حين يصبح التراث جبهة مقاومة!
يُعدّ التراث الفلسطينيّ ذاكرةً حيّةً تنبض في وجدان الأمّة، وميدانًا للمواجهة المفتوحة مع مشروع استعماري يسعى منذ أكثر من قرن إلى نزع الفلسطيني من جذوره التاريخية. فالاحتلال "الإسرائيلي" لم يكتفِ بمصادرة الأرض، بل سعى إلى محو معالم الهويّة المادية والرمزية معا، في محاولة لخلق فراغٍ تاريخيّ وثقافيّ يبرّر وجوده الاستعماري.
في يوم التراث الفلسطيني (7 أكتوبر من كل عام)، يصبح استحضار الموروث الوطني فعلًا سياسيًّا وثقافيًّا بامتياز؛ إذ تتجسد في تفاصيل الأزياء، والموسيقى، والحكاية الشعبية، والعمارة، والمأكولات، شيفرات هويّة لا يمكن استنساخها أو تزويرها.
ومع تصاعد سياسات الاحتلال التي تستهدف المعالم التاريخية، وتمنع الترميم، وتمنح المستوطنين حقًّا زائفًا في التراث المادي والمعنوي الفلسطيني، تتعمّق الحاجة إلى إعادة الاعتبار للتراث بوصفه جبهة مقاومة ثقافية تعادل في أثرها النضال الميداني والسياسي.

التراث الفلسطيني في وجه التغريب والطمس
منذ النكبة وحتى اليوم، يواجه التراث الفلسطيني سياسة "التغريب" الممنهج؛ إذ يحاول الاحتلال فرض رواية بديلة تعزل الفلسطيني عن امتداده التاريخي العربي والشرقي. يتجلّى ذلك في إعادة تسمية القرى والأماكن التاريخية بأسماء عبرية، وطمس النقوش الإسلامية والمسيحية، وتحويل المساجد والكنائس المهجّرة إلى متاحف تديرها إدارة الاحتلال أو كُنُس أو مواقع وحدائق سياحية توراتية.
هذه الممارسات لا تُعدّ عبثا تاريخيًّا فحسب، بل أداة هيمنة رمزية تهدف إلى إعادة كتابة التاريخ على نحوٍ ينسف حضور الفلسطيني في المكان. ويُضاف إلى ذلك محاولات تصدير التراث الفلسطيني إلى الغرب بلباسٍ "إسرائيلي"؛ من التطريز الفلسطيني الذي يُقدَّم كـ "فن عبراني"، إلى المأكولات الشعبية كالحمّص والفلافل التي تُسوّق عالميًّا بوصفها جزءًا من "المطبخ الإسرائيلي الحديث".
إبادة الشواهد التاريخية وتزييف الذاكرة الجمعية
تتعرض الشواهد التاريخية الفلسطينية - من القلاع والبيوت القديمة إلى المقامات الدينية – إلى عمليات هدمٍ وإحلالٍ متعمّدة تهدف إلى طمس طبقات التاريخ المتعاقبة.
في غزّة، تحوّلت المواقع الأثرية، مثل: ميناء أنثيدون وكنيسة القديس برفيريوس، إلى رموزٍ للإبادة الثقافية الحديثة بعد أن طالتها القذائف. وفي القدس، تُمارس سياسات الحفريات والأنفاق تحت المسجد الأقصى وسلوان في إطار مشروع "تهويد التاريخ".
أما في الضفة الغربية، فتُفرض قيود قاسية على البعثات الأثرية الفلسطينية، وتُمنع عمليات الترميم بحجة "الأمن"، في حين تُموّل المشاريع الاستيطانية لحماية ما يُسمّى "الآثار اليهودية".
هذا كله يندرج ضمن ما يسمّيه الباحثون: "الإبادة الثقافية البطيئة" (Cultural Genocide)، التي تهدف إلى فصل الفلسطيني عن ذاكرته المكانية وتبديل وعيه الجمعي بنسخة مزيّفة توراتية.
إحياء التراث لاستدامة الموروث الثقافي..
إحياء التراث ليس ترفًا ثقافيًّا، بل ضرورة وجودية في معركة الدفاع عن الذات والهوية والتاريخ. فالمجتمع الفلسطيني، على اختلاف مكوّناته الجغرافية والسياسية، يجد في تراثه المشترك ما يوحده ويعزز صموده.
لقد شكّلت المبادرات المجتمعيّة في السنوات الأخيرة - من مهرجانات الدبكة والتطريز، إلى المعارض التراثية والمراكز البحثية المتخصصة بالموروث الثقافي الفلسطيني - بنية مقاومة ثقافة ناعمة تتحدى المنع والرقابة.
