2025.09.29
عاجل :



في زمن القلق.. كيف نحيا بلا رهبة من المستقبل؟ ملفات الأيام

في زمن القلق.. كيف نحيا بلا رهبة من المستقبل؟


منذ اللحظة التي يُولد فيها الإنسان، يكون قد دخل فعليًّا في دائرة القلق، وكلما ازداد وعيه ازداد منسوب قلقه. وإذا ما سألت أيّ إنسان عن حاله فلن تخلو إجابته من كلمات تعبّر عن: التعب، الضيق، الضجر، الانزعاج، الملل.. ويُمكن جمعها في كلمة واحدة هي: "القلق". كأنما الحياة تحوّلت إلى رحلةٍ للبحث عن معنى الحياة نفسها، وقد لا يكفي عمرٌ واحدٌ ليصل الإنسان إلى هذا المعنى. وعندما يهتزّ أو يغيب الإيمان الديني "الحقيقي" فإن رحلة البحث تتحوّل إلى دوران في متاهة القلق، تيه في اللامعنى، وأيّ معنى لحياةٍ تنتهي بالموت!

اجتهد الأدباء والفلاسفة والعلماء في ضبط مفهومٍ لـ "القلق" وتحليله ودراسته، ولكنهم أفلسوا جميعًا، فتناولوه من خلال مظاهره النفسية أو الجسديّة. فهذه "منظمة الصحة العالمية" تنشر موضوعًا، في موقعها الإلكتروني يوم الثامن سبتمبر من هذا العام، بعنوان "اضطرابات القلق"، تقول: "اضطرابات القلق من أكثر الاضطرابات النفسية شيوعًا في العالم، إذ أصابت 301 مليون شخص في عام 2021". وتضيف "غالبًا ما تبدأ أعراض القلق في مرحلة الطفولة أو المراهقة".

وتوصّف المنظمة أعراضَ القلق في هذه النقاط: "صعوبة في التركيز أو اتخاذ القرارات، الشعور بالاهتياج أو التوتر أو التململ، الشعور بالغثيان أو آلام البطن، خفقان القلب، التعرّق أو الارتعاش أو الارتجاف، اضطرابات النوم، الشعور بالخطر أو الهلع أو الهلاك الوشيك".

هل قالت "منظمة الصحة العالمية" كل الحقيقة وقدّمت الاحصائيات الصحيحة عن القلق في بلدان "ما قبل الحضارة" كما يصفها المفكّر "مالك بن نبي"، البلدان التي تعاني من الحروب والجوع والفقر والمآسي بمصدرَيها: الطبيعي والبشري؟، حسبنا أن المنظمة أكّدت بأن القلق حالةٌ نفسية لها أعراض مَرَضيّة جسدية..

وهذا "فيكتور فرانكل" (1905 - 1997)، يقدّم تعريفًا "جميلا" للقلق، يقول: "إن القلق ليس دائمًا مرضًا، بل قد يكون صرخة من النفس تطلب المساعدة". ويرى أن القلق ليس مشكلة بحدِّ ذاته، بل هو مؤشّرٌ على افتقاد الإنسان القدرةَ على الاستمتاع بالحياة، "هو ذلك الإحساس غير المريح بأن شيئًا سيّئًا قد يحدث، حتى وإن لم يكن هناك سبب مباشر".

ومن أبرز الأدباء العرب الذين أبدعوا في الحديث عن القلق، الأديب المصري "توفيق الحكيم"، من خلال مسرحيّته "بنك القلق"، حيث أسند إلى أبطاله مهمّة تأسيس بنكٍ يضع فيه الناس قلقهم، واختار نماذج - من الناس - تنتمي إلى مختلف الفئات المجتمعية والعُمريّة، فتنوّع رصيد البنك من مختلف أنواع القلق: الاقتصادي، الاجتماعي، السياسي.. و"بنك القلق" صدر في كتاب عام 1966، ثم تم تحويله إلى مسلسل إذاعي، ثم إلى مسلسل تلفزيوني، وأعيد تمثيله على مسرح "الجامعة الأمريكية" في مصر عام 2023.

يُمكن أن نُسمّي ما أوردناه سابقًا بـ "القلق التقليدي"، لأن هناك قلقٌ آخر أنتجه عصر "ما بعد الحداثة" ويمتدّ مما بعد الحرب العالمية الثانية إلى بدايات العقد الأخير من القرن العشرين، وهناك من يحصره في الفترة ما بين (1970 إلى 1990)، ومن مظاهره التي تتجلى في الفلسفة والأدب والفنون: التقويض والهدم، التشكيك والارتياب، الأفكار العدمية والعبثية، الغرابة والغموض والشذوذ، هيمنة الصورة وانحصار سلطة اللغة، الانقلاب على المعايير والأخلاق.. وما إلى ذلك من السّمات الأخرى.

وهناك قلق آخر غير تقليدي أطلق عليه خبراء الصحة النفسية تسمية: "القلق الرقمي"، ويقولون بأنه ناتج عن الافتقار إلى التواصل والتفاعل الشخصي المباشر، والبُعد عن الطبيعة بأشجارها وصخورها وأطيارها.. والانعزال عن المُجتمع نتيجة استهلاك أوقات طويلة أمام الشاشات الرقمية. ويتجلّى القلق الرّقمي بشكل كبير عندما يبتعد الإنسان عن جهازه الذكي مثل الجوال، أو عندما تنقطع الأنترنت..

عزيزي القارئ، قدّمنا لك ومضات حول القلق من خلال مرادفاته ومظاهره وأعراضه، فماذا لو اتفقت معي بأن أجدى سبيلٍ لمعرفة القلق هو التأمّل فيه من خلال أضداده؟ وأبرز أضداد القلق، على الأقل من الوجهة اللغوية، هي: الطمأنينة والأمن والأمان والسكينة والهدوء والارتياح.. وجميع هذه المعاني لا يُمكن أن تتحقّق في حالة "عدم اليقين"، والشعور بالضياع في الحياة، والخوف من المستقبل على النفس أو الأهل أو المجتمع أو الوطن أو الأمّة.. أو حتى الإنسانية في ظروفها الراهنة التي تتوجّه فيها نحو الانتحار بأيدي صُنّاع الموت وزارعي الشرور في العالم! بمعنى آخر، أنا أدعوك عزيزي القارئ أن تستوقف زمنك وتتأمّل الآية الكريمة: "أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" (سورة الرعد، الآية: 28)، فلا طريق آخر يحرّر الإنسان من القلق إلا هذا الطريق، فقد بعث الله رُسله إلى البشر ليحرّرهم من القلق ويهبهم الطمأنينة، ولأن الزمن البشري يتوجّه من سيءٍ إلى أسوأ فلا خلاص للإنسان من القلق إلا بالعودة إلى الله بكل صدق وإخلاص..

في سياق هذه الأفكار، توجهت جريدة "الأيام نيوز" إلى نخبة من الكُتّاب الأفاضل بهذه الرسالة: يُقال بأن عصرنا هو "عصر القلق"، قلقٌ لا يعرف معظم الناس أسبابه ودواعيه، فهم قلقون وفقط، يشعرون بضيق الصدر والضجر والملل والخوف من المجهول، والعَجلة الدائمة من أجل الوصول إلى نقطة في الغالب لم يحدّدوها، وهم لا يكادون يثقون في الحياة أو حتى في بعضهم البعض.. ويتجلّى القلق في المجالات الإبداعية، الأدبية والفنيّة على الخصوص، حيث التّيه في الأسئلة التي تطارد أجوبتَها في شوارع الحياة. ويُفترض أن المُبدع، لا سيما الكاتب، هو رسول الطمأنينة والأمل، وبوصلة الرّشاد حين تتوغّل سفينة المجتمعات في بحار القلق التي لا شطآن ولا ضفاف لها..

هل تعتقدون بأننا فعلا في عصر القلق؟ وهل رسالة الكاتب أن يُعبّر عن القلق في إبداعاته، أو أن يسعى إلى نشر الطمأنينة الروحي<ة والفكرية بين الناس؟ وهل للثقافة والآداب والفنون دورها في تحقيق الاستقرار الروحي للمجتمع؟ وهل تعتقدون بأن التكنولوجيا واضطراب التعادلية بين الروح التي تعني القِيم والأخلاق والثقافة، وبين الجسد الذي يعني المادة والتملّك للأشياء.. دورٌ في هذا القلق الذي يبدو أنه "استعمار" كوني لروح ووجدان الإنسانية جمعاء؟ وهل من سبيل للتحرّر من هذا "الاستعمار" الروحي والوجداني؟

وماذا عنك عزيزي القارئ؟ هل تنتابك موجات الشعور بالقلق دون أن تعرف الأسباب؟ في الواقع أنت مُحاصر، مثل أيّ إنسان آخر في هذا العالم، بكل دواعي القلق، لا سيما من الأسئلة التي قد تراودك ولا تجد لها جوابًا، مثل: لماذا تُصنّع الحروب؟ لماذا يُباد الشعب الفلسطيني في غزة ويصمت العالم؟ لماذا أنت، وليس غيرك، تتعثّر حظوظك فلا تجد الوسائل لتستمتع بحياتك؟ وغيرها من الأسئلة والتساؤلات التي تُرهبك من المُستقبل وتجعله مجهولاً أمامك.. لا تنتظر مني إجابةً، فأنا مثلك غارق في مستنقع القلق، وكل ما أدركه هو أن ريح القلق تهبّ من المستقبل، ولكنني أراها تهبّ على العرب من الماضي والحاضر أيضًا، ويزداد قلقي إذا ما اختار العرب أن يدفنوا رؤوسهم بين أذرعهم، ويستسلموا للوحش الشيطاني فيفترسهم، كما فعل "مالك الحزين" في إحدى قصص "كليلة ودمنة". لنحاول جميعًا أن ندفن القلق كما يُدفن الموتى في التراب، دفنًا لا يُبقيه حيًّا كما يبقى موتانا أحياء في ذواكرنا وقلوبنا.. ولنتذكّر دائمًا الآية الكريمة: "أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ".

وحيد حمّود (كاتب من لبنان)

لا خوف علينا ما دمنا قلقين!

لا بأس، إنّها الحياة.

تستيقظ من ظلمة الغيب وتخرج نحو ما تظنّه النّور، ثمّ تعود إلى الظلمة مجدّدًا. هل تذكّرت من أنت؟ لم تكن شيئًا ثمّ صرت شيئًا من روحٍ ومن دم، هكذا من دون أن تمتلك حقّ المجيء أصلًا إلى حياةٍ كالتي تحياها، كانت لحظة أنسٍ بين شخصين أو ربّما لحظة تحدٍّ بائس بين رجلٍ وامرأة، والنّتيجة؟ أنت النتيجة. لا بأس، إنّها الحقيقة.

كم سنة عشت؟ أين كنت؟ ماذا فعلت؟ أنا لست ملاك الحساب ولا شيطان الوسوسة، أنا أسأل، أنا فقط أسأل. أخبرني من أنت؟ هل كان ما عشته سهلًا؟ كم فرحت وكم بكيت وكم ظلَمت وكم ظُلِمت؟ لا بأس إنّها الحياة.

تكبر شيئًا فشيئًا، تحاول اكتشاف الوجود، تتسلّق الخطر، تمسك النّار بيديك، تقفز من الأعلى، تغفو على إسفلت الحقيقة لتختبر روحك: هل أنتِ لي؟ أم أنّني مجرّد ساعي بريد، أحملك معي أينما ذهبت ثمّ لا أدري أين أسلّمك، لا بأس إنّها الحياة.

ينبض قلبك بالحبّ لأوّل مرّة، تكتشف أنّ هناك ما ستحيا من أجله ولأجله، تحاول جاهدًا أن تصنع من قلبك زورقًا، ومن روحك طائرةً ورقيّة، تجنّ من أجل كلمة، تثور من لحظة غيرة، تهلوس باسم الحبّ وتهذي محمومًا بقلقٍ غير مفهوم، ثمّ تفهم بعد حين أنّ السّعادة قلق، نحن نفتّش عن السّعادة لكي نكسر سذاجتنا أمام الحزن، إذ إنّ السّعادة وهمٌ نستسيغه لنكمل شيئًا نريده، وما دون ذلك هراء ليس إلّا.

لا بأس، إنّها الحياة.

تخرج من معركة الحبّ لا كما دخلتها، فنحن مجبولون بالتأثّر بكلّ شيء وبأيّ شيء، وأهمٌ من يتبجّح بأنّه خرج سليمًا معافى من أيّ نجمةٍ ارتطم بها. تدّعي أنّك نجوت من الغرق وصار شرب الماء يخيفك حتّى، وهنا في هذه المرحلة تقف أمام مدخلين: الأوّل يدعوك لأن تصنّف نفسك كضحيّة والثاني يدعوك لأن تفكّر بما أقدمت عليه، فإن دخلت الأوّل فراجع روحك بعد مدّة، لأنّها ستصبح جثّة متعفّنة تلبسك، إذ إنّك ستحاول أن تعوّض نقصًا رهيبًا عبر زرع النّقص في الآخرين، وهنا ستصبح حياتك قلقًا مخيفًا، ستخشى وخزة إبرة، وصفعة ريح، ستلتفت يمنةً ويسرة، سترتبك إذا ما وضع أحدهم يده فوق كتفك فجأة، سترتجف إذا ما دعاك أحدهم إلى فنجان بَوح، ستغفو مع ألف كابوس وتستيقظ مع ألف وخزةٍ في الضّمير، ثمّ ستستفيق، عارٌ عليك إن لم تستفق ممّا فعلت، ستغيّر النّهج المتّبع، لكنّك لن تعود كما كنت، فما قد فعلته لن يمحوه الوقت بسهولة، لكنّ الاستفاقة خيرٌ من السّبات الأخير. ثمّ إن قرّرت دخول الباب الآخر، فإنّك ستفهم أنّ كلّ شيء مقدّر لما فيه الخير، فهمته أم لم تفهمه، فهذا الكون ليس مباراةٍ ودّيّة بين البشر، إنّه دورةٌ كبرى يراقبها إلهٌ عظيم. حسنًا، سأخبرك بأنّك لن تختار الباب الثّاني إلا بعد الدخول من الباب الأوّل، لأنّ درب إعادة إثبات الذات سيتفوّق دومًا على درب التسليم، وحين تعود إلى الباب الثاني، أنت تعود نظيفًا، لكنّ القلق الذي حملته معك لن يفارقك ما دمت حيًّا، لا تحزن، إنّها الحياة.

خلف الباب أمنية، جرّب أن تتركها بعض الوقت، أرح نفسك من حملها قليلًا، ستجد أنّ أكثر ما يؤلمك هو موجود ولن يغيّر حملك الزائد له من قدره، أنت تسعى وحين تصل إلى مرحلة التسليم، لن يكون عليك إلا التفكير بشيء آخر، ولكي أريحك قليلًا، ارتدِ قلقًا جديدًا، ما أكثر القلق في حياتنا!

هل جرّبت أن تحسّ بضيقٍ في صدرك، ضجرٍ يتملّكك في لحظةٍ فيهدّ كيانك؟ هل جرّبت أن تركض من أجل كلّ الأشياء في لحظة ثمّ تجلس كأنّ لا شيء يثير اهتمامك؟ هل جرّبت أن تغمرك سعادةٌ مفاجئةٌ تجاه كلّ شيء، ثمّ تشعر بانطفاءٍ غير مفهوم؟ إنّه القلق، لا تفتّش عن السيطرة عليه، بل امشِ بقربه، صادقه، تحدّث معه، جنّ معه، ما أجمل المجانين! عبّر عن هذا القلق بأغنية، بصلاة، بقصيدة، بنص، عبّر عنه بلوحة، عبّر عنه، أنت لست شجرة.

القلق يحيا بيننا وفينا ومنّا وبنا، لا خوف علينا ما دمنا قلقين، وكلّ الخوف ما هدأنا ولبسنا السكون رداءً، فالخطّ الثابت في غرفة العمليات يدلّ على شيءٍ واحد لا غير: فقدنا الحياة.

سعاد عبد القادر القصير (باحثة وكاتبة من لبنان)

ملّ القلقُ من قلقي!

أحيي اليوم الذّكرى التّاسعة لولادة الموت، تسع سنوات عجاف، مرّت وما زلت أنتظر السّنابل أن تُعيد نثر حبّاتها على أرضي التي شقّقها الجفاف. تسع سنوات وكأنّ الوقت لم يمرّ، فالزّمن أحيانًا يتوقف في طريق الحياة، لا الماضي يعود، ولا المستقبل واضح، والحاضر يرمي بشظاياه على الرّوح، حتى يصيبها بندوب نداريها بابتسامات باردة، ويمرّ العمر.

كلّ شيء في الحياة يمرّ، إلّا الشّوق يزرع فينا طعمه المرّ، ومهما سكبت السّنين من رحيقها في كأس أيامنا، نفقد حاسّة الذّوق، فلا تعود الشّراهة على الحياة بعد الفقد كما قبله، تهتزّ الرّوح، وتتقطّع أنفاس العمر فوق القبور الحاضنة للمهاجرين.

في الحقيقة لم أتحضّر لهذه اللّحظة، رغم أنّي شعرت بقدومها قبل مدّة قصيرة من سقوطها واقعًا في حياتي. قبل تلقّي الخبر بأشهر قليلة، كان جالسًا على الكنبة، فجأة سمعت صوت شخير قويّ، وصمت مرعب، توجّهت نحوه بخطوات مثقلة، والخوف يتسلّل إلى بنوّتي المدلّلة، ما مصيري بعده؟ أتراه غادرني من دون وداع؟ حاولت إيقاظه بصوت مختنق وكأنّي لا أريده أن يستيقظ، وقناعتي بأنّه نائم تسندني ألّا أنهار.

أبي! يا أبي! إلى أن شعرت بالقلق يعزف على حبال أوتاري، صوتي يرتجف، وكاهلي هشّ، انفجرت أمامه: لماذا غفوت هكذا؟ (قطعتلي قلبي!)، فضحك ضحكة فيها خوف عليّ لا ينتهي، يا ابنتي! تحضّري ليوم الفراق الطّويل، فهو آت لا محالة، فالموت هو حقيقتنا الوحيدة، هو الرّداء الذي لا هروب منه!

صبرًا جميلا! ولكنّ الصّبر لا يلغي القلق، كنت على يقين أنّ الله لا يترك عباده، ولكنّني بشر، يتعلّق قلبي بمن أحبّ. ومنذ تلك اللّحظة وأنا أعيش قلق الفقد، إلى أن حلّت عليّ لعنته، وانتهى قلقي تجاهه ليتحوّل تجاه كلّ من تولّع بهم قلبي، حتى ملّ القلق من قلقي.

