يرُد الكرملين ببرود الواثق، نافيا أي انتهاكات ومعتبرا ما يجري مجرد "مسرحية غربية" لتبرير التصعيد. وفي هذه الأجواء المشحونة، يجتمع وزراء خارجية الناتو على طاولة واحدة في بروكسل، حيث تترقّب العواصم الأوروبية قرارات قد تحدد اتجاه المرحلة المقبلة: هل يتجه الحلف نحو مزيد من التصعيد والردع، أم يكتفي بإدارة التوتر بانتظار فرصة لفتح مسار تفاوضي؟

مع استمرار تصاعد التوترات بين روسيا ودول حلف شمال الأطلسي (الناتو)، أعلن وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو أمس الاثنين، في حديث لقناة TF1 الفرنسية، أنّ الحلف سيعقد اليوم الثلاثاء اجتماعا رفيع المستوى في بروكسل من أجل مناقشة ما تعتبره إستونيا انتهاكا خطيرا للأجواء الوطنية من قبل الطائرات الروسية. وأكد بارو أنّ الاجتماع يمثل محطة شديدة الحساسية في ظرف مشحون بالتحديات، موضحا أنّ النقاش سيركز على سبل الرد على الحادثة التي تراها تالين تهديدا مباشرا للأمن الإقليمي، في وقت تصر فيه موسكو على نفي هذه الاتهامات بشكل قاطع وتصفها بمحاولة مدروسة تهدف إلى خلق توتر سياسي وعسكري جديد على حدودها الغربية. وأوضح الوزير الفرنسي أنّ جدول الأعمال سيشمل دراسة خيارات متعددة تجمع بين المسارات السياسية التي تعتمد على الجهود الدبلوماسية، والمسارات العملياتية التي تتعلق بالجوانب العسكرية الميدانية، لكنه تجنّب الكشف عن تفاصيل دقيقة تخص طبيعة هذه الردود، الأمر الذي يعكس مستوى الحذر الذي يسيطر على مواقف الحلفاء في هذه المرحلة الدقيقة.

وفي موازاة الموقف الفرنسي، أعلن رئيس وزراء إستونيا كريستين ميشال خلال مؤتمر صحفي عقده في تالين أنّ بلاده قدّمت طلبا رسميا إلى الحلف من أجل تفعيل المشاورات استنادا إلى المادة الرابعة من ميثاق الناتو، وهي المادة التي تمنح أي دولة عضو الحق في اللجوء إلى الحلف عندما تشعر بتهديد مباشر يطال أمنها القومي أو سيادتها الوطنية. وأوضح ميشال أنّ بلاده لا تستطيع التغاضي عن ما وقع يوم الجمعة الماضي، عندما دخلت – بحسب روايته – ثلاث مقاتلات روسية من طراز "ميغ-31" أجواء إستونيا فوق خليج فنلندا وبقيت داخلها نحو اثنتي عشرة دقيقة من دون أي تنسيق مسبق أو إذن رسمي. وأكد أنّ تالين ترى في هذا التطور خرقا واضحا وصريحا لسيادتها وتهديدا مباشرا لأمنها القومي، مشددا على أنّ ما جرى يمثل سابقة خطيرة تتطلب ردا جماعيا من جميع الحلفاء في الناتو.

وبالتوازي مع هذه التصريحات، أعلنت وزارة الخارجية الإستونية أمس الاثنين أنّها طلبت من مجلس الأمن الدولي عقد جلسة طارئة لمناقشة التطورات الأخيرة، مؤكدة أنّ المجتمع الدولي لا يستطيع الاكتفاء بموقف المتفرج إزاء ما تصفه تالين بانتهاكات روسية متكررة للأجواء والسيادة الوطنية. وأوضحت الوزارة أنّ الحادثة الأخيرة لا تمثل واقعة معزولة، بل تندرج ضمن سلسلة متواصلة من الاستفزازات الروسية الموجهة إلى دول البلطيق، وهو ما يضاعف خطورة الموقف ويفرض على الأسرة الدولية مسؤولية متزايدة في التعامل مع ما يجري والتصدي له بشكل فعال.

