2025.11.09
مسالك الحرية عبر الحدود..  شرايين سرّية أبقت الثورة حيّة ثقافة

مسالك الحرية عبر الحدود.. شرايين سرّية أبقت الثورة حيّة


فيصل هواري
منذ 15 ساعة

في ذاكرة الجزائر الثائرة، تظلّ "مسالك الحرية" إحدى أعظم الأساطير الحيّة التي رسمت ملامح الكفاح الوطني ووهبت الثورة الجزائرية شريانها الحيوي وسط الحصار والملاحقة. لم تكن تلك المسالك مجرّد طرق خفيّة في الجبال أو الممرات الرملية بين الحدود، بل كانت شبكة حياة معقّدة، تمدّ الثورة بالسلاح والدواء والرجال والرسائل، وتنسج خيوط التواصل بين الداخل المشتعل والخارج الداعم، في لحظة تاريخية كان فيها كل عبور ناجح بمثابة نصر صغير يعادل معركة كاملة.

منذ اندلاع ثورة الفاتح من نوفمبر 1954، واجه قادة جيش التحرير الوطني تحديًّا مصيريًّا: كيف يمكن لثورة ناشئة أن تصمد أمام جيش استعماري مجهّز بأحدث الأسلحة؟ كان الجواب في إرادة التنظيم، وفي استثمار الجغرافيا التي عرفها الجزائريون كما يعرفون أنفسهم. فكان أن تشكّلت "مسالك الحرية"، وهي خطوط إمداد سرّية عبر الحدود الشرقية والجنوبية، تُنقل عبرها الأسلحة والذخائر والمؤن والمراسلات، وتُدار بذكاء خارق يوازن بين الصرامة الأمنية وروح التضحية.

كانت الجهة الشرقية من البلاد، على امتداد الحدود مع تونس، تمثل الرئة التي تنفّست عبرها الثورة. فمنذ سنة 1955، بدأت شبكات الدعم تتكوّن في مناطق: الكاف، سوق أهراس، ساقية سيدي يوسف. هناك، كانت القوافل القادمة من تونس تتسلل نحو الأراضي الجزائرية، بمساعدة وطنيين تونسيين ومهاجرين جزائريين. كانت العمليات دقيقة ومحفوفة بالمخاطر، لأن الجيش الفرنسي كان قد نشر آلاف الجنود على طول خط "موريس" المكهرب، الذي امتدّ مئات الكيلومترات على الحدود الجزائرية شرقا وغربا، ليعزل الجزائر عن دول الجوار. ومع ذلك، لم تنقطع القوافل يوما.

وحين نالت تونس استقلالها سنة 1956، فتحت أرضها للثوار الجزائريين، فتحولت إلى قاعدة خلفية للتدريب والإمداد. نُصبت مراكز تدريب في: القصرين، قفصة، حمام الشط، وأُنشئت مخازن سرّية للسلاح في قرى بعيدة يصعب على الفرنسيين اختراقها. من هناك كانت تُنظّم القوافل ليلاً، تمرّ عبر الجبال والغابات نحو: تبسة، خنشلة، سوق أهراس، حيث تتسلمها وحدات جيش التحرير في الداخل. كان كل عبور ناجح يعني استمرار الثورة، وكل فشل محتمل قد يكلّف العشرات حياتهم.

لكن هذا الدعم لم يمرّ دون تضحيات جسيمة. ففي 8 فيفري 1958، ارتكبت فرنسا مجزرة مروّعة في "ساقية سيدي يوسف"، عندما قصفت طائرات الاستعمار القريةَ الحدودية التونسية بحجة أنها مركز إمداد للثوار. ارتقى عشرات المدنيين من النساء والأطفال، وتحولت الساقية إلى رمز خالد للأخوّة بين الشعبين، وللثمن الباهظ الذي دفعته تونس من أجل استقلال الجزائر. لقد أدرك المستعمر، من خلال تلك العملية الدموية، أن انتصار الثورة لا يتوقف على البنادق وحدها، بل على الروابط الإنسانية التي جمعت بين الأحرار في الضفتين.

