لم يكن احتفال "الهيلولة" في مدينة الصويرة المغربية مجرد طقس ديني يهودي معتاد هذا العام، بل تحوّل إلى حدث سياسي وقيمي فجّر جدلا واسعا في المغرب. فالحاخام دافيد حنانيا بينتو، القادم من فرنسا والمثير للجدل أصلا بصِلاته الوثيقة مع شبكات المال والسياسة، لم يكتف بالابتهالات الروحية، بل رفع دعوات صريحة لنصرة جيش الاحتلال الصهيوني والأسرى الإسرائيليين في غزة، في وقت يئن فيه القطاع تحت واحدة من أعنف الهجمات منذ عقود.
اللافت أنّ هذه الدعوات لم تصدر في فراغ، بل جاءت أمام جمهور ضخم من المشاركين في "الهيلولة"، بحضور شخصيات سياسية مغربية بارزة، ورئيس مكتب الاتصال الصهيوني في الرباط يوسي بن دافيد، وأعضاء من المجلس العلمي المحلي، فضلاً عن شخصيات أمنية وعسكرية. هذا الطابع الرسمي شكّل صدمة للرأي العام المغربي، الذي يرى في مثل هذا الحضور تطبيعاً يتجاوز البُعد الدبلوماسي نحو اعتراف رمزي بمشروعية الاحتلال وعدوانه.
ازدواجية المعايير الدينية
الاحتفال حمل مفارقة صارخة أثارت الغضب الشعبي، ففي حين تُفرض قيود صارمة على خطباء المساجد والعلماء المغاربة، تمنعهم حتى من الترحم على شهداء فلسطين، تُفتح أبواب البيع اليهودية وأضرحة الحاخامات للدعاء بالنصر لجيش يقتل المدنيين ويقصف المستشفيات ويهدم المنازل فوق ساكنيها في غزة. وقد عبّر الصحفي المغربي علي أنوزلا عن هذا التناقض قائلاً: "ليست مجرد مفارقة، بل عنوان لتحوّل عميق في المجتمع، وفتح الباب أمام اختراق رمزي وقيمي."
الحدث جاء في توقيت شديد الحساسية: العالم يشهد تنامياً ملحوظاً في الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وحركات تضامن أوروبية ضخمة تملأ الشوارع دفاعاً عن غزة، فيما تبدو الرباط وكأنها تغض الطرف عن الإبادة الجماعية الجارية. بل إن مشاركة السلطات المغربية في مثل هذه الفعاليات بات يُنظر إليها كرسالة سياسية تبتعد عن الإجماع الشعبي المتجذر تاريخياً في دعم القضية الفلسطينية.
في السياق ذاته، تقدمت الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بشكوى رسمية إلى النيابة العامة، تطالب بفتح تحقيق عاجل في شبهة استخدام الموانئ المغربية لنقل العتاد العسكري الموجّه إلى جيش الاحتلال. وهو اتهام، إن ثبت، سيضع المغرب في مواجهة مباشرة مع التزاماته بموجب القانون الدولي وحقوق الإنسان، وسيفتح الباب أمام جدل أوسع حول مدى تورط الدولة في تسهيل آلة الحرب على غزة.
غزة تحت النار والمغرب في امتحان
بينما ينشغل المغاربة بجدل "الهيلولة" والحاخام بينتو، يعيش الفلسطينيون في غزة تحت القصف والحصار والموت اليومي. عشرات الآلاف من الشهداء والمصابين، انهيار شامل في البنية التحتية، نقص حاد في الغذاء والمياه والدواء، ومستشفيات عاجزة عن استقبال الجرحى. هذا المشهد الدامي يجعل من دعوات الحاخام في قلب المغرب استفزازاً مضاعفاً، ليس فقط لأنها تنصر جيشاً معتدياً، بل لأنها تأتي من أرض عربية ومسلمة لها تاريخ طويل في نصرة فلسطين.
ما جرى في الصويرة يتجاوز حادثة دينية معزولة، ليطرح أسئلة كبرى حول هوية المغرب، حدود التطبيع، وموقعه من قضية فلسطين. إنه اختبار سياسي وأخلاقي للدولة المغربية، وجرس إنذار لمجتمع يُمنع من التعبير عن تضامنه مع غزة بينما تُعطى المنابر لمن يبارك جيشاً غاصباً. الحدث قد يكون عابراً في تقويم المناسبات الدينية، لكنه محطة فارقة في مسار اختراق رمزي يهدد بتغيير ملامح الموقف المغربي من أقدس قضاياه.