من جانبها، أصدرت وزارة الدفاع الروسية بيانا شديد اللهجة نفت فيه بشكل كامل الرواية الإستونية، وأكدت أن الطائرات الروسية الثلاث من طراز "ميغ-31" نفذت مهمة تدريبية مبرمجة مسبقا شملت التحليق من منطقة كاريليا الواقعة في شمال غربي روسيا باتجاه مقاطعة كالينينغراد الروسية المطلة على بحر البلطيق. وأوضح البيان أن الطائرات اتبعت مسارا محددا فوق المياه الدولية يمر على مسافة تزيد عن ثلاثة كيلومترات من جزيرة فايندلو الإستونية، مؤكدا أن الرحلة جرت وفق القواعد الدولية التي تنظم استخدام الأجواء، وأن أنظمة المراقبة التقنية سجلت التزام الطائرات الروسية بخط سيرها من دون أي انحراف أو خرق لسيادة الدول المجاورة. وشدد البيان على أن المزاعم التي طرحتها إستونيا تفتقر إلى الأساس الواقعي، معتبرا أنها تهدف إلى تبرير سياسات تصعيدية ينتهجها الحلف في المنطقة.

ولم يأت هذا التوتر الأخير بمعزل عن السياق العام، إذ تزامن مع ختام مناورات عسكرية ضخمة نفذتها روسيا بالشراكة مع بيلاروسيا بين الثاني عشر والسادس عشر من سبتمبر الجاري تحت مسمى "زاباد 2025" أو "الغرب 2025". وشكلت هذه المناورات أكبر تدريبات عسكرية خلال السنوات الأخيرة، حيث شملت استخدام ترسانة واسعة من الأسلحة التقليدية والمتطورة، من بينها الصواريخ البالستية والتكتيكية. ورأى مراقبون في هذه التدريبات استعراضا مكثفا للقوة ورسالة مباشرة إلى الغرب، خصوصا أنها جرت بالقرب من الحدود البولندية في إطار سيناريوهات تحاكي ردا روسيا على هجوم واسع النطاق يتضمن استعادة أراضٍ مسلوبة ودحر عدو مفترض.

وقد أثارت هذه المناورات حالة استنفار قصوى في بولندا، حيث أعلن رئيس الوزراء دونالد توسك التعبئة العسكرية الشاملة، وقررت وارسو نشر خمسة وثلاثين ألف جندي، من بينهم خمسة آلاف جرى توزيعهم مباشرة على الحدود مع بيلاروسيا. ووصف توسك المناورات الروسية بأنها شديدة العدوانية وتهدف إلى بث الذعر في دول الجوار ودفعها إلى الشعور بالضعف أمام القوة الروسية. ولم يقتصر هذا الموقف على بولندا وحدها، إذ أعلنت ليتوانيا حالة التأهب القصوى أيضا، مؤكدة أنّ ما يحدث يشكل تهديدا مباشرا لأمنها القومي. وفي المقابل، سعت موسكو ومينسك إلى التخفيف من حدة المخاوف عبر التأكيد على أن التدريبات ذات طبيعة دفاعية بحتة وأنها لا تستهدف أي طرف محدد.

ولم يقتصر التصعيد على نطاق المناورات، إذ شهدت الساحة الأوروبية سلسلة من الحوادث الميدانية التي زادت من حدة التوتر. ففي التاسع من سبتمبر الجاري، أعلنت بولندا أنّ ما بين تسع عشرة وثلاث وعشرين طائرة مسيّرة روسية اخترقت مجالها الجوي في وقت واحد، الأمر الذي دفع قوات الناتو إلى إرسال طائرات مقاتلة متعددة الجنسيات للتعامل مع الموقف، وتمكنت هذه القوات من إسقاط عدد من تلك المسيّرات. ووصفت وارسو الحادثة بأنها أخطر تطور أمني منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا قبل أكثر من ثلاث سنوات ونصف، وأشارت إلى أنّ الحادثة تمثل المرة الأولى التي يطلق فيها الحلف النار بشكل مباشر على أهداف روسية. وأكد رئيس الوزراء البولندي أنّ بلاده لم تواجه منذ الحرب العالمية الثانية وضعا يقترب إلى هذا المستوى من احتمالات الدخول في مواجهة عسكرية مفتوحة.

