أكّدت الدّراسات العلميّة أنّ عمر المراهقة عند الرّجل الشّرقي ينتهي بعد وفاته بستّة أشهر، هذا وقد رأى مصدرٌ رفيع المستوى من المؤرّخين وعلماء النفس أنّ مراهقة الرجل "باقية وتتمدّد" مثل شعار "داعش"، حتّى بعد موته، مستشهدين ببيت شعرٍ للشاعر الأموي الأشهر، "جميل بن معمّر"، أو كما يُدعى "جميل بثينة"، حيث قال واصفًا حبّه الأسطوريّ لـ"بثينة بنت حيّان":
يَهواكِ ما عِشتُ الفُؤادُ فَإِن أَمُت -- يَتبَع صَدايَ صَداكِ بَينَ الأَقبُرِ
إن فتّشنا في جوارير معتقداتنا، سنجد العجب، إذ إنّنا في حقيقة الأمر لا نميّز بين الإنسان السويّ والإنسان فاقد الأهليّة النفسيّة. لا أتحدّث هنا عن الذين يحيون في المصحّات العقليّة ومراكز التأهيل النفسي، بل أتحدّث عن الفارّين الذين يحيون بيننا، وأخصّ بالذكر من تمتدّ مراهقتهم إلى ما بعد موتهم، مثل "جميل بثينة" الذي ذكرناه، أولئك الذين ينظرون إلى العمر على أنّه مجرّد رقم، فتفضحهم قحّة صدورهم، والبلغم المتغلغل في رئاتهم، والصبغة التي تعلو ما تبقّى من شعر رؤوسهم.
الآن أسألكم: هل نظرتم بعين الواقعيّة إلى من هم حولكم؟ حدّقوا جيّدًا وعَرّوا الأفعال لا الأقوال، فإنّ أشهر قادة الحروب هم خطباء من الصنف الأوّل ولكنّهم أُصيبوا بجنون العظمة، وقد أطاحت بهم هذه العلّة رغم جبروتهم، وهنا أطرح السؤال: هل المصابون بجنون العظمة أسوياء، في حين أنّ المحرومين من نعمة البصر أو نعمة السمع أو المشي أو مرضى التوحّد هم أناس درجة ثانية؟
حسنًا، الآن أريد أن أضع بين أيديكم فكرةً، اعجنوها بماء التأمّل وأنصتوا لها: من هم ذوي الهمم؟ أو دعوني أقولها كما يلفظها الكثيرون "المعوقون"؟ من هم هؤلاء؟ انظروا حولكم، ربما يكون أحد أفراد أسرتكم، أو أحد جيرانكم، أو شخصًا تعرفونه، أو إنسانًا مرّ أمامكم في حفلة الحياة، اسألوا أنفسكم عنهم، ولكن تذكّروا أنّ الحياة الصحيّة الطبيعيّة فخّ، ولا أحد يعلم بما قد يصيبه بعد لحظةٍ من الآن، هذا إن دلّ على شيءٍ فإنّما يدلّ على أنّنا أسوياء صحيًّا إلى أجلٍ غير معلوم، وقد تصيب أيًّا منّا إعاقة فتُخرجه كما الكثيرين من مهنة العيش بشكله السابق.
هل تشعرون بالشفقة؟ هل تعلمون أنّ شعور الشفقة هو أسوأ شعور ممكن أن يمنحه إنسان لأخيه الإنسان؟ لماذا نشفق على المختلف عنّا؟ هل تعلمون أنّ مريض التوحّد يُشفق علينا هو الآخر؟ هل فكّرتم أن تكونوا مكانه ليوم كامل، هل فكّرتم أن تصمتوا مجبرين ليوم؟ أو أن تغمضوا أعينكم كُرهًا ليوم؟ أو أن تجلسوا على مقعدٍ متحرّك ليوم؟
إنّ المختلف عنّا لديه عالمه الخاص الذي يرى من خلاله أنّنا بشرٌ نحيا لنأكل ونشرب وننام فقط، إنّه يرانا غير فاعلين ولذلك هو غير قادرٍ على الاندماج فينا، يرانا غريبين عنه، ونظنّ كلّ الظنّ أنّه الغريب عنّا، ويزيد الشرخ بيننا وبينه.