أكثر ما يخيفنا أن تمشي الحياة باتّجاهٍ عكس توقّعاتنا، وليس الجميع يمتلك قدرة التّأقلم، وليس الجميع بقادر على حمل باقة ورد يعفّ عبقها في الطريق الجديد، فالبعض يبقى سجين قلقه، وخوفه، وهالة المجهول ترمي بسهامها على ضعفه، أتراني أنجح؟ أتراني سأشتاق؟ أترى الحياة ستنصفني؟ أتراني أحيا من بعدهم؟

يقول "غسّان كنفاني": "قد لا يكون الموت بتوقّف النبض فقط، فالانتظار موتٌ، والملل موتٌ، واليأس موتٌ، وظُلمة المستقبل المجهول موت. يحمل البعض الموت معهم في نعش من التّوتر والخوف، فكيف نعتاد؟".

غاب أبي، وغابت معه طفلته المدلّلة، ماتت أجزاء منّي، ولم يبق إلّا امرأة صلبة تحمل معها نعش القلق وبذور الحياة، كلّ في كفّة، والميزان ليس ثابتًا في يدي.

بدر شحادة (باحث في الشؤون التاريخيّة والاستراتيجية)

القلق الوجودي والوعي الجمعي.. من الشعر إلى السياسة

لا شكّ أنّ الواقع الذي نعيشه اليوم - بما فيه من عموميات وجزئيات - يُثير القلق ويستدعي التأمّل والتمحّص فيما يحدث من حولنا، فليس القلق مجرّد انفعالٍ عابرٍ تذروه الرياح، بل قد يكون عاصفةً تقتلعُ معها كلَّ أملٍ وحلم.. إذا ما تُرك بلا بوصلة.

ولكن هل هناك قلق محمود وقلق عقيم؟

أمّا "القلق المحمود"، كما أحبُّ أن أسمّيه، فيُثمر وعيًا جمعيًّا، يوحّد المشاعر ويقوّي الإرادة، مثل قلق الأمّ على أبنائها الذي يدفعها لحمايتهم، أو قلق الطالب من الامتحان الذي يُحفّزه على الاجتهاد والعمل. وهذا القلق البنّاء الذي لا يثني رغم التعب..

وقد عرف التاريخ لحظاتٍ فارقة تجسّد فيها هذا القلق: "المحمود" كقوّة دفع نحو الإنجاز، فعقب نكسة 1967م، مثلاً، تحوّل القلق العربي في بعض الدول إلى مشروع لإعادة بناء القوة، فبرز عام 1973م ما يُعرف بحرب أكتوبر كاستجابة لتلك الصدمة، وهو نصر جزئيّ أعاد لبعض الشعوب مناعةً نفسية وثقةً سياسية، وإن لم يكن نصرًا شاملاً في كلّ الأبعاد.

غير أنّ القلق إذا اقتصر على الشكوى دون فعل، صار هادمًا للأمن، مبدّدًا للثقة، ولحنًا عذبًا للعدوّ المتربّص يتلذّذ بسماع جملته: أعرب عن قلقه. فالقلق العقيم يفتك بالبنية الداخلية للمجتمعات أكثر ممّا تؤذيه الهجمات الخارجية.

من هذا المنظور، فإنّ الأدبَ العربي غنيٌّ بتراتيل القلق المحمود، التعبير الشعري الذي يكشفُ ما في النفوس من ألمَين؛ الألَم النفسي والقلق الوجودي. "جبران خليل جبران" مثلاً وصف نفسه بأنه "روح قلقة"، يقول عنه أحد الكتّاب: "روح قلقة هادئة السطح، عنيفة الأعماق، كثيرة الأمواج…"، تلك المشاعر.. تجمع بين ما هو واقعيّ مرير وما هو مثاليّ مؤجّل. وفي قصيدة له "ليس في الجو اعتدال"، يقول:

ليس في الجو اعتدال -- هو قرّ ثم حرّ

هو حال ثم حال -- هو حرّ ثم قرّ

كل من تلقاه يشكو -- عِلّتي حلقٌ وصدرُ

والأذى ما فيه شكّ -- جاءه من حيث يدري

هذه الأبيات تعبّر عن قلق دائم، لا يهدأ، يركّز على التناقض بين الهدوء الظاهر والعاصفة التي لا تنتهي في الداخل، بين الحالة والحالة، بين التبدّل والقلق. هذا القلق إذا ما استُثمر في فهمٍ ذاتي وجماعي فقد يكون مدخلًا للتغيير، أما إن بقي في دائرة الحزن واليأس فأثره ينهش من الداخل.

القلق لا يكون محفّزًا إلا إذا ارتبط بالوعي الجماعي والحضاري، وتحوّل من انفعال إلى فعل، من إحساس إلى مشروع. وهو إمّا أن يكون سياجًا للأمن القومي إذا أُحسن توجيهه، وإما أداة هدمٍ للسلام إذا تُرك من دون بوصلة.

د. بسيم عبد العظيم عبد القادر (شاعر وناقد أكاديمي، كلية الآداب ـ جامعة المنوفية، رئيس لجنة العلاقات الخارجية باتحاد كتاب مصر)

الثقافة والإبداع في عصر القلق

هذا هو موضوع العصر بل موضوع الساعة، وقد جاء في وقته فإنَّه يُقال عن عصرنا إنّه "عصر القلق"، وتلك مقولة تتردَّدُ في الأدبيات الفكرية والنفسية والاجتماعية منذ منتصف القرن العشرين، وازدادت رسوخًا في العقود الأخيرة مع تسارع التغيُّرات العالمية في مجالات الاقتصاد والسياسة والتكنولوجيا والثقافة، فلم يعد القلق مجرّدَ انفعالٍ داخليٍّ يعيشه الفرد في لحظاتٍ مُحدَّدةٍ من حياته، بل صار مزاجًا عامًّا يخيِّم على المجتمعات، ويتجلَّى في سلوك الأفراد والجماعات على حدٍّ سواء، ونحن أمام قلقٍ يفتك بالصدور، ويُربك العقول، ويجعل الإنسان دائمَ العجلة كأنَّه يركض نحو غاية لم يُحدِّدها بعد، وما نراه في العامين الأخيرين من حروب طاحنة ومظالم إنسانية وأخلاقية، وقتل وتجويع وترويع ومحاولة للتهجير والتشريد لأصحاب الأرض في غزّة خصوصا وفلسطين عموما لهو خير دليل على ما نقول.

الإنسان المعاصر يعيش حالة من التوتر المزمن

ونظرا لفقدان الثقة في استقرار العالم، والخوف من المستقبل، والضغوط الاقتصادية، والانغماس في الاستهلاك، والانفصال المتزايد عن الطبيعة وعن الذات العميقة، وأمام هذا الواقع، تُطرح أسئلةٌ ملحَّة: هل حقًّا نعيش في "عصر القلق"؟ وما دور الثقافة والإبداع في مواجهة هذه الحالة؟ هل وظيفة الكاتب والفنان أن ينقل إلينا القلق كما هو، أم أن يمدّنا بجرعات من الطمأنينة والأمل؟ ثمّ: هل للتكنولوجيا وما صاحبها من خللٍ في التوازن بين الروح والمادة دور في تغذية هذا القلق الكوني؟ وأخيرًا، هل يمكن التحرُّرُ من هذا الاستعمار الروحي الذي يُخضع وجدان الإنسانية لقوى السوق والآلة؟

هذه الأسئلة ليست ترفًا فكريًّا، بل هي صميم معركتنا الإنسانية اليوم، ومن هنا تأتي أهمية البحث في علاقة الثقافة والإبداع بعصر القلق، كخطوة في طريق استعادة التوازن الروحي والوجودي للإنسان. وسنحاول قدر الإمكان وسط هذه الصراعات والتوترات والقلق الوجودي أن نلمّ بهذا الموضوع ونلمس بعض جوانبه.

القلق من الناحية النفسية والاجتماعية

يُعد القلق مفهومًا محوريًّا في علم الأمراض النفسية، حيث يرى العديد من المؤرخين أنَّ القرن العشرين هو عصر القلق، ومن وجهة نظر علم النفس المرضي، يقع اضطراب القلق في قلب الاضطراب النفسي.

تعريف القلق

القلق هو شعور عام بالخشية أو التوجّس من أنَّ هناك مصيبة على وشك الوقوع، وغالبًا ما يرتبط هذا الشعور بالتوتر والشدة أو الخوف الذي لا مسوغ له من الناحية الموضوعية، إنه يتضمن استجابة مفرطة ومبالغاً فيها لمواقف لا تمثل خطرًا حقيقيا.

• تعريف د. أحمد عكاشة: عرّف القلق بأنه شعور عام غامض غير سار بالتوجس والخوف والتحفز اللاإرادي، ومصحوب عادة ببعض الإحساسات الجسمية، خاصة زيادة نشاط الجهاز العصبي اللاإرادي.

• أعراض القلق الجسمية: تشمل هذه الأعراض الشعور بالفراغ في فم المعدة، والضيق في التنفس، ونبضات القلب، والصداع، وكثرة الحركة، وقد يأتي القلق في نوبات متكررة.

التمييز بين القلق والخوف (من الناحية النظرية)

القلق يختلف عن الخوف في أن الخوف (Fear) يمثل استجابة لسبب معروف، بينما القلق (Anxiety) هو حالة مرضية تتّسم بالشعور بالتوجس مصحوب بفرط نشاط الجهاز العصبي الذاتي، دون الحاجة إلى سبب معروف واضح.

الأبعاد النفسية للقلق (السمة والحالة)

هناك فرق بين القلق كحالة مؤقتة وكسمة مستديمة في الشخصية:

القلق كحالة (State Anxiety)

- يُستخدم لوصف حالة انفعالية غير سارة مؤقتة وموقفية.

- تتميز بمشاعر ذاتية من التوتر والخشية والكدر، وتنشيط للجهاز العصبي المستقل.

- تحدث عندما يدرك الشخص موقفًا معينًا أو منبهًا بأنه يمثل خطرًا أو تهديدا.

القلق كسمة (Trait Anxiety)

- يشير إلى فروق فردية ثابتة نسبيًّا في الشخصية (تهيؤ، استعداد، ميل).

- سمة القلق هي حالة دائمة مرتبطة بالشخص، على عكس حالة القلق المؤقتة والمرتبطة بالموقف.

- الأفراد ذوو الدرجة المرتفعة في سمة القلق (كالعصابيين مثلاً) يكونون أكثر قابلية لإدراك العالم على أنه خطر ومهدد.

الأسس النظرية المفسرة للقلق

تتعدد المدارس التي حاولت تفسير نشأة القلق، وتشمل:

1. الإطار التحليلي النفسي:

- يرى التحليل النفسي أن القلق ينتج عن الصراع بين الهو (Id) والأنا الأعلى (Superego) والكبت.

2. الإطار السلوكي:

- يفسر المخاوف (Phobias) في إطار التعلم والتجربة (مثل تجربة واطسون).

3. العوامل البيولوجية والوراثية:

- تشير العديد من الدراسات إلى الدور الذي تلعبه الوراثة في القلق.

- وُجد أن نسبة القلق لدى التوائم المتشابهة تصل إلى 50 بالمائة، بينما تصل لدى التوائم غير المتشابهة إلى 13 بالمائة.

- في اضطراب القلق العام (GAD)، وُجد أن نسبة حدوثه لدى أقارب الدرجة الأولى تصل إلى 25 بالمائة.

اضطراب القلق العام (GAD)

يُعدّ اضطراب القلق العام أحد الأمثلة الرئيسية، ويتسم بـ:

• قلق وانزعاج شديد ومزمن (توقع إدراكي) يدور حول عدد من الأحداث أو النشاطات لمدة لا تقل عن ستة أشهر.

• يجد الشخص صعوبة بالغة في السيطرة على انزعاجه وتوتره.

• يرتبط القلق بثلاثة من ستة أعراض، مثل: سهولة الشعور بالتعب والإرهاق، وصعوبة التركيز، وسرعة الاستثارة، والتوتر العضلي.

• الآثار الاجتماعية والمهنية: يجب أنْ يؤدي القلق إلى اختلال ملحوظ في الوظائف الاجتماعية أو المهنية.

الرهاب الاجتماعي (Social Phobia / Social Anxiety Disorder):

يبرز هذا الاضطراب البعد الاجتماعي للقلق:

• الخوف المحوري: هو الخوف من الوقوع محل ملاحظة من الآخرين، مما يؤدي إلى تجنب المواقف الاجتماعية.

• الخوف من النقد: غالبًا ما يصاحب الرهاب الاجتماعي خوف من النقد وتقييم ذاتي منخفض.

• التجنب: يتم تجنب المواقف الاجتماعية التي تثير القلق، أو تحملها على مضض وقلق شديدين.

• النتائج الاجتماعية: يؤدي هذا التجنب إلى اختلال في الجانب الاجتماعي أو الوظيفي للشخص.

الجوانب الاجتماعية والسلوكية للقلق:

• تجنب الاسترخاء والعزلة الاجتماعية: قد يدفع القلق الشديد الشخص إلى تجنب وقت الراحة أو الخروج مع الأصدقاء بسبب توتره المستمر، وشعوره بأنه "على أهبة الاستعداد لشيء سيء سيحدث".

• التأثير على العلاقات الشخصية: قد يؤدي القلق المفرط إلى إجهاد العلاقات، حيث قد تضطر المريضة مثلا إلى سؤال صديقاتها وأفراد عائلتها كثيرًا حول مظهرها ومخاوفها لدرجة أنهم يشعرون بالضيق والانزعاج منها.

الانتشار (البعد الاجتماعي والوبائي)

تتعدد نسب انتشار القلق، وتظهر فوارق بين الجنسين:

• يصيب اضطراب القلق العام ما بين 3 بالمائة إلى 8 بالمائة من السكان في أي وقت.

• الفروق بين الجنسين: نسبة إصابة الإناث إلى الذكور تعادل 2:1 في اضطراب القلق العام.

• يُعزى تزايد المرض لدى النساء مقارنة بالرجال إلى تعرّض النساء لألوان من الضغوط أكثر من تلك التي يتعرض لها الرجال.

• تشير دراسات إلى أنَّ القلق النفسي يعاني منه حوالي 20 بالمائة من جميع المرضى المترددين على عيادة الطب النفسي، وهي أعلى نسبة مقارنة بجميع الأمراض المختلفة.

ماهية القلق في السياق الإنساني

القلق بوصفه حالة وجودية: القلق ليس مجرّد عرض نفسي مرضي كما في الحالات الطبية، بل هو في جوهره إحساس وجودي يرافق الإنسان منذ وُجد على هذه الأرض، فالفلاسفة الوجوديون مثل "كيركغارد" و"هايدغر" و"سارتر" تحدّثوا عنه بوصفه "قلق الحرية"، أي الشعور بالمسؤولية الثقيلة أمام خيارات الحياة المفتوحة، فالإنسان يعرف أنّه كائن فانٍ، وأنَّ العالم لا يمنحه إجابات جاهزة، فيعيش قلقًا دائمًا أمام المجهول.

الفرق بين القلق البنَّاء والمدمِّر

يمكن التمييز بين نوعين من القلق:

• قلق بنّاء: يدفع الإنسان إلى العمل والإبداع والبحث عن المعنى.

• قلق مدمّر: يشلّ الإرادة، يزرع الخوف، ويقود إلى الاكتئاب أو العدوانية.

والمجتمعات التي تنجح في تحويل قلقها الجمعي إلى طاقة إبداعية، تُنتج فنونًا عظيمة وفلسفات عميقة، بينما المجتمعات التي يستبدُّ بها القلق السلبي تُدمَّر من الداخل وتفقد ثقتها في المستقبل.

انعكاس القلق على السلوك الاجتماعي

في عصرنا، نرى القلق يتجلَّى في ظواهر عديدة:

• الاندفاع نحو الاستهلاك المفرط.

• البحث المحموم عن الترفيه السريع.

• ازدياد نسب الأمراض النفسية.

• ضعف الروابط الاجتماعية التقليدية.

• خوف متزايد من المستقبل البيئي والاقتصادي والسياسي.

وبهذا المعنى، فإنَّ القلق المعاصر ليس مجرَّد تجربة فردية، بل حالة حضارية كاملة.

الثقافة والإبداع بين مرآة القلق ودوائه

الثقافة ـ بمفهومها الواسع ـ تشمل الآداب والفنون والفكر والمعارف التي ينتجها الإنسان للتعبير عن نفسه وفهم العالم.

أمَّا الإبداع فهو الطاقة الداخلية التي تمكّن الفرد من تحويل مشاعره وتجربته إلى شكل جمالي أو معرفي.

الإبداع كمرآة للقلق

منذ بدايات الأدب، كان القلق موضوعًا أساسيا:

• في التراجيديا الإغريقية، عبّر الشعراء عن خوف الإنسان من القدر والموت.

• في الأدب العربي القديم، يظهر قلق الاغتراب والبحث عن المعنى في وقوف الشاعر الجاهلي على الأطلال، كما يظهر في الشعر الصوفي.

• في الرواية الحديثة، مثل أعمال "كافكا" أو "دوستويفسكي"، نجد تصويرًا عميقًا لقلق الإنسان أمام السلطة والعبث والحرية، كما يظهر في نتاج كبار الكتاب مثل طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم وأديب نوبل نجيب محفوظ وغيرهم، ولعل روايات مصطفى محمود وكتاباته في الفترة الأولى من حياته تمثل هذا العصر خير تمثيل.

وبهذا المعنى، فإنَّ الإبداع يلتقط مشاعر القلق ويُحوِّلها إلى رموز وصور ومعانٍ، فيصبح مرآة لروح العصر.

الإبداع كدواء للقلق

لكن الإبداع لا يقتصر على نقل القلق، بل يمنح القارئ أو المشاهد إمكانية مواجهة هذا القلق وفهمه، فالفن العظيم لا يتركك في العدم، بل يفتح لك بابًا نحو التأمل، وربما الطمأنينة. والموسيقى الهادئة، واللوحة الجميلة، والرواية العميقة.. كلّها وسائل لمصالحة الإنسان مع ذاته.

أمثلة عربية

• نجيب محفوظ صوّر قلق المصريين في مرحلة التحوّلات الكبرى، لكن رواياته حملت أيضًا رسائل أمل.