ولم تمض سوى أربع وعشرين ساعة حتى برز تطور جديد عندما أعلنت رومانيا أنّ مقاتلة من طراز F-16 أقلعت لاعتراض طائرة مسيرة روسية دخلت أجواءها بالتزامن مع قصف روسي مكثف للأراضي الأوكرانية. وبعد دقائق من الإقلاع، اختفت المقاتلة الرومانية بشكل مفاجئ عن شاشات الرادار قرب دلتا الدانوب، ما أثار جدلا واسعا في الأوساط الإعلامية والسياسية داخل رومانيا وفي مختلف العواصم الأوروبية. وفي السياق نفسه، أبلغت لاتفيا عن سقوط طائرة مسيرة داخل أراضيها، بينما أعلنت بولندا أنّها رصدت مجددا طائرة مسيرة مدنية فوق القصر الرئاسي في وارسو ووصفت الحادثة بأنها استفزاز خطير، قبل أن تكشف لاحقا عن اعتقال مواطنين بيلاروس بتهمة التورط في العملية. وأسهمت هذه الحوادث المتكررة والمتناثرة على طول الجبهة الشرقية للناتو في تعزيز القناعة الأوروبية بوجود تهديد متصاعد يطال أكثر من دولة، الأمر الذي زاد من الحاجة الملحة إلى اجتماع الحلف وتنسيق رد جماعي أكثر صرامة.

بين النفي الروسي والقلق الأوروبي.. اختبار جديد لتماسك الناتو

يرى مراقبون أن موسكو تسعى من خلال التحركات الأخيرة إلى اختبار درجة التماسك داخل حلف شمال الأطلسي وقياس مدى استعداد أعضائه لتفعيل مبدأ الدفاع الجماعي الذي يشكل الركيزة الأساسية للحلف منذ تأسيسه. ويعتقد هؤلاء المراقبون أن الكرملين يحاول استكشاف مستوى التزام العواصم الغربية بخطوطها الحمراء، ومعرفة ما إذا كانت مستعدة للانتقال من مرحلة الخطاب السياسي إلى مرحلة الإجراءات العملية على الأرض. وفي المقابل، يقدم محللون روس قراءة مختلفة تماما، إذ يؤكدون أن الحوادث التي شهدتها الحدود الشرقية للناتو خلال الأسابيع الماضية تحمل طابعا مصطنعا، ويعتبرون أن الهدف الأساسي منها يتمثل في جرّ الولايات المتحدة إلى صراع مباشر مع روسيا أو دفعها نحو تقديم التزامات عسكرية أوسع للدول الأوروبية. وفي حين تصرّ المواقف الأوروبية على التعامل مع هذه التطورات باعتبارها تهديدا عسكريا مباشرا لا يمكن تجاهله، تواصل موسكو طرح سردية مغايرة تنفي من خلالها أي مسؤولية وتتهم خصومها الغربيين بالبحث عن ذرائع جديدة للتصعيد.

