قبل التطرّق إلى الأبعاد الاقتصادية لحرب الرقائق الإلكترونيّة، وهي بحجم "حبّة الأرز"، يجب أوّلًا تعريفها وتوضيح أهمّيتها في العالم لأجل فهم الصراع القائم حولها. لذلك وجب تبيين الفرق بين كلّ من مصطلح "الرّقائق الإلكترونيّة" ومصطلح "السّيليكون"، والدول المسيطرة على كلّ منهما على حِدة.
من المهمّ التمييز بين "السّيليكون" كمادّة خام تُنتَج من خلال صَهر مادّة "الكُوارتز"، وهي صناعة تهيمن عليها الصين عالميًّا، وبين استخدام هذه المادّة (السّيليكون) كأساس في إنتاج "الرّقائق الإلكترونيّة" التي تهيمن عليها تايوان، حيث تختلف الدول الرائدة في كلّ مجال بشكل كبير.
فنجد أنّ الصين تهيمن بشكل قاطع على إنتاج السّيليكون المعدني (الخام) في العالم بنسبة 80% من إجمالي الإنتاج العالمي، وفقًا لبيانات عام 2024، يليها بفارق كبير كلّ من روسيا، البرازيل، الولايات المتحدة الأمريكيّة، والنرويج.
ويعود هذا الفارق إلى عدة عوامل من بينها:
وفرة الموارد: تمتلك الصين احتياطات ضخمة من "الكوارتز" الذي يتم تصهيره لاستخراج مادة السيليكون؛
الطاقة: تتطلب عملية إنتاج السيليكون كميات هائلة من الطاقة الكهربائية، وتتمتع الصين بقدرة إنتاج طاقة كبيرة بأسعار تنافسية؛
الطلب الداخلي: جزء كبير من السيليكون المنتج في الصين يستخدم داخليا في صناعات متنوعة مثل صناعة سبائك الألمنيوم والكيماويات القائمة على السيليكون وصناعة الخلايا الشمسية وحتى في منتجات التجميل.
بينما تُلقب تايوان بـ "عملاق أشباه الموصلات" بسبب سيطرتها على مراحل هامة في عملية الإنتاج، وهي ليست مجرد مصنّع، بل مركز الابتكار والتصنيع الأكثر تطورًا في العالم.
وتكمن أهمية تايوان في صناعة الرقائق في عدة عوامل رئيسية:
السيطرة على الإنتاج المتقدم: تُسيطر تايوان على أكثر من 90% من إنتاج الرقائق المتقدمة في العالم، هذه الرقائق هي التي تُستخدم في الهواتف الذكية الحديثة، ومعالجات الذكاء الاصطناعي، وأجهزة الكمبيوتر عالية الأداء، من خلال شركة TSMC (Taiwan Semiconductor Manufacturing Company) أكبر شركة لتصنيع الرقائق في العالم، وهي رائدة في تطوير تكنولوجيا الطباعة الحجرية (lithography) الأكثر تعقيدًا، والتي تسمح بإنتاج رقائق أصغر وأكثر كفاءة، وتعمل TSMC كمصنع للعديد من شركات التكنولوجيا الكبرى مثل آبل، وكوالكوم، وإنفيديا، التي تُصمم الرقائق ولكنها لا تُصنّعها بنفسها؛
القدرة على الإنتاج الضخم: تايوان لديها القدرة على إنتاج كميات هائلة من الرقائق بسرعة وكفاءة فائقتين، مما يجعلها ضرورية لسلاسل التوريد العالمية.
تحديات ومخاوف تواجه تايوان:
بالرغم من هيمنتها في هذا المجال إلا أنها تواجه تحديات من بينها:
الاعتماد على مصادر خارجية: تعتمد تايوان على مصادر خارجية لتوفير المواد الخام مثل السيليكون، وهو ما يُعتبر نقطة ضعف؛
التهديدات الجيوسياسية: يُثير التوتر السياسي بين الصين وتايوان قلقًا عالميًا، أي نزاع عسكري محتمل يمكن أن يُهدد إمدادات الرقائق، وهو ما يدفع بعض الدول مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، إلى محاولة تعزيز إنتاجها المحلي لتقليل الاعتماد على تايوان.
وبالتالي تلعب تايوان دورًا حيويًا لا يمكن الاستغناء عنه في الاقتصاد العالمي، مما يجعلها محورًا استراتيجيًا في الصراع التكنولوجي والجيو-سياسي.