• محمود درويش حَوَّل القلق الجمعي للشعب الفلسطيني إلى شعر يُعبِّر عن الوجود والمقاومة والجمال.

إذًا، الثقافة ليست فقط انعكاسًا للقلق، بل أيضًا وسيلة لمعالجته وتجاوزه.

رسالة الكاتب والمبدع

بين التعبير والتهدئة: هل مهمة الكاتب أن يكتب عن القلق كما هو، أم أن يبعث الطمأنينة؟ الجواب ليس أحاديًا، فالكاتبُ الحقُّ يوازن بين نقل الحقيقة وبين اقتراح أفق بديل، فالتعبير عن القلق ضروري لفهم الذات، لكن التوقُّف عنده فقط قد يُكرِّس اليأس.

المبدع كمرشد روحي: في الأزمنة القديمة، كان الشعراء يُنظر إليهم بوصفهم أنبياء صغار، يحملون رسائل للناس، واليوم، يمكن القول إنَّ الكاتب والفنان يؤديان دور المرشد الروحي في مجتمع فقد البوصلة، فالإبداع الحقيقي هو الذي يفتح الطريق أمام الوعي لا أنْ يغلقه.

وظيفة الطمأنينة: من واجب المبدع أنْ يساعد الناس على إيجاد التوازن، لا بوعظ مباشر، بل بخلق عوالم جمالية تُحرِّك الوجدان وتعيد إليه الثقة.

الفنون كأدوات لمواجهة القلق

الأدب: الرواية والقصة القصيرة والشعر والخاطرة والمقال، كلها فنون أدبية تمنح الإنسان مساحة للتعبير عن مشاعره الدفينة، لأنَّ القراءة بحدّ ذاتها فعل تهدئة، فهي تُخرج الفرد من ضيق تجربته إلى رحابة تجارب الآخرين، وقد بلغ الأمر حدَّ العلاج بهذه الفنون وبخاصة الشعر.

٢الموسيقى: أثبتت الدراسات أنَّ للموسيقى أثرًا علاجيًا على القلق والتوتر، فهناك ألحانٌ معيّنة تساعد على خفض نبض القلب وتنظيم التنفّس، ومن هنا جاء ما يعرف بالعلاج بالموسيقى.

السينما والمسرح: يجد المشاهد في العمل السينمائي أو المسرحي انعكاسًا لهمومه، لكنه يخرج أيضًا بتجربة جمالية تعيد صياغة تلك الهموم، وهو ما يعرف منذ القدم بالتطهير.

الفنون البصرية: كالرسم والتصوير والنحت تتيح للإنسان التعبير غير المباشر عن القلق، وتحويله إلى شكلٍ ملموس يمكن النظر إليه وفهمه.

فالفنون ليست ترفًا، بل أدوات ضرورية لحماية الصحة النفسية للمجتمعات.

التكنولوجيا والقلق الروحي

الإدمان الرقمي: شبكات التواصل الاجتماعي جعلت الإنسان في حالة حضور دائم، لكنه حضورٌ سطحيٌّ ومجزَّأ، وهذا يولّد قلقًا ناتجًا عن المقارنة المستمرة والضغط للتجاوب.

فقدان المعنى: هيمنة المادة والاستهلاك تجعل الإنسان يعيش فراغًا روحيًا، فبدل أنْ يكون امتلاك الأشياء وسيلة للعيش، صار غاية بحد ذاته، فصار الإنسان مستهلكا، وخصوصا في الدول النامية أو ما يسمى بدول العالم الثالث.

استعمار الروح: يمكن وصف هذا الوضع بأنَّه "استعمار روحي" بالسيطرة على مشاعر الإنسان ووقته وخياله عبر التكنولوجيا والإعلانات والخوارزميات، فلم يعد الاستعمار عسكريًا فقط، بل صار وجدانيًّا، وقد صار ذلك ملاحظا خصوصا في أجيال الشباب والمراهقين، وقد تجاوز الأمر ذلك فوصل إلى الأطفال وكبار السن.

سبل التحرر من الاستعمار الروحي والوجداني

العودة إلى القيم الإنسانية: فالصدق، والمحبة، والعدالة، والكرامة.. كلها قيمٌ يجب أن تُستعاد كمحرّك أساسي للحياة، بدل الماديات البحتة.

تعزيز ثقافة الحوار: يقلق الإنسان حين يشعر بالعزلة، فالحوار الحقيقي مع الآخر يفتح أبواب الطمأنينة، فالإنسان كائن اجتماعي، تستبد به الوحشة وتكاد تقتله العزلة، ولهذا كان السجن الانفرادي من أقسى ألوان التعذيب النفسي.

التربية الثقافية والفنية: ينبغي أن يصبح تعليم الفنون جزءًا أساسيًّا من التربية، لا مادة ثانوية، فالثقافة والفنون تتيح للجيل الجديد آليات صحية للتعبير عن ذاته.

إعادة الاعتبار للروح: من خلال التأمل، والفلسفة، والقراءة، والعودة إلى الطبيعة.. فهذه كلها وسائل لإعادة التوازن بين الروح والجسد.

ويمكننا بإيجاز أن نقول: نعم، نحن نعيش في عصر القلق، ولكن القلق ليس قدرًا محتومًا، بل تجربة إنسانية يمكن تحويلها إلى طاقة بنّاءة، وأنَّ والثقافة والإبداع هما المفتاح، فالمبدع حين ينقل قلقه لا يزرع اليأس، بل يتيح لنا أن نفهم أنفسنا ونواجه خوفنا، والفن حين يعكس اضطراب الروح، يمنحنا أيضًا مساحاتٍ للطمأنينة والجمال.

وقد أسهمت التكنولوجيا والهيمنة المادية في تفاقم القلق، لكنّها ليست نهاية الطريق، فالتحرر ممكن عبر استعادة التوازن بين الروح والجسد، وبين القيم والمعرفة، وبين الثقافة والاستهلاك.

إنّ رسالة الثقافة في عصر القلق ليست فقط أن تكون مرآة لاضطرابنا، بل أنْ تكون أيضًا جسرًا نحو طمأنينتنا.

ومهما بدا العالم قاسيًا ومضطربًا، يبقى الإبداع الإنساني هو الملاذ الأخير، والبرهان على أنّ الروح لم تُهزم بعد.

ولعل الدين الإسلامي الحنيف وتعاليمه في شتى مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، وتنظيمه المحكم لشؤون حياة الفرد والمجتمع من جهة وبين المجتمع المسلم وغيره من المجتمعات، هو السبيل الوحيد لإنقاذ البشرية من التيه الذي تتخبّط فيه، وهو الوسيلة للتخلص من القلق الذي تعاني منه البشرية اليوم.

سحر قلاوون (كاتبة من لبنان)

هل يقتل "عصر القلق" إبداع الكاتب؟

ممّا لا شكّ فيه أنّنا نعيش في عصر يمتلئ بالصعوبات ويعجّ بالأزمات، حتّى بتنا نشعر بالتوتّر بشكل دائم. أطبّاء، مهندسون، معلّمون، فنّانون... الجميع، الجميع من دون استثناء، ومهما اختلفت مهنهم وأموالهم وطرق عيشهم، يعيش في ظلّ توتّر لا يعرف إلى الانتهاء طريق.

ولا يمكننا هنا ادّعاء أنّنا لا نعرف سبب التوتّر والقلق، فالأزمات عالميًّا ومحليًّا لا تنتهي، بل إنّها في تجدّد مستمرّ، من حروب وأوبئة وصراعات وأزمات داخليّة وخارجيّة وصراع هوّية وصدام بين الشعب والحكّام وغلاء أسعار وارتفاع معدّلات الجريمة والتّسرّب المدرسيّ وعمالة الأطفال والتّعنيف. هذه الأزمات وغيرها الكثير باتت تشكّل هويّتنا، فنحن مثلا في لبنان، يستطيع المواطن منّا أن يقول للعالم:

- مرحبا، معكم مواطن أزمة البنزين.

ليردّ عليه آخر قائلا:

- مرحبا، أنا مواطن أزمة ارتفاع سعر صرف الدولار.

أما الأجيال الجديدة، فحدّث ولا حرج، فهذا مولود جائحة "كورونا" وذاك مولود أزمة فقدان الخبز. والبيئة التي يعيش فيها الأطفال حاليا لا يمكن اعتبارها بيئة آمنة لهم، فهي تجعل القلق يكبر معهم.

والآن لنتحدّث عن قسم من الناس، وهم "الكتّاب"، هؤلاء الذين يشعرون بمعاناة الجميع ويتأثّرون بكلّ الأشياء من صغيرها إلى كبيرها وينزف قلبهم دمًا حين يرون نقطة دم تسيل من أحدهم.

إنّهم فئة من فئات المجتمع الحسّاسة، فهم يرون الحقيقة كما هي، ويتألّمون كلّما شاهدوا فظاعتها وقساوتها ويحاولون من خلال كلماتهم تغيير ما ينبغي تغييره، وكم من كاتب مات وهو يدعو العالم إلى تغييرٍ ما! فأن تكون كاتبًا لهو شرف عظيم، لكنّه في الوقت نفسه عذاب مرير وصراع دائم مع النفس والآخر.

فمن يلقي نظرة من بعيد على المشهد، قد تفوته الكثير من التفاصيل الجوهريّة، إذ إنّ من يتأمّل كاتبًا وهو يمسك بقلمه ليكتب كلماته على الورق، يكتفي عند هذا الحد من الرؤية، لكنّ الحقيقة هي أن الكاتب يكون في حالة صراع داخلي لا تُرى من الخارج.

وبما أنّ الكتابة هي حرب على الورق من جهة، وبما أنّنا نعيش في عصر القلق الذي يجعلنا جميعنا نغلي من الداخل، أجدني في أمسّ الحاجة إلى طرح هذا السؤال، وهو: هل يقتل "عصر القلق" إبداع الكاتب؟

إنني وبكلّ صراحة أخاف على الكتّاب المبدعين من أن يقتل عصر القلق قدراتهم على الإبداع، فيتخلّون ربّما عن أوراقهم وأقلامهم معتزلين الكتابة، لعلّهم يجدون في هذا الأمر القليل من الراحة المفقودة في هذا الكون.

لكنّ الواقع، أو الأصحّ، التاريخ يخبرنا بأن الأزمات ليست وليدة اليوم أو البارحة، وحتى أنّها ليست ابنة عشر سنوات أو أكثر بقليل، بل إن التاريخ حافل منذ الأزل بأزمات كبرى وصغرى قضت على من قضت عليه ونجا من نجا منها. ومع ذلك نجد أسماء كثيرة لمبدعين عاشوا في تلك الأزمنة، وأبدعوا بكتاباتهم. وهذا يعني أن عصر القلق هذا ليس بمقدوره أن يقضي على الإبداع إلا إن حكَمَ الكاتب على إبداعه بالإعدام.

لذلك علينا جميعنا أن نواصل دعمنا لكل كاتبٍ نراه يتحلّى بإبداع حقيقيّ قد يسهم في ولادة أعمال أدبية جديدة تستحقّ أن تُقرأ وأن تُضاف إلى المكتبة العربية والعالمية.

عدوية موفق الدبس (باحثة وكاتبة سورية - لبنان)

أمّة "اِقلق"!

نهاية كلّ عام ميلادي، وفي ليالي ديسمبر الباردة، وقبل أن تدق عقارب الساعة معلنة بداية عام جديد، يجلس معظم الناس - إلا من رحم ربي - قرب شاشات تُزيّنها أضواء الاحتفالات، تنقل لهم أبراجًا وتوقّعات: من يتوافق مع من؟ هل للحب نصيب في برج السرطان أو الميزان؟ وكيف تجذب رجل الجوزاء؟ وغير ذلك من الخرافات التي تقتات على القلوب القلقة. وفي الوقت نفسها تتزاحم الأخبار السياسية والكوارث الطبيعية، والجميع يتابع مشدودًا، وكأنهم يجدون في هذا الترقّب متعة مريبة.

نحن أمّة تبحث عن القلق كل عام. نستدعيه متعمّدين، نفتح له أبوابنا كضيف شرف. نتنفّسه مع العدّ التنازلي ونقول: "يا رب سلّم، يا رب لطفك" من كارثة لم تقع بعد، من حرب لم تبدأ، من اغتيال لم يُنفّذ. ولكي نثبت أننا كنّا على حق في مخاوفنا، نستحضر نكَد الأعوام الماضية، ونرفع إصبعنا في وجه أنفسنا قائلين: "ها قد وقع ما خشيناه. لقد كنّا على صواب!".

لكن هل اختبرت يومًا حاسة الأمّهات السادسة؟ ذلك القلب الذي لا يهدأ، يرى في صمتك ألمًا، وفي هدوئك عاصفة. تحدّق في عينيك وتقول: "هل هناك ما تريد أن تخبرني به؟"، ثم تبدأ بسرد حكاية عن شخص مجهول صمت أمام أمّه، فحلّ به مكروه لأنه لم يتكلم. أيّ يقين هذا الذي يزرع الخوف قبل أن يقع الخطر؟

حتى الأشياء الصغيرة نصنع منها فواجع. كوب بسيط على الطاولة، تراه يلمع أمامك، لكن في كل رَشفة يأتي الصوت: "انتبه، سينكسر". ومع الإلحاح ينكسر أخيرًا، فيعلو صوت المنتظر الواثق: "ألم أقل لك؟ لقد شعرتُ أنه سينكسر". هكذا نصنع نبوءاتنا بأيدينا، نكرّس القلق حتى يصبح حقيقة.

نحن نعيش على كوكب القلق. نخشى السلام لأنه يبدو مشبوهًا، نخشى اللطف فنظنه تمثيلاً، نخاف الراحة ونفسّر السعادة على أنها فخّ. نضحك من قلوبنا ثم نكبح الضحكة بقول: "الله يجيرنا من شرّ هذا الضحك". نرى الخير في المصائب ونقول: "أكيد فيها خير". أيّ تناقض أعظم من أن نشكك في النعمة ونطمئن إلى النقمة؟

لا ألومكم ولا ألوم نفسي. من اعتاد القلق ظنّ الطمأنينة كمينًا. لم نولد قلقين؛ الطفل لا يعرف القلق، قد يرمي نفسه من نافذة دون إدراك، يعانق النار بفضول، ينام في أيّ مكان ببراءة، أو يذهب مع يدٍ ممدودة إليه دون خوف. القلق لم يُزرع في قلبه بعد. ولعلّ الكبار يحسدون الصغار على هذه البراءة، على ذلك الصفاء الخالي من الاحتمالات القاتلة.

هل جرّبت ذلك الشعور حين يهاجمك الشك في أبسط الأمور؟ خرجتَ مسرعًا إلى العمل، وفجأة داهمك ظنّ أنك لم تفصل المكواة. في لحظة يتحوّل عقلك إلى مخرج سينمائي يفتعل سيناريوهات مرعبة: منزلك تحوّل إلى رماد، النيران أكلت كل شيء. فتعود مهرولاً، لتكتشف أنك لم تلمس المكواة أصلاً. أو حين ترتاب أنك لم تُقفل الباب جيدًا، فتصبح أسيرًا لوهم يلتف حولك كالأفعى.

ألم تتذكر قلقك في أول امتحان رسمي؟ كيف نقلت اسمك من بطاقة الترشيح وأعدت النظر عشر مرّات لتتأكد؟ كنت تخشى أن تخطئ في كتابة اسمك أكثر من خشيتك أن تفقد ذاكرتك وتنسى ما درست شهورا!

لقد قلقنا من فقدان وظائف، من خسارة علاقات فاشلة، من صداقات سامة امتصّت أرواحنا. وحين خسرناها أخيرًا، وقفنا مذهولين: لماذا حملنا كل ذلك العبء؟ كيف جعلنا من شيء مريض حملاً ثقيلاً نخاف خسارته؟

لكن الأدهى أن تقلق من نفسك: من قلبك على قلبك، من ردّات فعلك الباردة، من عينيك الجامدتين، من نفسك التي لم تعد تشبهك. أن تقف أمام المرآة غريبًا عن نفسك، تتساءل: "ما بي؟ لِمَ لا أتأثر؟ لِمَ أستقبل كل شيء بصمتٍ مريب؟"، هنا عليك أن تقلق فعلاً، لأنك لم تعد بخير.

وقد يأتي يوم عادي، لا يحمل حدثًا يُذكر، ثم فجأة، قبضةٌ خفيةً تطبق على صدرك، تخطف روحك، تضيّق أنفاسك. تنفجر بالبكاء دون سبب واضح. هنا تدرك أن نفسك كانت تحمل أثقالاً تظنها قادرة على احتمالها، لكنها لم تعد تقوى. وتقول: "ليتها بَكَت منذ البداية... ليتها رمت حملها".

لا تؤجل الحزن. لا تُرحّل الانكسار. عِش لحظتك بما فيها، حتى لو كانت موجعة، قبل أن يُداهمك الانفجار غير المُبرَّر. فحينها لن ينتشلك أحد من رمادك. وتذكّر دائمًا: في كل قلق حملته، جاء اليوم الذي كنت تخشاه، ومرّ بك كأيّ يوم عادي... فهل كان يستحق كل هذا الارتباك؟

د. عبد الوهاب برانية (الأستاذ بجامعة الأزهر، الخبير اللغوي بمعهد الوسطية وثقافة السلام بجيبوتي)

هل يمكن أن يكون القلق رافدا للإبداع الأدبي؟

يطرح عنوان المقال سؤالا، ويحمل فكرة، قد تخطر في بال كل من: الناقد، والدارس، وأيضًا القارئ المتابع للحراك الثقافي الإبداعي على مدى العصور، منذ العصر الجاهلي وحتى عصرنا الحاضر، أما عن السؤال فهو على خلاف المنتظر والمتوقع؛ فالمنظور لدى الفئات المذكورة السابقة أن بواعث الإبداع مرتبطة ارتباطا قويًّا بالاستقرار النفسي، والاطمئنان الشخصي لمناشط الحياة، وكل ما يحقق استقرارها وسلامتها ويوفر رخاءها وبساطتها، لا أن يكون القلق هو الباعث على الإبداع منفردا أو حتى مع غيره، فمتى كان الإنسان القلِقُ مظنة الابتكار والإبداع؟ فالقلق والتوتر يعقدان الأمور، ويكبلان العقل، ولا يمنحانه الفرصة المثلى للتفكير، فضلا عن الإبداع والتأليف، هذا عن السؤال، أما الفكرة التي يحملها عنوان المقال فلا تستبعد تحقّق الطرح الذي يدور في الذهن من ارتباط عملية الإبداع بعوامل كثيرة، ربما كان من أهمها دور القلق والتوتر والضغط النفسي، في عملية الإبداع، بل في تحديد شكل ونوع هذا المنتج الأدبي.

