2025.10.09
عاجل :



\

"يا فرنسا إن ذا يوم الحساب فاستعدي وخذي منا الجواب".. "مقطع الوعيد" في النشيد الوطني.. لماذا يغضب فرنسا؟


ابتسام مباركي
20 يونيو 2023

"فرنسا الاستعمارية عدو"، إنها قناعة راسخة في أذهان الجزائريين، تتوارثها الأجيال المتعاقبة، رغم أن الاستقلال تحقق منذ عقود، فصور الماضي الأليم والجرائم الشنعاء التي ارتكبتها فرنسا الاستعمارية ضدّ أبناء الشعب الجزائري، لا تزال ماثلة في الذاكرة الجمعية بالنظر إلى الجرح الإنساني العميق الذي يتطلب من باريس الاعتراف به ثم معالجة تبعاته للتخفيف من أضراره على حاضر ومستقبل العلاقات بين البلدين.  ليس مطلوبا من الجزائريين نسيان الماضي وهم الذين أدركوا حريتهم عبر رحلة دامية، كلفتهم أرواح مليون ونصف مليون شهيد، ولم ينعموا بالاستقلال إلاّ عقب ملحمة تاريخية تجسدت بثمن باهظ دفعه هذا الشعب الأبي بعد 132 سنة كاملة من الاحتلال من ضمنها 7 أعوام من الثورة. ورغم مرور 61 عاما على الاستقلال، لا تزال أبدان الجزائريين تقشعر ودموعهم تنهمر كلما سمعوا "قسما بالنازلات الماحقات والدماء الزاكيات الطاهرات"، هذه أبيات من النشيد الوطني تروي قصة كفاح وتضحيات جسام وشلالات من دماء الشهداء قدمها الشعب الجزائري في سبيل الحرية والاستقلال. ومؤخراً، أثار مرسوم رئاسي حول ظروف وشروط أداء النشيد الوطني الجزائري، في المناسبات الرسمية، جدلاً واسعاً بعد إعادة إدراج "مقطع الوعيد" الذي ورد فيه اسم فرنسا، وعليه سنحاول في عدد اليوم من «الأيام نيوز» الحديث عن هذا الموضوع، لكن قبل ذلك سنستذكر قصة هذا النشيد الذي كُتبت كلماته بالدماء فكان من أعظم الأناشيد الوطنية. قصة النشيد الوطني الجزائري يوصَف مُفدي زكريا بأنه أحد "الأبطال القوميين"، والمؤلف اللامع للنشيد الوطني الذي جمع أقاليم الجزائر في مقاطع نشيده الخمسة، موحداً إياهم معنوياً حتى يومنا هذا،  أما اسمه الحقيقي فهو الشيخ زكريا بن سليمان بن يحيى، وُلد وترعرع في بني أزغن، وهي بلدة صغيرة في منطقة مزاب في ولاية غرداية في جوان سنة 1908، ودُفن في مسقط رأسه في السابع عشر من أوت سنة 1977. درس زكريا خلال فترة شبابه في جامع الزيتونة الشهير بتونس، وبدأ الكتابة لصالح النضال الوطني ببلاده في مجلات الوفاق والحياة والمجاهد، ودخل العمل السياسي منذ عام 1930، منتسباً إلى اتحاد طلاب شمال إفريقيا، ثم حزب الشعب، لينضوي في عام 1955، في صفوف جبهة التحرير الوطني، ما كلفه النفي والتنقل بين خمسة سجون استعمارية. هكذا بدأت القصة بدأت قصة كتابته للنشيد في أفريل عام 1955، حينما كان قابعاً في سجن بربوس (سركاجي) بالعاصمة الجزائر، واتصلت به الناشطة رباح الأخضر، بتكليف من "الخاوة" آباء الثورة، وتحديداً كل من عبّان رمضان (صاحب فكرة ترنيمة الثورة)، وصديقه يوسف بن خدة. ووفقاً للأديب والمجاهد والوزير الأسبق لمين بشيشي، الذي صرح ـ قبل وفاته ـ في حوار للإذاعة الثقافية الجزائرية في الثالث والعشرين من جوان سنة 2020، أن عبّان وضع ثلاثة معايير أساسيةً لكتابة النشيد تمثلت في وجوب تضمّنه الدعوة إلى الالتحاق بصفوف جبهة