2025.10.13



تعاون دفاعي جزائري-تونسي.. نحو هندسة جديدة للأمن في شمال إفريقيا حديث الساعة

تعاون دفاعي جزائري-تونسي.. نحو هندسة جديدة للأمن في شمال إفريقيا


مها عزالدين
08 أكتوبر 2025

جاءت زيارة وزير الدفاع الوطني التونسي خالد السهيلي إلى الجزائر، أمس في ظرف إقليمي حساس يفرض على دول شمال إفريقيا إعادة النظر في مقارباتها الأمنية والدفاعية. وقد حظي الوزير التونسي باستقبال رسمي من قبل رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، القائد الأعلى للقوات المسلحة، وزير الدفاع الوطني، بحضور الفريق أول السعيد شنقريحة، الوزير المنتدب لدى وزير الدفاع الوطني، رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي. اللقاء حمل دلالات واضحة على عمق العلاقات الثنائية بين البلدين، ورغبتهما في تطوير التعاون العسكري ليأخذ بعدًا استراتيجيًا أكثر استقرارًا واستدامة. الزيارة، التي تُوّجت بتوقيع اتفاق حكومي مشترك للتعاون في مجال الدفاع، جاءت تتويجًا لمسار طويل من التنسيق بين المؤسستين العسكريتين في البلدين، وتعبيرًا عن إرادة سياسية واضحة في مواجهة التحديات الأمنية التي تشهدها المنطقة، فالجزائر وتونس، اللتان تتقاسمان حدودًا طويلة وتاريخًا مشتركًا من التضامن، تدركان أن أمن إحداهما امتداد طبيعي لأمن الأخرى، وأن الاستقرار في الفضاء المغاربي لا يمكن أن يتحقق دون رؤية مشتركة ومتكاملة.

بعد الاستقبال الرئاسي، أجرى وزير الدفاع التونسي محادثات موسعة مع الفريق أول شنقريحة بمقر أركان الجيش الوطني الشعبي، في مراسم رسمية حضرها كبار قادة القوات والأسلاك الأمنية. اللقاء تناول سبل تعزيز التعاون العسكري الثنائي وتبادل الخبرات في مجالات الدفاع والتكوين والتنسيق الميداني، كما شكّل مناسبة لتبادل وجهات النظر حول التحديات الأمنية التي تواجه المنطقة في ظل تحولات جيوسياسية متسارعة.

في كلمته، شدد الفريق أول السعيد شنقريحة على أن “أمن البلدين واستقرارهما يحتاج إلى أعلى مستوى ممكن من التنسيق والتشاور”. هذه العبارة لا تقتصر على بعد داخلي، بل تحمل دلالة مزدوجة: الأولى موجهة إلى الداخل المغاربي، ومفادها أن الجزائر وتونس تختاران خيار الاعتماد المتبادل بدل الارتهان إلى القوى الأجنبية في ضبط الأمن الحدودي والإقليمي. أما الثانية، فهي رسالة ضمنية إلى بعض القوى الإقليمية التي تحاول توسيع نفوذها في شمال إفريقيا تحت غطاء “التعاون الأمني”، بأن المجال المغاربي لا يزال يملك أدوات دفاعه الذاتية.

من جهة أخرى، لا يمكن قراءة هذا اللقاء بمعزل عن حالة “الاضطراب الصامت” التي تعيشها المنطقة. فليبيا ما تزال ساحة لتقاطع المصالح الدولية، والحدود التونسية–الليبية تشهد تحركات عسكرية حساسة، وهنا يصبح الاتفاق الدفاعي بين الجزائر وتونس بمثابة تثبيت لجدار صدّ مشترك، يمنع تسرّب أزمات الجوار إلى الداخلين، ويعيد التوازن إلى خارطة الأمن المغاربي.

اقتصاديات الدفاع ورهانات الاستقرار

الزيارة لم تكن محصورة في الملفات الأمنية، بل جاءت في سياق أوسع يتقاطع فيه الأمن بالاقتصاد. عندما يتحدث الفريق أول شنقريحة عن “بناء اقتصاديات ناشئة منتجة للتنمية المستدامة”، فإنه يربط الدفاع بالسيادة الاقتصادية، في إشارة إلى أن الأمن لا يتحقق فقط بالسلاح، بل بالقدرة على تأمين موارد الدولة واستقلال قرارها. وتونس، التي تواجه وضعاً اقتصادياً هشاً، تبدو بحاجة إلى دعم استراتيجي يضمن لها الاستقرار على المدى الطويل، فيما ترى الجزائر أن استقرار الجار الشرقي هو جزء من أمنها القومي.

في هذا المعنى، يمكن القول إن الاتفاق العسكري ليس مجرد وثيقة تقنية بين وزارتين، بل هو أيضاً إعلان نوايا لتقاطع اقتصادي–أمني، قد يتطور لاحقاً إلى شراكات في التصنيع العسكري أو تبادل الخبرات اللوجستية والتكوينية. إنه رهان على الاستقرار كشرط مسبق للتنمية، وعلى التعاون كآلية لحماية هذا الاستقرار.

دبلوماسية التوازن وعودة “المحور الجزائري–التونسي”

منذ 2019، حرصت الجزائر على استعادة مكانتها الإقليمية عبر ما يسميه بعض المراقبين “دبلوماسية التوازن”، أي عدم الارتماء في أي محور دولي أو إقليمي، بل بناء شبكات تعاون متوازنة قائمة على مبدأ الندية والسيادة. في هذا السياق، تبدو تونس شريكاً مثالياً لهذه المقاربة، فهي وإن كانت تواجه ضغوطاً اقتصادية وسياسية، إلا أنها ما تزال تحافظ على قدر من الاستقلال في خياراتها الخارجية.

زيارة السهيلي إلى الجزائر جاءت لتؤكد استمرار هذا الخط السياسي المتقارب بين البلدين. فبينما تتغير التحالفات في المنطقة المغاربية، مع رهن المغرب ونظامه المخزني سيادة البلاد الأمنية بيد الكيان الصهيوني، تعيد الجزائر وتونس رسم خريطة مضادة، أساسها “التحصين الداخلي” والتنسيق الثنائي، بعيداً عن الاصطفافات الخارجية في رسالة بأن الفضاء المغاربي لا يزال قادراً على إنتاج معادلاته الأمنية الخاصة دون وصاية.

ويمكن النظر إلى توقيع الاتفاق الدفاعي الجزائري–التونسي كخطوة ذات بعد مزدوج: تحصين مباشر للجوار المشترك ضد التهديدات المتحركة، وبداية لتشكّل محور أمني جديد في شمال إفريقيا يقوم على منطق التكامل لا المنافسة. وبينما يواصل الرئيس تبون هندسة سياسة خارجية قائمة على “الفاعلية الهادئة”، تمضي المؤسسة العسكرية الجزائرية في بناء شبكة علاقات متينة مع الجيوش الصديقة، بما في ذلك الجيش التونسي الذي يشكل امتداداً طبيعياً للعمق الاستراتيجي الجزائري.

اللقاء إذن، ليس مجرد زيارة مجاملة، بل إشارة إلى أن الجزائر وتونس تقفان على عتبة مرحلة جديدة من التعاون، تتجاوز حدود التنسيق الأمني إلى بناء رؤية دفاعية مغاربية مشتركة، تعيد للمنطقة بعضاً من استقلالها المفقود وسط عالم يعيد ترتيب خرائط القوة والنفوذ.