شهد لبنان، أمس السبت، فعاليات إحياء الذكرى السنوية لاستشهاد الأمينين العامين لحزب الله، حسن نصر الله وهاشم صفي الدين، في مشهد شعبي ورسمي حاشد جسّد الوفاء العميق والتقدير لما قدّماه من تضحيات جسيمة في سبيل الدفاع عن الوطن وحماية كرامته. وامتدت الفعاليات في مختلف المناطق اللبنانية، بدءا من الضاحية الجنوبية لبيروت، مرورا بالبقاع، ووصولا إلى الجنوب، حيث شهدت مواقع متعددة مراسم مركزية، أبرزها الحفل الرسمي أمام مرقد الإمام الخميني في الضاحية، ومراسم تكريمية في مرقد الشهيد هاشم صفي الدين في دير قانون النهر، ومرقد عباس الموسوي في بلدة النبي شيت البقاعية.
وفي لحظة رمزية مؤثرة، احتشد المشاركون في الباحة الخارجية لمقام شهيد المقاومة الإسلامية، عباس الموسوي، لمتابعة مراسم رفع راية على سارية شاهقة يبلغ ارتفاعها 24 مترا، تحمل صور القادة الشهداء: عباس الموسوي، حسن نصر الله، وهاشم صفي الدين، لتصبح رمزا جامعا لمسيرة الجهاد والتضحية التي خاضها هؤلاء القادة في سبيل حماية الوطن وصون كرامة اللبنانيين.
وأكد عضو كتلة الوفاء للمقاومة في البرلمان اللبناني، النائب إبراهيم الموسوي، أن الجماهير التي حضرت لتخليد هذه الذكرى تجسد معنى الوفاء العميق للشهداء، مشددا على أن لبنان والمنطقة يمران "لحظة تحول مصيرية وتاريخية على مستوى الشعوب". ومن جهته، دعا رئيس الجمهورية اللبنانية العماد جوزاف عون إلى أن تكون هذه المناسبة "فرصة لتأكيد أن حماية التضحيات لا تتحقق إلا بوحدة الموقف والالتفاف حول مشروع الدولة الواحدة، القوية والعادلة"، مشددا على أن "الأخطار التي تهدد لبنان لا يمكن التصدي لها إلا بالتكاتف الوطني والابتعاد عن الانقسام"، معربا عن أمله في أن تكون الذكرى محطة للتلاقي وترسيخ الإيمان بأن "لا خلاص للبنان إلا بدولة واحدة، وجيش واحد، ومؤسسات دستورية تحمي السيادة وتصون الكرامة".
قبل عام، كان لبنان على موعد مع حدث هزّ المشهد السياسي والعسكري داخله وخارجه، وهو اغتيال الأمين العام السابق لحزب الله حسن نصر الله. فقد شكّل هذا الحدث خسارة كبيرة للحزب، إذ غاب القائد الذي ارتبط اسمه بالصراع مع «إسرائيل» وبخطاب سياسي وعسكري تجاوز حدود الطائفة والجغرافيا، تاركا فراغا قياديا وأسئلة كبرى حول مستقبل الحزب وموازين الردع.
على الصعيد الداخلي، عمل حزب الله خلال الفترة الماضية على إعادة التموضع، معتمدا على مؤسسات أكثر تماسكا في غياب شخصية مركزية كاريزمية. فقد انتقل القرار من الفرد إلى القيادة الجماعية، معتبَرا أن الاستراتيجيات الداخلية والخارجية تحتاج إلى توافق أوسع وأسلوب أكثر حذرا في اتخاذ القرارات الميدانية.
أما على الصعيد الميداني، فقد شهد الجنوب اللبناني مواجهة مستمرة مع «إسرائيل»، خصوصا بعد تصاعد عمليات الخروقات على الحدود. ومع ذلك، حافظ الحزب على إرث "توازن الرعب" الذي أسسه نصر الله عبر العقود الماضية، مستفيدا من القدرات العسكرية والاستخبارية التي رسّخها على مستوى الردع الاستراتيجي. ورغم استنزاف هذا التوازن بفعل التحديات اليومية، إلا أن المبادئ التي أسسها نصر الله لا تزال تشكّل قاعدة للمواجهة المستمرة.
فراغ أم إعادة إنتاج القيادة؟
غياب نصر الله ترك بصمة واضحة على بنية الحزب. فقد كانت شخصيته الكاريزمية تشكّل قدرة استثنائية على الحشد والتعبئة، ولم تُعوّض بسهولة، مما فرض أسلوب قيادة جماعية أكثر حذرا وتوافقا داخليا. على المستوى الإقليمي، فتح غيابه تساؤلات حول موقع الحزب ضمن محيط المقاومة، ودوره في المعادلات المتغيرة للمنطقة.
