في لحظة بدت وكأنها تسرق النور من عتمة الحصار، دوّى اسم فلسطين من جديد في قلب الأكاديمية السويدية، حين أعلنت لجنة جائزة نوبل للكيمياء فوز العالِم الفلسطيني الدكتور عمر ياغي بجائزة نوبل لعام 2025، لتُسجَّل بذلك محطة جديدة في مسيرة العقل الفلسطيني الذي لم يتوقف يوما عن إثبات أن الشعوب لا تُقاس بمساحة الأرض التي تحتلها، بل بمساحة الإبداع التي تشغلها في ضمير الإنسانية. ومع هذا الحدث العلمي العالمي، جاءت كلمات ديمتري دلياني، عضو المجلس الثوري والمتحدث باسم تيار الإصلاح الديمقراطي في حركة فتح، لتلخّص المشهد برؤية أعمق من مجرد فوز علمي فردي، إذ قال إن تتويج الدكتور ياغي هو "انتصار جديد للعبقرية الفلسطينية التي تواجه الجرائم الإسرائيلية بعلمها"، مؤكّدا أن هذا الفوز ليس حدثا عابرا بل دلالة رمزية كبرى على أن المعرفة هي الوجه الآخر للمقاومة، وأن الإبداع العلمي يمكن أن يكون أكثر رسوخا من صخب المدافع.
تصريح دلياني يعيدنا إلى سؤالٍ جوهري طالما طُرح في الأوساط الثقافية والسياسية الفلسطينية: كيف استطاع الشعب الفلسطيني، المحاصر والمقموع منذ عقود، أن يُنتج عقولا قادرة على حصد أرفع الجوائز العالمية؟ هذا السؤال لا يجد جوابه في الجغرافيا ولا في السياسة، بل في بنية الوعي الجمعي الذي صاغته التجربة الفلسطينية ذاتها. فبينما تدمّر آلة الاحتلال كل مظهرٍ للحياة، ظلّ الفلسطيني يزرع المعرفة في الركام، يؤمن أن الكتاب يمكن أن يكون بندقية أخرى، وأن المختبر في جامعةٍ أو في منفى ليس إلا خندقا آخر من خنادق الدفاع عن الهوية.
الدكتور عمر ياغي، الذي أصبح ثاني فلسطيني ينال جائزة نوبل بعد الرئيس الشهيد ياسر عرفات، ليس مجرّد عالم كيمياء بارع، بل هو ابن هذا الوجدان الوطني الذي يؤمن أن كل إنجاز فردي فلسطيني هو في جوهره فعل جماعي مقاوم. ولد ياغي في عمّان عام 1965 لعائلة فلسطينية هجّرتها النكبة من فلسطين المحتلة، ودرس الكيمياء في الجامعة الأردنية قبل أن يسافر إلى الولايات المتحدة حيث بدأ رحلته العلمية التي ستغيّر مسار علم المواد على مستوى العالم.
اشتهر بابتكاره لهياكل الإطارات المعدنية العضوية (MOFs) التي أحدثت ثورة في علم تخزين الطاقة والغازات، واعتُبر أحد أبرز المرشحين للفوز بجائزة نوبل لسنوات قبل أن تتحقق النبوءة أخيرا عام 2025. لكن خلف كل معادلة علمية وإنجاز تقني، ظلّ هناك وطن يسكن الذاكرة ويمنح المعنى لكل ما يقوم به. فكما يقول في أكثر من مناسبة: "العلم لا وطن له، لكن الإنسان الذي يحمله لا يمكن أن ينسى جذوره".
إن استحضار دلياني لاسم الشهيد ياسر عرفات في تصريحه ليس تفصيلا عابرا، بل هو إشارة رمزية دقيقة، تربط بين مسارين متكاملين في التاريخ الفلسطيني: مسار النضال السياسي الذي جسّده عرفات، ومسار النضال العلمي والمعرفي الذي يجسّده ياغي. فبينما حمل الأول البندقية في وجه الاحتلال ليفتح أمام شعبه باب الاعتراف العالمي، يحمل الثاني أنبوب الاختبار ليقول للعالم إن فلسطين قادرة على الإسهام في حضارته، لا أن تكون عبئا عليه. بهذا المعنى، يصبح فوز ياغي امتدادا طبيعيا لمسيرة وطنٍ يُقاس إنجازه لا بعدد المساحات التي يحررها، بل بعدد القلوب والعقول التي يكسبها في معركة الوجود.
