2025.10.09
عاجل :



في الذكرى التاسعة لرحيل محمد عبد العزيز.. قصة القائد الذي رحل جسدًا وظلت روحه تُقاتل

في الذكرى التاسعة لرحيل محمد عبد العزيز.. قصة القائد الذي رحل جسدًا وظلت روحه تُقاتل


آدم الصغير
01 يونيو 2025

تنحني الذاكرة إجلالاً لرجلٍ لم يكن مجرد قائدٍ سياسي أو عسكري، بل كان ضميراً حيّاً لقضية الشعب الصحراوي بأسره. فقد مضت 9 سنوات على رحيل الرئيس الشهيد محمد عبد العزيز، ورغم الغياب الجسدي، لا تزال ملامحه محفورة في وجدان الصحراويين وكل أحرار العالم؛ بصوته الهادئ الحازم، ونظرته التي لم تفارق بوصلتها نحو الحرية والاستقلال. لقد كان محمد عبد العزيز رجل المرحلة، ورجل الدولة، ورجل القضية؛ حمل الوطن في قلبه حتى آخر نفس، وخطّ سيرة نضاله في صخر التاريخ لا في أوراقه، مؤمناً أن الكفاح لا يتوقف برحيل الرجال، بل يستمر بتوارث القيم والمبادئ التي عاشوا وماتوا من أجلها. لقد أطلت –أمس السبت- ذكراه في ظرف بالغ الحساسية، حيث عادت البنادق لتتكلم بعد خرق الاحتلال المغربي لاتفاق وقف إطلاق النار، وكأن الزمن يعيد طرح السؤال ذاته: من سيكمل الطريق؟ من سيحمل مشعل النضال كما فعل محمد عبد العزيز دون مساومة أو تردد؟

تعود الذاكرة الصحراوية لتفتح سجلًا لا يُمحى من الوجدان، وتحيي ذكرى أحد أعظم رجالاتها، الشهيد القائد محمد عبد العزيز، الذي لم يكن مجرد زعيم سياسي أو عسكري، بل كان صوتًا للحق، وضميرًا حيًا لقضية شعب بأكمله. تسع سنوات مضت على رحيل هذا القائد الفذ، الذي وافته المنية في 31 ماي 2016 بعد صراع مع المرض، لكن أثره باقٍ، وصورته لا تزال حاضرة في كل قلب حر، وفي كل بيت صحراوي يعيش على أمل الحرية والاستقلال.

ولد محمد عبد العزيز من رحم المعاناة، وتشكل وعيه السياسي والنضالي في خضم مأساة الاحتلال المغربي للصحراء الغربية. منذ انخراطه المبكر في صفوف جبهة البوليساريو، برز كقائد استثنائي يتمتع برؤية استراتيجية وقدرة ميدانية قلّ نظيرها. وقد كان من أوائل من التحقوا بصفوف جيش التحرير الشعبي الصحراوي، فقاد دفعاته الأولى بعد تدريبها في الجزائر، ليتولى مسؤولية قيادة الناحية العسكرية الأولى، حيث خاض معارك بطولية في مناطق متفرقة من الشمال الصحراوي، منها معركة رأس الخنفرة، توكات، الزاك، أجديرية، ولمسيد، وساهم في وضع أسس العقيدة العسكرية الصحراوية التي جعلت من الجيش الصحراوي قوة يُحسب لها حساب في الإقليم.

بعد استشهاد مفجر الثورة الصحراوية الولي مصطفى السيد في يونيو 1976، تولى محمد عبد العزيز قيادة جبهة البوليساريو، بعدما انتخب أمينًا عامًا لها ورئيسًا لمجلس قيادة الثورة خلال المؤتمر الثالث للجبهة. كانت تلك لحظة مفصلية في مسار الثورة، إذ لم تكن قيادة الحركة مهمة إدارية بل مسؤولية تاريخية ألقت على كاهله عبء توجيه شعب بأكمله نحو الحرية في ظل تعقيدات إقليمية ودولية خانقة.

تميزت شخصية الرئيس محمد عبد العزيز بثنائية نادرة من الصرامة العسكرية والحكمة السياسية، فقد جمع بين إدارة المعارك في الميدان بواقعية وكفاءة، والعمل السياسي بذكاء ومثابرة، فكان مهندس بناء الدولة الصحراوية من رحم المقاومة. آمن ببناء مؤسسات الدولة الحديثة، فأسس لثقافة المؤسسات بدل الشخصنة، وشجع على فصل السلطات، وحرص على الشفافية في الممارسة الديمقراطية داخل الجمهورية الصحراوية.

كما أولى اهتمامًا بالغًا بقطاعات التعليم والصحة والعدالة، مؤمنًا بأن بناء الإنسان هو حجر الزاوية لأي مشروع تحرري حقيقي. ولم تغب عنه أهمية تمكين المرأة، فكان من أوائل القادة الذين دافعوا بقناعة راسخة عن إشراك النساء في العمل السياسي والإداري والعسكري، وأسهم في تغيير الصورة النمطية لدور المرأة داخل المجتمع الصحراوي.

