أثار توقيع اتفاقية الدفاع الاستراتيجي بين الرياض وإسلام آباد نقاشاً محتدماً في الأوساط السياسية والأكاديمية: هل تقترب السعودية فعلاً من الحصول على "مظلة نووية" باكستانية، أم أن كل ما يجري لا يعدو كونه رسائل مشفرة إلى خصومها الإقليميين؟ هذا الجدل، الذي أججته تصريحات متناقضة من مسؤولين باكستانيين، يعكس حجم الغموض المحيط بمستقبل العقيدة النووية لإسلام آباد، وحدود استعدادها لنقل أمنها النووي إلى ما وراء صراعها التاريخي مع الهند.

سمير علي خان - محلل وباحث في الأمن الدولي (باكستان)
أثار توقيع الاتفاقية الدفاعية الجديدة بين باكستان والمملكة العربية السعودية سيلاً من التساؤلات حول مستقبل التوازنات الاستراتيجية في المنطقة، خاصة فيما يتصل بإمكانية توسيع المظلة النووية الباكستانية لتشمل الرياض. وقد أعاد هذا التطور إلى الواجهة النقاش القديم حول ما إذا كانت إسلام آباد مستعدة، أو قادرة، على لعب دور "الضامن النووي" لحلفاء خارج حدودها، وهو نقاش سرعان ما انقسمت حوله الآراء بين من يرى فيه خطوة طبيعية نحو تعميق التحالف الاستراتيجي بين القوتين، ومن يحذّر من أنه مغامرة محفوفة بمخاطر تتجاوز قدرة باكستان على الاحتمال.
في هذا السياق، يفضل الباحث المستقل في قضايا الأمن الدولي، سمير علي خان، التوقف عند ما يسميه "تعقيدات الردع النووي الموسع"، مؤكداً أن أي محاولة لتطبيق هذا النموذج في الحالة السعودية ـ الباكستانية قد تفتح أبواباً يصعب إغلاقها، وتفرض على باكستان أعباء سياسية وعسكرية واقتصادية تهدد جوهر عقيدتها النووية القائمة منذ عقود.
إشارات متناقضة ومشهد مرتبك
الجدل لم يكن ليبلغ هذا المستوى لولا طبيعة الاتفاقية نفسها، التي نصّت على تعزيز التعاون الأمني "بجميع الوسائل العسكرية". صياغة فضفاضة تركت مساحة واسعة للتأويل، خاصة بعد أن صرّح وزير الدفاع الباكستاني، خواجة آصف، بأن "قدرات باكستان ستكون متاحة" للسعودية بموجب الاتفاقية. لكن سرعان ما عاد الوزير ليؤكد أن الترسانة النووية "ليست جزءاً من البنود"، وهو ما بدا كأنه تراجع أو تصحيح محسوب.
أما المتحدث باسم وزارة الخارجية فقد تبنى خطاباً مموهاً، لم يستبعد صراحةً فكرة الردع الموسع، واكتفى بالتأكيد على أن العقيدة النووية الباكستانية "تشهد تطوراً مستمراً". ويرى خان أن هذه الرسائل المتناقضة "تسلط الضوء على حساسية الموضوع"، مضيفاً أن "التباين في المواقف يعكس محاولات لإرضاء أطراف متعددة في وقت واحد: السعودية التي تسعى لضمانات أمنية إضافية، والخصوم الإقليميون الذين يراقبون بقلق، والمجتمع الدولي الذي يتحسس أي خطوة تمس نظام عدم الانتشار".
الردع الموسع: إغراءات استراتيجية.. ولكن
يعترف الباحث بأن فكرة المظلة النووية ليست بلا سوابق. فالقوى الكبرى استخدمتها لإبقاء حلفائها تحت الحماية ومنعهم من تطوير برامجهم النووية الخاصة. الولايات المتحدة أبرز مثال، إذ وفرت مظلة نووية لحلف الناتو، وكذلك لليابان وكوريا الجنوبية، ما ساعد على استقرار طويل الأمد في شرق آسيا وأوروبا. من هذا المنظور، قد تبدو الفكرة جذابة للسعودية التي تبحث عن ضمانات إضافية في محيط إقليمي يتسم بالتقلب.
ويشرح خان أن مثل هذا الترتيب "قد يسهم في جهود عدم الانتشار، عبر طمأنة الرياض وثنيها عن السعي إلى برنامج نووي خاص"، كما أنه "قد يخلق توازناً ردعياً جديداً ضد الأعداء المحتملين، ويجعل تكلفة أي عدوان مرتفعة للغاية". إضافة إلى ذلك، فإن مظلة نووية باكستانية للسعودية "ستعزز التحالف العسكري والسياسي بين البلدين، وتفتح الباب أمام مستويات أعمق من التعاون الاستراتيجي".
