دعت الجزائر، خلال الاجتماع رفيع المستوى لمجموعة أصدقاء تحالف الأمم المتحدة للحضارات، الذي انعقد بالعاصمة السعودية "الرياض"، إلى تبني مقاربة دولية شاملة تقوم على تعزيز التعاون وبناء الروابط الفكرية والثقافية والدينية والعلمية بين الشعوب. وتأتي هذه الدعوة في ظل عالم متعدد الأقطاب يشهد تصاعدا غير مسبوق في الاستقطاب وصدام السرديات والهويات، ما يجعل خطاب الحوار أداة استراتيجية أساسية لضمان السلم والاستقرار الدوليين. ويعتبر محللون، تحدثوا إلى "الأيام نيوز"، أن المبادرة تمثل خطوة عملية لإعادة الاعتبار للدبلوماسية القيمية، وتحويل المبادئ من شعارات رمزية إلى أدوات فاعلة في ضبط التفاعلات الدولية، بما يضمن حماية قيم التسامح والعدالة واحترام الاختلافات الثقافية والدينية في سياق عالمي معقد.
وفي كلمة ألقاها كاتب الدولة لدى وزير الشؤون الخارجية، المكلف بالجالية الوطنية بالخارج، سفيان شايب، أكد أن تعزيز مبادرة الأمم المتحدة لتحالف الحضارات يقتضي تزويدها بالآليات الكفيلة بتجسيد مبادئ ومقاصد ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومختلف الصكوك الدولية ذات الصلة. هذا التشديد على البعد التنفيذي والقانوني يعكس انتقالا واضحا من منطق الاكتفاء بالحوار الرمزي إلى منطق ربط القيم بآليات عملية، بما يسمح بترجمتها من شعارات أخلاقية إلى أدوات فاعلة في ضبط التفاعلات الدولية.
وخلال استعراضه للجهود التي تبذلها الجزائر على المستوى الدولي لترقية قيم العيش معا في سلام، أوضح شايب أن المقاربة الجزائرية تستند إلى تجربة تاريخية وسياسية جعلت من التسوية السلمية للنزاعات، ومكافحة الإرهاب والتطرف العنيف، عناصر مركزية في سياستها الخارجية. هذه المقاربة، المستلهمة من القيم التي جسدها الأمير عبد القادر، مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة، لا تنطلق من منطق الوعظ الأخلاقي، بل من إدراك عميق بأن صدام السرديات والهويات قد يكون أخطر من صدام الجيوش، وأن الأمن الدولي لم يعد محصورا في أبعاده العسكرية والسياسية، بل بات يشمل، بالضرورة، أبعادا ثقافية وإنسانية.
وتسعى الجزائر لتثبيت موقعها كفاعل وسطي في عالم متعدد الأقطاب، يعزز عقلنة الاختلاف ويعيد تعريف الأمن الدولي بوصفه شاملا، حيث حماية التفاهم بين الثقافات جزء لا يتجزأ من حفظ السلم والاستقرار. ويتجسد هذا التوجه داخليا من خلال آليات نبذ العنف والكراهية، وترقية قيم التسامح والتضامن والسلام والعدالة، أبرزها قانون مكافحة خطاب الكراهية وإنشاء مرصد وطني لرصد هذه الممارسات، ما يعكس انسجام الخطاب الخارجي مع السياسات الداخلية.
وفي ظل تنامي الإسلاموفوبيا وتسييس الهوية، تعتبر الجزائر، عبر تحالف الحضارات، أن تحصين الحوار الثقافي ضد التوظيف الانتقائي ضرورة استراتيجية، تربطه بالالتزامات القانونية الدولية ومفاهيم الأمن الجماعي. فالمقاربة الجزائرية تهدف إلى نقل التعايش السلبي بين الحضارات إلى تفاهم مؤسساتي مستدام، داخليا وخارجيا، وتعزيز موقع الجزائر كفاعل وسطي قادر على بناء الثقة بين الثقافات.
في هذا السياق، يشير تشخيص الدكتور كامل الحواش في تصريحه لـ"الأيام نيوز" إلى أن "المشكلة الجوهرية لتحالف الحضارات لا تكمن في غياب الرؤية، بل في غياب آليات الإلزام والمتابعة"، معتبرا أن الإطار الفكري المتقدم للتحالف يظل معلقا ما لم يُدعّم بقوة تنفيذية قادرة على ضبط المبادئ ضمن سياسات عمومية ملزمة للدول. ومن هنا تتكشف المفارقة التي تحكم العديد من المبادرات الأممية في المجال القيمي، إذ تتحوّل، في نظره، إلى "بيانات نوايا" تصطدم بواقع دولي تتحكم فيه الحسابات الجيوسياسية أكثر من القيم الكونية.