وفي ميدان الشباب، كان محمد عبد العزيز يرى فيهم الضمانة الأهم لاستمرارية المشروع الوطني. دعم انخراطهم في جيش التحرير الشعبي الصحراوي، كما دعم إنشاء مؤسسات سياسية وتنظيمية تعنى بتأطيرهم وتكوينهم. لم يكن يتعامل مع الشباب كوقود للنضال فقط، بل كأدوات للتجديد والتطوير المستقبلي للدولة الصحراوية.

على المستوى الدبلوماسي، قاد معركة الاعتراف الدولي بالجمهورية الصحراوية بصلابة وإصرار. تمكن من حشد التأييد داخل القارة الإفريقية، وكان له دور محوري في انضمام الجمهورية الصحراوية إلى منظمة الوحدة الإفريقية، ما شكل نكسة دبلوماسية كبرى للمغرب. كما خاض معارك تفاوضية طويلة، في مراكش والرباط والطائف والجزائر والبرتغال، متمسكًا بخيار السلم، لكن دون تفريط في حق تقرير المصير.

لقد نجح في تحويل قضية الصحراء الغربية إلى مسألة تصفية استعمار، وأدار صراعًا قانونيًا في المؤسسات الأوروبية، كان من أبرز نتائجه صدور قرار محكمة العدل الأوروبية بعدم شرعية استغلال الثروات الطبيعية للصحراء من قبل المغرب. كان حازمًا في هذا المسار لدرجة أنه قال ذات مرة مازحًا: "حتى لو كلفنا تسديد أتعاب المحامين بيع حلي نسائنا، فسنخوض هذه المعركة إلى النهاية!".

ومع تعثر خطة التسوية الأممية، تحوّل تركيزه إلى دعم المقاومة السلمية في الأراضي المحتلة، وحرص على إبراز معاناة المعتقلين الصحراويين لدى النظام المغربي، واستقبال وفود التضامن من المدن المحتلة والجامعات المغربية التي تزور المخيمات والأراضي المحررة، في رسالة واضحة أن القضية هي قضية شعب بأكمله وليس قيادة فقط.

كان الراحل مؤمنًا بأن الحرب ليست فقط في ساحات القتال، بل أيضًا في الإعلام والثقافة والمعنويات. ولذلك، اعتبر الإعلام الوطني أداة استراتيجية لمواجهة الرواية الاستعمارية المغربية، وكذلك وسيلة لتعبئة الرأي العام الصحراوي وتوحيد الصف الداخلي، فضلاً عن مخاطبة الشعب المغربي الذي كثيرًا ما كان يجهل حقيقة ما يجري بسبب سيطرة المخزن على المعلومة.

نهجه السياسي اتسم بالحكمة والتروي، وكان يرى أن القرارات المصيرية لا تُتخذ إلا بعد أن "تنضج"، فالمواقف ينبغي أن تكون محسوبة ومدروسة، وأن تُهيأ لها الظروف قبل اتخاذها. اعتبر الوحدة الوطنية الركيزة الأساس في مواجهة الاحتلال، وعمل على تكريس مبدأ الانسجام بين القيادة والشعب لضمان صلابة الموقف.

وعلى الساحة الدولية، أسّس شبكة علاقات واسعة مع رؤساء دول، برلمانيين، مثقفين، وفنانين، حيث استثمر هذه العلاقات خدمة لقضيته، مع حرص خاص على الحفاظ على علاقات حسن الجوار، حتى مع الشعب المغربي، مؤمنًا أن العدو الحقيقي هو النظام القائم، لا الشعوب.

لقد تمكن محمد عبد العزيز، عبر أربعة عقود من النضال، من بناء مدرسة سياسية وعسكرية متكاملة، جعلت منه رمزًا وطنيًا قلّ أن يتكرر. لم يكن زعيمًا عابرًا في التاريخ، بل شخصية صنعت مسارًا وطنيًا وثبّتت أسس دولة تسعى إلى الانعتاق الكامل من ربقة الاستعمار.

واليوم، وفي ظل استئناف الحرب عقب خرق المغرب لاتفاق وقف إطلاق النار في نوفمبر 2020، تعود ذكرى محمد عبد العزيز كأنها نداءٌ داخليٌ لشعبه ومناصري قضيته، بأن الكفاح لم ينته، وأن الراية التي رفعها لا تزال تنتظر من يحملها بنفس الإخلاص والعزم.

في زمن التسويات المغشوشة والمواقف الرمادية، يبقى محمد عبد العزيز شاهدًا على الوفاء لقضية عادلة، ورمزًا للأمانة التاريخية في زمن المتغيرات. وما أحوج الصحراويين اليوم إلى استلهام إرثه، ليس فقط باعتباره جزءًا من الماضي، بل كمرجعية حية يمكن من خلالها قراءة الحاضر ورسم معالم المستقبل.

رحل الجسد، لكن الروح باقية، ملهمة، مرشدة، تقود القافلة على درب النضال حتى تحقيق النصر الكامل.