تحرصُ العروس الجزائرية ـ تحديدا في مدينة تلمسان (غرب) ـ على ارتداء زيّ تقليدي خاص يُميّزها عن قريناتها في مناطق أُخرى من الجزائر، يُسمّى «الشدة التلمسانية»، والذي يُصنّف كزيّ ملكي بامتياز، يعود إلى أيام الملوك الزيانيين التي كانت تلمسان عاصمة لهم، ويعكسُ هذا اللباس الذي لا يزالُ يحتفظ ببعده التاريخي والروحاني، روعةَ الصناعة الحرفية وجماليات التقاليد التلمسانية والجزائرية بشكل عام. وتُمثلُ «الشدة التلمسانية» بتفاصيلها الراقية وتصميمها الفريد من نوعه جزءا هاما من تراث الجزائر الثقافي، وعلامة مسجلة تُترجمُ وبكل مصداقية هوية المنطقة التلمسانية وتقاليدها العريقة التي تأخذك في رحلة فنية لعالم من الجمال والتفرد، إذ يتميز هذا الزيّ الملكي الضارب في القدم، بشكله الفريد من نوعه، وتَصاميمه المُفعمة بالتفاصيل والتطريزات المعقدة التي تنسجمُ بشكل مُتناغم مع القماش، ليُشكلَ ذلك مرآة عاكسة للحرفية والمهارة العالية التي يمتاز بها الحرفيون التلمسانيون وتجسد تفانيهم في الحفاظ على التراث وإحياء التقاليد القديمة التي تزخر بها المنطقة وتوارثتها الأجيال أبًا عن جدّ. عندما تتناغم خيوط الذهب.. ويعود تاريخ «الشدة التلمسانية»، إلى حقبة ما قبل سقوط الأندلس، وتحديدا إلى القرن الحادي عشر الميلادي، وكان يقتصر ارتداؤها على الأميرات ونساء الطبقة الراقية بتلمسان أيام الدولة الزيانية، قبل أن تتحول إلى لباس خاص تتزين به العروس التلمسانية يوم زفافها. ويجمع هذا اللباس التقليدي المصمم على شكل طبقات متعددة بين عدة حضارات، فالبلوزة أصلها من الحضارة العربية، والفوطة من الحضارة الأمازيغية، والقفطان من الحضارة العثمانية بينما الشاشية مستمدة من الحضارة الأندلسية. وتتألف الشدّة من 12 قطعة متنوعة في الشكل والتصميم، مترابطة ومحكمة بشدة فيما بينها، لتغطي الجسد بأكمله تقريبا، فنجدُ أولا الفستان الحريري المُسمى بـ«الردة» ويتصف بكونه واسع الأكمام والمصنوع من قماش شفاف ورقيق يُسمى بـ«القطيفة». ويدل شكل هذا الزي العريق على أن الفتاة خالية من الأسرار قبل ليلة زفافها، ويكون منمقا بحبات اللؤلؤ، ومرصعا بالبُرقة والدانتيل المطرز بخيوط الذهب التلمساني المعروف باسم «الفتلة». وتستخدم «الفتلة» في صناعة وتنميق معظم أجزاء الشدّة، وهناك أيضا «المثيقلة» بمعنى (ثقيلة) باللهجة المحلية، وهي عبارة عن مخمل منسوج بخيوط الذهب أيضا، وملحقة بـ«المنجدة» التي تكون في الغالب بلون فاتح (أزرق أو أبيض أو وردي)، وكلتاهما تنسجان بطريقة يدوية لتشكلان ما يُسمى بـ«الرضا» وهي أشبه بالقفطان العثماني ذي الأكمام القصيرة المزينة في نهايتها بالزخارف البديعة. أما بالنسبة إلى العنق، فيُغطى بقلادة مميزة، مزينة بالأحجار الكريمة من الياقوت والزمرد والألماس، أما الأذنان فتعلق عليهما «القُرصة» التي تتدلى حتى أسفل الذقن لتلامس الكتف، وهناك أيضا قفطان يُسمى بـ«الجوهر» يزين صدر العروس، وهو مشكلٌ من خمسين صنفا من المجوهرات التلمسانية التقليدية المعروفة بـ«الزرارف»، وحول الخصر منديل يدعى بالمثقلة عبارة عن حزام يتميز بخيوطه الذهبية العريضة. أما التاج أو ما يُعرف بـ«الشاشية» الأندلسية، وتُسمى بالأمازيغية بـ«تيدج»، وتعني (تاج) بالعربية، فيُزين بسبعة إلى تسعة تيجان، وهو عبارة عن رأس مخروطي الشكل، في قاعدته محاط بقلادة ذهبية مزينة بأحجار كريمة، ويحيط به إكليل