ويكتسب هذا التشخيص بعدا أعمق عند ربطه بتحولات النظام الدولي، حيث يشير الحواش إلى أن العالم متعدد الأقطاب يفرز مفارقة معقدة: فهو من جهة يتيح تنوع الأصوات وكسر الهيمنة الأحادية، ومن جهة أخرى يعمّق الاستقطاب ويجعل القيم الإنسانية رهينة الاصطفافات الدولية. وضمن هذا السياق، يتحول تحالف الحضارات إلى ساحة تنازع ناعم بين القوى الكبرى، يستغلها كل طرف بما يخدم سرديته، ما يفرغ المبادرة من مضمونها العملي.
الدبلوماسية القيمية تتحول من خطاب رمزي إلى أداة تنفيذية.
غير أن هذا التشخيص النقدي لا يعني فشل التحالف، بل يفتح النقاش حول شروط إعادة بنائه كآلية دولية فعّالة. هنا تتقاطع قراءة الحواش مع تحليل الأستاذ في العلاقات الدولية محمد مكي، الذي يرى أن الإشكال لا يكمن فقط في بنية التحالف الأممي، بل في طبيعة التعامل الدولي مع القيم بوصفها خطابا رمزيا أكثر منها موردا استراتيجيا قابلا للتطبيق العملي.
وينطلق مكي، في تصريح خصّ به "الأيام نيوز"، من معطى أساسي مفاده أن الجزائر قدّمت أنموذجا مختلفا في إدارة هذا التحدي، عبر تحويل الدبلوماسية القيمية من مجرد قوة ناعمة خطابية إلى أداة تأثير فعلية مدعومة بآليات تنفيذ واضحة. وفق هذا التصور، لم تعد القيم في السياسة الخارجية الجزائرية مجرد مرجع أخلاقي، بل جزء من استراتيجية شاملة تشمل التعليم والإعلام والعمل المجتمعي، بما يسمح بتوسيع أثرها خارج الدوائر الدبلوماسية التقليدية.
هذا الربط بين البعد الثقافي والاستراتيجي يفسّر، بحسب مكي، قدرة الجزائر على التحرك كقوة متوسطة ذات تأثير مستدام، خصوصا في بيئات تشهد توترات ثقافية ودينية مثل إفريقيا والشرق الأوسط. فالدبلوماسية القيمية هنا لا تُختزل في تحسين الصورة أو إنتاج خطاب معتدل، بل تتحول إلى وسيلة لتحصين الفضاء الدولي من خطاب الكراهية، وأداة ضغط ناعمة للحد من الانتقائية في تطبيق المعايير الدولية.
ويُبرز مكي أن خصوصية المقاربة الجزائرية تكمن في تعاملها مع التحالفات الدولية، وعلى رأسها تحالف الحضارات، ليس كمنصات للاستهلاك الرمزي أو تسجيل المواقف، بل لإعادة صياغة السرديات الثقافية العالمية وربطها ببرامج عملية قابلة للتتبع والتقييم. هذا التحول يتيح للجزائر فرض سردية معتدلة ومتوازنة في الفضاء الدولي، دون الانجرار إلى الاصطفاف مع القوى الكبرى أو توظيف خطاب القيم لخدمة أجندات سياسية ظرفية.
من هذا المنظور، يؤكد مكي أن دمج البعد القيمي بالبعد السياسي والاستراتيجي يعزز فعالية السياسة الخارجية، إذ تصبح القيم قوة ناعمة حقيقية تؤثر في صنع القرار الدولي، لا مجرد ملحق أخلاقي يُستدعى عند الحاجة الخطابية. ويبرز هنا مفهوم "الأمن الثقافي" كجزء لا يتجزأ من الأمن الوطني والدولي، إذ يتيح الاستباق في معالجة التحديات الناعمة والحد من تحولها إلى أزمات سياسية أو أمنية.
غير أن الانتقال من المبادئ إلى التطبيق العملي يطرح تحديا آخر يتمثل في ضمان استدامة خطاب الحوار وحمايته من التوظيف السياسي أو الانتقائية. هنا تبرز تجربة الجزائر كأنموذج، كما يوضح نميري عز الدين في تصريحه لـ"الأيام نيوز"، الذي يشير إلى تركيز الجزائر على البعد المؤسساتي والقانوني والمجتمعي، ضمن رؤية متكاملة تجمع بين القانون والمؤسسات والمجتمع المدني لمواجهة تصاعد الاستقطاب الثقافي والديني.