التحرير، وعدم ذكر شخص بعينه في ثنايا النص، والأهم "إبراز الوجه القبيح لفرنسا الاستعمارية في أبياته الشعرية". كُتب بحبرِ الدم وصل الأمر إلى مفدي، في سجنه حين لم يجد حبراً أو قلماً أو ورقةً لكتابة مقاطع نشيده التي تُعرف أيضاً بـ"الآيات"، فلم يجد سبيلاً إلى كتابته غير تدوينة بدمه مستخدماً "حيلة ثورية" لتحقيق ذلك عبر كتابته على حائط السجن. لقد استخدم دماً أساله من يده اليسرى ليكتب مطلع الترنيمة: "قسماً بالنازلات الماحقات"، حتى "وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر"، وهي كلمات تحمل آمال أبناء الشعب الجزائري الحالمين والمصممين على دحر المحتل وطموحاتهم ويحثّهم على تحقيق الحرية والاستقلال لوطنهم، وقد تم اعتماد الترنيمة الثورية كنشيد وطني للجزائر منذ عام 1963، أي بعد عام واحد من انتصار الثورة. ألحان مصرية خلّدت نشيد الجزائر وبعد الانتهاء من كتابة النشيد، عُهد إلى مفدي أيضاً باقتراح اسم قدير ومتمكن لتأليف الصيغة النغمية واللحن بعد خروجه من السجن، وكانت أولى المحاولات عام 1957، في أستوديوهات الإذاعة التونسية بعد وضع لحن له من قبل الملحن الجزائري محمد توري، ولكنه لم يُعجب قادة الجبهة لافتقاده إلى الحماسة المطلوبة. المحاولة الثانية كانت للملحن التونسي محمد تريكي، وكان مصير اللحن كسابقه، قبل أن يتم الاتصال بالملحن المصري الشهير محمد فوزي، وإرسال اللحن بشكل سرّي إلى مصر، ليتم التوافق على اللحن الذي وضعه الأخير. ووفقاً لبشيشي في حواره ـ سالف الذكر ـ مع الإذاعة الثقافية الجزائرية، فقد أوضح أن تغيير اللحن غير مرة كان لرغبة عبّان رمضان ومن معه في منح الترنيمة "نفساً يقترب من الأغنية الثورية من جبالنا"، بحيث يكون "لحناً مجنِّداً للجماهير". أجمل ما اُنشد في الثورات "قسما بالنازلات الماحقات.. والدماء الزاكيات الطاهرات.. والبنود اللامعات الخافقات.. في الجبال الشامخات الشاهقات.. نحن ثرنا فحياة أو ممات.. وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر.. فاشهدوا... فاشهدوا... فاشهدوا". كلماتٌ كُتبت بدم صاحبها، في حيلة فدائية، وتهادت بين أنامل ذهبية على عود مصري أصيل للفنان محمد فوزي، فخرجت معزوفة ثورية وطنية من أجمل ما اُنشد في الثورات العربية ضدّ المستعمرين، ومن أعذب ما قيل في حب الوطن والدفاع عنه، هكذا هو النشيد الوطني الجزائري. وعندما وُصف النشيد الوطني الجزائري بأنه كُتب بدم صاحبه، لم تكن مبالغة بل هي الحقيقة التي تواترت عبر ناقليها من السجون الاستعمارية عن كاتب الكلمات الثورية الشاعر الجزائري "مفدي زكريا ". وكما ذكرنا آنفاً، ففي خضم المعاناة التي كابدها المعتقلون في سجون المستعمرات، طالب أصدقاء مفدي أن يكتب نشيدًا للثور الجزائرية ويحث الشعب الثائر على مواصلة مقاومته للاستعمار الفرنسي في حينها. إعادة "مقطع الوعيد".. "يا فرنسا قد مضى وقت العتاب وطويناه كما يطوى الكتاب.. يا فرنسا إن ذا يوم الحساب فاستعدي وخذي منا الجواب". عندما رُددت تلك الكلمات لتصير ضمن المعزوفة الرسمية للجزائريين، غضبت فرنسا وطالبت بحذفه خلال المفاوضات بين الحكومة