2025.11.09
من موسكو إلى الجزائر.. جبهة المبدأ في مواجهة مسودة واشنطن حول الصحراء الغربية سياسة

من موسكو إلى الجزائر.. جبهة المبدأ في مواجهة مسودة واشنطن حول الصحراء الغربية


ربيعة خطاب
29 أكتوبر 2025

تتجه الأنظار إلى نيويورك، حيث يستعد مجلس الأمن للتصويت على المسودة الأمريكية المتعلقة بقضية الصحراء الغربية، غدا الخميس 30 أكتوبر، وسط تصاعدِ موقفٍ دولي مجابِه لواشنطن، يتراوح بين الرفض الصريح والتحفظ المدروس، من قِبل الجزائر وروسيا والصين، وثلاثتهم تتقاطع مواقفهم في انتقاد مضمون النص الذي يقترح تمديد ولاية بعثة "المينورسو" إلى يناير 2026، مقدِّما هذه الخطوة على أنها إجراء تقني، غير أنها في الواقع تنطوي على أبعاد سياسية تمس بجوهر القضية، في محاولة للتغطية على مبدأ حق الشعب الصحراوي في اختيار مستقبله بحرية.

التحفظات الروسية والجزائرية أعادت النقاش إلى جوهر العدالة الدولية وضرورة التمسك بالشرعية الأممية كإطار وحيد للحل. فالجزائر، من موقعها كدولة جارة وعضو فاعل في الاتحاد الإفريقي، شددت في مداخلاتها السابقة على أن تقرير المصير ليس بندا تفاوضيا بل حق قانوني غير قابل للتأويل، داعية إلى إعادة إحياء العملية السياسية وفق قرارات الأمم المتحدة بعيدا عن المقاربات الانتقائية. هذا الموقف المتزن منح الجزائر وزنا دبلوماسيا مضاعفا داخل مجلس الأمن، باعتبارها من الدول القليلة التي حافظت على الثبات والحياد الفاعل في معالجة النزاعات الإقليمية.

وفي هذا السياق المتوتر، شكّل الموقف الروسي حجر الزاوية في المعارضة داخل المجلس. فقد عبّرت موسكو عن رفضها للمسودة الأمريكية معتبرة أنها "تفتقر للتوازن وتغيب عنها الإشارة الصريحة إلى الاستفتاء كآلية لتقرير المصير"، ما جعلها تتصدر جبهة الدول المطالبة بإعادة صياغة القرار بما يتماشى مع قرارات الأمم المتحدة السابقة. ويأتي هذا الموقف امتدادا لدور روسيا التقليدي في الدفاع عن القضايا التي تمس الشرعية الدولية، خصوصا في مواجهة ما تعتبره هيمنة غربية على آليات اتخاذ القرار الأممي.

التحولات الدبلوماسية الأخيرة كشفت أيضا عن تراجع واضح في الخطاب الأمريكي، إذ حاول مسعود بولس، كبير مستشاري الرئيس الأمريكي للشؤون العربية والإفريقية، التخفيف من حدة الانتقادات الموجهة للمسودة بعد الرفض الصريح الذي عبّرت عنه جبهة البوليساريو وعدة دول إفريقية. وفي تصريح لوسيلة إعلامية دولية، قال بولس: "الإدارة الأمريكية تعمل مع جميع الشركاء، ولاسيما الجزائر والمغرب، للتوصل إلى قرار يُرضي الجميع قدر الإمكان"، مشيرا إلى أن "كل القضايا قابلة للنقاش بما في ذلك تمديد ولاية المينورسو". هذا التعديل في النبرة يعكس إدراك واشنطن لحساسية المرحلة ومحاولتها امتصاص موجة التحفظات التي اعتبرت المشروع الأمريكي انتقاصا من الدور الأممي.

من موسكو، قدّم ديميتري بريجع، المحلل السياسي والباحث في مركز الدراسات العربية الأوراسية، قراءة معمّقة في تصريح خصّه لـ"الأيام نيوز" قائلا: "الموقف الروسي من المسودة الأمريكية لا يهدف إلى تعطيل جهود مجلس الأمن، بل إلى حماية جوهر الشرعية الدولية. فالمسودة كما هي الآن تُبقي الصراع في دائرة الجمود لأنها تتعامل مع الوضع في الصحراء الغربية كقضية إدارية لا كقضية تصفية استعمار. روسيا ترى أن أي حل يجب أن ينطلق من مبدأ تقرير المصير، وهو المبدأ الذي أسّس عليه وجود بعثة المينورسو أساسا. ما تقوم به بعض القوى الغربية هو إعادة تعريف الصراع وفق مصالحها، وهو ما ترفضه موسكو رفضا قاطعا. الدول الإفريقية، وفي مقدمتها الجزائر، تمتلك اليوم ما يكفي من الوعي والقدرة لتصوغ حلا إفريقيا خالصا يحترم القانون الدولي ويعزز السلم الإقليمي".

