2025.10.30
جامع «كتشاوة».. صرحٌ معماري عتيق يترجم أصالة تاريخ الجزائر

جامع «كتشاوة».. صرحٌ معماري عتيق يترجم أصالة تاريخ الجزائر


بينما أنت تتجول بيْن أزقة القصبة الضيّقة ـ أحد أعْرق وأقْدم مدن العاصمة الجزائرية ـ يشدّ انْتباهك، جمال صوامع المساجد العتيقة التي تأخذك في رحْلةٍ عبْر الزمنْ إلى العهْد العثْماني في الجزائر.

يُعرف مسجد «كتشاوة» ـ أحد أبرز وأشهر المساجد التاريخية بالعاصمة الجزائرية ـ بأنه صرح معماري عتيق شيّده حسن باشا في العهد العثماني عام 1612، وجرى توسيعه عام 1794، ما جعله أحد أكبر المساجد في الجزائر.

ومع دخول الاحتلال الفرنسي إلى الجزائر عام 1830، أمر الحاكم العسكري الفرنسي، الدوق دو روفيغو، بتحويل مسجد كشتاوة ـ التحفة المعمارية الإسلامية الفريدة ـ إلى كاتدرائية للتبشير بالمسيحية في الجزائر وإفريقيا.

هذا القرار رفضه أعيان وشيوخ المدينة، وسعوا جاهدين إلى تعطيله، لكن محاولاتهم باءت بالفشل أمام إصرار روفيغو، الذي بدا وكأنه جاء من أجل هذه المهمة حصراً.

وفي أحد صباحات الجزائر المحتلة وقتها، استيقظ الجزائريون على آلاف المصاحف والكتب والمخطوطات وهي تُحرق، في مشهدٍ لا يختلف كثيراً عمّا فعله هولاكو بمكتبات بغداد يوم احتلها.

ألمت الصدمة بالجزائريين من الهمجية الفرنسية في التعامل مع مقدساتهم، وتأكدوا أن حاكم الجزائر الجديد مصرّ على تحويل مسجد كشتاوة إلى كاتدرائية، فأرسلوا منادياً لأغلب أحياء العاصمة وأزقّتها، للنفير العام والدفاع عن جامع المدينة وباقي رموزها.

دفاعا عن الشرف

وما هي إلى ساعات قليلة حتى اعتصم داخل مسجد كشتاوة 4 آلاف مصلٍّ، وأشار مساعدو الدوق دو روفيغو عليه بالتهدئة خوفاً من ثورة عارمة في المدينة والمدن المجاورة، لا سيما أن أقدامهم لم تثبت بعد في بوابة إفريقيا، كما وصفها الفرنسيون وهم يحضّرون الحملة ضدها.

رفض الحاكم الفرنسي المشورة، واستدعى المدفعية، وبدأ بدكّ الجامع على رؤوس المعتصمين دون سابق إنذار، ليستشهد أكثر من أربعة آلاف مسلم دفاعا عن أرضهم ومقدساتهم.

وتطلق الجزائر على الساحة المجاورة للمسجد إلى اليوم اسم ساحة الشهداء، تكريماً لأرواح 4 آلاف شهيدٍ ضحوا بأنفسهم دفاعا عن جامع المدينة وشرفها.

وكان لحاكم الجزائر وقتها «دي روفيغو» ما أراد، وحوّل الجامع إلى كاتدرائية بعد عامين من احتلال الجزائر، أي سنة 1832، وبقيت على ذلك الحال 132 سنة، أي حتى عام 1962، تاريخ استقلال الجزائر عن فرنسا، لتعود الكاتدرائية إلى سيرتها الأولى جامعاً ورمزاً للعاصمة الجزائر.

رمز الاستقلال

مباشرة بعد استقلال الجزائر عام 1962، تم تحويل الكنسية إلى مسجد تقام فيه الصلوات اليومية، ليحمل القرار إحدى رمزيات الاستقلال والسيادة، واسترجاع الهوية الدينية الإسلامية للبناء، حين أقيمت فيه أول صلاة جمعة في 5 من تشرين الثاني/نوفمبر 1962 بحضور رسمي ووفود غفيرة من مختلف الدول الإسلامية.