فقد نشرت صحيفة إزفستيا الروسية تقريرا موسعا بعنوان "من يقف وراء حادثة الطائرة المسيّرة في بولندا؟"، أشارت فيه إلى أن الدول الأوروبية لم تقدم حتى الآن أي دليل ملموس يثبت تورط موسكو في تلك الاختراقات الجوية التي أثارت كل هذا الجدل. التقرير نقل عن دبلوماسيين روس قولهم إن ما جرى لا يتعدى كونه توظيفا سياسيا متعمدا للحوادث العسكرية، هدفه تعطيل أي مسار تفاوضي يمكن أن يقود إلى تسوية للأزمة المستمرة في أوكرانيا منذ أكثر من ثلاث سنوات. وأضافت الصحيفة أن موسكو أعلنت، عبر قنواتها الرسمية، استعدادها للدخول في مشاورات مباشرة مع وارسو من أجل معالجة الخلافات بصورة ودية، غير أن بولندا فضلت المضي في خيار التصعيد عبر الاستعانة المباشرة بالناتو، ما أعطى الانطباع بأن نواياها تتجاوز حدود الحادثة ذاتها.

وفي السياق ذاته، أوضح أستاذ النظرية السياسية في معهد موسكو للعلاقات الدولية، إيفان لوشكاريوف، أن لجوء بولندا إلى المادة الرابعة من معاهدة الحلف، والتي تتيح فتح باب المشاورات السياسية بين الأعضاء من دون أن تفرض عليهم التزامات عسكرية مباشرة، يكشف أن وارسو لا تعتبر الحادثة خطرا وجوديا حقيقيا. وشرح لوشكاريوف أن بولندا لو أرادت فعلا التعامل مع ما حدث باعتباره تهديدا استراتيجيا لأمنها القومي، لكانت دفعت باتجاه تفعيل المادة الخامسة من المعاهدة الخاصة بالدفاع المشترك، غير أن هذا الخيار لم يُطرح بشكل جدي حتى الآن. ومن وجهة نظره، فإن الخطاب البولندي يهدف أكثر إلى كسب المساندة السياسية والدبلوماسية داخل الحلف، وإلى تعزيز موقعها في المعادلات الأوروبية، بدلا من الدخول في مواجهة شاملة مع موسكو تعرف وارسو أنها لا تستطيع تحمّل تبعاتها.

أما نائب رئيس مجلس الاتحاد الروسي، كونستانتين كوساتشيف، فقد قدّم قراءة أكثر حدّة حين أكد أن "الأوكرانيين ومن يقف وراءهم" يقفون عمليا خلف هذه الاستفزازات. واعتبر أن الهدف الحقيقي لا يتعلق بأمن بولندا أو رومانيا أو لاتفيا بقدر ما يرتبط بمحاولة ممارسة الضغط على الولايات المتحدة نفسها، إما لجرّها أكثر فأكثر إلى ساحة الصراع أو لدفعها على الأقل إلى تقديم ضمانات عسكرية إضافية لدول أوروبا الشرقية. واستدل كوساتشيف على ذلك بالقول إن جميع قنوات التفاوض بين موسكو وكييف متوقفة منذ أشهر طويلة، ليس بسبب موقف روسي، بل نتيجة ما وصفه بتعنت الجانب الأوكراني والدعم الغربي اللامحدود الذي يتلقاه. وبناء على هذه القراءة، فإن حادثة الطائرات المسيّرة في بولندا لا تعدو كونها أداة إضافية في لعبة التصعيد السياسي والعسكري التي يتقنها خصوم موسكو.

وفي الاتجاه نفسه، اعتبر الخبير العسكري الروسي أليكسي ليونكوف أن هذه الحوادث أقرب ما تكون إلى "كمائن سياسية" صُممت بعناية لإحراج الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ودفعه إلى التخلي عن سياسة الحذر التي تبناها منذ بداية ولايته. وأوضح ليونكوف أن الأطراف التي تقف وراء هذه الاستفزازات تسعى إلى إجبار الإدارة الأمريكية على الانخراط بشكل أعمق في الحرب الأوكرانية، سواء من خلال إرسال مزيد من الأسلحة النوعية المتطورة أو عبر تقديم التزامات أمنية أوسع لحلفاء واشنطن الأوروبيين الذين يطالبون بضمانات إضافية مع كل تصعيد جديد.