ويوضح عز الدين أن الجزائر بنت مؤسسات وطنية وإقليمية قادرة على متابعة تنفيذ مبادرات الحوار، بحيث لا تقتصر على إطلاق البيانات أو المشاركة في الجلسات الرسمية. فقد صُممت منظومة تربط بين وزارات الثقافة والتعليم والإعلام ومنظمات المجتمع المدني، لضمان صياغة المبادرات في شكل برامج عملية قابلة للتقييم والتأثير في الواقع الاجتماعي والثقافي. هذا النهج يعكس فهما عميقا لطبيعة الخطاب الثقافي، الذي لم يعد أداة أخلاقية فقط، بل سلاحا دبلوماسيا ناعما محميا بضوابط واضحة.
ويؤكد عز الدين أن نجاح الحوار يعتمد على إشراك المجتمع المدني والشباب والمؤسسات التعليمية في تصميم وتنفيذ البرامج، لتصبح القيم ثقافة حية ومتجذرة تمتد إلى الفضاء العام، بعيدا عن القاعات الرسمية. كما أن تأطير المبادرات ضمن المرجعيات القانونية الدولية يمنحها صلابة ويحد من التلاعب بها، محولا المبادئ إلى محور للتعاون الدولي بدلا من أداة للصراع.
الشفافية والمساءلة أساس لحوارات مؤثرة ومستدامة
ويتيح هذا الربط بين القانون والمؤسسات والمجتمع المدني للجزائر تبنّي مبادرات استباقية تعليمية وإعلامية وتعزيز التثقيف المدني، ما يقلل من احتمالية تصاعد النزاعات الثقافية قبل أن تتحول إلى أزمات سياسية أو أمنية. بهذا الأسلوب، تجمع الجزائر بين الدبلوماسية الرسمية والنفوذ المجتمعي، لتصبح قوة وسيطة قادرة على التأثير في صياغة السياسات الدولية المتعلقة بالحوار الثقافي، والحفاظ على استقلالية خطابها، وضمان عدم انتقائه أو توظيفه من قبل القوى الكبرى لأغراض آنية.
وتبرز أهمية الشفافية والمساءلة في إدارة برامج الحوار، بحيث تكون كل مبادرة قابلة للتدقيق وتقييم أثرها الفعلي، ما يقلل من احتمالات استخدامها لأغراض ضيقة أو انتقائية. هذا البعد الرقابي يتقاطع مع ما أشار إليه الحواش حول غياب آليات الإلزام، ومع تأكيد مكي على أن الأمن الثقافي جزء من الأمن الوطني والدولي، وأن الاستباق في معالجة التحديات الناعمة يحد من تحولها إلى أزمات.
ويكتسب التصور قيمة إضافية عند إشراك المجتمع المدني والشباب والمؤسسات التعليمية، إذ يتحول نجاح برامج الحوار إلى ممارسة يومية وحصانة ثقافية فعلية، ويُصبح ربط المبادرات بالاتفاقيات والمعاهدات الدولية وسيلة لضمان الصلابة والفعالية، محوّلا المبادئ إلى محور للتعاون الدولي، بما يعكس الرؤية العملية التي أشار إليها عز الدين.
في المحصلة، تعكس التجربة الجزائرية قدرة الدولة على المبادرة الاستباقية وعدم انتظار تحول النزاعات الثقافية إلى أزمات مفتوحة. فالبرامج الوقائية القائمة على التعليم والتثقيف والإعلام المستقل تعزز التفاهم بين الثقافات قبل تفاقم التوترات، وتمنح للدبلوماسية القيمية مضمونا عمليا.
هذا التوازن بين المبادئ والسياسة، حيث لا تُركن القيم إلى الشعارات ولا تُمارس السياسة على حساب القيم الإنسانية، جعل من الجزائر فاعلا وسيطا قادرا على التأثير في صياغة السياسات الدولية المتعلقة بالحوار الثقافي، مع الحفاظ على استقلالية خطابها وعدم انتقائه.
بهذا المعنى، يتقاطع تحليل الحواش حول حدود تحالف الحضارات مع قراءة مكي لدور الجزائر كقوة قيمية فاعلة، ومع طرح عز الدين الذي يركز على التحصين المؤسسي والقانوني والمجتمعي للحوار. هذا التقاطع لا يقدم خطابا احتفائيا، بل تصورا متكاملا يرى في الحوار بين الحضارات ساحة صراع ناعم، يمكن أن تبقى رمزية إذا غابت الإرادة والآليات، أو تتحول إلى أداة تأثير حقيقية إذا ما دُعمت بالقانون والمؤسسات والعمل المجتمعي، في عالم متعدد الأقطاب يزداد فيه الاستقطاب وتزداد الحاجة إلى دبلوماسية القيم كعنصر توازن فعلي لا شعار بلا مخالب.