فلنفكّر مليًّا بضرورة إعادة صياغة التعريفات التي نشأنا عليها، فالاختلاف سمة الكون، وإن تشابهنا كلّنا لصارت الحياة مملّة. تخيّلوا أنّ الجميع يريد أن يكتب فقط، حسنًا من سيقرأ؟ ألن تكون كتاباتنا عبثيّةً ومن دون جدوى؟
فلنفكّر في المختلف عنّا من باب الشراكة لا من باب الشفقة، فلكلّ مختلفٍ عالمه المختلف، وهذه العوالم على تناقضاتها تصنع الحياة السويّة.
عَودٌ على بَدء، هل نشفق على المُقعَد والضرير والأصم والأبكم أم نشفق على من يرى الناس من منظار المصلحة فقط؟ هل ننظر إلى هؤلاء ونقول: الحمد لله الذي عافانا ممّا ابتلاهم به، ونصفّق للأرعن والكذّاب والمتملّق والغشّاش والمضطرب نفسيّا وعاطفيّا لأنّه يسمع ويرى ويمشي بيننا الخيلاء فقط؟ أليس حريًّا بنا أن نصنّف الإعاقات النفسيّة إعاقاتٍ يجب الحذر منها والمطالبة بتأهيلها في مراكز، عِوَض أن نترك أصحاب الإعاقات الجسدية على الهامش؟
من نحن؟ هل اصطفانا الله لأنّ إعاقةً ما تجاوزتنا وذهبت إلى غيرنا؟ من نحن إن لم نشارك الآخر ما يشعر وما يفكّر ونجعله صانعًا لقرار حياته؟ نحن في حقيقة الأمر ديكتاتوريون، لا نقبل الآخر إلّا وفق ما نريد له أن يكون، إن وقعنا في الحبّ نريد أن نجعل من الآخر نسخةً من "كاتالوج" أحلامنا المليئة بالعُقد، ثمّ حين يصبح كما نريده نملّ منه، كما ملّ "بيجماليون" من امرأته التي نحتها كما يريد.
والآن هيّا بنا نلقي نظرةً إلى عالم الأدب والعلوم، كان "نجيب محفوظ"، الروائي المصري الحائز على جائزة نوبل، يجلس مثل فتً مطيع في حضرة عميد الأدب العربي "طه حسين"، رغم أنّ طه حسين كان قد فقد نظره، لكنّ بصيرته ظلّت حادّة فأرغمت الكون بأسره على احترامه.
ومن زاويةٍ أخرى، فاز عالم الفيزياء الشهير الراحل "ستيفن هوكنغ" بعدّة جوائز عالمية رغم شلله الذي أقعده على كرسيّ متحرّك منذ كان في سن الثانية والعشرين، ومن الجدير ذكره أنّ هذا العالِم رفض دعوةً "إسرائيليّة" لتكريمه بوسام "بنجامين فرانكلين" تنديدًا بما يقوم به هذا الكيان من اعتداءات وشيطنات بحقّ أهل فلسطين، وهنا يمكن أن نسلّط الضوء على أمرٍ بالغ الأهميّة وهو أنّ الإعاقة العقليّة والفكريّة أخطر بكثير من الإعاقة الجسديّة، فكم من سويٍّ بنظرنا باع الأرض والعرض والقضايا من أجل لا شيء؟
الأمثلة كثيرة، ولو قرّرنا الخوض في مجال العلم والأدب لوجدنا العجب، وكلّ ما سنجده سيأخذنا إلى حقيقةٍ واحدة مفادُها أنّ الأرض بما رحُبت خُلقت من الاختلاف، الليل لا يشبه النهار، والشمس لا ينبغي لها أن تعانق القمر، والأسوياء هم الذين يعرفون أنّ كلّ حيّ هو شريك فاعل وفعّال وليست الشفقة هي التي تنصر ذوي الهمم، بل إمساك يدهم والمضي في الدرب معهم وبهم، فكما نراهم يرونا.

