إنَّ الروائيَّ الحق هو الذي يستطيع أن يوجّه بوصلته نحو قضايا مجتمعه المختلفة، ويلتقط خيوطها المتشابكة ليعيد سبكها في نص سردي أدبي يجمع بين الجمالية والرسالة. وفي رواية "تنهيدة حرية" استطاعت الكاتبة "رولا خالد غانم" أن تنقل صورة المجتمع الفلسطيني بوجه خاص، والعربي بوجه عام، من زواياه الاجتماعية والدينية والوطنية والاقتصادية. هذا التعدد في الهموم جعل خطابها السردي نصًّا ثريًّا، يلتقط معاناة الأفراد في سياقها الجمعي، ويجعل من الحكاية الفردية مرآة للجرح الفلسطيني المفتوح.
ومما يلحظ على الرواية أنها تتسم ببناء دائري محكم؛ إذ تبدأ بقصة على لسان أم بتول "الجدة"، لتُختتم بقصة ابنتها "بتول"، في دلالة على أن الأجيال القادمة ستظل تحمل الهمّ الجمعي ذاته المتجسد بحرية الوطن، وتحرير الأرض.
رولا خالد غانم
يُعدّ عنوان الرواية "تنهيدة حرية" مفتاحًا تأويليًا أساسًا للنص، إذ يتكون من جملة اسمية وهي خبر لمبتدأ محذوف تقديره "هي"، ليصبح المعنى كاملاً: هي تنهيدة حرية. إن هذه التنهيدة مثقلة بالجراح والانكسار والخذلان، وتوحي بزفرة الروح المقهورة حين تُسلب حريتها، وما يعزز ذلك حضور اللون الأحمر عنوانًا للغلاف هذه الدلالة، بما يرمز إليه من جرح نازف ودم يسيل، فيتحوّل العنوان إلى أيقونة تختزن وجع الأفراد وحنينهم إلى أرض مسلوبة. ولأن الحرية في النص ليست مجرد شعار؛ بل واقع مأساوي يتجدد مع كل تجربة ألم وانكسار، فإن التنهيدة تتكرر رمزًا للشوق العميق للعودة إلى الديار، وهو ما اتفق مع المفاصل السردية من رواية الروائية، ومن ذلك: "أرادت لحفيداتها أن يعلمن بان جدتهن ذاقت الويل قبل أن تفتح لها الحياة ذراعيها، وأنها لم تترك والدتهن بإرادتها وهي طفلة بحاجة إلى حضن دافئ، وليس إلى صقيع الغربة"، وفي: "بعد أن هجر والداي في النكبة من مدينة يافا إلى غزة سكنا في مدينة رفح، كانا عريسين يرسمان حياة وردية في أكناف مدينة يافا، ولم يكونا يعرفان بأن هناك طوفان سيأتي بغتة، ويقتلع جميع السكان من جذورهم على غير وجه حق، تركا بيتهما الصغير الدافئ المطل على شواطئ يافا عنوة، وتوجها نحو غزة ليبدآ حياة جديدة ضبابية قائمة على المجهول والانتظار، لم يصطحبا معهما سوى حقيبة ملابس وبعض الأوراق التي تثبت ملكيتهما لقطعة أرض، وبيت، ومفتاح"، وهو الحوار الذي جاءت به الجدة وحديثها عن حياتها مع حفيداتها، وفي استرجاع "سلمى" (أم بتول) لذكرياتها الماضية مع أهلها؛ إذ تقول الروائية: "لمعت في ذاكرة السيدة سلمى ذكريات طفولتها، تذكرت شاطئ رفح الذي يطفئ الظمأ، ذكريات الطفلة التي كانت تقضي أمسيات سعيدة قبل أن تدرك حجم معاناة والديها وشعبها، برفقة والدتها والجيران على ضفاف البحر، تغني وتبني قصورًا من الرمل؛ ليأتي الموج ويمحوها ويخفي آثارها كما فعل الاحتلال بفلسطيني يافا وغيرها من المدن".

أما عن الغلاف، الذي صمّمه الفنان "جمال بدوان"؛ فهو يعكس هوية النص من خلال صورة امرأة فلسطينية حقيقية من مدينة طولكرم، وهي شخصية "بتول" في الرواية التي تمسكت بالأمل رغم جراحها، وذاقت الويلات في سبيل تمسكها بحلمها. إن حضور هذه الصورة ليس جماليًا فحسب؛ بل هو محمّل بالرمزية: فالمرأة هنا أيقونة للوطن، تمثل المعاناة والصمود والتمسك بالأرض. ملامحها المرهقة، إلى جانب الألوان المتدرجة بين الأبيض والأحمر والأسود والأخضر وهي ألوان العلم الفلسطيني الذي يعكس ثنائيات الحياة والموت، والحلم والانكسار، والأمل والألم، والغلاف بهذا المعنى يصبح خطابًا بصريًا موازٍ للنص، يختزن ثيماته الكبرى ويفتح باب القراءة قبل الولوج إلى بهو الرواية نفسها، وهو ما يظهر جليًا في تشبث "بتول" بأرض فلسطين عندما سافرت لترى أختها وأخاها: "ودعت بتول غادة وخالد بمشاعر رخوة، وحمدت الله أنها عاشت في فلسطين الملاذ الآمن والحضن الدافئ والعشق الأزلي والوجهة الصائبة، وقلب العروبة الذي يفوح شجاعة وعزة وكرامة رغمًا عن أنف الاحتلال"، وظهر تمسك شخصية "بتول" بأرضها حينما سمّت ابنتها التي أنجبتها باسم "وطن" لتكون ميثاقًا قويًا يربطها بتربة فلسطين، كأن هناك عقد متين لا يفصلهما عن بعضها البعض، كما تقول "بتول" حينما تقدمت والدة "حمزة"، وهو حبيبها الذي خفق قلبها له منذ رأته في المرة الأولى وهو يعمل عند عمه في البقالة، وبعد أن أسر لدى سجون الاحتلال مدة إحدى عشر سنة وبعد خروجه من السجون؛ نتيجة صفقة تبادل أسرى: "الظلم مهما طال إلى زوال، والعدالة الإلهية لا بد وأن تتجسد طال الزمن أو قصر".