ونظرة متفحّصة لعملية الإبداع عند الشعراء العرب قديما وحديثا، تقفنا تلك النظرة على حجم المعاناة، التي عاشها هؤلاء الشعراء، وتوجهاتهم الإبداعية، فلا أشك في أن وراء كل شاعر دوافع نفسية دفعته نحو منهج معين في إبداعه الشعري، بل أخذته تلك الدوافع إلى مضمون ما، راح ينظم وفق معطياته لديه، فالشاعر الذي يميل شعره إلى الحكمة لا بد أن وراءه خبرات السنين وممارسات الحياة التي صنعت منه أنموذجا قادرا على نقل خبرته وتمثلها في شكل أقوال حكيمة ونصائح نافعة، والشاعر الذي وقف شعره على الرثاء والبكاء وذكر آثار من رحلوا وخلّفوا لوعة وحزنا دائما وندوبا لا تندمل مع الأيام، لا شك أنه شاعر مُبتلى، في أعز ما لديه، وليس شعر الخنساء "تماضر بنت عمرو بن الحارث"، شاعرة بني سليم، عنا ببعيد، وليس بكاؤها الدهر على أخويها: صخر ومعاوية ببعيد كذلك، ولكن في حياة الخنساء حادثة مزلزلة، تمنع العين عن الرقاد، وتستنزف العين ماءها، ولكن لم نجد للخنساء بيتا من الشعر في مواكبة ذلك الحدث الجلل، فقد فقدت أبناءها الأربعة في معركة القادسية في السنة السادسة عشرة من الهجرة، ولم تبكهم شعرا كما بكت أخويها صخرا ومعاوية، فهل هذا الحدث رغم ضخامته لم يسبب لها ما سببه فقد أخويها من قلق وتوتر، فراحت تبكيهما عمرها كله بينما صمتت عن رثاء بنيها؟! لا شك أن الأمر على غير هذا؛ فعاطفة الأمومة أقوى بكثير من عاطفة الأخوة، لكنه الإسلام الذي حلّ في قلب الشاعرة فثبّت جنانها وجعلها تستعوض الله في أولادها، وتنتظر لقاءهم في مستقر رحمة الله وجنّته، وهذا ما أميل إليه في تفسير تلك الظاهرة الغريبة لدى الشاعرة، فليس صمتها عن رثاء بنيها جمودا في الطبع، ولا تبلّدا في المشاعر فما كانت الخنساء في جاهليتها وإسلامها بهذا الجمود، وهي التي خاطبت عينيها بعد موت أخيها صخر قائلة:

أعيني جودا ولا تجمدا -- ألا تبكيان لصخر النّدى

ألا تَبكيان الجريءَ الجميلَ -- ألا تَبكِيان الفتى السيّدا؟

فليس صمت الخنساء عن رثاء بنيها جمودا ولا شذوذا ولا انحرافا في طبيعة عواطفها كما زعمت بنت الشاطئ فيما كتبته عن الخنساء، وإنما هو ثبات الإيمان في قلب الأم المؤمنة الصبور.

فأيّ دافع كان وراء هذا البكاء والرثاء لأخيها صخر إلا القلب المكلوم والفؤاد المأزوم والنفس الملتاعة؟! وهل ثَم بعد هذا الفقد من قلق وأي قلق؟ وأيّ دافع أيضا لصمت الأم عن فقد بنيها كلهم في معركة واحدة إلا صراع داخلي بين القنوط واليأس أو الرضى والتسليم، فينتصر الإيمان في القلب على ما عداه، وتتوقف الأم الشاعرة عن رثاء بنيها حتى لا تنفجر بداخلها الأحزان المكبوتة بالنفس المؤمنة، التي اختارت الصبر على غيره.

وما الذي دفع النابغة الذبياني، الشاعر الجاهلي، إلى الاعتذار، فأكثر منه كثرة مفرطة حتى عد شعره في مرحلة الجفوة التي حلت بينه وبين النعمان بن المنذر ملك الحيرة منصرفا كله إلى الاعتذار؟ أليس غضب النعمان عليه بعد أن وشى عنده حاسدوه بما أوغر صدر الملك منه، فتوعّده بالهلاك، فلجأ الشاعر إلى الغساسنة مستجيرا من غضبة النعمان، وظل عندهم حينا، راح فيه يبعث برسائل الاعتذار ويثبت للنعمان ولاءه، وأن هربه منه ليس عن جرم أتاه، وإنما اتّقاء لغضبته، مع علمه بأنه ليس ببعيد عن بطشة الملك وأنه لا شك طائله إن أراد، وأنه منه كالليل من البشر، لا يزعم ولا يقدر أحد على الخروج عن مظلته، وكلٌّ مدرك منه بمقدار، يقول النابغة مخاطبا النعمان:

فإنك كالليل الذي هو مدركي -- وإن خلت أن المنتأى عنك واسع

فهل جعل النابغة يعتذر ويفرط في الاعتذار إلا الخوف والقلق، وما حل به من الاضطراب بعد وشاية الواشين، وغضبة النعمان؟

وحتى على مستوى التجربة الشعرية الخاصة بكاتب المقال، فإن هذه الفكرة المطروحة، التي تربط بين القلق والإبداع تبدو جلية واضحة، فليست تجربتي الشعرية كلها على شكل واحد، وإنما تخضع إلى مثل تلك المؤثرات؛ فقد تطغى أحيانا هموم الحياة ومشكلاتها على قلب الشاعر ومزاجه، فتلوّن إبداعه الشعري بلون مختلف، تظهر فيه ملامح التأثر بالحالة الشعورية الطارئة، فيكون القلق سيّد المشهد، وتبرز ملامحه جلية في اختيار موضوعات القصائد ومفرداتها وحتى الصور الشعرية المستوحاة تأتي متوافقة مع تلك الحالة الخاصة التي سيطرت على عقل الشاعر وقلبه ونفسه.

فالشاعر في بعض ممرات الحياة يصاب بفقدان الثقة في بعض من حوله من الأصدقاء والزملاء، ويستشعر الوحشة والفتور العاطفي تجاه هؤلاء، متأثرا ببعض مواقف الخذلان التي ما كان يتوقعها من أمثالهم، فتسيطر عليه من جراء ذلك مشاعر القلق والتوجس، فراح يعبّر لأشهر ممتدة في كل ما يبدع شعرا عن تلك القلاقل التي أصابت مشاعره وهزمت ثقته فيمن منحهم تلك الثقة، وراحت تجاربه في تلك الأشهر تعبر عن تلك المشاعر السلبية تجاه هؤلاء، من ذلك قوله في مقطوعة بعنوان: (لا تأس لمنصرم):

هوِّنْ عليك ولا تأس لمنصرمٍ -- إن الأناسِيَّ أشكالٌ وألوانُ

كم مرَّ في عالمي من ذلكم نفرٌ! -- وكم تناوبني من ذاك أحزانُ!

لكنني ربما أفرطت في ثقتي -- فما وفى لي هنا في الناس إنسانُ

وفي مقطوعة أخرى تحمل عنوان (صفحة جديدة) تدور حول هذا الموضوع أيضا يقول الشاعر:

الله الله في نفسي بما حملتْ -- وما تعانيه من أحياءَ أمواتِ

رفقا بنفسك يا نفسي فلا تهني -- ولا تضيقي بأوجاعٍ وآهاتِ

وارضَيْ بحظكِ فيما نِلْتِ من قِسَمٍ -- ما فات مات وفيه النصح للآتي

وفي مقطوعة ثالثة حول الغرض نفسه تحمل عنوان: (من أساء إليك فقد فك وثاقك) جاء قول الشاعر "عبد الوهاب برانية":

الآن بعد عقود من مسيرته -- يلملم القلبُ أوراقا بماضيهِ

يقول للنفس: يا نفسي وُقِيتِ ردًى -- ألَمْ أحذرْكِ: ذا شرٌّ تَوَقِّيهِ

كم قلت: يا نفسُ لا يغررْكِ مؤتلقٌ -- من الأناسيِّ من غيمٍ وتمويهِ

فكم تراءى لنا في الأفق من ألقٍ -- لكنْ وجدناه أسرابا من التيهِ! 

فهل تعلَّمْتِ أم ما زلت ساذجةً -- إياك يا نفس ممن لم تجافيهِ!

فتلك نماذج لمقطوعات شعرية، متقاربة الزمن الإبداعي، تدور في فلك موضوع واحد، يبدو متأثرا بأجواء من القلق النفسي، الذي كان الباعث إليه فقدان الثقة في بعض المحيطين، ممن كان يستبعد منهم التخاذل والتقاعس في بعض مواقف الحياة. مما يؤكد عمليًّا ونظريا تطابق الفكرة المطروحة مع الواقع الإبداعي الملموس عن قرب، ويلون التجارب الشعرية بألوان مختلفة حسب تفاعلات الفن الشعري مع معطيات الحياة، حينئذ يكون الفن الشعري معبرا عن مبدعه ومصورا ما يخضع له من عناصر نفسية، معبرة عما في حياته من وقفات ومحطات مختلفة.

وهنا يكون القلق أداة من أدوات المبدع، التي تحمله على الإبداع حملا، وتدفعه إليه دفعا، وتلون أدبه بألوانه المتفاوتة بين المبدعين، من فرح وسرور، أو تبرم ونفور، وما ينضوي تحت تلك المعاني من الأحوال، وما يُنمّي إلى كل منها من أشكال الحياة.

وهنا يظهر دور الناقد والباحث المتميز؛ إذ بإمكانهما الكشف عن ظواهر معينة شائعة تمثل حياة المبدعين أو طرفا منها، وتستخلص من خلال ذلك نتائج جيدة، تكون معبرة عن الواقع ومفسرة لما توارى أو غمض في حياة هؤلاء وأولئك النفر من المبدعين، على اختلاف عصورهم وأوطانهم ومواقفهم من الحياة.

أ. د. صبري فوزي أبو حسين (وكيل كلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بمدينة السادات بجامعة الأزهر - مصر)

مواجهة القلق الاقتصادي في ظلال الثقافة الإسلامية

حقيقة ما يُقال بأن عصرنا هو "عصر القلق"، وأنه قلقٌ لا يعرف معظم الناس أسبابه ودواعيه، كلام سديد وتوصيف رشيد لحالة الناس، فهم قلقون وفقط، يشعرون بضيق الصدر والخوف من المجهول، والعَجلة الدائمة من أجل الوصول إلى نقطة في الغالب لم يحدّدوها، وهم لا يكادون يثقون في الحياة أو حتى في بعضهم. ويتجلّى القلق في المجالات الإبداعية، الأدبية والفنيّة على الخصوص، حيث التّيه في الأسئلة التي تطارد أجوبتَها في شوارع الحياة.

نعم إننا فعلا في عصر القلق، وأن رسالة الكاتب أن يُعبّر عن القلق في إبداعاته، تحذيرا منه، أو أن يسعى إلى نشر الطمأنينة الروحية والفكرية بين الناس، وتقديم العلاجات العملية من هذا القلق، فللثقافة والآداب والفنون دورها في تحقيق الاستقرار الروحي للمجتمع، قلق نفسي، وقلق فكري، وقلق اجتماعي، وقلق اقتصادي. فالكاتب، هو رسول الطمأنينة والأمل، وبوصلة الرّشاد حين تتوغّل سفينة المجتمعات في بحار القلق.. إن المثقف ينبغي له أن يكون طبيب الأرواح، ومعالج النفس، وناشر الطمأنينة والسكينة في الحياة والأحياء!

 وقد جاءت التكنولوجيا لتحدث اضطرابا في التعادلية بين الروح التي تعني القِيم والأخلاق والثقافة، وبين الجسد الذي يعني المادة والتملّك للأشياء.. فتسبب في هذا القلق الذي يبدو أنه "استعمار" كوني لروح ووجدان الإنسانية جمعاء، وما من سبيل للتحرّر من هذا "الاستعمار" الروحي والوجداني إلا بالثقافة الإسلامية. وأقف في هذه المقالة مع علاجات ثقافية إسلامية للقلق الاقتصادي.

ضرورة التربية الاقتصادية للأجيال القادمة

مما يُلاحَظ على الأجيال القادمة من شبابنا انتشار أمراض نفسية واجتماعية خطيرة الأثر في عقولهم وشخصياتهم، وتَفَشِّيها بينهم، من أهمِّها عدم التسلُّح بقيمة الاعتماد على النفس والثقة فيها، وفقدانُ الإحساس بقيمة العمل، وضعف الإحساس بقيمة غِنَى النفس والقناعة والرضا بالمُقَدَّر والمُتاح، وعدم تسلحهم الصبر والجلَد وتحمُّل شظَفِ العيش وصُعوبات الحياة وتقلُّباتها، وما يُسمّى "التضخم الاقتصادي"، ووقوعُهم فريسة للعَطالة والبَطالة والتواكُل... وغيرها من السلبيات السلوكية المُشينة والقبيحة، والضارة فرديًّا واجتماعيًّا! والتي نراها ماثلة في كثير منهم على اختلاف أعمارهم ومستويات معيشتهم، ودرجات تعليمهم، وطبقاتهم المختلفة؛ مما يؤدي إلى اكتئاب روحي واضطراب نفسي وصراع أسري، وخلاف بين جيل الكبار وجيل الوسط والجيل القادم، إضافة إلى ما نسمعه من محاولة بعضهم التخلص من الحياة حيث الوقوع فريسة للانتحار أو الإدمان أو الإلحاد أو البوهيمية أو الانحدار إلى مفاسد الأخلاق والانحراف الفكري... وغير ذلك من المخاطر والمتاهات!

وتلك الأمراض النفسية والرذائل الخُلُقية راجعة إلى ضعف طرُق التربية التقليدية للشباب، وعدم قدرة مُؤَسَّسة الأسرة على التأثير الإيجابي فيهم، وغياب الدور الإيجابي للتعليم والإعلام والثقافة، وكثرة المُلهيات والمُشغِلات من قنَوات فضائية مضلّلة، وألعاب إلكترونية جاذبة، ومواقع التواصل الاجتماعي بكل ما فيها من وسائل تسيطر على الشباب بكل جوارحهم سيطرة سلبية مفسدة.

ولعل أول علاج ناجع لكثير من هذه السلبيات يتمثل في غرس ثقافة (التربية الاقتصادية) في نفوس هذا الجيل وعقولهم وقلوبهم... تلك التي تناول بعض جوانبها فقهاء الإسلام تحت مُسمّى "المعاملات"، وعرض لمجملها الوُعّاظ والخُطباء والدعاة تحت مُسمّى: قيمة العمل والإنتاج والتعمير...

ويُقصد بالتربية الاقتصادية: تعليم الأطفال والشباب سلوكيات عَملية في تسيير أمورهم في الحياة، بممارسة تدبير شؤون البيت وتوفير المال ومتطلبات الحياة، والاستخدام الأمثل للموارد المادّية وغير المادّية، من خلال المنظومة القيم الدينيّة والتشريعات الإلهيّة المعتبرة، مع تأهيلهم بمهارات وسلوكيات تحقق ذلك، منها الاعتماد على النفس، وتحمُّل المسؤولية، والصبر على شظَف العيش، والقدرة على مواجهة تقلبات الحياة واضطرابات الواقع، وفقه الواقع، وفقه الأولويات، والخبرة في التعامل مع الناس، وشغل وقت الفراغ واغتنامه بالمفيد النافع، والاستثمار الأمثل لتكنولوجيا التواصل ومستجدات العلوم في خدمة النفس والأسرة والمجتمع، والأخذ بأسباب توفير متطلبات الحياة الكريم، من عمل شريف، وإنتاج وتعمير وتطوير.

وقد كانت هذه (التربية الاقتصادية) قبل هذا العصر مكتسبة بطريقة تكاد تكون فطرية، حيث يشرك الوالدان أولادهما في كل أمور الحياة؛ فيخرج الولد رجلاً قويًّا، وتنشأ البنت امرأة ناضجة، بحيث يستطيعان المساعدة في تسيير حياة الأسرة كلها مساعدة إيجابية بناءة فاعلة؛ فكانت الأسرة مصدر التربية الاقتصادية الأولى، وبعدها تأتي دُور العبادة وأماكن التعليم والتثقيف، ووسائل الإعلام الوطنية! لكن الآن يجب التفكير الجِدِّي والعَمَلي في تربية الأجيال القادمة، عن طريق تجديد الخطاب الدَّعَوِيّ والتعليمي والإعلامي؛ حتى يكون مناسبا لعقليات هذه الأجيال ووسائل حياتهم العجيبة!

ولعل من أهم معالم التربية الاقتصادية وأسسها، الواجب إيصالها إلى هذه الأجيال وغرسها فيهم وتدريبهم عليها، الآتي:

1- التربية على الإيمان بالقدر والرضا بالمُقَدَّر

وهذا هو الركن السادس من أركان الإيمان؛ فالإنسان مكلف شرعًا بالإيمان بأن الله تعالى هو الرزاق، وأنه المالك الحقيقي وأن المال مال الله، وأن يرضى بكل ما قدره الله له من رزق؛ ويعمل على اكتسابه والحفاظ عليه وتنميته بالوسائل المشروعة؛ فالغِنى غِنَى النفس وإيمانها بالقدر واطمئنانها له وبه، ومصداق ذلك قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لسيدنا أبي ذر (رضي الله عنه): "أَتُرى كثرة المال هو الغنى؟" قال أبو ذر: نعم، قال: "وترى قلة المال هو الفقر؟" قال أبو ذر: نعم، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب"، وقوله (صلى الله عليه وسلم): "ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس"؛ فذو القلب الراضي بحاله والقانع بواقعه هو الغني الحقيقي، أما الجاحد القانط اليائس الشاكي المعترض فهو الفقير الحقيقي، وإن امتلك من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة؛ ولذا كانت القناعة كنزًا لا يفنى ولا يبلى!