ومن خلال هذه القراءات المختلفة يتضح أن المشهد المتوتر على الحدود الشرقية للناتو لا يقتصر على أبعاد عسكرية ميدانية مرتبطة بتحركات الطائرات أو المناورات، بل يتجاوز ذلك إلى رهانات سياسية واستراتيجية معقدة. فبينما تؤكد الدول الأوروبية أن أمنها مهدد أكثر من أي وقت مضى وتطالب الحلف بتفعيل آليات الردع، تواصل موسكو اتهام خصومها باستخدام تلك الحوادث لتبرير التصعيد وقطع الطريق أمام أي مبادرة للتسوية. وفي الوقت نفسه، يجد الموقف الأمريكي نفسه محكوما بضغوط متزايدة من الحلفاء الأوروبيين وبحسابات داخلية تتعلق بضرورة تجنب الانزلاق إلى مواجهة مباشرة مع روسيا قد تكون عواقبها غير محسوبة.

وفي هذا الإطار، نشرت صحيفة الغارديان البريطانية تقريرا أعده مراسلها إلى المناورات العسكرية الروسية الأخيرة، بيوتر ساور، أشار فيه إلى أن تلك التدريبات شهدت حضورا لافتا لقادة عسكريين أمريكيين جلسوا في الصفوف الأمامية إلى جانب ممثلين عن دول تعتبر من الحلفاء التقليديين لموسكو، مثل الصين وميانمار، إضافة إلى وفود من بعض الدول الإفريقية التي توصف أنظمتها بالاستبدادية. ورغم أن هؤلاء القادة الأمريكيين امتنعوا عن الإدلاء بأي تصريحات رسمية للصحافة، فإن مجرد وجودهم تحول إلى مادة دسمة للإعلام الروسي والبيلاروسي، الذي استغل المشهد للتأكيد على أن المناورات تحمل طابعا دوليا يتجاوز الحدود الروسية، في محاولة لإظهار أن واشنطن نفسها لا تتبنى المقاربة التصعيدية ذاتها التي يسعى الأوروبيون إلى فرضها.

هذا التباين في المواقف أثار قلقا عميقا داخل العواصم الأوروبية، خصوصا في ظل ما يصفه بعض المراقبين بـ"التراخي" الذي يطبع تعامل إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع موسكو. فقد قلّل ترامب يوم الجمعة الماضي، خلال مؤتمر صحفي في البيت الأبيض، من خطورة حادثة الطائرات المسيّرة التي سقطت فوق الأراضي البولندية، بل ذهب إلى حد القول إن ما حدث قد يكون "خطأ غير مقصود"، وهو تصريح يتناقض تماما مع الموقف الأوروبي الرسمي الذي وصف الحادثة بأنها عمل عدواني مباشر من جانب الكرملين. ويرى محللون أن مثل هذه التصريحات تمنح روسيا مساحة أوسع للمناورة، وتزيد من عمق الهوة بين ضفتي الأطلسي، الأمر الذي يضعف الموقف الغربي الموحد في مواجهة الأزمة.

ويستحضر عدد من المراقبين القمة التي جمعت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بنظيره الأمريكي في مدينة ألاسكا خلال شهر أوت الماضي باعتبارها محطة كاشفة لهذا المسار. فقد سبقت القمة تهديدات أمريكية بفرض عقوبات اقتصادية مشددة على موسكو، غير أن تلك التهديدات تراجعت بسرعة بعد اللقاء المباشر بين الرئيسين، ما أعطى انطباعا لبوتين بأن واشنطن ليست مستعدة فعلا للمضي في مواجهة مفتوحة معه. وأكد الخبير العسكري البريطاني فيليب إنغرام، في تصريح لصحيفة الديلي ميل، أن بوتين خرج من القمة أكثر ثقة بنفسه وأكثر استعدادا لمواصلة خياراته العسكرية على الأرض الأوكرانية، بعيدا عن أي تفكير جدي في حلول سياسية أو تسويات سلمية قريبة.