وكان أوّل خطيبها العالم الجليل البشير الإبراهيمي، أحد مؤسسي جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ومما ورد في الخطبة "يا أتباع محمد عليه السلام هذا هو اليوم الأزهر والأنوار... وهذا هو اليوم المشهود في تاريخكم الإسلامي".

وقال "لقد كنا نمر على هذه الساحة مطرقين ونشهد هذا المشهد المحزن منطوين على مضض يصهر الجوانح، ويسيل العبرات كأن الأرض تلعننا بما فرطنا في جنب ديننا".

وختم "سبحانه تعالى جده، تجلّى على بعض عباده بالغضب والسخط، فأحال مساجد التوحيد بين أيديهم إلى كنائس للتثليث، وتجلى برحمته ورضاه على آخرين فأحال فيهم كنائس التثليث إلى مساجد للتوحيد، وما ظلم الأولين، ولا حابى الآخرين، ولكنها سنته في الكون، وآياته في الآفاق، يتّبعها قوم فيفلحون، ويعرض عنها قوم فيخسرون".

وهكذا، بقي مسجد «كتشاوة» شاهدًا حيا على عنجهية ووحشية المستدمر الفرنسي الذي ارتكب أبشع الجرائم وأقذرها في حق الشعب الجزائري الذي طالما كان رافضا لطمس هويته وتزييف تاريخه.

وفي شهر أكتوبر/تشرين الأول 2021، قال الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون ـ في مقابلة مع وسائل إعلام محلية بثها التلفزيون الجزائري الرسمي ـ إنّ "فرنسا تربطنا بها مشكلات، استعمرتنا 132 سنة كانت فيها جرائم بشعة، كيف تمحى بكلمة حلوة".

وأضاف تبون في سياق حديثه عن جرائم الاستعمار الفرنسي: "اِسألوا أهل الذكر والذاكرة ماذا حدث في مسجد كتشاوة.. لما قرّروا الاستحواذ عليه لمسخ الإسلام ـ دين الجزائريين ـ وتحويله إلى كاتدرائية اعتصم فيها 4 آلاف مصل، استشهدوا جميعهم بعدما تمت محاصرتهم بالمدافع وإبادتهم".

وأوضح الرئيس الجزائري أنّ "تصرف الجيش الاستعماري الفرنسي ضد الجزائريين كان هكذا، ولم تكن هناك هدايا".

رمزية ساحة الشهداء

وترجع التسمية إلى الكلمة التركية التي تعني باللغة العربية «العنزة»، وأطلق الاسم على المسجد نسبة إلى السوق القائمة في الساحة المقابلة للمسجد التي تحول اسمها لاحقا إلى ساحة الشهداء.

وتوسّط جامع كتشاوة مركز ومقر السلطات السياسية والإدارية والعسكرية والمالية إبان الفترة العثمانية، على غرار دار السلطان، دار المال أو الخزينة، دار العزيزة، دار الخداوج العمياء، دار مصطفى باشا ودار الحمراء.

ويقع الجامع بجانب أسواق تجارية، نذكر منها سوق الصياغة، سوق الكبير، سوق الحدادين، سوق الخضارين.

جدير بالذكر، أن السلطات الجزائرية أغلقت المسجد عام 2007 بعد زلزال ضرب العاصمة وأحدث أضرار بالبناية، وتولت الوكالة التركية للتعاون والتنسيق (تيكا) في إطار التعاون الثقافي والعمراني والمحافظة على الثراث المادي على ترميم المسجد واستمرت الأشغال ثلاثة أعوام، ليتم إعادة فتح المسجد كتحفة معمارية حضارية في شباط/ فيفري عام 2018 بحضور الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحرمه، في إطار زيارة دولة قام بها إلى الجزائر.

ويستقبل جامع «كتشاوة» اليوم آلاف المصلين والزائرين، إذ يعتبر أحد أشهر معالم الجزائر العاصمة.