2- التربية على تقدير المال والأخذ بأسباب الحياة الكريمة المعطاءة

فالمال هو عصب الحياة وسبب حركة الأحياء فيها. قال الله تعالى: ﴿ولاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا﴾ (سورة النساء: 5). والعمل المشروع والشريف والحلال هو الطريق الأول للحصول على المال، وقد حثّ القرآن الكريم عليه، وسمّاه عملا صالحًا وكسبًا وسعيًا ومشيًا وضربًا في سبل الأرض ومناكبها؛ وقرر أنه سبب العيش المستقرّ العزيز، وسبب غِنى الإنسان عن غيره؛ فالسماء لا تمطر ذهبًا والأرض لا تنبت فضّة، بل رزق الله تعالى موكول إلى أسبابه، ومنها العمل، قال تعالى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (هود: 61)؛ فالعمارة في الأرض تحصل بالعمل، واستثمار ما أنعم الله به على خلقه من زرع، واستثمار للثروات، والمعادن والأنهار والبحار، بل سخّر الله للإنسان ما في السماوات وما في الأرض لأجل ذلك، قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} (الجاثية: 13)، وقد روى الإمام البخاري بسنده عن الزبير بن العوام (رضي الله عنه)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "لأن يأخذ أحدكم أحبله ثم يأتي الجبل، فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها، فيكف الله بها وجهه، خير له من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه". وجاء في حديث أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه) قال: إن ناسًا من الأنصار سألوا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى نفد ما عنده، فقال: "ما يكون عندي من خير فلن أدّخره عنكم، من يستعففْ يُعفه الله، ومَن يستغنِ يُغنِه الله، ومَن يتصبَّرْ يصبِّرْه الله"؛ فهذه وسائل نفسية مهمة في تربية الأجيال القادمة، فما أحوجهم إلى التحلي بأخلاق التعفف، والاستغناء، والصبر.

ويندرج تحت هذا العنصر التربية على العطاء والإنفاق والتصدق؛ فقد جاء في حديث عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "اليد العليا خير من اليد السفلى، واليد العليا المنفقة، والسفلى السائلة". وهذه الدعوة النبوية الإيجابية من شأنها أن ترفع المستوى الاقتصادي لأيّ مجتمع وأية أسرة، بحيث يكثر فيه المنتجون المعطون، ويقلّ فيه الآخذون المستهلكون، وينعدم فيه المسرفون المبذرون.

 3- الاعتدال في الإنفاق وترشيده

فالاعتدال والاقتصاد في الإنفاق والاستهلاك من أهم أسس التربية الاقتصادية؛ فالله سبحانه وتعالى وصف الذين آمنوا بقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (الفرقان:67)، فلا بد من التوازن بين الكسب والإنفاق، وقد أرشد الله إلى التوسط في المعاملات المالية بقوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} (الإسراء:29). وهذا رسولنا الخاتم (صلى الله عليه وسلم) يقول: "السمت الحسن، والتؤدة، والاقتصاد جزء من أربعة وعشرين جزءًا من النبوة". إن المسلم وسط وقوام في مصروفاته، يكتفي ذاتيًّا بما عنده، فلا يُسرف ولا يُقتِّر، بأن يحافظ على مكتسباته ويعمل على تطويرها، فالإسراف يؤدي إلى خراب اقتصادي وفساد خلقي، وهذا ما نراه متحققًا عند طبقة المترفين المسرفين المبذرين إخوان الشياطين، والتقتير يؤدي إلى تضييع للنفس والجسد والذرية.

وإن استقرار أيّ أسرة أو مجتمع يكون بالاقتصاد والاعتدال في المعيشة والمعاملات المالية عن طريق قيادة العقلاء لا السفهاء في كل أسرة ومجتمع للمعاملات المالية من بيع وشراء وتجارة وشراكات ومضاربات؛ مما يجعل الميزانيات والدخول تستقر ولا تختل أو تتعرض للتضييع والإهدار، فنضطر إلى الاستدانة من الآخرين أو البنوك!

وقد جاءت الإشارة إلى الاعتدال والإنفاق في مجال حياتي مهم، في حديث رواه الإمام مسلم عن سيدنا جابر بن عبد الله (رضي الله عنهما) حيث يقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "فراش للرجل، وفراش لامرأته، والثالث للضيف، والرابع للشيطان"، ففي الحديث دعوة عملية إلى الاقتصاد في السُّكْنى، بجعل المباني على قدر الحاجة، وعدم الإكثار منها إكثارًا زائدًا عن الحد والمطلوب؛ قصدًا إلى المباهاة والمفاخرة! فهذا مما يُسمّى في مصادر الفقه الإسلامي بـ (فقه الأولويات) حيث يحرص الإنسان على (الضروريات)، و(الحاجيات) التي بدونهما تصبح الحياة مُهلِكة أو شاقة، ثم تكون (التحسينات) التي لا تُصرَف إلا بعد استيفاء الضرورات والحاجيات، ولا تجوز في المُنكرات، وعلى الإنسان أن يستغني عن (التحسينات أو الكماليات) عند عجزه عن تملُّك الضروريات والحاجيات!

إن سعادة أيّ أسرة أو عائلة ليست بكثرة الممتلكات، ولا بغلاء المفروشات، ولا بكثرة الشقق والفيلات والشاليهات والعمارات والمباني، وإنما سعادتهم نابعة من قلوبهم المؤمنة، ونفوسهم المطمئنة، وشخصياتهم الراضية المتزنة والمعتدلة والمنتجة المعمرة. وهذا لا يعني أن يعيش الإنسان حالة دائمة من الشحّ والبخل والتقتير، وإنّما في حالة العدل والاستقامة والترشيد. يقول الله تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الحشر:9). وقد أجمع المفسرون لهذه الآية على أن المعنى: ألا يأخذ شيئًا مما نهاه الله عنه، ولا يمنع شيئًا أمره الله بأدائه...

4- الادخار للمستقبل لمواجهة تقلبات الحياة

إن الادخار للحاجة حلال وجائز وليس بمذموم في الشرع انطلاقا من قول الله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (البقرة: 195)؛ بل يوجد حث عليه في السنة النبوية الشريفة؛ ففي الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال له: "إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرتَ بها، حتى ما تجعل في فِي امرأتك". وفي الصحيحين من حديث عمر (رضي الله عنه) أن النبي (صلى الله عليه وسلم): "كَانَ يَبِيعُ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ، وَيَحْبِسُ لِأَهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ". قال ابن مفلح (ت 763هـ) في الآداب الشرعية والمنح المرعية بعد ذكره هذا الحديث: "وفيه جواز ادخار قوت سنة، ولا يقال: هذا من طول الأمل؛ لأن الإعداد للحاجة مستحسن شرعًا وعقلًا"... وعن كعب بن مالك (رضي الله عنه) قال: قلت: يا رسول الله، إن من توبتي: أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "أمسك عليك بعض مالك؛ فهو خير لك". قال الإمام ابن دقيق العيد (ت 702هـ) في شرح هذا الحديث: فيه دليل على أن إمساك ما يحتاج إليه من المال أولى من إخراجه كله في الصدقة، وقد قسموا ذلك بحسب أخلاق الإنسان، فإن كان لا يصبر على الإضاقة كره له أن يتصدق بكل ماله، وإن كان ممن يصبر: لم يكره. فليس كل ما نكسبه ننفقه، وليس كل ما نشتهيه نشتريه، ففي وقت الرخاء نتدرب على الادخار للمستقبل، وفي وقت الشدة نتربّى على القناعة والتقشف والتصبر، حتى نكون من الفائزين اقتصاديًّا وحياتيًّا وأخرويّا.

مقوّمات أخرى للتربية الاقتصادية

هذه أهم معالم التربية الاقتصادية التي نريدها للأجيال القادمة، يتربون عليها ويتقنونها فيكونون قوة لنا وقرّة عين لنا وأمانًا لنا؛ فهم أمل اليوم وعدة المستقبل، إن شاء الله تعالى... وهناك مقوّمات أخرى للتربية الاقتصادية كالتكافل الاجتماعيّ والموازنة بين الملكيّة الخاصّة والملكيّة العامّة، والحفاظ عليهما، وأنواع المعاملات المالية الربحية الحلال كالشراكة والمضاربة، والسلم والكفالة والوكالة والإجارة والرهن والقرض الحسن، وأنواع المعاملات المالية الإحسانية والتبرُّعيَّة كالهبة والوقف والعتق والوصايا، مع التذكير بوجوب تجنُّب المعاملات المالية المُحرَّمة التي فيها إسراف، وتبذير، واتباع للهوى والمزاج الشخصي، وظلم للناس كالربّا والاحتكار والغصب والسرقة والتزوير... وغير ذلك من مظاهر أكل أموال الناس بالباطل..

زينب أمهز (كاتبة وباحثة من لبنان)

حبرٌ على ورقِ القلق

يُقال عن زماننا: إنه "عصر القلق". نعم، وما أصدق هذا القول! فنحن لا نعيش فقط في زمنٍ يركض كالسهم، بل في زمنٍ تُدهس فيه الأرواح تحت عجلات العجلة. زمنٌ ازدحمت فيه الرغبات، وتزاحمت فيه المتطلبات، حتّى باتت الأرواح تُطارد سعادة مجهولة، كظلٍّ يتقدّم كلّما اقتربنا منه. قلقٌ غامضٌ يتسرّب إلى داخلنا كما تتسرّب قطرة حبرٍ في صفحةٍ بيضاء، فيترك أثرًا يصعب محوه. إنه شعورٌ يُربكنا دون أن يطرق الباب، يتسلّل خِفية، لا ضجيج له، لكنه يملأ القلب صخبا.

هو قلقٌ من الغد، من ذلك الذي لا نراه لكنّنا نخشاه، من احتمالاتٍ لا نهاية لها، من هشاشتنا في مواجهة عالمٍ لا يمنح ضمانات. إننا نُطارِد فكرةَ الاستقرار، بينما نعيش في دوّامةٍ لا تهدأ، محاطين بشاشاتٍ تُغرقنا في واقعٍ افتراضيّ، وتصوّر لنا السعادة على هيئة أرقامٍ، وأشياءٍ، ومقارنات.

نُشبه من دخل متاهةً بلا خريطة، نركض وراء "شيءٍ ما" نجهله، وكلّما ظننا أننا اقتربنا منه، زاد ابتعادًا، وكأنّ الطمأنينة أصبحت سرابًا، تُبصره العين لكن لا تلمسه اليد.

نقلق... وكيف لا نقلق، ونحن نعيش في زمنٍ يتطلّب منّا أن نتغيّر في كلّ حين، أن نخلع عنّا جلدًا لِنلبس غيره، أن نُجاري تياراتٍ لا تهدأ، وموجاتٍ لا ترحم.

نقلق على أنفسنا، ومن أنفسنا، نخشى أن نخذل ذاتنا أو نخون مبادئنا تحت ضغط التكيّف. نقلق على الغد، على ملامحه الضبابية، على ما ينتظرنا من أحداثٍ لا نملك لها توقّعًا ولا استعدادا. نقلق على مشاعرنا التي تتآكل بصمت، على حماستنا التي خمدت، واهتماماتنا التي كانت يومًا تشعل فينا الحياة، ثمّ صارت باهتةً لا تُحرّك فينا شيئًا. 

نقلق حين نكتشف أنّنا لم نعد نُشبه ذواتنا القديمة، ولا نعرف إن كنا قد تغيّرنا للأفضل أو الأسوأ.

وكيف لا نقلق، ونحن نُجبَر على التواجد في محيطٍ لا يُشبهنا، مع أشخاصٍ لا يقدّرون جوهرنا، ونضطر للتعامل معهم، فنخسر بذلك شيئًا من أرواحنا، من طاقتنا، من حقيقتنا، كأنّنا نذوب في محاولاتِ التأقلم، نُطفئ نورنا لنُرضي الآخرين، فنعود إلى أنفسنا مجهدين.. متغرّبين.

وأنا لا أقلق على مستقبلي وحسب، بل أنا كأمٍّ أقلق أيضًا على أطفالي، وعلى أولاد إخوتي، أحملُ في قلبي قلقًا صامتًا يتنامى كلّ يوم، ليس خوفًا من الحاضر فقط، بل من المستقبل الذي لا أملكه ولا أستطيع أن أعدّ لهم دروبه كما أحب.

كيف ستكون حياتهم؟ هل ستمنحهم الأيام ما يكفي من الأمان؟  أم ستنقلب عليهم قاسيةً، تأخذ براءتهم شيئًا فشيئًا؟  هل ستبقى الطهارة تسكن قلوبهم كما هي اليوم، أم ستضطرهم الحياة إلى التحوّل، إلى الجفاف، إلى الصلابة؟ هل سيحافظون على الإيمان، على العادات، على الثقافة التي نحاول جاهدين أن نغرسها فيهم؟  أم ستغلبهم التيارات الجديدة، وتغسل ما حاولنا أن نبنيه؟

أتساءل: هل سيجدون صداقةً صادقةً تشبه دفء أيامنا الخوالي؟ هل سيواصلون تعليمهم رغم كل المصاعب؟ هل ستكفيهم الحياة ليعيشوا بكرامة، لا فقط ليبقوا على قيدها؟ وهل سيعيشون أيّامهم تحت ظلّ الحروب كما عشناها نحن، أم سيُزهِر في عمرهم ربيعُ السلام والأمان؟ هل سيذوقون طعم الاستقرار الذي حُرمنا منه، أم سيكبرون على صدى الانفجارات وملامح الخراب؟ هل سيضطرّون إلى الهجرة وترك أوطانهم كما فعل كثيرون من أبناء هذا الجيل، أم سيكون للبلادِ يومٌ جديد، تُبنى فيه الأحلام؟ هل ستتّسع لهم الأرض بما رحُبت، أم تضيق كما ضاقت علينا؟ وهل ستمنحهم الحياة ما يستحقونه من دفءٍ وطمأنينة؟ وحين نرحل نحن... هل سيتأقلمون؟ أم سيتوهون في زحام هذا العالم الماديّ القاسي؟

هي أسئلة تتزاحم في قلبي، تؤرّقني أكثر من همومي الشّخصية، لأنها تتعلّق بأرواحٍ صغيرة، نحاول حمايتها من مستقبلٍ لا نقدر على رسمه...  لكنه قادمٌ لا محالة.

لكن، ومع كل هذا القلق الذي ينهش قلبي حين أفكر بهم، بمستقبلهم، بحياتهم بعدنا... أسترجع يقيني بأنّ الله لن يتركهم.  وكيف يضيع من استودعته لله؟! فإن ضاقت بهم الدُنيا، فسيفتح الله بإذنه لهم من حيث لا يحتسبون، وإن أظلمت في عيونهم الطرق، فالله نور السماوات والأرض سيهديهم. واجبنا أن نزرع فيهم الإيمان والخير، ثم نرفع أيدينا، ونسلّمهم لمن لا يخذل من لجأ إليه، كي يطمئن قلبي، فالله سيكون معهم.. ما داموا معه.

والآن، لنعُد إلى موضوعنا، ففي خضمّ كلّ ما يحصل من تطوّر وتسارع وانفتاح مُفزِع، يغدو الإنسان غريبًا حتى عن نفسه. يعيش بين الأضواء دون أن يُبصر داخله. فقدَ القدرة على الإصغاء لنداء روحه، وعلى التعرّف إلى ما يُحيي قلبه. تاهت ملامحه في زحام التوق إلى الكمال، وفي سباقٍ لا متناهٍ مع صور الآخرين. وما بين إشباعٍ جسديّ لا يعرف حدودًا، وتجويعٍ روحيّ لا يجد موردًا، وقعنا في هوّة التناقض: "أجسادٌ تُزخرف، وأرواحٌ تذبل". هذا هو المرض العميق الذي لا تُعالجه أدوية، بل تعالجه العودة إلى الذّات، إلى الإنسان فينا.

وهنا تبرز مسؤولية المبدع، ففي زمنٍ باتت ملامحه متخبّطة، وأيّامه متسارعة تفتقر للثبات، تُولد الثقافة، ويُطلّ الإبداع.. لا كترف، بل كضرورة. فحين يضيق العالم، يلجأ الإنسان إلى الكتابة، إلى الفنّ، إلى الفكر، ليبحث عن ملاذ، عن تفسير، عن تنفّس. 

الكاتب هنا، ليس مجرّد صائغٍ للجمال، بل هو حامل همّ. يحمل في قلمه جروح مجتمعه، ويصوغ بألمه وعيًا. هو المرآة التي تعكس، لكنّه أيضًا الشعلة التي تُنير. يتأثّر بما حوله، يذوب في معاناة الناس، يسمع أنينهم في صمته، وينقله بكلماته التي قد تكون أكثر صدقًا من أيّ صوت.

والكاتب أيضًا ليس مجرّد شاهدٍ، بل هو صوتٌ يُحاور القلق، يُعرّيه، ثم يُهذّبه. فليس المبدع ناقلاً لحال اليأس، بل صانعًا لشعاعٍ يُبصر من خلاله الناس جمال الرجاء وسط السواد. فالمبدع الحقيقي هو من يرى في الألم مادةً للحكمة، وفي التّيه دعوةً للبحث عن معنى، وفي القلق نداءً لتصحيح المسار. فالإبداع حين يُغذّى بالأمل، يُصبح فعل شفاء، ونافذةً نحو السكينة في زمنٍ استبدّ به الضجيج.

ولا يقتصر دور الكاتب في رصد الواقع، ولا أن يكون مراسلًا ينقل الخبر كما هو، بل هو صانع أثر، وحاملٌ لرسالة. الكلمة في قلمه ليست حبرًا على ورق، بل جسرا يعبر عليه القارئ من ضيقه إلى فسحة، ومن ضبابه إلى وضوح. فإن كان القلق يعمّ المجتمع كالغيوم السوداء، فالكاتب ليس معنيًا بتضخيمه أو التهويل منه، بل هو معنيّ بتفكيكه، بكشف خيوطه الملتفّة حول أعناق الناس. إنه لا يدّعي إلغاء الظلمة، لكنه يحمل فانوسًا صادقًا، كافٍ ليهدي التائهين إلى أوّل الطريق، أو يمنحهم جرأة الاستمرار. فهو يعرف كيف يحفر في عمق القلق، لا ليزرع الخوف، بل ليكشف أسبابه ويضمّده بلغةٍ تُنقذ، لا تجهز على ما تبقّى.

فالكاتب الذي يطرح القلق لا يفعل ذلك ليؤجّجه، بل ليمنح القارئ شعورًا بأنه ليس وحيدًا. وهو حين يمنح الأمل، لا يبيعه بوهمٍ، بل يصنعه من رحم المعاناة ذاتها. في كلّ حرفٍ، يزرع بعض نور، وفي كلّ صورةٍ يرسمها، يقول: "أنا أيضًا مثلك، أشعر، أرتبك، أتألّم… لكنني أكتب كي لا أنطفئ".