وحين يقول دلياني إن هذا الفوز "يعزّز حضور فلسطين في ضمير البشرية"، فهو لا يتحدث بلغة العاطفة بقدر ما يشير إلى حقيقة موضوعية راسخة: أن صورة فلسطين في الوعي الإنساني لم تعد حكرا على مشاهد الحرب والدمار، بل صارت أيضا صورة العلم والبحث والابتكار. في عالمٍ يتنازع فيه الخطاب الإعلامي بين ضجيج القوة وصوت الضحايا، يأتي إنجازٌ مثل نوبل ليرسّخ أن الشعب الفلسطيني ليس ضحية دائمة بل صانع معنى وقيمة. وهنا تكمن قوة الرمزية في هذا الحدث، إذ أنه يربك رواية الاحتلال التي حاولت طيلة عقود تصوير الفلسطيني على أنه مجرد رقم في تقارير الأمم المتحدة أو مشهد في نشرات الأخبار. الآن، يصبح الفلسطيني عالما تُدرّس أبحاثه في كبريات الجامعات، ويُشاد باسمه في المحافل العلمية الدولية، ويُحتفى به بصفته من روّاد الإنسانية الحديثة.
ولأن فلسطين كانت دائما ساحة اختبارٍ لقيم العالم، فإن فوز ياغي بنوبل يحمل أيضا بعدا أخلاقيا وسياسيا لا يمكن تجاهله. فبينما يستمر الاحتلال في تدمير الجامعات والمكتبات وقصف المدارس في غزة والضفة الغربية، يخرج من بين أبناء هذا الشعب من يعيد للعالم ثقته بالإنسان الفلسطيني وقدرته على العطاء. وهنا تبرز المفارقة التي التقطها دلياني بذكاء حين قال إن "جيش الإبادة الإسرائيلي يدمّر الحياة والمعرفة والتراث، بينما شعبنا الفلسطيني يواصل البناء والإبداع وسط الرماد". فهذه الجملة تختصر فلسفة الصمود الفلسطينية في أن المقاومة ليست فقط مواجهة بالسلاح، بل أيضا رفضٌ للمحو المعرفي والثقافي الذي يسعى الاحتلال إلى فرضه.
إن منح نوبل لعالمٍ فلسطيني في هذا الظرف السياسي الحرج لا يخلو من دلالات رمزية عميقة، إذ يأتي في زمنٍ يُحاصر فيه الفلسطيني في رزقه وأرضه وذاكرته، لكنه ينجح في أن يخترق هذا الحصار من بوابة العلم، ليقول للعالم إن الاحتلال قد يُقيّد الجسد لكنه لا يستطيع أن يعتقل العقل. وربما لهذا السبب اعتبر دلياني أن الجائزة “رسالة أملٍ من فلسطين إلى العالم بأن المعرفة مقاومة”، وهي عبارة تختصر فلسفة مرحلةٍ كاملةٍ من الوعي الفلسطيني الجديد، الذي بدأ يدرك أن النضال الثقافي والعلمي هو سلاح استراتيجي لا يقل أهمية عن النضال السياسي.
من هنا يمكن القول إن تتويج ياغي هو حدث وطني بامتياز، لأنه يعيد رسم ملامح القوة الفلسطينية في ميدانٍ جديد، ميدانٍ لا يمكن لإسرائيل أن تحاصره أو تشوّهه. فالمختبرات لا تُقصف، والمعادلات لا تُغتال، والجوائز العالمية لا تُمنح تحت ضغط الرصاص. إنها مكافأة للعقل الفلسطيني الحرّ الذي يواصل العمل رغم كل القيود، ويُثبت أن إرادة الحياة أقوى من كل أشكال القمع.