لكن هذه الصورة المشرقة تخفي خلفها، حسب خان، جملة من الأعباء. فالمظلة النووية، كما يوضح، "ليست مجرد وعد بالحماية، بل التزام وجودي"، إذ على الضامن أن يكون مستعداً، في أسوأ السيناريوهات، لاستخدام السلاح النووي دفاعاً عن حليف قد لا تكون قضاياه تمس البقاء القومي المباشر للضامن. وهو ما يطرح إشكالية المصداقية: هل يمكن لباكستان أن تقنع خصومها بأنها مستعدة لخوض حرب نووية من أجل الرياض؟
قيود العقيدة والموارد
يرى الباحث أن التحدي الأكبر أمام باكستان يكمن في أن عقيدتها النووية صُممت أصلاً في مواجهة الهند، على أساس "الردع الأدنى الموثوق". أي أن الهدف هو امتلاك قدرة ردعية كافية لتثبيت التوازن مع خصم تقليدي وواضح. أما الردع الموسع، فيتطلب مقاربة مختلفة تماماً: ترسانة أكبر، صواريخ أبعد مدى، منظومات قيادة وسيطرة متطورة قادرة على إدارة صراعات عبر مسافات شاسعة. كل ذلك يحتاج إلى موارد مالية وتقنية هائلة لا تتوافر لباكستان حالياً، بل قد يضعف حتى قدرتها على الحفاظ على توازنها مع الهند.
ويؤكد خان أن "الانخراط في مثل هذا المشروع قد يجر باكستان إلى سباق تسلح جديد، ليس فقط مع الهند، بل أيضاً مع قوى إقليمية أخرى مثل (إسرائيل)، ما يزيد التوتر ويضع ضغوطاً مضاعفة على اقتصاد يعاني أصلاً من هشاشة مزمنة".
انزلاقات إقليمية ودينية
يضيف الباحث أن توسيع الردع النووي لا يعني ببساطة حماية دولة أخرى، بل وراثة تصوراتها الأمنية بكل ما تحمله من تعقيدات. فإذا وفرت باكستان مظلة للسعودية، فستُجبر على رسم خطوط حمراء تخص التهديد "الإسرائيلي"، والنفوذ الإيراني، والحرب في اليمن، وكلها ملفات شائكة مفتوحة على احتمالات صدام متكرر.
ويحذر خان من أن "الاستجابة لهذا النوع من الطلبات قد تشجع دولاً أخرى على التوجه بالمنطق ذاته: الإمارات، تركيا، أو حتى فلسطين". وهو ما قد يحوّل السلاح النووي الباكستاني من أداة ردع وطني إلى عبء ديني وسياسي عالمي. ويذكّر بأن الحرب الأخيرة مع "إسرائيل" شهدت تلميحات من أطراف إيرانية بأن باكستان يمكن أن تُهدد نووياً نيابة عنها، ما يكشف خطورة الزج بباكستان في حسابات الآخرين.
ويضيف أن الخطاب العام داخل باكستان يزيد الطين بلة، إذ "ينظر كثيرون إلى القنبلة النووية باعتبارها (القنبلة الإسلامية)"، مما يولّد توقعات شعبية بأن إسلام آباد يجب أن تحمي كل المسلمين. هذا النوع من الضغوط قد يدفع السياسيين إلى قرارات تتجاوز العقلانية الاستراتيجية، ويضعف تماسك العقيدة النووية نفسها.
على المستوى العالمي، يرى خان أن إقدام باكستان على مد نطاق ردعها سيكون سابقة خطيرة، فهي أول قوة نووية خارج معاهدة حظر الانتشار تفعل ذلك. هذه الخطوة قد تشجع الهند أو حتى "إسرائيل" على اتخاذ مسارات مشابهة، ما يقوّض النظام القائم ويغرق مناطق مختلفة في أنماط جديدة من عدم الاستقرار النووي.
رغم كل ما أثير، يميل خان إلى اعتبار الحديث عن المظلة النووية الباكستانية للسعودية "إشارات استراتيجية أكثر منها قرارات سياسية". فالتصريحات العلنية قد تكون مجرد رسائل لطمأنة الرياض من جهة، وردع الخصوم من جهة أخرى، دون أن تعني تغييراً فعلياً في العقيدة النووية. وفي رأيه، "المكاسب المحتملة أقل بكثير من الكلفة الهائلة"، سواء من حيث الموارد أو المخاطر الأمنية والسياسية.
ويؤكد الباحث أن الاتفاقية الدفاعية الجديدة بين السعودية وباكستان تمثل خطوة متقدمة في مسار التعاون بين البلدين، لكنها لا تعني أن إسلام آباد ستغامر بتوسيع عقيدتها النووية. على الأرجح، ستظل باكستان متمسكة بمبدأ "الردع الأدنى الموثوق" الموجه إلى الهند، مع تعزيز تعاونها التقليدي مع الرياض في مجالات التدريب والتسليح والاستخبارات. أما المظلة النووية، فستبقى في حدود التكهنات والرمزية الاستراتيجية، أكثر من كونها خياراً واقعياً في المستقبل القريب.