ولا يقتصر الابداع على الكُتّاب والشعراء فقط، بل يطال مختلف أوجه الفن، من الرّسم إلى الموسيقى إلى التمثيل وغيره، ولا يسعني هنا إلّا أن أذكر ذلك العبقريّ الذي غيّبه المرض عنّا منذ فترة، ذلك الموسيقار، الكاتب والمُبدع، من رسم الضحكة على وجوهنا في عزِّ الحزن، من واجه ووقف على مبادئه بكلِّ صدق، من ناضل وقاوم بالمسرحية والكلمة والموقف، ويطول الحديث عنه، ولا بُدّ أنكم عرفتموه، نعم، إنّه "زياد، زياد الرّحباني" المُبدع، المُخلص المُحب لوطنه حتّى آخر نفس.

 وفي عصر القلق، لا يكون المبدع متفرّجًا. هو طرف في المعادلة. يتأثّر ويُؤثّر. يَكتب ليشفي، لا ليزيد الجرح. وإن نجح في خلق التوازن بين الصدق في الطرح، والأمل في المخرج.. عندها فقط، يكون إبداعه ليس انعكاسًا للقلق فحسب، بل طريقًا للخلاص منه.

وصدقًا ومن قلب التجربة وروح المعاناة، الأدب والفن والثقافة ليست زينة الحياة كما يُخيّل للبعض، بل هي أوتاد الرّوح حين تعصف بها رياح القلق والتفكك. إنها الحاضنة التي لا تسألنا من نكون، بل تحتضننا كيفما كنا، تنقّي ما فينا من غبار، وتعيد تشكيل وعينا برفق. في خواطر نكتبها، في قصيدةٍ نقرأ أنفسنا بها، وفي لوحةٍ نكتشف ما لم نستطع قوله، وفي روايةٍ نجد العزاء الذي لم يمنحه لنا أحد، في مقطوعةٍ موسيقيّة تُعيد السكينة إلى أرواحنا التّائهة.. وغيرها وغيرها. هذه المساحات ليست رفاهية، بل ضرورة وجودية تُعيد الإنسان إلى إنسانيته، تذكّره أنّ ما يشعر به ليس ضعفًا، بل جزء من كينونته العميقة، فنحن حين نكتب، ليس بالضرورة ليقرأ أحدهم، بل لأنّ الكتابة هي نافذة لأرواحنا المتعبة.

وها نحن، في خضمّ هذا العصر المتوتر، لا نملك ترف الصمت ولا رفاهية الغياب. فالقلق بات رفيق الأرواح، وظلّ الأيام، يُلاحقنا في تفاصيل الحياة ويمتدّ حتى أحلامنا. نعم، نعترف بذلك بلا مواربة. لكنه ليس قدرًا محتومًا. إنّ بداخل كلٍّ منا نافذةً تُطلّ على السكينة، مفتاحها الإرادة، وسرّها في الصبر.. في الاستماع إلى همس أرواحنا التي طالما أهملناها. نملك أدوات النجاة، من العقل إلى القلب، من الذوق إلى الفن، من الكلمة إلى العلاقة الصادقة مع الله والناس. فقط إن أردنا، إن تجرّأنا على الوقوف في وجه التيار، ولو قليلًا.. سننجو.

وفي الختام، أقول لكم، الكتابة ليست مجرّد حبر على ورق، بل هي مقاومة راقية للانهيار، وهي في عصر القلق، أشبه بيدٍ تمتدّ وسط العتمة، لا لتُنقذ الجميع دفعةً واحدة، بل لتقول فقط: "لست وحدك.. أنا أرى، أنا أفهم، وأنا أكتب لأجل ألّا تنطفئ".  إنّ الكلمة الصادقة قد لا تغيّر العالم، لكنّها تُضيء شيئًا في صدر قارئ، وتُرمّم شقوق قلبٍ متعب..

ردوان كريم (كاتب من الجزائر)

عصر القلق.. حين تتحوّل الحداثة إلى عبء نفسي!

القلق.. وباء العصر الحديث

نحن في عصر "فائق القلق"، الجميع يعيش تحت ضغط زائد عن اللزوم بشكل دائم وملازم. وحين يخف الضغط أو يختفي، يبقى الفرد قلقًا بلا سبب لأنه اعتاد القلق، ويصبح غياب هذا القلق نفسه مصدرًا للقلق، وكأنّه من غير المعقول أن تبقى هادئًا مرتاحًا نفسيًّا دون قلق.

في العصر الحالي، أصبحت الجامعات والمعاهد والمدارس تنتج متخرّجين في جميع المجالات أكثر من الحاجة المطلوبة في سوق العمل. أي أنّ هناك تخمة في عدد الخرّيجين وأصحاب الشهادات العليا. المنافسة شديدة وفرص العمل قليلة. الأجور تقلّ حين يكون العرض أكبر من الطلب. الموظّف خائف من فقدان منصبه، وقلق من أجل الحصول على منصب أرقى لأنّ راتبه لا يكفي، والعاطل قلق لأنه بلا عمل. وحين لا يجد المتخرّج عملًا بشهادته يتحوّل إلى مهن تتطلّب درجة علمية أقلّ من شهادته، ولهذا نجد خادم طاولة في مطعم، أو موظّف استقبال في فندق، أو تاجرًا في مجالات تجارية مختلفة يستخدم لغة راقية، ويقدّم خدمة عالية الجودة وطرقًا علمية ومدروسة تجعل أصحاب المهنة الحقيقيين في حيرة أمام منافسة شرسة تفوق إمكانياتهم الفكرية. وفي الجهة المقابلة، هؤلاء المتخرّجون بشهادات عليا، رغم تمكّنهم من المهن والحرف التي تحوّلوا إليها، غير راضين عن أنفسهم، يعيشون القلق لأنهم لا يرون أنفسهم في مكانهم الطبيعي، ويعتقدون أنّهم يستحقّون مكانة أفضل ويتوقون إلى العودة إلى مجالاتهم.

ما هو القلق؟ بين الدافع الطبيعي والاضطراب المنهك

في عصر تتسارع فيه الإيقاعات وتتكاثر الضغوط من كل جانب، يبرز القلق كأحد أكثر المشاعر الإنسانية شيوعًا وإرباكًا. لم يعد مجرّد شعور عابر، بل تحوّل إلى حالة معقّدة تتأرجح بين كونه دافعًا طبيعيًّا يساعد الإنسان على مواجهة تحديات الحياة، وبين كونه اضطرابًا منهكًا حين يتجاوز حدوده أو يطول أمده.

القلق في جوهره شعور بالتوتر والترقّب، وإحساس غامض بوجود خطر أو تهديد يرافقه فقدان الطمأنينة. نوباته القصيرة قد تكون محفّزًا إيجابيًّا يوقظ الحواس ويشحذ الإرادة، لكنّ استمراره لفترات طويلة يحوّله إلى عائق حقيقي يعطّل مجرى الحياة اليومية ويحوّلها إلى تجربة مرهقة ومؤلمة. وهو لا يقتصر على المشاعر الداخلية، بل يعلن عن نفسه عبر مجموعة واسعة من الأعراض الجسدية والنفسية: توتّر وتململ دائم، سرعة تعب، ضعف في التركيز، عصبية مفرطة، شدّ عضلي، اضطرابات في النوم، خفقان في القلب، تعرّق زائد، رجفة، ضيق في التنفس، آلام في الصدر، غثيان، دوار، وأحيانًا شعور غريب بانفصال عن الذات أو الواقع.

جذور القلق.. لماذا نصل إلى هذه الحالة؟

تتنوّع مسبّبات القلق وتتشابك؛ أبرزها التحوّلات الاجتماعية والاقتصادية والتقنية السريعة التي ضاعفت الضغوط اليومية وجعلت التكيّف أكثر صعوبة. تضاف إلى ذلك اضطرابات القلق بأنواعها المختلفة، فضلًا عن العوامل العضوية مثل اضطرابات الغدة الدرقية، انخفاض السكر في الدم، فقر الدم، أمراض القلب، والإفراط في تناول المنبّهات الغنية بالكافيين التي تزيد الأعراض حدّة. ولا تقتصر نتائج القلق المزمن على الإرهاق واستنزاف الطاقة فحسب، بل تمتد إلى تقلّب المزاج، والعصبية المفرطة، وانخفاض الإنتاجية، ما ينعكس على جودة الأداء في العمل والعلاقات الشخصية. وإذا تُرك بلا علاج، قد يتطوّر إلى اضطرابات نفسية أعمق تؤثر على الشخصية ككل.

وسائل التواصل الاجتماعي.. معمل المقارنات السامة

في الماضي، كان الزملاء والأصدقاء والمعارف والعائلات يلتقون في مناسبات، وحين يتفرّقون يبقى أثر لحظة اللقاء إلى لقاء آخر. كل شخص كان يعيش في عالمه، قانعًا بالقسمة والنصيب، مشغولًا بحياته وعمله، ويحمل فكرة واحدة عن كل شخص يلتقيه في حياته. أمّا اليوم فقد جعلت وسائل التواصل الاجتماعي الناس ينشرون أبهى صورهم في أفضل مكان يمرّون به، ويشاركون أفضل لحظات حياتهم في مواقع افتراضية تقدّم أفضل نسخة عنهم، أو النسخة التي يحلمون بها. الأمر الذي كشف أقنعة النفاق لدى البعض، وأثار الغيرة والحقد لدى البعض الآخر. هناك من يشعر بالتفوّق وهناك من يشعر بالنقص. الناس تُظهر نجاحها وتتفاخر، وتخفي تعبها وشقاءها، وتخفي الصعوبات التي واجهتها، وتُظهر الجانب الجميل فقط من نجاحها، بينما الفشل والسقوط والمحاولات الكثيرة التي لم تفلح تبقيها لنفسها.

الكلّ يعتقد أن حياة الآخرين مثالية وناجحة، إلا هو. فتجده يسعى إلى أهداف وطموحات لا علاقة له بها، يريد أشياء لا تعنيه، ويقارن نفسه بأشخاص لا علاقة له بهم، وحياتهم وأعمالهم مختلفة عن حياته وعمله. أصبحنا نعيش في عالم يريد فيه الكلّ أن يحيا حياة المشاهير، الكلّ يريد حياة لاعبي كرة القدم ونجوم سينما هوليوود، في عالم استهلاكي محض، يعتقد الجميع فيه أنه قلق، ليس ناجحًا، ولا يعيش الحياة التي يستحقّها، دون النظر إلى أوضاعه، والمكان الذي يعيش فيه، ومجاله، ومستواه. فبدلًا من أن يقارن الفلّاح نفسه بالفلّاحين من حوله في منطقته، ثم بلده، وبعد ذلك بالفلّاحين في العالم، ويسعى إلى الاستمتاع بعمله وتطويره، تجده يقارن حياته بلاعب في ريال مدريد، ويقرّر أنّه فاشل أو بعيد عن النجاح، فيعيش القلق بلا سبب.

الفلّاح يمكن أن يقارن نفسه بفلّاح آخر، والصيدلي بصيدلي آخر، لكن أن يقارن المحامي نفسه بممثّل سينمائي، فهذا أمر خاطئ، والقلق الذي ينجم عنه لا يمكن إيقافه لأنّ بيئة الشخص الأول بعيدة ولا تتوافق مع بيئة الشخص الثاني. الناس تحب المقارنة لتقرّر هل هي ناجحة أم لا، فتخلق لنفسها ضغطًا وقلقًا لا جدوى منه. لكن في الحقيقة، لا أحد يجب أن يقارن نفسه بغيره، حتى لو كان شخصًا من البيئة نفسها أو المحيط أو العمل أو الدراسة. لكل شخص ظروفه وتجاربُه وقدره.

"أنت وحدك، لا تشبه أحدًا، ولا أحد يشبهك، حياتك ملكك وحياة الناس مختلفة عنها، يمكنك فقط أن تقارن نفسك بنفسك في الماضي أو بنسختك التي تريد الوصول إليها في المستقبل".

التكنولوجيا.. النعمة والنقمة

في ظل وجود شبكات طرق ومواصلات، ووسائل نقل ووسائل تواصل عالية الدقة والجودة، أصبح العالم يعيش في سرعة غير متناهية. في الماضي كان التاجر يبيع سلعته ببطء، والزبون ثابت. لكن مع وجود التجارة الإلكترونية ووسائل التوصيل السريع ووسائل التواصل، يجد المرء نفسه، فقط عبر الهاتف الذكي أو الكمبيوتر، في سوق مفتوحة لا تقتصر على نطاقه الجغرافي القريب، حيث تتحدّث الأرقام. البائع يبيع بسرعة، والمشتري لديه كل الخيارات، والخدمة سهلة ومتاحة في كل مكان، والأسعار وحدها هي التي تقرّر. ومن لا يتماشى مع التطوّر التكنولوجي يتأخّر ويخسر. ولهذا يزداد القلق يومًا بعد يوم، لأنّ الفرد عليه أن يتخذ قرارات حاسمة بسرعة وكثرة، ودون تأخّر، ولا مجال للتفكير الطويل.

في الطب، في الماضي كان الطبيب معروفًا في حيّه ومنطقة عمله، أمّا اليوم فبنقرة زرّ تجد الطبيب والاختصاص الذي تبحث عنه في أي مكان تريده، مع أرقام الهواتف وحجز المواعيد وحتى آراء الناس عنهم بالمكشوف. ومن المنزل يمكن أن تحضر فعاليات علمية، وتدرس، وتعثر على المعلّمين في كل الاختصاصات، وتتعلم اللغات بطرق سهلة وأحيانًا مجانية. الكلّ يعرض خدمات والكلّ يشتري ما يريد، سواء كانت سلعًا مادية أو خدمات علمية وفكرية. الكلّ تحت ضغط العمل الذي يتبعك في كل مكان، الكلّ ينافس الكلّ، والكلّ في قلق دائم.

التكنولوجيا الحديثة، رغم أهميتها ومنافعها وتسهيلاتها في حياتنا اليومية، إلا أنها أثّرت بشكل سلبي على الأخلاق والقيم التي تربينا عليها، وعلى الثقافة التي نشأنا في كنفها. فأولياء الأمس، بعد عودتهم من العمل، كانوا يهتمون بأبنائهم، يحدّثونهم، يعلّمونهم أشياء كثيرة، ويسردون لهم القصص والحكايات المليئة بالحكمة والأقوال المأثورة واللغة المهذبة. أمّا اليوم، فالأولياء الجدد يعودون مساءً منهكين، وينشغلون بهواتفهم، فلا قيم تُنقل للأطفال، ولا ثقافة تُعلّم، ولا مبادئ تُغرس، ولا لغة سلسة وجميلة تُدرَّس لهم. ومن أخطاء الجيل الجديد من الآباء أن يمنحوا أطفالهم هواتفهم للتسلية، فيرتاحون من أسئلتهم الطبيعية الكثيرة في سنهم الصغير.

الأطفال الذين يشاهدون مقاطع الفيديو بكثرة، سواء على وسائل التواصل أو المواقع التي يختارها آباؤهم، يكبرون على أفكار متناقضة، بثقافة هشة، ولغة غير سليمة، بل أحياناً بذيئة وغير مهذبة، ومن دون مبادئ أو احترام للقيم. فمحتوى وسائل التواصل غالبًا غير موجه للأطفال، والعالم الافتراضي لا علاقة له بالواقع. هذه التناقضات تجعل الأطفال يبنون شخصياتهم على أفكار وثقافة وهمية، فتكون شخصياتهم ضعيفة وغير منضبطة، تبحث عن اللهو، فاقدة للجدية والرغبة في النجاح بالطرق الصحيحة، غير مستعدة للتضحية من أجل تحقيق أحلامها، لا تريد أن تتعب، ترفض العمل والاجتهاد، تعيش في الأوهام وتتمنى فقط، ترفض الواقع الحقيقي، تبحث عن الربح السريع والسهل والمجاني، وتهرب منه لتخلق عالماً موازياً وفق تصورات غير مجدية وبدون أساس، تتبناها من وسائل التكنولوجيا.

التكنولوجيا الحديثة لم تؤثّر سلبًا على الأطفال والمراهقين فقط، بل حتى على الكبار، الذين وبسبب فرط مشاهدتهم لمحتويات تهدف أساساً للشهرة والإشهار والاستهلاك، ودون أيّ التزام بالقيم والمبادئ، أصبحوا يسعون وراء الماديات حباً في الامتلاك، ويقلّدون ما يُسمّى "المؤثرين" حيث تطغى المظاهر على الواقع الحقيقي. الكل يسعى وراء الثراء والكسب الكثير والسريع، ما خلق لديهم إحباطًا وقلقاً وعدم رضا عن النفس وقلة حيلة وغياب القناعة.

ورغم أن التكنولوجيا الحديثة توفر كل الشروط والمميزات التي تسمح بالنجاح والتعلم والتطور، إلا أنها مجرد آلية للوصول إلى المبتغى إذا أحسنّا استخدامها، أو قد تدفعنا إلى متاهة من التفاهة والخروج عن مسار الروحانية المتمثلة في الدين والقيم والثقافة. هذه الاضطرابات تزيد من القلق، فهناك إفراط مبالغ فيه في المعلومات: المفيدة والتافهة، العادية والعلمية، البسيطة والمعقدة، ما يغرق المتلقي في بحر من الأخبار والمعلومات الصحيحة والكاذبة. وبمجرد أن يحاول التفكير في الأولى، يتلقى ثلاث أو أربع أخرى، فيُمنع من تكوين أو تبني فكرة واضحة، فيشعر بالقلق والإحباط دون سبب مباشر. والسبب يعود إلى التلقي غير المحدود، بلا تصفية أو حجب للمعلومات الرديئة كالنفايات، وحتى المعلومات الصحيحة تصل بلا حاجة حقيقية إليها.

القلق مجهول السبب الذي تخلقه التكنولوجيا الحديثة بالإغراق في بحور من المعلومات الكثيرة والمتناقضة، والتي تمنع التفكير أو الرفض أو التصديق، يشبه استعمارًا يختاره الإنسان لنفسه. هذا الغزو يتم بالتقليل من شأن الثقافة والقيم والمبادئ والأخلاق والروحانيات الدينية، والتهجم عليها، وفرض ثقافة الاستهلاك وقيم التجارة بدل قيم الإنسانية، وأخلاق الخبث والنفاق بدل أخلاق الطيبة والصدق، وثقافة سوقية لا علمية بدلاً من ثقافة التربية والعلم وفلسفة الحياة. القلق الذي تفرضه الحياة الحديثة استعمار يحث على الخمول والاستهلاك، بدل العمل والإنتاج والتطور.