بعيدا عن السياسة والعسكرية، نجح نصر الله في تكريس صورة "القائد الرمز"، بحيث أصبح خطابه، الذي جمع بين الصرامة والبساطة، أيقونة شعبية لدى مؤيديه، ورمزا للمقاومة والالتزام في مواجهة خصومه. ولم يُنهِ اغتياله هذه الصورة، بل حوّلها إلى حالة وجدانية متجددة، تغذّيها خطاباته المؤرشفة ورمزيته الحاضرة في كل مناسبة.
اغتيال نصر الله مثل محطة فاصلة في تاريخ الحزب، إذ لم يسقط الحزب بغياب قائده، لكنه دخل مرحلة أكثر تعقيدا، تواجه فيها معادلاته اختبارات يومية مرشحة لرسم ملامح جديدة. لقد شكّل الحدث لحظة انهيار استراتيجي لمعادلات حكمت لبنان والمنطقة منذ حرب 2006، وأفرز تحديات جديدة حول كيفية إدارة المواجهة مع «إسرائيل»، وإعادة ترتيب أولويات الحزب داخليا وإقليميا.
حزب الله بدأ عملية إعادة تكيف واسعة بعد تغيّر قواعد الاشتباك، وفقدان جنوب نهر الليطاني كساحة أساسية، بالإضافة إلى غياب عدد كبير من قيادات الصف الأول والثاني. ورغم ذلك، حافظ الحزب على تماسكه الداخلي بفضل الدعم المستمر من إيران، وإعادة هيكلة وحداته العسكرية، مع إطلاق ورشة تنظيمية واسعة تأخذ في الاعتبار الغياب الثقيل للقيادات التي كانت تنفذ العمليات الكبرى.
على المستوى الرمزي، تجاوز نصر الله موقع القيادة ليصبح "أيقونة شعبية" تعكس التضحيات الشخصية والخلفية الاجتماعية المتواضعة التي نشأ فيها، وهو ما أكسبه صدى عميقا لدى أبناء الطائفة الشيعية والجمهور الأوسع. فخلال مسيرته، ارتبط اسمه بمقاومة الاحتلال وتضحيات أسرته، ما جعله نموذجا للقائد الذي يعيش معاناة شعبه، بعكس بعض القيادات التي انشغلت بمنافعها الشخصية.
إرث مستمر
وبعد مرور عام على اغتيال نصر الله، يظل إرثه حاضرا بقوة في وجدان اللبنانيين وفي مناطق النفوذ التي عمل فيها الحزب على مدى سنوات طويلة. فقد جسّد القادة الشهداء مسار الجهاد والتضحية، وأصبحوا رموزا حيّة للتفاني في الدفاع عن الوطن والكرامة، فيما حافظت الذكرى السنوية على مكانتهم الرمزية في الذاكرة الجماعية، لتذكّر الجميع بالقيم التي ناضلوا من أجلها. ومن اللافت أن الحزب نجح خلال هذه الفترة الصعبة في التكيف مع التحولات الإقليمية والداخلية، محافظا على تماسكه العسكري والسياسي، رغم فقدان قياداته الأساسية التي شكّلت محور عمله الاستراتيجي على مدى عقود.
تأتي هذه الذكرى لتؤكد استمرار حضور الشهيدين في وجدان اللبنانيين، وتجسّد التمسك بخط المقاومة الذي كرّساه طوال حياتهما واستشهادهما، كما تشكّل فرصة لإعادة قراءة المعادلات الراسخة، سواء على مستوى السياسة الداخلية، أو في الميدان، حيث يبقى جنوب لبنان ساحة اختبار دائمة، لاختبار قدرة الحزب على الصمود، والحفاظ على إرث القائد الغائب في مواجهة الضغوط والتحديات.
وهكذا، فإن استذكار القادة الشهداء لا يقتصر على كونه مشهدا تأبينيا بحتا، بل يتحول إلى مناسبة لتثبيت معاني الوحدة الوطنية وتعزيز الشعور بالمسؤولية تجاه المستقبل، وإبراز قدرة الحزب والمجتمع على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، مع التأكيد المستمر على أن استمرار المقاومة والتماسك السياسي والعسكري، بجميع أبعادها، يبقى ركيزة أساسية في حماية الوطن وصيانة سيادته ومكتسباته.