الجزائرية المؤقتة وفرنسا، لكن المجاهدين الجزائريين رفضوا مطلبها، لأنها لم تعترف بجرائمها المرتكبة في الجزائر. وقد حُذف المقطع في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد خلال الثمانينيات من القرن الماضي، بعد ذلك قرر الرئيس الجزائري الأسبق اليمين زروال إعادته بشكل نهائي عام 1995، وفي عام 2007، حُذف المقطع من النشيد الوطني الجزائري من الكتب المدرسية، ما أثار استياء الجزائريين حينها. وفي 21 ماي الماضي، صدر مرسوم جديد لرئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، ينص على "ظروف الأداء الكامل أو الجزئي للنشيد الوطني"، على خلفية تضمنه مقاطع تهاجم فرنسا. ويتضمن النشيد الوطني الجزائري عبارة "يا فرنسا إن ذا يوم الحساب فاستعدي وخذي منا الجواب" و"يا فرنسا قد مضى وقت العتاب، وطويناه كما يطوى الكتاب"، حيث تضاربت المعلومات بشأن إعادة إدراج المقاطع بالنشيد بعد "حذفها" سابقا. ويحدّد المرسوم الجديد ظروف الأداء الكامل أو الجزئي للنشيد الوطني وشروطه، وكذلك التوليفتين الموسيقيتين الكاملة والمختصرة اللتين تعزفان في الحفلات الرسمية، كما نص المرسوم الرئاسي الجديد حول النشيد على أداء مقاطعه الخمسة كاملة في مناسبات رسمية، وأداء المقطع الأول فقط في مناسبات أخرى علماً أن المقطع الذي ورد فيه اسم فرنسا يقع في الجزء الثالث، وأوضح نص المرسوم الجديد، أن أداء مقاطع النشيد كاملة يكون خلال أي حفل بمناسبة "إحياء ذكريات رسمية بحضور رئيس الجمهورية".  سِجال بين النخب ومؤخراً، بدأت تظهر بوادر سجال دبلوماسي جديد بين الجزائر وفرنسا بعد توقيع الرئيس عبد المجيد تبون، على هذا المرسوم الذي يلزم مؤسسات الدولة بأداء النشيد الوطني بمقاطعه الخمسة بما فيها المقطع الذي يتوعد فرنسا، وقد أزعج هذا المقطع من النشيد الوطني وزيرة الخارجية الفرنسية التي وصفت هذه الخطوة بالقرار الذي لا يتناسب مع الوقت الراهن. وتساءلت وزيرة الخارجية كاثرين كولونا، عن الأسباب التي دفعت الجزائر إلى إبقاء المقطع أثناء تأدية نشيد "قسما" خلال المناسبات والاحتفالات الرسمية، وأبدت في حوار مع قناة «أل سي إي»، استغرابها من الموقف الجزائري إذ جاء ـ حسب قولها ـ على اعتبار أن مقطع الوعيد أصبح لا يناسب الظرف الحالي، كما أشارت مسؤولة الدبلوماسية الفرنسية إلى أنها تتفهم السياق التاريخي العام الذي كُتب فيه المقطع، والمتصل بفترة الحرب بين الجزائر وفرنسا خلال مرحلة الاستعمار. ردود من الجزائر وبعد هذا التصريح، وصف وزير الاتصال الأسبق، عبد العزيز رحابي، أول أمس الأحد، تصريحات وزيرة الخارجية الفرنسية، بأنه "صادم وغير مناسب بقدر ما هو غير مقبول"، وأضاف رحابي في منشور له على تويتر، أن "كاثرين كولونا تتمنى أن تكون لها أفضل العلاقات مع الجزائر، وفي ذات الوقت تشكك في قرار الجزائر السيادي بتوسيع استخدام نشيدها الوطني في ظل الظروف والشروط التي تختارها الحكومة الجزائرية". ومن جهته، قال عضو لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان، عبد الوهاب يعقوبي، والنائب عن الجالية الجزائرية في فرنسا، في