ديميتري بريجع، المحلل السياسي والباحث في مركز الدراسات العربية الأوراسية

وأوضح بريجع أن روسيا لا تدافع فقط عن موقف سياسي، بل عن مبدأ قانوني وإنساني يخص كل الشعوب الواقعة تحت الاحتلال، أما الجزائر، فتظل محور التوازن في هذا الملف، إذ تجمع بين الشرعية المبدئية والخبرة الدبلوماسية، في وقت تحاول فيه واشنطن إعادة تموضعها بعد تراجع خطابها الأحادي أمام صلابة المواقف الرافضة لأي تسوية لا تمر عبر صناديق تقرير المصير.

موسكو.. حماية الشرعية الدولية من التسييس

تدرك روسيا أن معركة الصحراء الغربية لم تعد قضية محلية، بقدر ما أصبحت اختبارا لمصداقية مجلس الأمن وقدرته على احترام المرجعيات القانونية التي أرستها الأمم المتحدة منذ عقود. رفض موسكو للمسودة الأمريكية ليس شكليا، بل موقف مبدئي يهدف إلى حماية روح القانون الدولي من التسييس والازدواجية. وتقول موسكو إن المقاربة الأمريكية تميل إلى تمييع مفهوم تقرير المصير، وتضع الملف في خانة التسويات المؤقتة بدل المعالجة الجذرية.

وفي هذا الإطار، أشار ديميتري بريجع لـ"الأيام نيوز": "أي مسودة تتجاهل الطابع القانوني لقضية الصحراء الغربية تمثل خرقا لمبدأ تصفية الاستعمار. الموقف الروسي يرسل رسالة واضحة مفادها أن احترام الشرعية الدولية لا يخضع للمساومات الدبلوماسية أو لموازين الضغط".

على الصعيد الجيوسياسي، تتعامل روسيا مع الملف من زاوية التوازن الدولي داخل إفريقيا، حيث ترفض أن تتحول القارة إلى ساحة نفوذ أحادي تديره القوى الغربية من وراء الستار. بحسب القراءة الروسية، تُعيد المسودة الأمريكية إنتاج منطق الوصاية القديمة تحت غطاء الإصلاح الأممي، ومن هنا ترى موسكو أن الحفاظ على التعددية في صنع القرار الأممي ضرورة لحماية استقلال المواقف الإفريقية.

ويضيف بريجع: "روسيا تعتبر الجزائر شريكا إقليميا محوريا يسهم في صون التوازن داخل شمال إفريقيا. موسكو تُقدّر مواقف الجزائر الثابتة حيال قضايا التحرر، وترى أن دعمها لمبدأ تقرير المصير ليس انحيازا، بل التزاما أخلاقيا بقيم التحرر التي أسست عليها الأمم المتحدة".

دبلوماسيا، تميل موسكو إلى طرح مقاربة إصلاحية تقوم على إشراك جميع الأطراف، بما فيهم ممثلو الشعب الصحراوي، ضمن مسار تفاوضي شفاف يضمن العدالة ويعيد الثقة في دور المينورسو. فهي لا ترفض التمديد التقني للبعثة، لكنها تطالب بتوسيع ولايتها لتشمل مراقبة حقوق الإنسان وتطبيق الاستفتاء. ويختم بريجع تصريحه لـ"الأيام نيوز" قائلا: "روسيا لا تسعى إلى تعطيل المسار الأممي، بل إلى تصحيح بوصلته. الحل العادل لن يأتي من العواصم البعيدة، بل من توافق الأطراف تحت مظلة الأمم المتحدة، وبمساندة قوى مسؤولة تؤمن أن السلم لا يُفرض بل يُبنى على العدالة".