وإلى الجنوب، حيث تمتد الصحراء بلا نهاية، انفتح طريق آخر لا يقل خطورة ولا بطولة. هناك، في عمق الرمال الممتدة من "جانت" إلى "برج الحواس"، كانت القوافل تسير تحت ستار الليل، تحمل الأسلحة والذخائر القادمة من ليبيا وتشاد والنيجر، متخفية في شكل قوافل تجارية أو رحلات قبلية. لعب التوارڤ دورًا محوريًّا في هذه العمليات، بفضل معرفتهم الدقيقة بمسالك الصحراء وبالنجوم التي تهديهم إلى الاتجاهات الصحيحة. كان هذا الطريق يُعرف بين المجاهدين باسم "المسلك اللامرئي"، لأنه لا يُرى إلا لمن عاش الصحراء وفهم لغتها القاسية. كانت رحلاته طويلة وشاقة، تمتد أسابيع عبر العواصف الرملية والعطش، ومع ذلك، لم تتوقف يوما. ومن خلاله وصلت إلى الداخل أسلحة نوعية ومعدات اتصالات وأجهزة طبية، ساهمت في رفع القدرات القتالية لجيش التحرير خلال السنوات الأخيرة لثورة التحرير الوطني.

هؤلاء الرجال الذين سلكوا تلك المسالك لم يكونوا مجرد ناقلين للسلاح، بل كانوا جنود الظل، حراس السرّ وصنّاع النصر الخفي. بعضهم من الفلاحين والرعاة، وبعضهم من الطلبة والتجار وحتى النساء اللواتي شاركن بجرأة مذهلة في عمليات العبور. كثيرات منهن أخفين الرسائل في ضفائر الشعر أو في كعك الأعراس المرسل بين العائلات، وبعض القوافل كانت تتنكّر في شكل موكب زفاف أو جنازة، حتى لا تثير شكوك الدوريات الفرنسية. لم تكن تلك الحيل مجرد تفاصيل طريفة، بل كانت جزءًا من منظومة أمنية معقدة وضعها قادة الثورة بحكمة ودقة.

ومن بين هؤلاء القادة، يبرز اسم "عبد الحفيظ بوصوف"، الذي يُعدّ العقل المدبّر لجهاز الاتصالات والإمداد في جيش التحرير الوطني. كان "بوصوف" ينسّق عمليات العبور عبر شبكة من الخلايا المستقلة، بحيث لا يعرف أيّ عنصر إلا الجزء الخاص به من المهمة، لضمان السرية التامة. كل نقطة عبور كانت تحمل اسمًا حركيًّا، وكل قافلة لها رمز أو إشارة، وكانت الرسائل تُرسل مشفّرة، أحيانًا على هيئة أبيات شعرية أو عبارات تبدو عادية لكنها تحمل معاني محددة للمجاهدين في الداخل. بهذه الطريقة، تمكّن جيش التحرير من الحفاظ على توازن الإمدادات بين مختلف الولايات، رغم القصف والحصار والملاحقة الجوية والبرية.

لقد كانت تلك المسالك، بكل ما فيها من مغامرة ودهاء، تجسيدًا لعبقرية الثورة الجزائرية التي لم تكتفِ برفع السلاح، بل طوّرت منظومة لوجستية متكاملة تتفوّق على قدرات المستعمر من حيث التنظيم والسرّية. كانت كل قافلة تمرّ بمثابة عملية عسكرية كاملة، تُخطط لها القيادة المركزية وتتابعها لحظة بلحظة، لأن ضياع شحنة واحدة من السلاح كان يعني تأخير معركة أو فشل هجوم في الجبال.

ومع مرور السنوات، أصبحت "مسالك الحرية" أكثر من مجرد خطوط إمداد. كانت رمزًا للتلاحم بين الجزائريين في الداخل والخارج، وجسرًا بين المدن والجبال والصحراء، بين الفلاح والطالب، بين المقاتل والسياسي، بين البندقية والفكرة. لقد ربطت بين الجغرافيا والهوية، وأثبتت أن الثورة الجزائرية لم تكن عاصفة غضب عابرة، بل مشروعًا وطنيًّا محكمًا، بُني على العلم والتنظيم والتضحية الجماعية.

وحين بزغ فجر الاستقلال في الخامس من جويلية 1962، كانت تلك المسالك قد أدّت رسالتها وذابت في تراب الوطن مثل عروق خفية لا تُرى، لكنها لا تموت. لم تُكتب أسماء كثيرين من صُنّاعها، لكن رائحة عرقهم لا تزال تعبق في وديان الأوراس وصخور تبسة ورمال الصحراء الكبرى. هناك، حيث مرّت القوافل ليلاً والنجوم دليلها، وُلدت الحرية من صمت الرمال وصبر الرجال.

