خلال الأعوام الأخيرة، بدأت الجزائر تثبت نفسها على خارطة الابتكار والبحث العلمي الدولي، من خلال تألق باحثين جزائريين في منافسات وجوائز عالمية، ما يعكس قدرة البلاد على الإشعاع المعرفي وتقديم رؤى علمية مواكبة لتطورات العصر. ففي الموسم الـ17 لبرنامج "نجوم العلوم"، توّج الباحث العيد دردابو بلقب أفضل مبتكر عربي بابتكاره ساعات ذكية تقيس المؤشرات الحيوية مثل فيتامين «د» وهرمون «السيروتونين»، لتكشف مبكرًا عن اضطرابات الاكتئاب والقلق، مستلهماً الابتكار من تجربة شخصية وداعماً هذا المشروع بشبكة من الخبراء والمختصين الدوليين.
ولعبت شبكة الدعم والتوجيه من واحة قطر للعلوم والتكنولوجيا، بالتعاون مع مجموعة من الخبراء الدوليين، دورًا محوريًا في تحويل فكرة العيد إلى نموذج أولي عملي قابل للتطبيق والمقارنة دوليًا، ما يؤكد أهمية توفير بيئة داعمة للباحثين الشباب لتطوير أفكارهم وتحويلها إلى ابتكارات ذات أثر ملموس.
في الوقت نفسه، تألق الباحث لخضر حميداتو في العاصمة الإيطالية روما، حيث حصل على جائزة Eni Awards 2024 ضمن فئة "المواهب الشابة في إفريقيا" عن ابتكاره الرائد في تبريد الألواح الشمسية باستخدام مواد تغيير الطور ذات الأصل البيولوجي، ما يعزز كفاءة الألواح في الظروف الحرارية العالية. ويؤكد حميداتو في تصريحاته لـ«الأيام نيوز» على أهمية ربط البحث العلمي بالقطاع الصناعي لتسريع التحول الطاقوي في الجزائر، مشددًا على أن الابتكار لا يقتصر على التجارب النظرية، بل يجب أن يلامس حاجات المجتمع والصناعة بشكل مباشر. وقد خضع ابتكاره للتحقق العملي، ليصبح نموذجًا يُحتذى به في الجمع بين البحث الأكاديمي والتطبيق الصناعي.

أما الباحث فايز أمقران نايت محمد، فهو يواصل أبحاثه في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT وجامعة Harvard، حيث طور لقاحًا متعدد الحصانة ضد الإنفلونزا يستهدف الخلايا النائمة للفيروس، مما يعزز مناعة طويلة الأمد ويعكس قدرة الباحث الجزائري على الابتكار في ميادين العلوم الطبية الحيوية الحيوية على مستوى عالمي. ويؤكد فايز أمقران على ضرورة دعم الحكومة للبحث العلمي وتمويل الباحثين داخل البلاد للحفاظ على المواهب ومنع هجرة العقول، مؤكدًا أن الجزائر تمتلك ثروة بشرية غنية، وأن الإرادة والتفاني موجودان بين الطلاب والأساتذة والمشرفين، لكن ما ينقص هو الاستثمار الكافي في البنية التحتية والأدوات الحديثة.
رغم هذه الإنجازات الفردية المذهلة، تواجه الجزائر تحديات بنيوية في البحث العلمي، خصوصًا في مجالات الأحياء والعلوم الطبية الحيوية، حيث تتقدم المشاريع بوتيرة أبطأ بسبب محدودية التمويل، نقص المعدات المتطورة، وصعوبة الانخراط الفعال في الشبكات العلمية الدولية. وعند المقارنة بالدول المتقدمة، يلاحظ الفارق الكبير في الاستثمار: فالولايات المتحدة تخصص أكثر من 3% من الناتج المحلي الإجمالي للبحث العلمي، بينما الصين والاتحاد الأوروبي يخصصان نحو 2%، ما يجعل من الصعب على الباحث الجزائري المنافسة بنفس الوتيرة.
ويرى الدكتور فايز أمقران أن الوقت قد حان لجعل البحث العلمي "أولوية وطنية"، مؤكدًا أن القدرات والأفكار موجودة، وما ينقصها فقط هو توفير الوسائل اللازمة لتنميتها وتحقيق أثرها الكامل على التنمية الوطنية. ومن جانبه، يشير البروفيسور فاتح مبارك أودينة، أستاذ أبحاث الطاقة بجامعة سكيكدة، إلى أن دعم البحث العلمي يتجاوز الجوائز، ويستلزم إصلاحات حقيقية تشمل التمويل، الشفافية، ربط البحث بسوق العمل، وتأهيل البنية التحتية البحثية، مع إشراك الباحثين في صناعة القرار لضمان استدامة الابتكار. ويعكس تصنيف البروفيسور أودينة ضمن أفضل 2% من العلماء عالميًا، وفق جامعة ستانفورد، مدى نجاح الباحثين الجزائريين على الساحة الدولية، حيث تمكن هذا العام 80 باحثًا جزائريًا من تسجيل أبحاثهم ضمن التصنيف العالمي، مبرزين القدرات العلمية الكبيرة للبلاد.
لا تمثل هذه الإنجازات مجرد لحظات فخر وطنية، بل تعكس تحولًا استراتيجيًا في السياسة الوطنية للبحث العلمي، إذ تعمل الحكومة على ربط البحث العلمي بالمؤسسات الاقتصادية والاجتماعية لضمان توظيف نتائج الأبحاث في التنمية المستدامة. ويظهر مسار الباحثين مثل العيد دردابو، لخضر حميداتو، فايز أمقران، وعمر شعلال، عادل بلوشراني وغيرهم، مدى إصرار العمل الفردي والجماعي على الابتكار، رغم القيود المالية والعوائق البنيوية، مؤكّدين أن الكفاءات الجزائرية قادرة على المنافسة عالميًا عند توفر البيئة المناسبة.
وتتضح أهمية البرامج الوطنية التي تشجع التعاون بين الجامعات والقطاعات الإنتاجية، وضرورة صياغة قوانين واضحة لأخلاقيات البحث العلمي، بما يضمن نزاهة الإنجازات ويحميها من الانتحال العلمي. كما يعد تحديث المناهج الدراسية، وتطوير البنية التحتية البحثية، من العوامل الجوهرية التي تساعد على مواكبة العصر وتقديم أبحاث ذات قيمة علمية عالية. ويشير الخبراء إلى ضرورة التحول من نموذج البحث النظري إلى أبحاث تطبيقية مرتبطة بصناعات البلاد وقضاياها الحقيقية، مع ضمان بيئة تشجع الابتكار وتحمي حقوق الباحثين.
يبقى المستقبل مرتبطًا بوضع برامج دعم عملية ومستدامة، ومتابعة مستمرة لتأثيرها على جودة البحث العلمي، بما يتوافق مع أهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية للجزائر. لقد فتحت هذه الإنجازات آفاقًا جديدة أمام الباحثين الشباب وألهمت الأجيال المقبلة، ما يطرح تساؤلات مهمة حول مدى توافر الإرادة السياسية والخطط الاستراتيجية لدعم هذه الحماسة العلمية، بما يعزز قدرة الجزائر على أن تصبح قوة مؤثرة في اقتصاد المعرفة العالمي ويحقق استفادة ملموسة من عقولها المبدعة.

