2025.10.13



السياسة النقدية على المحك.. متى ينجح استهداف التضخم في حماية الأسعار؟ حوارات

السياسة النقدية على المحك.. متى ينجح استهداف التضخم في حماية الأسعار؟


إذا كان استهداف التضخم يبدو كأداة قادرة على ضبط الأسعار، فإن نجاحه لا يتحقق إلا بتوفر شروط أساسية. هنا تأخذنا الأستاذة دين مختارية، من المركز الجامعي الشريف بوشوشة بآفلو، إلى عمق هذه الشروط التي تُعتبر المفتاح لأي تجربة ناجحة. فهي توضّح كيف أن استقلالية البنك المركزي، وشفافية السياسات النقدية، إضافة إلى الانسجام بين القرار الاقتصادي والسياسي، تشكّل الأرضية الصلبة التي يقوم عليها استقرار الأسعار واستعادة ثقة الأسواق.

دين مختارية - أستاذة جامعية بالمركز الجامعي الشريف بوشوشة بآفلو – ولاية الأغواط

تشدد الأستاذة دين مختارية، أستاذة جامعية بالمركز الجامعي الشريف بوشوشة بآفلو – ولاية الأغواط، في تصريح لـ"الأيام نيوز"، على أن استهداف التضخم غدا أداة عملية تنتهجها البنوك المركزية حول العالم لضبط إيقاع الأسعار وحماية الاستقرار النقدي. وأوضحت أن الحديث عن الشروط العامة والأولية لهذه السياسة هو ضرورة لضمان فاعلية الأدوات المالية في مواجهة الضغوط التضخمية، خاصة في ظل تقلبات اقتصادية عالمية تفرض على الدول البحث عن مقاربات أكثر دقة وشفافية لإدارة سياستها النقدية.

توضح الأستاذة دين مختارية أن استهداف التضخم برز كخيار حديث لإدارة السياسة النقدية، بعدما أولت البنوك المركزية اهتمامًا متزايدًا باستقرار الأسعار وجعلته في صدارة أولوياتها. ففكرة التحكم في التضخم لم تعد مقتصرة على متابعة المؤشرات الاقتصادية بشكل تقليدي، وإنما أصبحت تقوم على تحديد أهداف واضحة ومعلنة للرأي العام، تعكس نضجًا مؤسساتيًا ورغبة في تعزيز ثقة المواطنين بالسياسة النقدية.

وتشير الأستاذة إلى أن هذا التوجه يقوم على أساس بسيط لكنه عميق: التزام البنك المركزي بنسبة معينة من التضخم، يتم الإعلان عنها بشكل رسمي، خلال فترة زمنية محددة، ليصبح مسؤولاً أمام المجتمع عن تحقيقها. وهنا لا يقتصر الأمر على تحديد رقم تقني، بل يتجاوز ذلك إلى تعزيز الشفافية وضمان تواصل مستمر مع الرأي العام بشأن مسار الأسعار والقرارات المتخذة للتحكم بها.

وترى أن نجاح هذه السياسة يرتبط بمدى حرية البنك المركزي في توظيف أدواته المختلفة، بعيدًا عن الضغوط الخارجية. فالاستقلالية هنا شرطًا عمليًا يمكّن المؤسسة النقدية من التحرك بمرونة لامتصاص الصدمات الاقتصادية، مع توفير معلومات عامة ومنتظمة حول استراتيجيتها لتفادي أي غموض أو ارتباك في الأسواق.

وبذلك يصبح استهداف التضخم إطارًا شاملًا يحدد العلاقة بين البنك المركزي والجمهور، حيث يَعد البنك بتحقيق معدل تضخم منخفض ومستقر، ويُسأل في الوقت نفسه عن أي انحراف عن الهدف المعلن. وهو ما يجعل هذه السياسة أقرب إلى عقد ثقة متبادل بين المؤسسات النقدية والمجتمع، غايته النهائية تعزيز مصداقية الدولة في مواجهة واحدة من أعقد التحديات الاقتصادية.

شروط عامة تضع استقرار الأسعار في صدارة الأولويات

وتؤكد الأستاذة دين مختارية أن الحديث عن استهداف التضخم لا يمكن أن ينفصل عن الشروط العامة التي تضمن فعاليته. فهذه الشروط تمثل الخصائص الجوهرية التي يجب أن تتميز بها أي دولة تسعى لاعتماد هذه السياسة النقدية. وإذا غاب أحدها، فإن التجربة تصبح ناقصة وقد تفشل في تحقيق أهدافها.

أول هذه الشروط هو الالتزام المؤسساتي الواضح بأن استقرار الأسعار هو الهدف الأول للسياسة النقدية. ويعني ذلك أن يكون هناك تعهد طويل الأمد من طرف السلطات النقدية يجعل من التحكم في التضخم أولوية قصوى، بعيدًا عن الأهداف الثانوية التي قد تُربك المسار وتضعف النتائج.

كما تضيف أن نجاح هذا التوجه يتطلب آلية فنية متقدمة لدى البنك المركزي، تمكّنه من قياس معدل التضخم المحلي بشكل دقيق، وإخضاعه لمساءلة مباشرة حول مدى تحقيق الهدف المعلن. وفي حال حدوث أي انحراف، يجب أن يقدم البنك تفسيرات مقبولة للرأي العام، وهو ما يعزز روح الشفافية ويرفع منسوب الثقة في المؤسسة النقدية.

