في كتابه "Ombres" (أشباح)، يفتح الإعلامي والكاتب البلجيكي من أصول مغربية، خليل الزكندي، أرشيفا إنسانيا طال نسيانه، يغوص في ذاكرة الجيل الأول من المغاربة الذين هاجروا إلى بلجيكا في ستينيات القرن الماضي، لكنه لا يكتب فقط عن المهاجرين، بل عن وطن لفظ أبناءه في لحظة جرح تاريخي، وعن دولة جعلت من أبنائها عمالا في مناجم الآخرين بدل أن توفر لهم مكانا تحت شمسها، هذا العمل ليس مجرد توثيق ميداني، بل صرخة ثقافية مؤلمة في وجه التاريخ المغربي الرسمي الذي طمس أصوات الريفيين طيلة عقود.
يبدأ الزكندي كتابه من الهامش، من هناك حيث الريف الجريح الذي دفع أبناءه إلى الرحيل، لا بحثا عن مغامرة، بل هربا من واقع كان يطاردهم بالقمع والفقر منذ ما بعد الاستقلال، فالاستقلال كما يصفه كثير من الشهود في الكتاب، لم يكن سوى نهاية استعمار وبداية تهميش، لقد وجد سكان الشمال أنفسهم أمام وطن لا يتسع لهم، وطن عاقبهم على ثورتهم ضد الاستعمار الإسباني والفرنسي، فحوّل جبالهم إلى مناطق منسية محرومة من التنمية، ليصبح البحر والقطار نحو أوروبا طوق النجاة الوحيد.
يحتوي الكتاب على عشرات الشهادات لمغاربة ومغربيات من ذلك الجيل الأول، الذين غادروا وطنهم من موانئ طنجة والناظور والدار البيضاء باتجاه الفحم البلجيكي، هناك في مدن مثل لياج وشارلوروا وبروكسل، سيبدأ فصل جديد من غربتهم، فصل لا يحمل رائحة الوطن ولا دفء العائلة، ينقل الزكندي بمهارة صوتهم الخام كما هو، دون تجميل، كما لو أنه يسجل بميكروفون الذاكرة أصواتا خرجت من باطن المناجم أكثر مما خرجت من القلوب.
في تلك الشهادات، تتجلى العزلة القاسية التي عاشها هؤلاء الرجال الشباب، الذين جاؤوا بعقود مؤقتة ليعملوا في ظروف لا تليق بالبشر، غرف صغيرة تتقاسمها ستة أو سبعة أجساد متعبة، مرحاض واحد وحمام بارد، وراتب بالكاد يكفي لإرسال حوالة إلى الأهل في المغرب. يتحدثون عن ليال طويلة في الصمت، عن وجوه غريبة في مرايا المهجع، عن غياب النساء، وعن صلوات تؤدى خلسة في زوايا الغرف، لأن المساجد لم تكن موجودة بعد، كانوا يصلون إلى الله الذي هجروه جسدا دون أن يغيب عن أرواحهم، يعبدونه في المنفى لأن الوطن حرمهم من العبادة في الكرامة.
يتوقف الكتاب عند تفاصيل تظهر البؤس النفسي والاجتماعي الذي عاشوه: شباب في العشرينات، بعيدون عن نسائهم، عن دفء الحياة الزوجية، عن أنوثة الوطن، يصف الزكندي من خلال رواياتهم انكسار الرجال في الغربة، كيف تحولوا إلى آلات عمل، وكيف ملأت صور الأهل جدرانهم الفارغة، وكيف عاشوا سنوات طويلة وهم يعدون الأيام إلى العودة الكبرى التي لم تتحقق أبدا، فالعودة، كما يقول أحدهم، تحولت من وعد إلى وهم، ومن وطن إلى ذكرى.
ثم تأتي فصول العطلة الصيفية، تلك الرحلات الأسطورية التي كانت تمتد من بروكسل إلى وجدة أو الحسيمة في سيارات متهالكة أو قطارات لا تنتهي محطاتها، يستعيد الزكندي، بأسلوب بصري مشوق، تلك المشاهد التي تختصر حلم العودة: حقائب مملوءة بالهدايا، أشرطة غنائية في الطريق، دموع على الخدود، وأطفال يلوحون من النوافذ، لكنها كانت دائما رحلات بين وهمين: وهم الانتماء إلى بلجيكا ووهم العودة إلى المغرب، فالأرض التي خرجوا منها لم تعد تنتظرهم، والبلد الذي استقروا فيه لم يعترف يوما بهم كمواطنين كاملين.
