2025.10.29
صورة الغرب النزيه تنهار.. أوروبا تُطارد قادتها الفاسدين سياسة

صورة الغرب النزيه تنهار.. أوروبا تُطارد قادتها الفاسدين


في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ الجمهورية الخامسة، دخل الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، ثلاثاء الأسبوع الماضي، سجن "لاسانتيه" الباريسي، بعد صدور حكم قضائي يقضي بسجنه 5 سنوات لإدانته بتلقي تمويل غير قانوني من ليبيا خلال حملته الانتخابية لعام 2007.

القضية أثارت جدلا واسعا داخل فرنسا وخارجها، كونها المرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية التي يدخل فيها رئيس فرنسي السجن. كما أعادت النقاش حول الفساد في أوروبا إلى الواجهة، إذ تظهر الوقائع أنه خلال العقدين الأخيرين خضع أكثر من عشرة رؤساء وحكومات للتحقيق أو المحاكمة بتهم تتعلق بالرشوة واستغلال النفوذ والاختلاس، ما يبرز أن أوروبا، رغم سمعتها كرمز للشفافية، ليست بمنأى عن الفضائح السياسية.

في إسبانيا، شهدت البلاد سنة 2018 فضيحة كبرى أسقطت رئيس الحكومة المحافظ ماريانو راخوي بعد تقديم الحزب الاشتراكي مذكرة حجب الثقة، عقب إدانة حزب الشعب في قضية الفساد المعروفة بـ"غورتيل". وحكمت المحكمة على 29 متورطا بالسجن مجموع أحكامهم 351 سنة، بينهم قياديون في الحزب الحاكم، كما ألزمته بأداء غرامة مالية قدرها 245 ألف يورو بسبب استفادته من الأموال المحصلة بطريقة غير شرعية.

وفي سلوفاكيا، هزّ اغتيال الصحافي الاستقصائي يان كوتشياك وخطيبته عام 2018 البلاد بعد تحقيقاته حول صلات مشبوهة بين المافيا الإيطالية وساسة مقربين من رئيس الحكومة. أسفرت الجريمة عن احتجاجات واسعة أدت إلى استقالة رئيس الوزراء روبرت فيكو ووزير الداخلية، ثم استقال رئيس الشرطة بعد مقاومة قصيرة، في محاولة لإقناع الرأي العام بأن رموز الفساد ستسقط واستعادة ثقة الشارع.

أما في رومانيا، فقد اندلعت احتجاجات عارمة سنة 2015 بعد حريق ملهى ليلي في بوخارست أسفر عن وفاة أكثر من 60 شخصا، مما فجّر الغضب الشعبي ضد الطبقة السياسية المتهمة بالفساد وأجبر رئيس الحكومة الاشتراكي الديمقراطي فيكتور بونتا على الاستقالة بعد خضوعه لتحقيقات في قضايا تزوير وتبييض أموال.

ماذا تعرف عن فضائح برسلكوني و"الصناديق السوداء"؟

في إيطاليا، يبقى سيلفيو برلوسكوني أحد أبرز رموز الفساد السياسي، إذ تولى رئاسة الحكومة ثلاث مرات بين عامي 1994 و2011، وواجه سلسلة طويلة من المحاكمات. أدين نهائيا مرة واحدة فقط عام 2013 في قضية تهرب ضريبي، فحُظر عليه تولي أي منصب عام لمدة خمس سنوات، لكنه عاد لاحقا لمواصلة نشاطه السياسي. حُكم عليه بالسجن أربع سنوات، أُلغي منها ثلاث بموجب عفو، أمضى العام الأخير في القيام بأعمال ذات منفعة عامة.

وفي ألمانيا، دفع المستشار الأسبق هيلموت كول غرامة مالية كبيرة عام 1999 إثر فضيحة "الصناديق السوداء" في حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، بينما استقال الرئيس كريستيان وولف عام 2012 بعد اتهامه باستغلال النفوذ لتلقي قرض منخفض الفائدة من صديق ثري، وأبرأه القضاء لاحقا عام 2014.

أما في بريطانيا، فقد كشفت صحيفة "ديلي تلغراف" عام 2009 فضيحة واسعة حول مخالفات في فواتير نفقات النواب، شملت أكثر من نصف أعضاء البرلمان، إذ صُرفت الأموال العامة على أمور شخصية تافهة، ما أدى إلى استقالات بارزة بينها وزيرة الداخلية جاكلين سميث ورئيس مجلس العموم مايكل مارتن، إضافة إلى صدور أحكام بالسجن ضد سبعة برلمانيين.