لقد ظلّ الدكتور عمر ياغي خلال مسيرته الأكاديمية مثالا للعالم المتواضع المنفتح على طلابه وعلى مجتمعه العلمي، وقد حرص دائما على بناء الجسور بين الشرق والغرب من خلال برامج بحثية مشتركة ومبادرات لتدريب طلاب من الدول النامية في مختبراته. هذه الروح الإنسانية المتجذّرة في تجربته الفلسطينية جعلت فوزه بنوبل يبدو وكأنه انتصار جماعي للعقل العربي والفلسطيني معا، ورسالة إلى الأجيال الشابة بأن الطريق إلى التغيير يبدأ من فكرةٍ صغيرة في مختبرٍ أو مكتبة، لا من قرارٍ سياسي أو صراعٍ عسكري.
من جانبٍ آخر، يثير هذا الإنجاز نقاشا جديدا حول دور النخبة العلمية الفلسطينية في بناء سردية وطنية حديثة. فبينما ظلّ الإعلام لعقودٍ يركّز على البعد المأساوي للقضية، يأتي حدثٌ كهذا ليذكّرنا بأن الفلسطيني ليس فقط من يعيش في ظل الاحتلال، بل هو أيضا من يصنع الإنجازات الكبرى في جامعات العالم. وهنا يتقاطع التحليل السياسي مع الثقافي، إذ يُعيد هذا الفوز تعريف معنى “الانتماء” في السياق الفلسطيني: لم يعد الانتماء مجرّد ارتباطٍ بالأرض، بل أصبح أيضا انتماء للقيم الإنسانية التي تعبّر عنها فلسطين من خلال أبنائها في كل الميادين.
من هذه الزاوية، يمكن فهم تصريح دلياني على أنه محاولة لتأطير هذا الحدث ضمن رؤية أوسع لتيار الإصلاح الديمقراطي في حركة فتح، رؤية تسعى إلى إعادة الاعتبار لقيمة الإنسان الفلسطيني كمنتِج للمعرفة، وليس فقط كمناضل في الميدان السياسي. فالإصلاح الحقيقي لا يبدأ من المؤسسات فقط، بل من الثقافة، من الإيمان بأن كل طفل فلسطيني يحمل في داخله إمكانية أن يكون عالما، شاعرا، أو مفكرا يسهم في تشكيل صورة بلده في الخارج.
ومع أن الفوز بنوبل لا يغيّر الواقع الميداني الصعب، إلا أنه يقدّم صورة رمزية مضيئة يمكن البناء عليها في تعزيز الدبلوماسية الثقافية الفلسطينية. فحين يتحدث العالم عن فلسطين من خلال إنجاز علمي، فإن ذلك يفتح نوافذ جديدة للحوار والتفاهم، ويعيد توجيه الاهتمام الدولي من صورة الحرب إلى صورة الإبداع. وربما لهذا قال أحد المراقبين إن “فوز ياغي بنوبل لا يقلّ أهمية عن أي انتصار سياسي”، لأن العلم يُحدث أحيانا ما تعجز عنه السياسة.
إنه انتصار للعقل في زمن الخراب، وانتصار للأمل في وجه الإبادة، وانتصار لفلسطين التي لا تزال تُقاوم محاولات الطمس والإنكار بأسلوبها الأكثر تحضّرا وخلودا: المعرفة. فكل جائزة، وكل اكتشاف، وكل إنجاز فلسطيني في المنفى هو بمثابة عودة رمزية إلى الوطن، عودة تُثبت أن الاحتلال لا يستطيع أن يحتكر مستقبل الفلسطينيين أو أن يحدّد سقف أحلامهم.
من هنا، يصبح فوز الدكتور عمر ياغي أكثر من مجرد جائزة علمية، إنه بيانٌ إنساني صادر من قلب فلسطين إلى ضمير العالم، يؤكد أن هذه الأرض الصغيرة قادرة على إنجاب الكبار في كل الميادين. وكما قال دلياني في ختام تصريحه: “إن جائزة نوبل التي حصدها د. ياغي هي رسالة أمل من فلسطين إلى العالم بأن المعرفة مقاومة”، وهي رسالة تختصر فلسفة وطنٍ بأكمله آمن بأن الإنسان الفلسطيني لا يُقاس بما يملكه من أرض، بل بما يقدّمه للبشرية من ضوء.