وتشير إلى أن الشروط العامة تشمل أيضًا اعتماد استراتيجية معلومات شاملة لا تقتصر على الأرقام النقدية أو أسعار الصرف فقط، بل تجمع بين مختلف المتغيرات الاقتصادية المؤثرة. وهذا ما يمكّن البنك المركزي من بناء توقعات أكثر واقعية بشأن التضخم، ويتيح له التنبؤ بمساره في وقت مبكر، ومن ثم وضع التدابير الملائمة للسيطرة على الأسعار قبل انفلاتها.

الاستقلالية والوضوح… مفاتيح النجاح في مواجهة التضخم

كما توضح الأستاذة دين مختارية أن الشروط الأولية لاستهداف التضخم تمثل حجر الزاوية في نجاح هذه السياسة، فهي ليست مجرد مكمل للشروط العامة، بل ركيزة أساسية تضمن استمرارية الاستقرار النقدي على المدى الطويل. وتبرز في مقدمة هذه الشروط مسألة الاستقلالية الكاملة للبنك المركزي، إذ لا يمكن الحديث عن ضبط التضخم في ظل خضوعه لتوجيهات تمويل العجز الحكومي أو انشغاله بأهداف متناقضة.

وتشير إلى أن استقلالية البنك المركزي تعني أن تكون أدواته النقدية موجهة بشكل فعال نحو هدف وحيد هو التحكم في معدل التضخم، مع إبعادها عن أي تدخل سياسي أو تمويل لعجز الموازنة. وبهذا يصبح البنك أكثر قدرة على استخدام سعر الفائدة والسياسة النقدية بمرونة ودون ضغوط، بما يساعد على استقرار التضخم وضمان ثقة المتعاملين الاقتصاديين.

كما تضيف أن وضوح الهدف يعد من بين أهم المتطلبات الأولية، إذ يجب أن يكون التضخم هو الهدف الوحيد للبنك المركزي، دون مزاحمة من أهداف أخرى قد تتعارض معه. فالتجارب العالمية أثبتت أن تعدد الأهداف يؤدي غالبًا إلى فشل في تحقيق أي منها في الوقت المحدد، وهو ما يقوّض مصداقية السلطة النقدية ويفقدها ثقة الأسواق.

وتبرز أيضًا أهمية وجود علاقة مستقرة بين أدوات السياسة النقدية ومعدل التضخم، وهو ما يفرض على البنك المركزي أن يمتلك نموذجًا حركيًا يتيح التنبؤ بمسار الأسعار بدقة. لكن هذه المهمة ليست سهلة، خاصة في الدول التي تعاني من تأخيرات زمنية طويلة لفاعلية أدواتها النقدية. وهنا تكمن إحدى التحديات الكبرى في ضمان أن تؤدي هذه الأدوات إلى نتائج ملموسة على التضخم دون فقدان المصداقية.

وتؤكد أن حتى في حال استيفاء بعض هذه الشروط الأولية بشكل جزئي أو كامل، يمكن للسلطات النقدية أن تقترب من تحقيق معدلات استقرار معقولة للتضخم. لكن النجاح الحقيقي يظل مرهونًا بقدرة البنك المركزي على ترسيخ استقلاليته، وضبط أدواته بمرونة، وتكريس هدف واضح لا ينازعه أي هدف آخر.

من النظرية إلى الواقع.. كيف تصنع الشروط نتائج ملموسة؟

وتخلص الأستاذة دين مختارية في تصريحها إلى أن الشروط العامة والأولية لاستهداف التضخم هي أدوات عملية تصنع الفارق بين استقرار نقدي هش واستقرار حقيقي مستدام. فحين تتوافر هذه الشروط، يمكن للسلطة النقدية أن تعلن عن أهدافها الرقمية وتلتزم بمواعيد محددة لتحقيقها، ما يعزز ثقة المتعاملين في السوق ويقلل من هامش الارتباك والتوقعات العشوائية.

وترى أن التزام البنك المركزي بمساءلة علنية وشفافة، وتفسيره لأي انحراف عن الهدف المعلن، يرسخ ثقافة جديدة تقوم على المكاشفة وتحمل المسؤولية. وهو ما يجعل من سياسة استهداف التضخم خيارًا لا يقتصر على ضبط الأسعار فحسب، بل يتعداه إلى تعزيز مصداقية المؤسسات النقدية وترسيخ الثقة بين المواطن والدولة.

كما تشير إلى أن توفر استقلالية حقيقية للبنك المركزي يسمح له بالتركيز على التضخم كهدف وحيد بعيدًا عن الاعتبارات السياسية أو التمويلية. فحين ينشغل البنك بأهداف متعارضة، تصبح السياسة النقدية بلا بوصلة، أما حين يكون هدفها واضحًا، فإن النتائج تنعكس مباشرة على استقرار الأسواق وحماية القوة الشرائية للمواطن.

وتؤكد في الأخير أن نجاح سياسة استهداف التضخم لا يقاس فقط بالأرقام المسجلة في جداول الإحصاء، بل بمدى شعور الأسر بقدرتها على التكيف مع الأسعار، وبمدى استقرار الحكومات في مواجهة الأزمات الاقتصادية. لذلك، فإن استكمال الشروط العامة والأولية معًا هو الطريق نحو بناء سياسة نقدية أكثر صلابة وقدرة على مواجهة تقلبات عالم اليوم.