التكنولوجيا الحديثة أفضل ما توصل إليه العلم، فهي نعمة، كنز وغنى، رفاهية وحياة أسهل وأفضل. فمن يمتلكها ويعرف كيف يستخدمها، تدفعه إلى النجاح والرقي علمياً وعملياً، وتأخذه إلى مراتب عليا في كل مجالات الحياة، كما حمل الفلكُ سيّدَنا "نوح" إلى برّ الأمان. تخلق الراحة والطمأنينة والأمان. أمّا من أساء استخدامها، فيصبح لعبة وعبدًا مملوكًا لذكاء اصطناعي، ولأهواء كل من يملك غاية التملّك عبر التكنولوجيا، فيكون أسيرًا للقلق من المجهول وغير المعلوم، وللرغبة في امتلاك ما لا حاجة له، وللطمع فيما لا يعنيه، فيشقى دون قناعة بما يملك، ويقلق مما لا ينفعه، ويعمى عن كل خير هو فيه.

دور الأدب والفن.. ملاذنا من العاصفة

الكاتب أو الشاعر ابن مجتمعه؛ يفرح لأفراحهم، يحزن لأحزانهم، يشاركهم أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ويسعى للرقي بها. يعبّر عن واقعها وحالها، يفك ألغازها، يلمس جراحها ويداويها. يقول ما يعجز الجميع عن قوله، ويفسر ما تحس به الجماعة. يكون صوت المظلوم وصوت الجائع، صوت الحرية، صوت الفكر والعلم، قلم الثقافة والفن، حارس الأدب والتقاليد التي تشكّل الهوية، رمز الأمل ورسّام المستقبل. الأديب وفيّ لوطنه ومجتمعه. فإذا كان القلق إحساسًا جماعيًّا، يعبر عنه، يكشفه كالطبيب، يصف أعراضه، أسبابه ونتائجه عبر حبكة قصته أو شخصياتها، ومن خلال أحداثها نشعر كقرّاء بالقلق العام لدى الشخصيات وفي الأحداث. تناقشه الرواية بطريقة سلسة، فنفهم طبيعته، ونتعلم كيف نواجهه، عبر سرد ووصف وتحليل أدبي جميل. لا نشعر كيف نتلقى أفكاراً فيها من العلم ما يساعدنا على فهم القلق، تهدئته وتجاوزه. الأديب عقل الأمّة الناضج، ولغتها الأنيقة والمهيكلة والموزونة. يطمئن الجميع ويوحدهم، ويخلق انتماءً ومشاركة للتجربة والمصير والطموح والمستقبل، فيخف القلق بضغطه وضجره، ويختفي النفور والتباعد، ويعوّضهما بالأمان والطمأنينة والانتماء، مقنعاً إياهم أن الغد سيكون أفضل. يرتب أفكارهم، ينمّي ثقافتهم، ويريحهم نفسياً.

عندما نقرأ قصيدة شعرية تتحدّث عن جيلنا، وشعبنا، ومجتمعنا، وعن أحاسيسنا الجامعة، نشعر بالانتماء والوحدة والأخوّة، فيتولد استقرار نفسي وراحة. وكذلك مع أغنية شعبية تلامس قلوب كل الناس. وينطبق الأمر نفسه على الرواية، والمهرجانات الثقافية، والتظاهرات الفنية التي تحيي العادات والتقاليد، والإرث الموسيقي أو المسرحي، إذ تخلق حبًّا وأُخوّة بين أفراد المجتمع، وهوية فنية وثقافية.

الخروج من النفق.. كيف نواجه القلق؟

ومع ذلك، يمكن مواجهة القلق والسيطرة عليه من خلال استراتيجيات متعددة تبدأ بالعناية بالنفس والبحث عن وسائل الترفيه والاسترخاء، مثل التدليك لتخفيف شدّ العضلات، والمشروبات والأعشاب المهدّئة. كما أن للممارسات الدينية والروحية دورًا مهمًا في بثّ الطمأنينة واستعادة التوازن الداخلي. ومن الضروري تقليل استهلاك الكافيين، وإجراء الفحوصات الطبية لاستبعاد الأسباب العضوية. وفي الحالات الشديدة أو المستمرة، يبقى اللجوء إلى العلاج النفسي أو الطبي خطوة شجاعة وحكيمة نحو استعادة السيطرة على الحياة وتحقيق راحة البال.

سلوى غيّة (باحثة وناقدة - لبنان)

الشعور الذي يغتالنا.. نكتبه لننجو!

نُحِبُّ ونَخافُ.. نَخشى أن نُحِبَّ أكثر ممّا يُحِبُّنا الآخَرُ، أن نُهمل رغمَ امتلائنا بالحُضورِ، ألّا نكون أولوِيّةً رغمَ صِدقِنا. نَثِقُ ونتوجَّسُ.. نخاف الانكِسارَ، ونَرتَعِبُ من خذلانٍ يأتي من أقرَبِ النّاس. نخشى العفويّة مع النّرجسيّ، لأنّها تصير فخًّا…

في الاهتمامِ، نَرتابُ مِنَ المُؤقَّتِ، مِنَ المجاملة، مِنَ شعورٍ لا يُشبِهُ الحقيقة ولا يُشبِهُنا. في العائلة، نَخشى الفَقدَ. في الصَّداقة، نخشى الزَّيفَ. في العَمَل، نَحذَرُ مِنَ المصلحة المُقَنَّعَةِ. وفي الشّارع، نَخشى الغدر في عُيونٍ تَبتسمُ..

نَحيا الحياةَ لا بسَجيَّةٍ، بل نَعيشُها بِحذرٍ، والقلقُ يَسكُنُنا بِصَمتٍ.. في الحُبِّ نَرتَبِكُ، وفي الصَّداقةِ نَرتابُ، في المُجتمع نَتوارى خَلفَ أَقنِعَةٍ، وفي الثِّقةِ نَرتَعِشُ. نَخشى كُلَّ ما نَعيشُه، وكأنَّ كُلَّ جَميلٍ مَحكومٌ بالزَّوالِ، وكُلَّ دفءٍ مهدّد بالتَّحوُّلِ إلى جَليد..

ذلك الصّوت الخَفِيُّ الذي يُربِكُنا حِينًا، ويُلهِمُنا حينًا آخر.. ذلك الشّعور المُتَأَرجح الذي يسكنُ زَوايا الرُّوحِ، هو القلقُ بعينه. لكنّه، ليس عَدُوًّا دائمًا ينبغي محاربته، بل رفيقٌ خَفِيٌّ للإنسان الأعمق. إِنّه الدّافع الخفيّ للتّساؤل، للتّفكّر، للغوص في معنى الوجود. هو مَن يجعلنا نُمعِنُ النّظر في الحياة، لا بِسَطحِيَّتِها، بَل بِعُمقِها القاسِي. هو الصّوت الذي لا يُخرِسُنا، بَل يَدفَعُنا للكلام، للتّعبير، للكتابة، للتّفتيش عَن أَنفُسِنا وَسطَ الضَّجِيجِ.

القلقُ هو ما يدفعك يا صديقي لتسأل، لتبحث، لتفكّر، لتكتُب، لتثِقَ رَغمَ الخوف، وتُحبّ رَغمَ الحذر.. هو ما يُحفِّزُ فينا شهوة اكتشاف المجهول والتّأمُّل في الوجود وما حولَه. هو ما يجعلُنا نتساءل: مَن أنا؟ لماذا أنا هنا؟ ما الغاية من الألم؟ ما معنى أن نتألَّم؟ وما الجدوى مِنَ البقاء أو الرَّحيل؟ 

القلقُ الوجوديُّ، أعزّائي، لا أراه مرضًا يجب الشِّفاء منه، بل طريقًا نكتشف مِن خلاله ذواتَنا. هو المنظار الذي نُبصِرُ به العالم بوضوحٍ أشدّ وعُمقٍ أكبر. بدونه، نضيعُ.. نفنى.. ونغرقُ في سطحيّة الحياة، والسّطحيّة مُكلِّفةٌ وثمنُها باهظ. 

دعونا ننبُش سويًّا في يوميّات الإنسان، تلك التي تبدأ بانبثاق الفجر ولا تنتهي إلّا حين يغمضُ عينيه في ليلٍ مِنَ التّعب والبحث. 

منذ الّلحظة الأولى التي يفتح فيها عينيه، وتستيقظ أفكاره، يُداهمُهُ القلق، ولو تلبَّسَ بساطة الأسئلة. فالواقع صاخب، والرّوح قلِقة، والأسئلة تراودُهُ كظلٍّ لا يُفارقه.. تختلف مِن شخصٍ لآخر، لكنّها تلتقي جميعًا عند نقطةٍ واحدةٍ: الحَيرةُ الوجوديّة.

أسئلة لا أحد يملك أجوبتها الكاملة، لكنّ مُجرّد طرحها، كما أؤمن، هو بداية وعيٍ جديدٍ:

ما الجدوى مِن هذا الصّباح؟ 

هل لِما أفعله اليوم أيُّ معنى؟ 

لماذا أنا هنا؟ وما رسالتي؟ 

مَن أنا وَسطَ هذا الضّجيج؟ 

ولماذا هذا القلق الذي لا ينام؟ 

هل أعيش فعلًا.. أم أنّني فقط أؤدّي دورًا لَم أكتبه أنا؟ 

أعزّائي، أُؤمِنُ أنّ القلق ليس لعنةً كما يُصَوِّرُهُ البعض، بل هو شعلة الإبداع الكُبرى. كثير مِن أعظم الأعمال الأدبيّة وُلِدَت مِن رَحِمِ القلق الوُجُودِيِّ، مِن عُمقِ الألم لا مِن لحظات السّكينة. المَعرِيُّ، السِّيَّابُ، نِيتشِه، الشَّابِي، كَافكَا، دُوستُويفسكِي.. لَم يَكتُبُوا مِنَ الوَفرَةِ أَوِ الرَّخَاءِ، بل مِن شعورٍ دفينٍ يعتصر الرّوح ويدُفعُها للسؤال، للمواجهة، وَلِلنَّبشِ في أعماق الإنسان والكون.

القلق، حين يسكن كَاتِبًا، لا يكتفي بهمساتٍ على الورق بل يتحوّل إِلى نظرةٍ أكثر عمقًا نحو العالم.. يرى الكاتب ما لا يراه سِواه، يُحَلِّلُ مَا يُغفَلُ عنه الآخرون، يَبحث لا عن إجاباتٍ جاهزةٍ، بل عن الأسئلة ذاتها.

سأُخبركُم بعضًا مِن تجربتي، أعزّائي. أنا مِن أولئك الذين، حين يكتبون في لحظة قلقٍ دفينٍ، تتفتَّحُ القصيدة، وتزدهرُ الكلمات، رَغمَ ما يعتريها من حيرةٍ، مِن وجعٍ خفيٍّ، مِن لهفةٍ خائبةٍ، أو حُبٍّ انكسر، مِن ثقةٍ مخذولةٍ، أو صِدقٍ طُعِنَ. ومع ذلك، أراها تنمو، تنضج، وتُضيء رَغمَ العَتمة التي وُلِدَت فيها. 

لا أعلمُ على وجه الدِّقّة لماذا يُسعدني أن أقرأ ما كتبتُهُ تحت وطُأة القلق، لماذا يُبهجُني نصٌّ مُوجعٌ، أو خاطرةٌ خرجت مِن شقوق القلب. ولا أدري لماذا أميل إلى قراءة كتابات الأدباء الذين صبغوها بالقلق، بالوحدة، بالألم، بالتّشاؤم.. مع أنّني لا أتشاءم منها، بل أشعُرُ كأنّ إصبعًا خفيًّا مِن بين السّطور، وُضِعَ برفقٍ على جرحٍ مخبوءٍ في داخلي. 

ربّما لأنّ الكتابة، ببساطةٍ، طقس من طقوس التّطهُّر. وربّما لأنّي أُخلّد لحظة وجعٍ ما، في زمن ما، فأنزع عنها غموضها. أو لعليّ، دون أن أدري، أُعبّر عمّا يعجزُ الآخرون عن البوح به. أو لعليّ أُؤمنُ أنّ الكتابة عن القلق والضّعف، هي بذاتها فعل قوّة، لا هرب.

أو ربّما أكتب، لأنّي أُؤمن أنّني يومًا ما، سأعود إلى تلك السّطور، وأقول لنفسي بهدوءٍ وامتنانٍ: لقد تخطّيتُ هذا الألم.. ولم يكسِرني. 

الكتابةُ عن القلق ليست ضعفًا، بل محاولة شجاعة لتهدِئة الرّوح، لفهم الذّات، ولرؤية المعنى وَسطَ الفوضى. 

فالذي لا يقلق، لا يعرف كيف يُحبّ بعمقٍ، أو يثقُ بصدقٍ، أو يبحثُ عن جمال المعنى وَسطَ ضجيج الحياة وهذا من وجهة نظري أعزّائي، لكم حرّيتكم أن توافقونني أو تخالفونني. إنّه القلق، لا الرّاحة يا صديقي، من يوقِظ فينا وهجَ الإبداع. 

الإنسان أعزّائي، بطبيعته، يحتاج أن يُعبّر عمّا يعتمل في داخله وفي قلب هذا القلق الذي يسكنُهُ، يولدُ الفنّ، كتابةً، رسمًا، نحتًا، موسيقى.. يخطُّ الإنسان قلقهُ قصيدة، يرسُمُه لوحةً، ينحته جُرحًا على جدار الزّمن. ومِن خلال هذا الفنّ، يمنح الآخرين مفاتيح لأبوابٍ في دواخلهم لم يجرؤوا على فتحها. 

كم مِن مرّةٍ قرأنا قصيدة وقُلنا: كأنّ الشّاعر عاش حزننا! 

كم مِن مرّةٍ نظرنا إلى لوحةٍ وقُلنا: كأنّها تعكس ما بداخلنا! 

الأعمالُ التي تخرجُ من قلقٍ داخليّ، تملكُ قدرةً خارقةً على ملامسةِ الأرواحِ. والكاتبُ، كغيرِهِ من الفنّانينَ، لا يمكنُ حصرُه بين مهمّةِ التّعبير عن القلقِ أو نشرِ الطّمأنينة، هو بحاجةٍ إلى التّوازن بين النّقيضين؛ فالثّقافةُ على أنواعها، هي المأوى الرّوحيّ للمجتمعِ، وهي أداةُ مقاومةٍ فعّالةٍ في وجهِ استعمارٍ نفسيّ نعيشهُ في عصرٍ متسارعٍ، يضغطُنا بالتّكنولوجيا، ويُفرغُنا من الرّوح والمعنى. الكتابةُ، إذًا، وسيلةٌ اخترعها الإنسانُ ليُفصحَ بها عن نفسهِ.  

وفي لحظاتِ القلقِ، لا نبحثُ عن إجاباتٍ جاهزةٍ، بل عن احتواءٍ.. عن طمأنينةٍ ولو عابرةٍ. القلقُ الوجوديُّ يتجلّى في كلّ شيءٍ، وهو ما يُكسبُ النّصوص صِدقها وفرادتها.

لا أراه مرضًا، بل شعلةً صغيرةً في عتمةٍ كُبرى، تنيرُ الطّريق. هو مرآتنا، يعكسُ هشاشتَنا ووعينا في آنٍ معًا. ولا أدري، أصدقائي، إن كنتم توافقونني الرأي، لكنّي أؤمن أنّنا حين نكتبُ عن قلقنا نُشفى قليلًا.. وحين نقرأُ قلقَ الآخرينَ، نرتاحُ، ندركُ أنَّ الضّياعَ ليس حكرًا علينا، وأنّنا لسنا وحدنا في هذا التيه.

أحيانًا، وربّما دائمًا، يَشعرُ أحدُنا أنّهُ غيرُ قادرٍ على أن يُعبّرَ عن قلقهِ وخوفهِ، أو أن يكشفَ ما في داخلهِ لأيِّ إنسانٍ كان؛ لا لصديقٍ، ولا لأبٍ، ولا لأمّ.. رُبّما يُثقلهُ الخوف من ألّا يُفهَم، أو يُربكهُ قلقٌ زائدٌ إن باحَ بما يؤلمه، أو يخشى أن يُنتقَد، فيُفضّل الصّمت. وحين لا يجد مخرجًا، يلوذُ بما يُشبهه: بالكلماتِ التي يكتبها، أو الّلوحات التي يرسمها، أو الأغاني التي يُغنّيها، أو الألحان التي يُؤلّفها أو يهربُ إليها.  

بهذه الوسائل، لا يبوحُ فقط، بل يُنقذ نفسَه من الغرق. لا تخف مِنَ القلق، ولا تخجل منه، فهو ليس عيبًا نتوارى خلفه، ولا ضُعفًا نفرُّ منه. بل هو حقيقتنا العميقة، حقيقة الإنسان المُتسائل، الباحث، المُتعمّق، الفضولي، حقيقة الإنسان الحي..

لا تخف مِنَ القلق، بل اخش الفرح المُزيّف، فالجميع يستطيعون أن يصرخوا مِنَ الفرح.. وليس بالضّرورة أن تُصرّح بقلقك لشخصٍ ما مباشرة، ربّما تخطّه على ورقةٍ، أو ترسمه في لوحةٍ، أو تُفرغه في لحنٍ.. فأنت هنا تتعافى.. تُشفى.. وتنجو.

يوسف الشمالي (كاتب من لبنان)

القلق.. وجه للهدم وآخر للبناء

القلق ليس مجرّد حالة شعورية عابرة، بل هو استعمار للروح والوجدان، يتسلّل إلى أعماق الإنسان ويصوغ رؤيته للحياة ولذاته. هذا الشعور المرهق قد يبدو للوهلة الأولى عائقًا أمام التوازن النفسي والإبداع، لكنه في الوقت نفسه يمكن أن يتحوّل إلى محرّك خفيّ يولّد طاقات تعبيرية وفكرية لا يملكها سوى من اختبر صراعه الداخلي. فالقلق يحمل وجهين متناقضين: وجهًا يثقل النفس بالاضطراب، ووجهًا آخر يفتح أمامها أفق التجاوز والإبداع.