وفي موازاة هذه الصورة المعقدة، تبقى العلاقات بين موسكو وحلف شمال الأطلسي عالقة في حالة جمود عميق يطغى عليه التوتر وانعدام الثقة. فقد أوضح السفير الروسي في بروكسل، دينيس غونشار، أن الحوار بين الطرفين يكاد يكون متوقفا بالكامل، وأن ما يجري حاليا لا يتجاوز تبادلا محدودا للرسائل بين القيادات العسكرية بشأن حوادث بعينها مرتبطة بالحدود أو بالتحركات الميدانية. وأشار غونشار إلى أن موسكو، منذ أن علّقت في نوفمبر 2021 عمل بعثتها الدائمة لدى الناتو، أبقت فقط على قناة اتصال طارئة تُستخدم في حالات الضرورة القصوى، من أجل تجنب أي سوء فهم قد يؤدي إلى مواجهة غير مقصودة. لكنه شدد في المقابل على أن الحلف لم يبد أي استعداد فعلي للأخذ بالمصالح الأمنية الروسية أو لمناقشة مقترحاتها السابقة الخاصة بترتيبات الأمن الأوروبي المشترك، بل اختار الاستمرار في تعزيز قواته على جناحه الشرقي وزيادة دعمه العسكري والسياسي لكييف، مع التفكير في ضمانات أمنية موجهة لها وحدها من دون أي اعتبار للمخاوف التي تعلنها موسكو باستمرار.

تصعيد بلا أفق.. بين الارتهان لواشنطن وثقة موسكو المتزايدة

على خط موازٍ، لم تكفّ بعض العواصم الغربية عن إذكاء التوتر بين روسيا ودول أوروبا الشرقية، وعلى رأس هذه العواصم برزت بولندا التي تحتفظ بتاريخ طويل من العداء مع موسكو. الصحافة التركية، وتحديدا صحيفة "ديك غازيتي"، أشارت بوضوح إلى أن الغرب يستثمر في هذا الإرث التاريخي من الخصومة ويعيد توظيفه سياسيا وعسكريا في اللحظة الراهنة، حيث تتوالى اتهامات متلاحقة من وارسو ضد موسكو من دون تقديم ما يثبتها بأدلة دامغة أو قرائن موثوقة.

ففي العاشر من سبتمبر الجاري، خرج رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك ليصرّح بأن طائرات مسيّرة روسية عبرت الحدود وسقطت فوق الأراضي البولندية، لكنه لم يرفق تصريحه بأي صور أو بيانات رادارية أو تقارير ميدانية تبرهن ما ذهب إليه، الأمر الذي جعل الموقف يبدو أقرب إلى الاتهام السياسي المجرّد منه إلى التقرير العسكري الدقيق. وفي المقابل، ردت موسكو بسرعة ووضوح وأكدت أن قواتها الجوية تنفذ عملياتها حصرا داخل الأراضي الأوكرانية، وأن أي نشاط لطائراتها المسيّرة أو المقاتلة يلتزم بخطط مرسومة بدقة، وأن الغاية الوحيدة من هذه العمليات تكمن في استهداف مواقع عسكرية أوكرانية من دون أي نية أو قرار لاختراق الأجواء البولندية.

وأضافت موسكو أنها تبدي استعدادا للدخول في مشاورات تقنية مباشرة مع وارسو إذا أرادت الأخيرة مناقشة أي التباس، لكنها رأت أن تحويل الحادثة إلى مادة للتصعيد السياسي لا يخدم الاستقرار في المنطقة. أما بيلاروس، الحليف الأقرب والأوثق لموسكو، فقدمت رواية إضافية حين أعلنت أن بعض الطائرات المسيّرة الضالة جرى تعطيلها وتدميرها بواسطة أنظمة الحرب الإلكترونية التي تنتشر داخل أجوائها، ما أضفى بُعدا جديدا على هذا الجدل ووسّع دائرة السجال بين الأطراف المعنية.