تلك هي "مسالك الحرية"، الشرايين السرّية التي غذّت جسد الثورة الجزائرية بالحياة، وكتبت فصولاً من المجد في الظلّ، لتقول للأجيال إن طريق الحرية لا يُرسم على الخرائط، بل يُشقّ بالإرادة، وإن الذين ساروا فيه لم يكونوا يبحثون عن مجدٍ شخصي، بل عن وطن يستحق الحياة.

خط موريس… جدار النار والكهرباء

شكّل "خط موريس" أحد أخطر أدوات الحصار التي اعتمدتها فرنسا لقطع شريان السلاح عن الثورة الجزائرية. أنشئ سنة 1957 على طول مئات الكيلومترات، مزوّدا بأسلاك مكهربة، وألغام مضادة للأفراد، وخنادق مراقبة متواصلة، ما حوّله إلى جدار ناري حقيقي يفصل الجزائر عن تونس والمغرب. كان الهدف منع تسلّل القوافل وإحباط شبكات الدعم التي تمدّ جيش التحرير الوطني بالسلاح. ورغم التعقيد الهندسي والخطورة القصوى، استطاع المجاهدون اختراق هذا الخط عبر ممرات سرية وحيل ميدانية مبتكرة، ما جعل خط موريس رمزا لفشل القوة الاستعمارية في كسر إرادة عبور الحرية.

ساقية سيدي يوسف… الذاكرة الدامية

تعدّ مجزرة ساقية سيدي يوسف واحدة من أكثر الجرائم وحشية في تاريخ الاستعمار الفرنسي، حين قصفت الطائرات الفرنسية في 8 فيفري 1958 القرية التونسية الحدودية بدعوى وجود مخازن سلاح للثوار. استهدف القصف المدارس والمنازل والأسواق، وخلّف عشرات الشهداء من الأطفال والنساء والشيوخ، ليُحدث صدمة كبرى في الرأي العام العربي والدولي. تحوّلت الساقية إلى رمز للأخوة الجزائرية–التونسية، وللتضحيات المشتركة التي دفعت ثمن دعم الثورة الجزائرية. لقد كشفت تلك العملية أن فرنسا كانت ترى في خطوط الإمداد خطرا يفوق المعارك المباشرة، وأن إرادة الشعوب أقوى من القصف.

التوارڤ.. دور رائد في المسلك الصحراوي

لعب التوارڤ دورا لا يُقدّر بثمن في نجاح المسالك الصحراوية التي اعتمدها جيش التحرير لنقل السلاح من ليبيا والنيجر وتشاد. بفضل معرفتهم العميقة بالجغرافيا القاسية ومسارات الرمال المتحركة، كانوا يقودون القوافل ليلا اعتمادا على النجوم واتجاهات الرياح. استخدمت القوافل طرقا لا تظهر على الخرائط، تمر عبر الوديان الجافة والكثبان المتنقلة، مما جعل تعقّبها شبه مستحيل على الجيش الفرنسي. كان التوارڤ يوفّرون التمويه، والمرشدين، والجِمال القادرة على حمل الذخائر لمسافات طويلة. هكذا أصبح هذا المسلك يُعرف بـ"الطريق اللامرئي" الذي أمّن للثورة سلاحا نوعيا في أصعب الظروف.

بوصوف… مهندس السرية

برز عبد الحفيظ بوصوف كأحد العقول التنظيمية الأكثر تأثيرا في الثورة الجزائرية، إذ تولى قيادة جهاز الاتصالات والإمداد وابتكر منظومة سرية معقدة تضمن تدفق السلاح والمراسلات بين الداخل والخارج. اعتمد بوصوف استراتيجية الخلايا المستقلة التي تمنع الاختراق، حيث لا يعرف كل عنصر سوى جزء محدود من المهمة. استخدم طرق تشفير ذكية، أحيانا في شكل أبيات شعرية أو رسائل تبدو عادية لكن تحمل رموزا دقيقة. كما أشرف على إنشاء مراكز الاتصال والتخزين على الحدود، محولا عمليات العبور إلى جهاز لوجستي عالي الدقة. بفضله حافظت الثورة على توازنها رغم الحصار.