لقد عرف الأدباء والشعراء عبر التاريخ أثر القلق في إنتاجهم، حتى صار جزءًا من ملامح عبقريّتهم. ولعلّ بيت "المتنبي" الشهير:

عَلى قَلَقٍ كَأَنَّ الريحَ تَحتي -- أُوَجِّهُها جَنوبًا أَو شمالا

يلخّص بدقة هذا التوتر الذي يجعل المرء معلّقًا بين الخوف والرغبة، بين الطمأنينة المفقودة والطموح الذي لا يهدأ. "المتنبي" لم يرَ في القلق عيبًا، بل اتّخذه دليلًا على يقظة الروح، إذ لا يمكن للريح أن تمرّ تحت الجسد إلّا حين يكون الإنسان معلّقًا بين الأرض والسماء، أي في حالة تجاوز للثبات. هذا القلق الذي عبّر عنه "المتنبي" وجدنا صداه عند كثير من الكتّاب في عصور مختلفة، من "دوستويفسكي" الذي كتب رواياته الكبرى وهو غارق في توترات نفسية وديون لا تنتهي، إلى "فرانز كافكا" الذي جعل من قلقه الشخصي مادة لصياغة عوالم روائية كابوسيّة لا تزال تُقرأ حتى اليوم كمرآة لاغتراب الإنسان الحديث.

لكن القلق ليس دائمًا حليف الإبداع. فمن الناحية النفسية، يمكن للقلق المفرط أن يتحوّل إلى عائق وجودي، يُنهك الجسد ويُفقد الإنسان القدرة على التركيز والإنتاج. لقد كتب علماء النفس عن العلاقة الوثيقة بين القلق والإبداع، وأشاروا إلى أنّ المبدع يعيش غالبًا توترًا دائمًا بين الحاجة إلى الاستقرار والرغبة في الانفلات من قيود العادي والمألوف. هذا التوتر يخلق حالة من التشتّت، قد تُثمر إبداعًا استثنائيًّا كما قد تنتهي إلى العجز والانطواء. أما اجتماعيًا، فإنّ القلق لا ينفصل عن الظروف التاريخية والسياسية التي يعيشها الفرد، إذ يصبح انعكاسًا للأزمات الجماعية التي تحيط به.

وإذا ما نظرنا إلى واقعنا العربي اليوم، نجد أنّ القلق تحوّل إلى سمة عامة تتجاوز حدود الأفراد إلى أن تصبح مرضًا جمعيًّا. في ظلّ الانقسامات الداخلية، والأزمات الاقتصادية والسياسية، والاغتراب الثقافي، يعيش المواطن العربي حالة انسلاخ وتيه، كأنّه فقد مركزه الصلب في الوجود. هذا القلق الجماعي قد يُنتج انكفاءً على الذات وانعدام ثقة بالمستقبل، لكنه في الوقت نفسه قد يكون دافعًا لابتكار أشكال جديدة من التعبير والمقاومة. فالفنّ العربي المعاصر، مثل الشعر والرواية والمسرح، كثيرًا ما يتغذّى من هذا القلق ليقدّم صورة الإنسان الممزّق بين الحلم والانكسار، بين الرغبة في الحياة والاصطدام بواقع متردّي. بهذا المعنى يصبح القلق ليس مجرّد محنة شخصية بل طاقة جماعية، تختزن إمكانية التحوّل إذا ما جرى تحويلها من شعور بالانكسار إلى وعي نقدي يسعى إلى التغيير.

إنّ القلق، بما يحمله من ثنائية الهدم والبناء، يظلّ عنصرًا أساسيًّا في تكوين المبدع والمجتمع معًا. فهو استعمار للروح إذا استسلم له الإنسان دون مقاومة، لكنه قد يكون أيضًا منبعًا للحرية إذا استثمر في إنتاج رؤى وأعمال تفتح أفقًا جديدًا. ولعلّ ما نعيشه اليوم من انسلاخات وتيه في العالم العربي يجعل الحاجة ماسّة إلى تحويل هذا القلق من قوة معطِّلة إلى طاقة دافعة، لا عبر إنكاره أو محاولة دفنه، بل من خلال الوعي به واستثماره في الإبداع والفعل الثقافي والاجتماعي. بهذا وحده يمكن للقلق أن يغدو نقطة انطلاق نحو المعنى، لا مجرّد قيد يثقل الحياة.

محمد كمال إبراهيم (شاعر وكاتب من لبنان)

تكفير التفكير

قد يشعرُ أيُّ إنسانٍ بالقلقِ، إنّه شعورٌ لا إراديّ، وإذا نظرنا في أسبابِه فسنرى أنَّ السببَ الرئيسَ لهذا القلقِ هو خوفٌ متأتٍّ من حالةِ عدمِ استقرارٍ في محيطِ الشخصِ، أو حالةُ انعدامٍ في الأمانِ قد تدفعُه إلى التردّدِ والخوفِ من الإقدامِ على عملٍ ما، وقد تُدخلُه في دوّامةٍ تسلبُ منه فُرَصَه في العيشِ باطمئنانٍ وسلامٍ. ولهذا التخبّطِ في الحياةِ وجودٌ مشابهٌ في عالَم الأدبِ، العالمِ الفكريِّ البحت، فلِكلِّ ما يهدِّدُك في الحياةِ شبيهٌ يهدِّدُ فكرَك في عالَمِ الأدبِ.

يربطُنا التفكيرُ في هذا القلقِ بنقطةِ وصلٍ مع الكتابِ الشهيرِ الذي ألّفه المفكّرُ العربيُّ "نصر حامد أبو زيد" سنة 1995، وهو كتابُ "التفكير في زمن التكفير"، والذي استوحيتُ -للأمانة - عنوانَ المقالِ منه. ومن العنوانِ، لك أن تعرفَ فحوى هذا الكتابِ الغنيِّ، الذي يُظهرُ حالةَ التكفيرِ والإخراجِ من دائرةِ الإيمانِ التي يتعرّضُ لها أيُّ مفكِّرٍ حرٍّ قد يعتقدُ بحريّةِ تفسيرِ النصوصِ، وبالحرّيّةِ الفكريّةِ. والمؤلِّفُ أستاذٌ جامعيٌّ تعرّضَ لأبشعِ أنواعِ التكفيرِ والملاحقةِ عندما أوردَ في بحثِه المُقَدَّمِ بهدفِ نيلِ الترقيّةِ لرتبةِ أستاذ في جامعةِ القاهرة أفكارًا صنّفها بعضُ المتلقّين خروجًا عن الأساسيّات الدينيّة، ما أدّى إلى تدميرِ حياتِه الأكاديميّةِ في بلدِه، إذِ اضطُر للسفرِ إلى هولندا حيثُ أمضى معظمَ ما تبقّى من حياتِه فيها. "أبو زيد" كانَ جرمُه أنّه دعا إلى اعتبارِ النصِّ القرآنيِّ غيرَ قابلٍ للفهمِ إلّا عبرَ اللغةِ والتاريخِ، وهو - برأيه - نتاجٌ تفاعليٌّ بينَ الوحيِ والواقعِ، يحقُّ لقارئِه فهمُه حسبَ خلفيّاتِه ومسارِه الفكريّ. لقد أدّى تكفيرُ "أبو زيد" إلى حدِّ رفعِ دعوى في المحاكمِ عليه لفصلِه عن زوجتِه عنوةً، بناءً على فكرة "الحسبة".

أظن - وسأكتفي بالناحيّة الأدبيّة مبتعدًا عن الدينيّة - أنَّ من الأسبابِ الأدبيّةِ للرفضِ القاطعِ الذي عومِل به "أبو زيد"، أنَّ المتلقّي العربيَّ يحبُّ أن يكرِّسَ الأديبُ نتاجَه لتثبيتِ استقرارٍ فكريٍّ يرسّخُ طمأنينةً فكريّةً، أجدُها برأيي كسلًا فكريًّا. إنَّ للأديبِ حقًّا جليًّا، بل عليه واجبٌ أن يعبّرَ عن التيهِ الذي يصيبُ مجتمعَه، وأن يكونَ حرًّا في تعبيرِه، وأن يسعى إلى دفعِ المتلقّي إلى توسيعِ دائرةِ تفكيرِه والتوجّهِ نحوَ طرحِ الأسئلةِ، حتّى لو كانت أسئلةً مقلقةً قد تدفعُه إلى الإرهاقِ الذهنيِّ فترةً من الزمن. أن تعرفَ كيفَ تسأل، وماذا تسأل، وأن تحبَّ أن تسأل، خيرٌ لك من أن تتلقّى أجوبةً معلّبةً جاهزةً، خير ٌمن أن تكون جهازَ استقبالٍ، جهازَ حفظِ بياناتٍ جامدٍ بليدٍ. لا أعلمُ لمَ كلُّ هذا القلقِ والخوفِ المفروضين على تفكيرِنا؟

من جهةٍ أخرى، لا شكَّ في أنَّ العالَمَ اليومَ عالَمٌ ماديٌّ مستشرسٌ في ماديّتِه، ولا تنفكُّ ماديّتُه تتوسّع على حسابِ روحانيّتِه يومًا بعدَ يومٍ، ذلك لما يفرضُه الواقعُ التكنولوجيُّ المتغيّرُ دائمًا، والموسِّعُ لسيطرتِه وغطرستِه على عقولِ أذهانِنا المعتقلةِ في سجونِه، وخلفَ قضبانِ اختراعاتِه الساحرةِ. لقد باتَ النتاجُ الأدبيُّ أمرًا سخيفًا في رأيِ السوادِ الأعظمِ من البشرِ، إلّا أنَّ الأكثريّةَ التي يتمتّعُ بها هذا الرأيُ لَأكثريّةٌ وهميّةٌ، إذ تفتقدُ للأهليّةِ في الحكمِ، لأنّ البشرَ اليومَ مخدوعون في هذا التطوّرِ الماديِّ التكنولوجيِّ. ولا سبيلَ إلى التحرّرِ من هذا السجنِ، أو بالأحرى إلى الاندماجِ الصحيِّ معه، إلّا سبيلُ الأدبِ الواعي الحرِّ، الذي لا يحصرُه قلقُه من محيطِه في سجنٍ فكريٍّ، وهو أشدّ مضاضةً من السجنِ الماديِّ، إنَّ التحرّرَ الفكريَّ لَهُوَ اللبنةُ الأولى في البناءِ الاجتماعيِّ الصحيِّ للإنسانِ، لا سيما مجتمعنا العربيّ، والإسلاميّ بشكلٍ أخصّ.

وعلى المستوى الشخصيِّ، وباختصارٍ، أعاني من هذا القلقِ. وفعلًا، إنَّ عصرَنا لعصرُ قلقٍ للأسفِ، ذلك أنّني أشعرُ بقلقٍ رهيبٍ قبلَ نشرِ روايتي الأولى، التي يعدّها كثيرون مندرجةً في قائمةِ التكفيرِ، حتّى أنّها رُفِضَت في دُور نشرٍ لهذا الأمرِ، إنّه خوفٌ من احتمالِ عدمِ نشرِ روايتي أبدًا، ناهيك بالواقعِ الغريبِ الذي تفرضُه دُورُ النشرِ في هذه الأيّامِ، إذ تسعى إلى الربحِ بصرفِ النظرِ عن جودةِ محتوى الكُتُبِ الفكريِّ، هذا المسعى يدمّرُ طموحَ الكاتبِ حديثِ العهدِ في عالَمِ النشرِ الأدبي.

إنَّ للأدبِ والفنِّ دورًا أساسيًّا في إرجاحِ الاستقرارِ الروحيِّ والنفسيِّ لأبناءِ مجتمعِه، وهو مفتاحٌ لحلِّ الضياعِ المرافقِ لهذا العالَمِ الجديدِ الذي يبنيه "زعرانُ" هذا الكوكبِ على هواهم، وحسبَ توجّهاتهم الفكريّة، بل وأقول "اللافكريّة". أضف إلى ذلك تفوّق النزعاتِ الماديّةِ على الروحيّةِ، والنفعيّةِ على الأخلاقيّةِ، ويجبُ ألّا ننسى التدخلاتِ السياسيّةَ الرخيصةَ الخدّاعةَ، ودورَها المستغلَّ للدينِ ولجمهورِه الذي غالبًا ما يكونُ مُقلِّدًا ناقلًا. فكيفَ سيكونُ مصيرُ الأعمالِ الأدبيّةِ المتّسمةِ بالتفكيرِ والتجديدِ، في ظلِّ هذا القلقِ، وفي زمنِ مصادرةِ حريّةِ التوجّهِ التفكيريّ في النتاجِ الأدبيِّ الغريقِ الذي يخاف من أن يسألَ أو أن يفكِّرَ، والذي سيُغرق بدورِه المجتمعاتِ ونفوسَ الخائفين فيها.

«السَّاب».. توأم القلق

غنى نجيب الشفشق (كاتبة من لبنان)

يغرزُ أظافرهُ في نفوسِنا كلّ يومٍ، يغتالُ ضحكاتنا بصمتٍ مريرٍ على أطباقِ اللَّيل المغسولةِ بدموعِ أمنياتنا، ويتركنا حائرين تائهين فوق وسائدنا. لا شيء يحضنُ رؤوسنا من القلقِ إلَّا القلق!... وتدورُ بنا عقاربُ الزَّمنِ تلتهمُ تفكيرنا، تعتصِرُ أرواحنا الباهتةِ وترمي بنا قطعةَ خشبٍ يلُوكها الفراغ في فمِ القلق.

هنا كلَّ الأحلام فانية، لا معنى لأُمنياتنا، نركضُ خلف جوهرِ العيش ويغتالنا الخوف في عصرٍ سيِّدهُ القلق، فتبتلعنا شوارعِ ضيِّقةٌ في صدورنا ونكادُ نموتُ من حتميَّةِ التَّفكيرِ بغدٍ خُبِّئ في مغارةٍ يحرسها شياطين المجهول.

هل حقًّا نحن في عصر القلق أم أنَّنا نعيشُ في أوهامِه؟

لا بدَّ أنَّ وجودنا يطرحُ قضية قلقٍ في عصرِ الانزياح والتَّمرّد الثَّقافي. حينما يضيّع الإنسان بوصلتَهُ ويفقد معنى القيمة الحقيّقيةِ لِوجودهِ، يبدأ بترقيعُ تلك البقعة الممزَّقةِ من حياتِهِ ليكملَ بها كَماله المتناقض الغائرِ بالفراغ المصطنع، فيجد نفسَه غارقًا في مستنقعِ التَّساؤلات حيث الإجابات ما هي إلا أضواء خافتةٌ تضمحِلُّ يومًا بعد يومٍ كلَّما حاول أنْ "ينبشَ" عنها.

أنْ تكون كاتبًا في هذا العصر، يعني أن توثِّقَ قلق النَّاس ومخاوفها لا بإجاباتٍ فرديّة إنَّما بأسئلةٍ توقظ الذَّات الإنسانية من كهوفِ ظُلمتها. في هذا العصر، على الكاتب أن يحملَ في رسائلهِ وفي كلِّ حرفٍ ينثرهُ طمأنينةً تتخطّى حدود الكلمةِ، بل تغوصُ في الأعماقِ لِتتجاوزَ قبحَ العصرِ ومخاوفه بعيدًا عن الوقوع في بركان الاضطرابِ والانفصام عن الذَّات الجماعية، بالبحثِ عن مصدرِ القلقِ والخوفِ، بغسلِ الرُّوح المكتويةِ بلهيبِ الألمِ والحرقةِ الممزَّقةِ على عتباتِ عمرٍ شقي.

أليسَ "بدر شاكر السَّياب" رسولاً في القلق والانزياح والانقسامِ النَّفسي؟ ألم يكن واحدًا من أولئكِ الذين عبروا محيطاتِ الخوف بأسئلتهم فالتقطتهم أمواج القلقِ وسارت بهم نحو الغرقِ في معرفةِ الوجود؟

الوجود سيِّدُ القلق، الشُّعلةُ التي ألهبت عقول الشُّعراء وقلوبهم، وتركتنا نحن في خضمِّ حرقتهم نفرك عيونَنا من رماد تيهِهم اللّامتناهي.

لم يكن "بدر شاكر السَّياب" شاعرًا وحسب بل ناقلاً لقضيةِ قلقٍ مزدوجٍ: "قلق الجسد وقلق الرُّوح الفانيةِ" فكان متعطِّشًا دومًا للخلاص والتَّفلُّتِ من حبالِ المرضِ والجنونِ.

لقد تخطَّى "السَّياب" سلّم القلق الشَّخصي إلى القلق الجماعي الكوني وانتقل ليرسمَ لنا هذا القلق بـ "أنشودةِ المطر" وغيرها ليعبِّر عن ألمِ الوطنِ بالألمِ الجسدي.

لم يتوقَّف شاعرنا هنا وحسب بل توغّل في قلقهِ إلى قلق الذّاكرةِ والمنفى فقد كان يحمل في سترةِ فؤادهِ قلقًا وطنيًّا لا يعرف سبيلاً للخلاصِ منهُ. وفي أوجِّ معاناتهِ مع قلقِ الخلودِ والفناءِ، حوّلَ "السَّياب" شعرَه إلى زورقٍ يعبرُ به أنهار الخوفِ، تاركًا أثرًا جميلاً يُخلَّد بعد فناءِ الجسدِ، وكأنَّهُ يصرخُ فينا قائلاً: "على الكاتب تحويل مخاوفِ عصرهِ إلى أيقونةِ جمالٍ خلاَّقةٍ تبعدُنا عن شتاتِ الذِّهنِ وفوضويَّة الخوفِ والتَّفكيرِ".

لذا لا يجوزُ لأقلامِ الكُتَّاب أن تنكرَ القلق أو تهربَ منهُ بِبضعِ قطراتِ حبرٍ، بل على العكسِ من ذلكَ، عندما يمنحُ المعنى لِما هو مصدر قلقٍ وخوفٍ بالفكر والرؤى واقتحامِ عقليَّة الجماعةِ بدل الفرد.

سرُّ القلق هو اقتحامٌ للمستقبلِ ونبش رموزِ الماضي من مقابرِ التَّاريخ، والتَّعبيرُ عنه ببضع كلماتٍ ما هو إلا عبث في مخيِّلةِ الزَّمن.

عالم القلق هو لغة وأسطورة تفتحُ النَّافذة على الألم الكوني لا يجب أن تندثرَ، بل أن تنصهرَ في بوتقةِ الإبداع ليكون القلق رمزًا للإبداعِ وأغنية تتردَّد في أُذنِ العصرِ.