الأبعاد الاقتصادية لحرب الرقائق بين الولايات المتحدة والصين:
جذور الصراع الصينوأمريكي:
تعود جذور الصراع الصينوأمريكي إلى سنة 1949م أي منذ قيام دولة الصين، حيث لم تعترف الولايات المتحدة الأمريكية بـ "بيجين" كعاصمة لها بل بمدينة "تايبيه" الواقعة بتايوان كممثل وحيد وشرعي لجمهورية الصين الشعبية (أنظر تاريخ الحرب الأهلية الصينية)، الأمر الذي أنشأ عداوة مستمرة بين البلدين إلى يومنا هذا.
في خطوة تُعرف باسم "حرب الرقائق"، فرضت الولايات المتحدة الأمريكية سنة 2022 قيودًا صارمة على تصدير التكنولوجيا المتقدمة ومعدات تصنيع الرقائق الالكترونية إلى الصين، بهدف الحد من قدرة الصين على تطوير تقنيات متقدمة، خاصة في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي للحفاظ على التفوق التكنولوجي والاقتصادي والعسكري للولايات المتحدة، فقد سنّت الولايات المتحدة الأمريكية قانون "الرقائق والعلوم" (Chips and Science Act) لضخ 52 مليار دولار لدعم صناعة الرقائق المحلية.
تعود أسباب القيود الأمريكية على الصين إلى:
استقرار الأمن القومي: إذ تعتبر الولايات المتحدة أن تطوير الصين للرقائق المتقدمة يشكل تهديدًا لأمنها القومي، حيث يمكن استخدام هذه الرقائق في تطبيقات عسكرية متقدمة وأنظمة أسلحة، مما يعزز من القدرات العسكرية الصينية؛
المحافظة على التفوق التكنولوجي: تهدف واشنطن إلى إبطاء تقدم الصين في صناعة الرقائق المتطورة، مثل رقائق الذكاء الاصطناعي، وذلك لضمان أن تبقى الولايات المتحدة في صدارة السباق التكنولوجي؛
الهيمنة الاقتصادية: تسعى الولايات المتحدة إلى السيطرة على سلاسل التوريد العالمية للرقائق، وتقليل اعتمادها على المصنعين الأجانب مثل تايوان، معززةً بذلك صناعتها المحلية.
سرقة التكنولوجيا: تتّهم الولايات المتحدة الصين بسرقة الأسرار التكنولوجية من الشركات الأمريكية، مما دفعها إلى فرض قيود لمنع نقل التكنولوجيا الحساسة.
تأثير هذه القيود على الاقتصاد الصيني:
صعوبة الوصول إلى التكنولوجيا المتقدمة: أثرت القيود الأمريكية بشكل كبير على الشركات الصينية، خاصة تلك التي تعتمد على الرقائق المتقدمة في منتجاتها، مثل شركة هواوي.
تشجيع الابتكار المحلي: دفعت القيود الأمريكية الصين إلى تكثيف جهودها لتحقيق الاكتفاء الذاتي في صناعة الرقائق، من خلال استثمار مليارات الدولارات في البحث والتطوير، بهدف بناء سلسلة توريد محلية.
التحالفات العالمية: حاولت الولايات المتحدة إقناع حلفائها مثل هولندا واليابان، بفرض قيود مماثلة على الصين، للحد من قدرتها على الحصول على المعدات والبرمجيات اللازمة لتصنيع الرقائق.
الرد الصيني وتداعيات الحرب:
تعرف الصين بنزعتها القومية وردودها الانتقامية، إذ سعت إلى مواجهة القيود الأمريكية بمايلي:
الاستثمار في الصناعة المحلية: ضخت استثمارات هائلة في صندوق خاص لدعم صناعة الرقائق، بهدف تسريع وتيرة الابتكار والإنتاج المحلي، بتمويلها لمبالع طائلة في شركاتها المحلية مثل SMIC لتمويل الأبحاث والتصنيع، بهدف تسريع وتيرة التقدم التكنولوجي وتقليل الاعتماد على التكنولوجيا الأجنبية.
التوتر التجاري: أدت هذه القيود إلى تصاعد التوترات التجارية بين البلدين، حيث تبادلا الإجراءات العقابية، بما في ذلك قيود على تصدير بعض المعادن النادرة من الصين مثل: الجاليوم والجرمانيوم والتي تعتبر اساسية في صناعة الرقائق الالكترونية، مما يعكس استعدادها لاستخدام سيطرتها على المواد الخام كورقة ضغط.