تصريح صحفي، إن "النشيد الوطني الجزائري رمز تاريخي للأمة الجزائرية وهو مسألة سيادية للجزائر، لا يحق سياسياً لأي جهة التعليق على المسائل السيادية للجزائر"، مشيراً إلى أنه "يتعين على الجانب الفرنسي احترام القرار الجزائري، هناك ماض مؤلم بين البلدين ويعبر النشيد عن جزء منه، وهذا الألم ما زال مستمراً حتى الآن". بدورها، اعترضت "حركة البناء الوطني"، بشدة على تصريحات كولونا، مضيفة في بيان، أن "تصريحات المسؤولة الفرنسية عن الشؤون الدبلوماسية في حكومة الرئيس الفرنسي ماكرون، استفزازية وغير مقبولة وهي تشكل خرقاً صارخاً للأعراف الدبلوماسية المتعارف عليها". وأضافت الحركة: كما أن هذه التصريحات "تنتهك بشدة وبشكل صريح مبدأ احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية"، معتبرة أن "مثل هكذا تصريحات من مسؤول فرنسي، في هذا المستوى من التمثيل للقرار الرسمي الخارجي، تتناقض في مضامينها مع الإرادة السياسية للمسؤول الأول بقصر الإليزيه لتعزيز علاقة فرنسا مع الجزائر، والتفاف مؤسف ومخيّب على الإرادة لتجاوز الخلافات الراهنة والمضي في بناء علاقة جديدة". من جهته، أعرب حزب جبهة التحرير الوطني عن استهجانهه واستنكاره الشديد لتصريحات وزيرة الخارجية الفرنسية كاثرين كولونا، بشأن القرار السيادي، الذي اتخذه الرئيس تبون، والذي يثبت المقاطع الخمسة للنشيد الوطني. وقال حزب الأفلان ـ في بيان له ـ إن تلك التصريحات الصادرة عن المسؤولة الفرنسية عن الشؤون الدبلوماسية في حكومة الرئيس الفرنسي ماكرون، تأتي في سياق الإمعان في ترجمة العقلية الاستعمارية والاستعلائية، كما تكشف الوجه الحقيقي للسياسة الفرنسية تجاه الجزائر المبنية على الحقد والكراهية. كما أن ما أدلت به وزيرة الخارجية الفرنسية من تصريحات استفزازية وغير مقبولة، تعتبر خرقا صارخا للأعراف الدبلوماسية وتدخلا سافرا في الشؤون الداخلية لدولة مستقلة ذات سيادة، كما يعتبر هذا التصريح ـ يضيف بيان الأفلان ـ شاهدا آخر من شواهد عدم الجدية في بناء علاقات تقوم على أسس صحيحة ومبادئ ثابتة، تتميز أساسا بالندية والمنافع المشتركة. واعتبر الأفلان أن دعوة هذه المسؤولة الفرنسية إلى "تكييف" النشيد الوطني تعتبر مساسا بسيادة الدولة الجزائرية واعتداء صريحا على رموزها الوطنية، ومنها النشيد الوطني بمقاطعه الخمسة، الذي يمثل بمضامينه ولغته ومفرداته ورمزيته شاهدا على كفاح الشعب الجزائري الأبي ونضاله من أجل الحرية والسيادة. وأوضح المصر أن النشيد يذكّر الأجيال على تعاقبها بأن فرنسا قد ارتكبت مجازر نكراء، ستبقى وصمة عار في جبينها وفي تاريخها.. "يا فرنسا قد مضى وقت العتاب"، فالتاريخ لا يمكن تزييفه أو طمسه أو التلاعب به، وعلى فرنسا أن تنسى أن الجزائر كانت مستعمرة. وخلص البيان إلى أن الحزب يحيي رئيس الجمهورية على مواقفه الوطنية السيدة، التي تؤكد حرصه على التعاطي مع قضايا التاريخ والذاكرة والرموز الوطنية، ومنها النشيد الوطني بمقاطعه الخمسة، بعيدا عن أي تراخ أو تنازل أو أهواء، تقديرا منه لثقة الشعب وشعورا بعظمة المسؤولية التي يتحملها والوفاء لعهد الشهداء.