لكن الاحتلال لا يكتفي بالتدمير المادي، بل يلاحق الفعل الثقافي ذاته: فالمشاريع التراثية في "الضفة الغربية" تُواجه عراقيل تمويليّة وإدارية، والمثقفون والباحثون في القدس يتعرّضون للملاحقة والاعتقال، وتُفرض قيود صارمة على تنفيذ الأنشطة في الفضاء العام المقدسي.
من هنا، يصبح استدامة الموروث عملاً وطنيًّا، يتطلّب تكامل الجهد الأكاديمي، والمؤسساتي، والمجتمعي، لتوثيق كل ما يُهدد بالضياع، وتحويل التراث إلى مشروع تنمويّ ومقاوم في آنٍ واحد.
التراث في الحرب.. دور "اليونسكو" والمنظمات الدولية
رغم أنّ "اليونسكو" أدرجت مواقع فلسطينية عديدة ضمن قائمة التراث العالمي مثل بلدة الخليل القديمة وبيت لحم، فإنّ الموقف الدولي تجاه الإبادة الثقافية في غزّة لا يزال محدودا ومتردّدا.
فمنذ حرب 2023 وما تبعها من دمار شامل للبنى الثقافية والتعليمية، وثّقت المؤسسات المحلية والدولية خسائر جسيمة في المعالم التاريخية والمكتبات ودُور النشر، دون أن يقابل ذلك تدخلٌ حقيقي من الهيئات الأمميّة والمنظمات الدولية التي تُعنى بالمورث الثقافي، ولا سيما في حالة النزاع المسلح.
في المقابل، برز دور المؤرخين والمثقفين والباحثين في غزّة الذين شكّلوا قاعدة بيانات أوليّة توثّق جرائم الإبادة الثقافية، وتحوّلت جهودهم إلى أرشيف مقاومة رقمية يسعى إلى حفظ الذاكرة الجمعية في مواجهة النسيان القسري.
وهذا يؤكد أن حماية التراث الفلسطيني لم تعد مسؤولية المنظمات الدولية وحدها، بل واجب وطنيّ وإنسانيّ في آنٍ واحد.

من الهامش إلى العالم.. الزخم الدولي للهوية الفلسطينية
في السنوات الأخيرة، شهد الموروث الثقافي الفلسطيني حضورًا متناميًّا في العواصم الكبرى - من باريس ولندن إلى نيويورك وسيدني - عبر المعارض الفنية والفعاليات الأكاديمية التي أعادت تعريف فلسطين من منظور ثقافي لا سياسي فقط.
لقد تحوّل التطريز الفلسطيني إلى رمز عالمي للمقاومة الثقافية النسوية، وأصبحت الأغنية الشعبية الفلسطينية تُبثّ في المهرجانات الدولية بوصفها صوت الذاكرة الحيّة.
إنّ إبراز التراث الفلسطيني عالميًّا يعيد الاعتبار للهوية، ويواجه رواية الاحتلال في ميدان الصورة والرمز، ويمنح الفلسطيني مساحة سردٍ ثقافية جديدة خارج قيود الجغرافيا والسياسة.
ومن هنا، يصبح الحفاظ على التراث في الداخل والخارج وسيلة للمقاومة الثقافية الناعمة، تعيد تموضع فلسطين في الوعي العالمي كرمزٍ للحضارة والصمود لا كضحيةٍ صامتة.
الذاكرة باقية ما بقيت الحكاية
في المشهد الفلسطيني، لا يُقاس الصمود فقط بعدد الشهداء (رحمهم الله)، أو بطول الحصار، بل أيضًا بقدرة الذاكرة على البقاء. فالتراث الفلسطيني ليس ماضيا يحنّ إليه الناس، بل بنية هويّةٍ متجددة ترفض الاندثار.
أمام سياسات الإبادة والتزييف والسرقة، ينهض المثقفون والباحثون والفنانون حرّاسًا للذاكرة، يوثّقون ما تبقّى من حجارة البيوت وأغاني الجدّات، ليقولوا: إنّ فلسطين تُروى ولا تُمحى.
إنّ حماية التراث ليست فعلًا تراثيًّا محضًا، بل موقفا سياسيًّا وثقافيا وأخلاقيًّا، لأن من يملك ذاكرته يملك مستقبله.
ولذلك، فإنّ معركة الفلسطيني اليوم ليست فقط على الأرض، بل أيضًا على الذاكرة، الذاكرة التي كلما حاولوا دفنها، نبتت من جديد في ثوبٍ مُطرّز، أو لحنٍ شعبي، أو نقشٍ حجريّ يقول ببلاغة التاريخ: "ما زلنا هنا، كما كنّا، وكما سنكون".