الكتاب، رغم لغته الفرنسية الأنيقة، يحمل نفسا مغربيا خالصا، لكنه يوجه خطابه إلى الضمير الأوروبي قبل المغربي، فقد أراد الزكندي، كما يصرح في المقدمة، أن يمنح البلجيكيين الأصليين فرصة ليفهموا من يعيش بينهم، من هؤلاء الذين بنوا أنفاق متروهم ومدنهم بأيد لم تلتئم من تعب الريف. غير أن ما يجعل "أشباح" أكثر لذعا هو أنه لا يكتفي بوصف الغربة في بلجيكا، بل يضع مسؤولية المأساة على الدولة المغربية نفسها التي صدّرت أبناءها كقوة عاملة مؤقتة دون أن تضمن لهم كرامة أو عودة.
ينتقد الزكندي بلغة غير مباشرة صمت الرباط أمام معاناة هؤلاء المهاجرين، الذين ظلوا يدفعون ثمن التهميش مرتين: مرة في وطنهم حين طردوا من التنمية، ومرة في الغربة حين استعملوا كوقود لصناعة أوروبا الحديثة، لم يكن أحد منهم مشروع مهاجر دائم، بل عاملا مؤقتا ينتظر توقيعا على ورقة العودة، لكن الدولة التي وعدتهم ببرامج الإدماج وإعادة الاستقرار في المغرب، اختفت من حياتهم كما اختفى الوطن من جوازاتهم.
يصف أحد الشهود، كما ينقل الكتاب، كيف كان المهاجرون يعلقون صور الملك والحسيمة على الجدران جنبا إلى جنب، كأنهم يبحثون عن مصالحة بين السلطة والذاكرة، بين المغرب الرسمي ومغرب القلب، إلا أن الواقع كان أكثر مرارة، فحين ظهر الجيل الثاني أبناء المهاجرين الذين ولدوا في بلجيكا تلاشى حلم العودة نهائيا، أصبح المغرب بالنسبة إليهم بلد الإجازة الصيفية، لا أكثر، يقول أحدهم في شهادة مؤلمة: "لم نعد نعرف إلى من ننتمي... الآباء فقدوا وطنهم ونحن لم نجد وطنا نرثه".
أشباح.. بهذا المعنى ليس فقط كتاب شهادات، بل كتاب هوية مفقودة، أشباح.. العنوان ليست رمزية فحسب، بل واقعية: أشباح رجال يعيشون بين عالمين، غير مرئيين في السياسة، غير ممثلين في التاريخ، يزورون وطنهم بأوراق إقامة لا تحمل دفء المواطنة، الزكندي يعيد لهم وجوههم، يعيد للأبناء فرصة أن يروا آباءهم، ليس كعمال صامتين في الصور القديمة، بل كأبطال منسيين كتبوا بأيديهم فصلا من تاريخ الهجرة في أوروبا.
ولا يخلو الكتاب من لحظات فرح ودفء إنساني، من طرائف وعلاقات صداقة تشبه قصص التضامن في المهجر، ففي قلب العزلة كان هناك غناء وأمل ومواسم زواج وأعياد تقام بوسائل بسيطة لكنها محملة بمعنى البقاء، أولئك الذين تعلموا اللغة الفرنسية بصعوبة، علموا أبناءهم لاحقا أن يرفعوا رؤوسهم، وأن يطالبوا بحقوقهم، وأن لا يخجلوا من أصولهم، لكن الزكندي لا يمنح النهايات السعيدة مجانا، فهو يدرك أن ما خسره ذلك الجيل لا يعوض بالاندماج ولا بالجنسيات الجديدة.
يُترك القارئ في نهاية الكتاب أمام مرآة صادمة: بلجيكا التي استقبلت الأيدي العاملة ببرود رأسمالي، والمغرب الذي ودع أبناءه بلا وداع، بينهما جيل كامل عاش في المنطقة الرمادية، بلا أرض ولا جذر، إنهم أشباح، كما سمّاهم الكاتب، لا لأنهم موتى، بل لأن لا أحد يعترف بوجودهم.
بهذا العمل، يضع خليل الزكندي الأدب في خدمة الذاكرة الجماعية، ليقول إن التاريخ لا يكتب فقط في قصور الحكم، بل أيضا في غرف الفحم الباردة، في الرسائل الممزقة، وفي العيون التي لم تنم منذ وداع الميناء الأول، أما المغرب فربما عليه أن يقرأ هذا الكتاب جيدا، لأن بين صفحاته صوت الريف الذي لم يُسمع بعد، ووجع جيل صدّرته الدولة بحثا عن العمل فعاد إليها حكاية عن الخذلان.