في ظل هذا المشهد الملبد بالغيوم، وقفت أوكرانيا مجددا في قلب العاصفة السياسية والعسكرية، إذ تنتظر كييف خلال شهر أكتوبر المقبل دفعة جديدة من التمويل ضمن ما يعرف بمبادرة PURL، وهي قائمة متطلبات ذات أولوية صاغها الناتو خصيصا بهدف تسريع وتيرة توريد الأسلحة والذخائر والمعدات إلى الجيش الأوكراني من خلال مساهمات طوعية تقدّمها الدول الأعضاء. وينظر المسؤولون الأوكرانيون إلى هذه المبادرة باعتبارها آلية عملية تسهّل حصول قواتهم على العتاد المطلوب بسرعة وبتنظيم أعلى، بينما ترى موسكو في هذه الخطوة دليلا إضافيا على أن الغرب لم يعد يكتفي بدعم سياسي أو معنوي لكييف، بل انخرط بصورة مباشرة في إطالة أمد النزاع عبر رفده بالسلاح والمال.

ولهذا السبب رفعت روسيا نبرة تحذيراتها وأكدت مرارا أن أي قافلة تحمل معدات عسكرية متجهة إلى أوكرانيا ستعاملها قواتها على الفور كأهداف عسكرية مشروعة، محذّرة من أن سياسات الإمداد المستمرة لا تساهم إلا في تعقيد المسارات الدبلوماسية وتضع المزيد من العراقيل أمام أي حل سياسي محتمل.

عند التمعّن في هذا السياق المعقد، يتضح أن عناصر المشهد محكومة بدرجة عالية من السيولة وعدم اليقين، فالقارة الأوروبية تشعر بقلق متزايد من التهديد الروسي لكنها في المقابل تعجز عن فرض كلمتها أو ترجمة خطابها السياسي إلى خطوات مستقلة وفاعلة على الأرض. الولايات المتحدة من جانبها تنتهج سياسة مزدوجة تجمع بين رفع نبرة التصعيد في العلن وبين ممارسة التريث والحذر في القرارات الميدانية، بينما تزداد موسكو ثقة بموقفها نتيجة هذا التباين الواضح بين الضفتين الأوروبية والأطلسية. ومع استمرار تدفق الأسلحة إلى أوكرانيا وتواصل الاتهامات المتبادلة بين الطرفين، تتضاءل فرص العودة إلى حوار جاد بين موسكو والناتو، ويبدو احتمال التسوية أبعد فأبعد، وهو ما يرشح الأزمة لمزيد من التعقيد والانفجار في المستقبل المنظور.

القارة الأوروبية تجد نفسها اليوم عالقة داخل معادلة شديدة الصعوبة، فهي تحاول إظهار قدر من الصلابة في مواجهة روسيا عبر خطاب سياسي متشدد وعبر مناورات عسكرية متواصلة على حدودها الشرقية، لكنها تدرك بعمق محدودية قدراتها الذاتية إذا ما قورنت بالترسانة الروسية المتنوعة التي تشمل الأسلحة التقليدية والنووية والتقنيات المتقدمة للحرب الإلكترونية.

هذا التفاوت في ميزان القوة يدفع الأوروبيين في كل منعطف خطير إلى الاحتماء بالمظلة الأمريكية، وهو خيار يعزز اعتمادهم على واشنطن لكنه يقلص تدريجيا من استقلاليتهم الاستراتيجية التي طالما سعوا للحفاظ عليها. ومع كل حادثة مسيّرة أو خرق جوي أو مناورة روسية واسعة النطاق، تزداد الضغوط الداخلية والخارجية على بروكسل كي تطلب من الولايات المتحدة المزيد من الضمانات العسكرية والسياسية، ما يمنح الإدارة الأمريكية فرصة ذهبية لترجمة هذا الاعتماد الأمني الأوروبي إلى شروط إضافية في ملفات حيوية كملف الطاقة وملف التجارة وملف السياسة الخارجية.