تحديات للشركات الأمريكية: أثرت القيود أيضًا على الشركات الأمريكية، مثل "إنفيديا"، التي خسرت مليارات الدولارات بسبب منعها من بيع رقائقها المتقدمة في السوق الصينية الضخمة.
تأثير حرب الرقائق على سلاسل الإمداد العالمية
تتجاوز الأبعاد الاقتصادية لحرب الرقائق الإلكترونية مجرد التنافس التجاري، لتشكل صراعًا جيوسياسيًا يهدد استقرار سلاسل التوريد العالمية ويؤثر على كافة القطاعات الصناعية، إذ تعتمد صناعات حيوية مثل: السيارات، الإلكترونيات الاستهلاكية، الآلات الصناعية والصناعات العسكرية بشكل كبير على أشباه الموصلات، وبالتالي أي انقطاع في سلسلة التوريد يؤدي إلى تأثيرات كارثية من بينها:
نقص في المنتجات: يؤدي نقص الرقائق إلى تعطل خطوط الإنتاج، مما يتسبب في نقص حاد في السلع الأساسية وبالتالي يؤثر على أرباح الشركات، فخلال جائحة كورونا تسبب نقص الرقائق في خفض إنتاج السيارات عالميًا بمليارات الدولارات.
زيادة التكاليف: يؤدي نقص العرض إلى ارتفاع أسعار الرقائق، مما يرفع من تكاليف الإنتاج ويُمرر في النهاية إلى المستهلك في شكل تضخم.
التقليل من الكفاءة الاقتصادية: يدفع هذا الصراع إلى فصل الاقتصاديات الكبرى عن بعضها، خاصة في القطاعات التكنولوجية الحساسة، مما يؤدي إلى إنشاء سلاسل توريد مستقلة وموازية، هذا الانفصال ورغم أنه يعزز الأمان الاستراتيجي للدول، إلا أنه يقلل من الكفاءة الاقتصادية العالمية.
ظهور تحالفات: من جهة أخرى تُجبر هذه الحرب الدول الأخرى على اتخاذ موقف، مما يعزز التحالفات القائمة أو يشكل تحالفات جديدة، على سبيل المثال: تتعاون الولايات المتحدة مع اليابان، كوريا الجنوبية وهولندا لفرض مزيد من الضغط على الصين، مما يؤدي إلى ظهور "كتل" تكنولوجية واقتصادية جديدة.
انعكاساتها على اقتصاديات الدول الأخرى خارج ثنائية واشنطن- بيجين:
بالتأكيد تُعد حرب الرقائق الإلكترونية بين واشنطن وبكين معركة ذات تأثيرات تتجاوز البلدين لتشمل الاقتصادات العالمية بأسرها، هذه الانعكاسات تظهر بشكل مختلف حسب موقع كل دولة في سلسلة التوريد العالمية للرقائق.
الدول المتحالفة مع الولايات المتحدة: مثل كوريا الجنوبية وتايوان واليابان وهولندا تجد نفسها في موقف حرج:
تايوان (المورد الرئيسي): تشكل شركة TSMC التايوانية، التي تنتج أكثر من 90% من الرقائق الأكثر تطورًا في العالم، قلب هذا الصراع. تايوان مضطرة للانحياز للولايات المتحدة لحماية نفسها عسكرياً، مما يجعلها عرضة للضغوط الصينية.
كوريا الجنوبية واليابان: تُعد كوريا الجنوبية واليابان لاعبين رئيسيين في صناعة الرقائق، حيث تمتلكان شركات عملاقة مثل "سامسونج" و"سك هاينكس"، هذه الدول تتعاون مع الولايات المتحدة في فرض قيود على التصدير إلى الصين، لكنها في نفس الوقت تخشى خسارة السوق الصينية الضخمة التي تعتبر أحد أكبر عملائها.
الاقتصادات الأوروبية: يُحاول الاتحاد الأوروبي شق طريق خاص به لتقليل اعتماده على كل من الصين والولايات المتحدة:
تعتمد الصناعات الأوروبية، خاصة صناعة السيارات بشكل كبير على الرقائق الإلكترونية، أي أنّ الاضطرابات في سلاسل التوريد تؤثر مباشرة على إنتاجها، استجابةً لذلك أطلق الاتحاد الأوروبي "قانون الرقائق الأوروبي" بهدف تعزيز الإنتاج المحلي للرقائق داخل القارة، بهدف استقطاب استثمارات ضخمة من الشركات العالمية مثل إنتل لبناء مصانع في أوروبا، ولكن بالرغم من محاولاتها، لا تزال أوروبا محاصرة بين الضغوط الأمريكية للحفاظ على القيود، والمصالح التجارية الكبيرة مع الصين.