يغطي الجبهة، أما أجزاء التاج فموصولة ببعضها بخيوط الفتلة أيضا، إضافة لكل ما سبق نجد المجوهرات الثمينة والأساور التي تزين معصمي العروس والخلاخيل والحناء الذي يغطي يديها. تتعدّد الروايات وتباينها بشأن أصل التسمية وقد تباينت الروايات عن أصل تسمية هذا اللباس بـ«الشدة»، فهناك من يقول إن السبب يكمن في كون الحُلي والمجوهرات المرصعة تضفي عليه بريقا ولمعانا شديدا، ولذلك سُمي بـ«الشدّة»، بينما يؤكد آخرون أن السبب الحقيقي لهذه التسمية هو أن خيوطه ومجوهراته مشدودة ومتماسكة بعضها مع بعض بقوة وبشدة. فيما يرى البعض الآخر أن أصل كلمة «الشدة» يرجع إلى «شد الرأس»، حيث "كانت المرأة قديما تشد رأسها بقطعة من قماش وتلفها حوله وتزينه بالحلي، وكلما زاد لف القماش كلما دل على رفعة المرأة وعلو مقامها في مجتمعها". أما الرواية الأكثر شيوعا هي أن ارتداء الفستان في ليلة الزفاف هو بمثابة اختبار لصبر وقوة تحمل العروس واستعدادها لمشقة الحياة القادمة، والتي ستدخل قريبا عُش الزوجية، كون الفستان العجيب يزن أكثر من 15 كيلوغراما، وذلك منذ خروجها من بيت أهلها إلى دار زوجها. وبالنظر إلى قيمته التاريخية والحضارية والفنية، فقد صنفته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي للإنسانية بمناسبة الدورة السابعة للجنة الوزارية المشتركة لحماية التراث الثقافي غير المادي المنعقدة بمقر المنظمة في باريس عام 2012. وجاء هذا التصنيف بعد عمل مضن، وجمع ملف ضخم، دام 3 سنوات، قبل أن يتم عرضه على منظمة «اليونسكو»، إذ تضمّن الملف كل لواحق الزي التلمساني المتعلقة بحفل الزفاف والمعروف محليا بـ«الشدّة» مثل حلي العروس والموسيقى التقليدية المرافقة للعرس "ما أقنع اليونسكو أنه فعلا تراث غير مادي فريد من نوعه في العالم". رمز للهوية ويُرجع مهتمون بالتراث الثقافي الجزائري، الفضل في التعريف بهذا الزي إلى فعاليات تظاهرة «تلمسان عاصمة الثقافية الإسلامية لعام 2011»، التي كانت محطة هامة في التعريف بما تزخر به بلادنا من تراث مادي ولامادي يعكس وبكل مصداقية عراقة وأصالة تاريخ الجزائر. وتحظى «الشدة» باعتبارها رمزا للهوية الثقافية والتقاليد العريقة في منطقة تلمسان، باهتمام بالغ من قبل الدولة الجزائرية، ممثلة في الرجل الأول في البلاد، حيث أكدّ الرئيس عبد المجيد تبون خلال زيارته للمعرض الخاص بإبداعات الحرفيات الجزائريات، والذي نظم بمناسبة إحياء اليوم العالمي للمرأة هذا العام، على أهمية حماية التراث الوطني واللباس التقليدي، سيما لباس «الشدة التلمسانية» من التقليد. وأكّد الرئيس على تصنيف هذا النوع من اللباس ضمن التراث الجزائري من خلال "شهادة مطابقة تمنحها الحكومة للحرفيات، تُنشر في الجريدة الرسمية"، مُثمنا في السياق ذاته إسهام الحرفيات في إحياء التراث الجزائري الذي تم تهميشه –كما قال– في فترة سابقة، مما جعله "عرضة للسلب وادعاء الملكية". وعلى مرّ التاريخ كانت ولا تزال «الشدة» مفخرة للمرأة التلمسانية والجزائرية، وتحفة فنية نادرة يحرص أهل الإبداع وخاصته على نقلها لكل الأجيال المُتعاقبة، والتعريف بها أكثر في مختلف المحافل والمعارض الدولية، من خلال الترويج لها كلباس ذي قيمة تاريخية وتراثية وفنية متميزة يعكس وبكل أمانة الثقافة والتراث الجزائري الذي ظل محافظا على أدّق خصوصياته من كل الحضارات الإنسانية التي استمد منها فخامته وروعته.