والمتأمل في البنية السردية للرواية يلحظ أنها تنبني على بناء دائري محكم؛ إذ تبدأ بقصة على لسان "أم بتول" (الجدة) وتنتهي بقصة ابنتها "بتول"؛ إذ لا تنفك التنهيدة إلا لتبقى أسيرة شخصيات الرواية، حيث تقول الجدة "سلمى": "تنهدت السيدة سلمى، وقد علقت في فخ ميرا، حيث قالت الجدة: "لا أدري لماذا أشعر بالتعب كلما شرعت أبواب الماضي وألقيت نظرة عليه"، أما ابنتها "بتول" فنراها تقول: "الماضي متاهة إذا تركناه يسيطر على لحظاتنا الحالية سيبتلع سكينتنا ويتمكن من قلوبنا، خصوصًا ماضينا نحن المكتظ بالأحداث والعواصف، دعونا نعيش اللحظة ونستمتع الآن..."، وتتابع الروائية سرد روايتها بقولها: "في اليوم التالي وفي صبيحة يوم الجمعة وبعد انتهاء الجميع من مهامه، التمت الفتيات ووالدتهن في غرفة جلوس تتوسط غرف نوم الطابق العلوي، طلبت ميرا من والدتها أن تسرد حكايتها رغم معرفتها ببعض الأمور التي تتعلق بها..."، لتختتم الروائية روايتها باسترجاع من شخصية البطلة "بتول": "تذكرت بتول بأنها جلبت في حقيبتها الصندوق الذي يحتوي رسائلها لحمزة قبل وبعد دخوله السجن، جلبته هي الأخرى، وراحت تسحب قصاصات ورق مرقمة واحدة تلو الأخرى، تنهدت وأخذت تقول: رسالة رقم واحد، رسالة رقم اثنان، رسالة رقم عشرة، رسالة رقم مئة". كأن الروائية تريد أن تقول إن الأجيال التالية لن تنسى همّها الجمعي في الحرية وتحرير الوطن. هذه الحبكة المتماسكة تمنح النص وحدة متينة، وتجعل القارئ يعيش داخل معاناة الشخصيات من بدايتها حتى نهايتها، في إطار تتابعي تتخلله منعطفات حادة ترسم توتر الأحداث.
وترى الباحثة "المصري" أن شخصية "بتول" تجسد التمزق الإنساني والاجتماعي، فهي ابنة الانفصال الأسري الذي ولّد لها شعورًا بالاغتراب، ثم وقعت في حب "حمزة" الأسير، لتتجلى عبر قصتهما معاني المقاومة والأمل. إن ولادة "مجاهد" من رحم هذه العلاقة ليست مجرد واقعة سردية؛ بل دلالة رمزية على أن المقاومة ستستمر عبر الأبناء، وأن الحلم بالحرية يتوارثه جيل بعد آخر.
وقد حملت الرواية أبعادًا متنوعة متشابكة؛ إذ عرضت "تنهيدة حرية" البعد الاجتماعي في عكسها للتشتت الأسري والعنف الزوجي، وما ينجم عنه من ألم نفسي للفرد، بالإضافة إلى البعد الوطني من خلال قضية الأسرى والمقاومة، وتجليات التمسك بالأرض والهوية، كذلك البعد الرمزي الذي يتجسد في "التنهيدة" التي تتكرر لتعبّر عن الوجع الجمعي، ولتكون صرخة صامتة في وجه القهر.
إن هذا التشابك يجعل الرواية ليست مجرد حكاية شخصية؛ بل نصًّا يتجاوز الفرد ليصوغ صورة الشعب في معاناته اليومية، حيث يتحوّل الخاص إلى عام، والمعاناة الفردية إلى تجلٍ للهمّ الجمعي.
واستئناسًا بما تقدم، يُحسب لـ "رولا غانم" أن روايتها "تنهيدة حرية" قد وصلت إلى القائمة القصيرة في جائزة "كتارا للرواية العربية" ضمن فئة الرواية المنشورة، حيث تأهلت تسع روايات فقط، وكانت الكاتبة الأنثى الوحيدة بين أسماء روائيين رجال؛ إذ إن هذا الإنجاز يؤكد فرادة صوتها الأدبي، ويكرس حضور المرأة الفلسطينية كصوت فاعل في السرد العربي الحديث، قادر على التعبير عن قضايا وطنه وقضاياه الإنسانية بلغة رصينة وبناء محكم؛ "فتنهيدة حرية" ليست مجرد رواية تُقرأ؛ بل هي شهادة مكتوبة على ذاكرة شعب، تنبض بالحنين والخذلان والأمل. عنوانها يختزن زفرة الحرية المؤجلة، وغلافها يعكس وجوه النساء اللواتي يحملن الوجع في صمت، وحبكتها الدائرية تؤكد أن الأجيال القادمة ستظل تحمل الشعلة. إنها رواية الألم الفلسطيني الذي يتشظّى في الحكايات، لكنه يبقى متماسكًا في جوهره، متطلعًا إلى فجر حرية آت.