تمرّ الذكرى الثالثة لكارثة درنة، وما زالت المدينة تحمل بين جدرانها وأزقتها ذاكرة مثقلة بالماء والدموع. لم تكن تلك الفاجعة مجرد سيول باغتت الناس في نومهم، بل لحظة فارقة كشفت حجم هشاشة العمران، وضعف البنية المؤسسية، وضياع التنسيق بين السلطات.
ففي ساعات قليلة اختُزلت حياة مدينة بأكملها في مشاهد انهيار وصراخ، وفي قلوب فقدت أبناءها دون وداع.
لكن ما يجعل هذه الذكرى أكثر إيلاماً هو أن آثارها لم تنتهِ بانحسار المياه؛ إذ بقيت الأسئلة عالقة، والوعود قيد الانتظار، والثقة بين المواطن والدولة على المحك.
فالحدث الذي بدا طبيعياً في ظاهره، حمل في طياته أبعاداً سياسية واجتماعية واقتصادية، وفتح باب النقاش حول معنى الدولة وقدرتها على حماية مواطنيها.
إن استعادة هذه اللحظة بعد ثلاث سنوات ليست مجرد وقوف أمام صور الدمار، بل هي دعوة للتأمل في كيفية تحوّل الكوارث الطبيعية إلى اختبارات حقيقية لبنية المجتمع، ولشرعية مؤسساته، ولقدرة الشعوب على النهوض من جديد. وبين الحزن والرجاء، تظل درنة شاهداً على أن المأساة لا تُقاس فقط بما سقط من حجارة، بل بما تركته في النفوس من أسئلة مفتوحة تبحث عن إجابة.
وفي حديث لـ"الأيام نيوز"، يرى الصحفي والمحلل السياسي باسل الترجمان أن كارثة درنة لم تكن مجرد حدث طبيعي، بل محطة كشفت هشاشة إدارة الشأن العام في ليبيا دون تمييز بين الشرق والغرب. ويقول:
"الكارثة عرّت الجميع، وأظهرت أن المنظومات التي تدير البلاد ليست سوى إدارات لتسيير الأعمال اليومية، تفتقر إلى الرؤى والتخطيط حتى على المدى القصير. وهو ما انعكس بشكل مباشر على طريقة إدارة الأزمة والحد من نتائجها الكارثية."
وأضاف الترجمان أن الصراعات الداخلية في شرق وغرب ليبيا، وتركيز الفاعلين السياسيين على تثبيت منظومات حكمهم العسكرية والأمنية، حال دون امتلاكهم القدرة والإمكانيات لمواجهة الكارثة.
بل إن المأساة تحولت، بحسب قوله، إلى "ساحة لتسجيل النقاط السياسية على حساب الآخر"، بدلاً من أن تكون فرصة للتعاون الإنساني، مما ساهم في غياب المساندة الدولية الكافية وتقييد إمكانيات توجيه المساعدات.

المحلل السياسي الليبي باسل الترجمان
أما عن انعكاس الكارثة على المشهد السياسي، فيرى الترجمان أنها لم تؤثر في موازين القوى في الشرق الليبي، كما لم تترك أثراً على المسار الانتخابي "لأن لا انتخابات تلوح في الأفق حتى نهاية العام." ويشير إلى أن الأطراف السياسية استغلت المأساة لتبادل الاتهامات والشتائم بدل توحيد الجهود لإنقاذ الأرواح، وهو ما زاد بحسب تعبيره من فقدانها لاحترام الشارع الليبي.
ويخلص الترجمان إلى أن الانقسام والفوضى السياسية شكّلا عاملاً مضاعفاً للأضرار وعرقلة جهود الإغاثة، معتبراً أن "لا حكومة حالياً تملك القدرة على إعادة بناء الثقة مع الشعب، إذ تفتقر هذه الإدارات إلى الكفاءات والبرامج، وتعمل فقط في إطار تصريف الأعمال اليومية."
ويرى أن أقصى ما يمكن إنجازه في ظل الظروف الحالية هو "برامج محلية محدودة لمواجهة الأزمات، لكنها تبقى بعيدة عن صياغة سياسات وطنية شاملة للوقاية من الكوارث."
وفي المقابل، يصرّح د. محمد عماره، أستاذ العلوم السياسية في الجامعات الليبية، لـ"الأيام نيوز"، أن كارثة درنة في سبتمبر 2023 لم تكن مجرد فاجعة طبيعية خلفت خسائر بشرية ومادية هائلة، بل تحولت إلى اختبار سياسي واجتماعي كاشف لطبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع في ليبيا.

د. محمد عماره عضو هيئة التدريس بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية صرمان جامعة صبراتة_ عضو الجمعية الليبية لخريجي الجامعات المغربية
ويشير د. عماره إلى أن الكارثة أظهرت هشاشة البنية المؤسسية والسياسية في بلد منقسم بين سلطتين، وهو ما انعكس مباشرة على ثقة المواطنين في مؤسساتهم. فالعلاقة بين سكان درنة والسلطات الحاكمة في الشرق الليبي كانت متوترة حتى قبل إعصار "دانيال"، إذ كانت المدينة تعيش حالة من الحصار غير المعلن نتيجة سيطرة جماعات خارجة عن سلطة القوة المسيطرة على الشرق.
ومع وقوع الكارثة، تعمقت هذه الهوة لتكشف عن أزمة ثقة حادة بين المواطن والدولة.
ويضيف أن ما برز خلال إدارة الأزمة لم يكن مجرد إخفاق إداري بل أزمة سياسية بامتياز. فقد أظهر الانقسام بين الشرق والغرب أن قدرة المؤسسات على إدارة الكوارث وتوزيع الموارد كانت محدودة وبطيئة، وهو ما انعكس في البداية على شكل "فزعة" شعبية عفوية.
المواطن الليبي العادي هبّ لنجدة أخيه، في مشهد حمل دلالة قوية على تماسك القاعدة الشعبية وتضامنها، مقابل ضعف الاستجابة المؤسسية. هذا التناقض أعاد طرح سؤال جوهري حول من يملك الشرعية الفعلية في ليبيا: النخب السياسية الغارقة في صراعاتها، أم المجتمع القاعدي المتماسك أمام المحن؟
أما على المستوى السياسي الأوسع، فيرى د. عماره أن الكارثة لم تتوقف عند حدود إدارة الإغاثة، بل تحولت إلى منعطف سياسي حاسم. فمظاهرات درنة التي خرجت بعد الكارثة، مطالبة بمحاسبة القيادات المحلية وإسقاطها، لم تكن مجرد رد فعل عاطفي على الخسائر، بل شكّلت تحدياً مباشراً لبنية الحكم في الشرق. وبذلك، أصبحت عاصفة "دانيال" رمزاً للفشل الإداري والسياسي، وضغطاً إضافياً على نخب تعاني أصلاً أزمة شرعية.
ويخلص د. عماره إلى أن هذه التحولات فتحت المجال أمام أطراف سياسية أخرى لاستغلال الموقف والدفع بخطابات جديدة تركز على "إعادة البناء"، ليس فقط على المستوى العمراني، بل أيضاً كأداة لإعادة التموضع السياسي واكتساب أوراق قوة جديدة. وهكذا، تحولت الكارثة من مجرد مأساة طبيعية إلى علامة فارقة في إعادة تشكيل التوازنات السياسية في ليبيا، بين مجتمع يزداد ترابطاً رغم المحن، ونخب تتآكل شرعيتها أمام اختبار الأزمات الكبرى.