الاقتصادات الناشئة والدول العربية: تتأثر الاقتصادات الناشئة بشكل غير مباشر ولكن بشكل عميق من خلال:
ارتفاع التكاليف: يؤدي اضطراب سلاسل التوريد والقيود التجارية إلى ارتفاع أسعار الرقائق، مما يزيد من تكلفة المنتجات الإلكترونية والتقنية التي تعتمد عليها هذه الدول.
تباطؤ التقدم التكنولوجي: قد يؤدي منع وصول التقنيات المتقدمة إلى تباطؤ خطط هذه الدول في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي.
في المقابل، قد يمثل هذا الصراع فرصة لبعض الدول الغنية بالمواد الخام الأساسية لصناعة الرقائق (مثل المعادن النادرة)، حيث قد تسعى القوى الكبرى لتأمين إمداداتها من هذه الدول خارج ثنائية الصين- تايوان.
من المرجح أن تؤدي حرب الرقائق الإلكترونية إلى إعادة رسم موازين القوى الاقتصادية الدولية وتفتح الباب أمام نظام عالمي جديد قائم على التكنولوجيا، وبالتالي إعادة تشكيل خارطة الاقتصاد العالمي، هذا الصراع ليس مجرد نزاع تجاري، بل هو معركة استراتيجية للسيطرة على "نفط القرن الحادي والعشرين"، فالرقائق الإلكترونية أو أشباه الموصلات، هي القلب النابض لكل التكنولوجيا الحديثة، وإن السيطرة عليها تعني السيطرة على مستقبل الابتكار الاقتصادي والعسكري.
تأثير حرب الرقائق على موازين القوى الاقتصادية الدولية:
تحاول الولايات المتحدة من خلال سباق التوطين سن قوانين مثل "CHIPS and Science Act"، من أجل إعادة إنتاج الرقائق إلى أراضيها، وهو ما يشجع شركات مثل TSMC التايوانية وIntel الأمريكية على بناء مصانع ضخمة في الولايات المتحدة، مما يقلل من اعتمادها على سلاسل التوريد الآسيوية ويعزز أمنها القومي، في المقابل تستثمر الصين مبالغ هائلة في شركاتها المحلية مثل SMIC لتقليل الاعتماد على التكنولوجيا الأجنبية وتحقيق الاكتفاء الذاتي.
هذا السباق نحو التوطين يخلق بيئة من الانقسام التكنولوجي يؤدي بدوره إلى خلق معسكرين تكنولوجيين: أحدهما بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وشركائها، والآخر بقيادة الصين، وتُجبر الدول الأصغر على الاختيار بين المعسكرين، مما يفرض عليها قيودًا تكنولوجية واقتصادية، وهو ما يعكس حربًا باردة جديدة ولكن هذه المرة ليست أيديولوجية فحسب، بل هي تكنولوجية بالأساس.
نحو نظام عالمي جديد قائم على التكنولوجيا
تعتبر الرقائق العصب الرئيسي للتكنولوجيا المستقبلية مثل الذكاء الاصطناعي، الحوسبة الكمومية، والشبكات العسكرية المتقدمة، فالتفوق التكنولوجي أصبح الآن مرادفًا للقوة الجيوسياسية، الدول التي تسيطر على صناعة الرقائق والذكاء الاصطناعي هي التي ستمتلك أدوات التأثير والسيطرة في المستقبل، فالتحكم في التكنولوجيا يمنح الدول القدرة على تطوير أسلحة متقدمة، وتحسين قدراتها الاستخباراتية، وحتى التأثير على الرأي العام عبر أدوات الذكاء الاصطناعي.
باختصار، حرب الرقائق هي صراع على القوة والنفوذ، وتداعياتها الاقتصادية ستستمر في التأثير على العالم لسنوات قادمة، لأنّ التحكم في تصنيع الرقائق في القرن الواحد والعشرين بمثابة التحكم في إمدادات النفط في القرن العشرين، فمن يمتلك التكنولوجيا يستطيع أن يقود العالم.