الإدارة الأمريكية تتابع هذه التطورات بعناية وتدرك تماما طبيعة المأزق الذي يواجه الأوروبيين، لذلك لا تبدو متعجلة في الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة مع موسكو، لكنها تسمح للأوروبيين بالمضي في خطاب التصعيد لأنها تعرف أن هذا الخطاب سيقودهم في النهاية إلى طرق أبواب واشنطن طلبا للحماية. وعندما يحدث ذلك، تتحول الولايات المتحدة إلى الطرف الممسك بخيوط اللعبة كلها، سواء تعلق الأمر بإدارة الدعم العسكري أو برسم ملامح أي مبادرة دبلوماسية قد تطرح في المستقبل. وهكذا، فإن أي اندفاع أوروبي غير محسوب نحو مواجهة مباشرة مع روسيا لا يرفع فقط احتمالات الصدام العسكري، بل يمنح ترامب ورقة ضغط إضافية تعزز قدرته على إعادة صياغة علاقة بلاده بالقارة العجوز وفق ما يخدم المصالح الأمريكية أولا وأخيرا.

هذه المعادلة الشائكة تضع الأوروبيين أمام استحقاق مصيري بالغ الدقة، فإما أن يتمكنوا من صياغة استراتيجية دفاعية أكثر استقلالية تمنحهم هامشا أوسع للمناورة وتسمح لهم بإدارة أزماتهم بقدر أكبر من الحرية، أو يواصلوا الارتهان للقرار الأمريكي مع كل موجة تصعيد جديدة، وهو مسار خطير قد يحوّلهم بمرور الوقت من شركاء فاعلين إلى تابعين ينتظرون التعليمات من البيت الأبيض قبل اتخاذ أي قرار كبير. ورغم محاولات بعض الدول الكبرى داخل الاتحاد الأوروبي، مثل فرنسا وألمانيا، الدفع باتجاه بلورة مقاربة أكثر استقلالية، إلا أن الانقسامات الداخلية وضعف التنسيق الأوروبي وتباين الحسابات الوطنية يجعل هذا المسار بالغ الصعوبة في المدى المنظور.

وبناء على ذلك، تبدو الاستراتيجية الأوروبية الراهنة أقرب إلى مقامرة محفوفة بالمخاطر، فهي تراهن على أن التصعيد المستمر سيجبر روسيا على التراجع، لكنها في الوقت نفسه تمنح الولايات المتحدة فرصة نادرة لتوسيع نفوذها السياسي والاقتصادي والعسكري داخل القارة. ومع استمرار الحرب في أوكرانيا من دون أفق واضح للتسوية، تتزايد كلفة هذه المقاربة سواء من حيث الأعباء المالية الثقيلة أو من حيث تقلص هامش القرار الأوروبي المستقل.

كل هذه المعطيات تضفي أهمية استثنائية على الاجتماع المرتقب لوزراء خارجية الناتو المقرر عقده اليوم الثلاثاء في بروكسل، إذ سيجد الحلف نفسه مطالبا باختبار قدرته على التوفيق بين مطلب الردع العسكري في مواجهة روسيا وحاجة القارة الأوروبية إلى الحفاظ على قدر من الاستقلالية الاستراتيجية في قراراتها. وقد يكشف الاجتماع ما إذا كانت بروكسل قادرة على صياغة موقف يوازن بدقة بين مصالحها ومصالح واشنطن، أو أنها ستواصل الانسياق وراء الإيقاع الأمريكي من دون تردد أو مراجعة. وفي الحالتين معا، سيشكل هذا اللقاء محطة حاسمة في رسم مسار الأزمة خلال الأشهر المقبلة، سواء باتجاه مزيد من التصعيد والمواجهة أو نحو البحث عن نافذة ضيقة تتيح العودة إلى طاولة الحوار.