الجزائر.. صوت التوازن الإفريقي وضمير تقرير المصير

في هذا السياق، تبرز الجزائر كصوت توازن إفريقي يدعم تقرير المصير ويرفض أي مقاربة انتقائية تهدف إلى تفريغ هذا الحق من جوهره. فالجزائر تجمع بين الشرعية المبدئية والخبرة الدبلوماسية، وتتمسك بتمكين الشعب الصحراوي من ممارسة خياره بحرية عبر استفتاء نزيه تحت إشراف الأمم المتحدة، بعيدا عن فرض الأمر الواقع أو التسويات الانتقائية.

ويرى الباحث في العلاقات الدولية نميري عز الدين في تصريح لـ"الأيام نيوز": "الجزائر لا تتعامل مع قضية الصحراء الغربية كملف سياسي فحسب، بل كقضية مبدئية ترتبط بذاكرتها التاريخية وبمصداقيتها داخل القارة. فهي تعرف معنى الاستعمار ومعنى الحرية، ولذلك ترفض أي مقاربة تساوي بين المحتل والمستعمر، أو تعيد تعريف الصراع وفق مصالح خارجية".

الباحث في العلاقات الدولية نميري عز الدين

وأضاف: "حضور الجزائر في هذا الملف يتجاوز الدفاع عن مبدأ، فهو أيضا حماية لمفهوم السيادة الإفريقية في زمن تتنازع فيه القوى الكبرى على خريطة القارة. بينما تميل بعض الأطراف إلى الحلول الانتقائية، تظل الجزائر تذكر بأن العدالة ليست وجهة نظر، وأن تقرير المصير ليس ترفا دبلوماسيا، بل حجر الزاوية لأي سلام دائم في المنطقة"

ويختم نميري عز الدين تصريحه لـ"الأيام نيوز" قائلا: "إذا كان العالم يبحث عن نموذج في الثبات على المبادئ وسط العواصف السياسية، فإن الجزائر تقدمه بالفعل لا بالخطاب فقط. فهي توازن بين الشرعية الدولية والشرعية الأخلاقية، وتعيد التذكير بأن من تحرر بالسلاح لا يمكن أن يفرط في حرية الآخرين بالكلام".

واشنطن أمام اختبار المصداقية في مجلس الأمن

ومع اقتراب موعد التصويت على المسودة الأمريكية، بدأت تظهر ملامح التراجع في الخطاب الأمريكي، الذي واجه رفض جبهة البوليساريو وتزايد التحفظات الدولية، خصوصا من روسيا والصين والجزائر. وقد انعكس هذا التراجع في تعديل لغة المسودة ونبرة المسؤولين الأمريكيين، الذين انتقلوا من خطاب الحسم إلى خطاب التوافق لتفادي عزل واشنطن داخل مجلس الأمن.

وقال المحلل السياسي الجزائري منصور قدور بن عطية في تصريح لـ"الأيام نيوز": "الخطاب الأمريكي الأخير يعكس حالة ارتباك واضحة داخل الإدارة الحالية، نتيجة فشلها في تمرير مقاربة أحادية على حساب المرجعيات الأممية". وأضاف أن الرفض الصريح من جبهة البوليساريو أعاد النقاش إلى نقطة البداية، "لأن أي تسوية لا تنطلق من حق تقرير المصير ستظل حبرا على ورق".

المحلل السياسي الجزائري منصور قدور بن عطية

كما أوضح بن عطية أن الجزائر، بدعمها للطرح الأممي، أسهمت في إعادة التوازن للمشهد الدولي، "إذ لم تكتفِ بالتحفظ على المسودة بل قدّمت رؤية تستند إلى الشرعية القانونية لا إلى الصفقات السياسية". وأشار إلى أن مواقف موسكو وبكين الداعمة لهذا النهج زادت من عزلة واشنطن في الملف، ودفعَتها إلى تبني لغة أكثر مرونة لتجنب الانقسام داخل مجلس الأمن.

وختم بن عطية تصريحه لـ"الأيام نيوز" قائلا: "تراجع الخطاب الأمريكي لا يعني بالضرورة تحوّلا جذريا في الموقف، بل محاولة لامتصاص الضغط الدولي واحتواء تداعيات الرفض المتزايد. فالولايات المتحدة تجد نفسها اليوم أمام خيارين: إما دعم حل قانوني منسجم مع ميثاق الأمم المتحدة، أو المخاطرة بفقدان مصداقيتها كوسيط في واحدة من أقدم قضايا تصفية الاستعمار في العالم".