في سلوفينيا، أُقيل رئيس الوزراء المحافظ يانز يانسا عام 2013 بعد اتهامه بمخالفات ضريبية وتلقي رشاوى خلال فترة حكمه السابقة، بينما اضطر رئيس الوزراء التشيكي بيتر نيكاس للاستقالة في نفس العام بسبب فضيحة فساد وسوء استخدام السلطة. أما في بلجيكا، فقد قدم رئيس الوزراء إيف لوتيرم استقالته عام 2008 إثر فضيحة "فورتيسغيت"، بعد اتهامه بالتدخل في قرارات المحكمة لإنقاذ بنك من الإفلاس، قبل أن تتم تبرئته لاحقا.

"أبطال" الفساد في فرنسا.. رؤساء ووزراء

في فرنسا، شكل دخول الرئيس السابق نيكولا ساركوزي السجن حدثا غير مسبوق، لكنه لم يكن السياسي الفرنسي الوحيد الذي واجه القضاء. فقد أُدين الرئيس الراحل جاك شيراك عام 2011 بالسجن مع وقف التنفيذ لمدة سنتين في قضية "الوظائف الوهمية" خلال فترة رئاسته لبلدية باريس، إذ اتُهم بتوظيف أشخاص برواتب ممولة من المال العام لخدمة حملاته السياسية. وبما أن شيراك كان يبلغ نحو 79 عاما وقت المحاكمة، اكتفت المحكمة بالحكم مع وقف التنفيذ دون تنفيذ السجن فعليا. مثلت هذه المحاكمة سابقة تاريخية في فرنسا، إذ كانت المرة الأولى التي يُدان فيها رئيس سابق للجمهورية بعد انتهاء ولايته.

وفي نفس السياق، أدين رجل الأعمال برنار تابي، الذي شغل منصب وزير المدينة عامي 1992 و1993 ضمن الحكومة الاشتراكية بقيادة بيير بيريغوفوا، في عام 1995 بالسجن لمدة عامين، منها عام واحد نافذ، ومنع من الترشح للمناصب العامة لمدة ثلاث سنوات، بتهمة التواطؤ في الفساد ورشوة الشهود في قضية مباراة كرة القدم المزورة بين نادي مارسيليا وفالنسيان عام 1993. وعقب رفض المحكمة العليا طلب الطعن، دخل تابي سجن لوين في فبراير 1997، وأُفرج عنه في يوليو من نفس السنة قبل أسبوعين من انتهاء محكوميته.

كما واجه الوزير الأسبق كلود غيون القضاء في مناسبتين؛ الأولى عام 2017 بعد إدانته باختلاس أموال عامة أثناء توليه وزارة الداخلية، والثانية عام 2025 في قضية التمويل الليبي لحملة ساركوزي الانتخابية، إذ حُكم عليه بالسجن ست سنوات، لكنه لن يدخل السجن مجددا بسبب حالته الصحية. أما رئيس الوزراء السابق فرانسوا فيون، فقد أكدت محكمة التمييز الفرنسية عام 2024 إدانته في قضية "الوظائف الوهمية" التي منحت بموجبها زوجته راتبا من المال العام دون أن تؤدي أي عمل فعلي، وهي الفضيحة التي هزت المشهد السياسي خلال حملته الرئاسية عام 2017.

ولم يسلم وزير الميزانية الأسبق جيروم كاهوزاك من المحاسبة، إذ أُدين عام 2016 بالسجن ثلاث سنوات نافذة بتهمة تبييض الأموال والتهرب الضريبي بعد انكشاف امتلاكه حسابا سريا في سويسرا، رغم إشرافه على محاربة التهرب الضريبي.

رغم حرص أوروبا على الترويج لصورتها كمنارة للشفافية والديمقراطية، تكشف الوقائع عن واقع مختلف تماما. فالقارة التي تقدم نفسها كقدوة في الحكم الرشيد والمساءلة تعج بالفضائح السياسية والمالية في أعلى هرم السلطة. خلف الواجهات اللامعة للمؤسسات الأوروبية تتوارى شبكة من المصالح والنفوذ والمال، تُدار أحيانا بنفس الأساليب التي تنتقدها في غيرها من الدول.

لقد أثبتت محاكمات ساركوزي ومن سبقه ومن سيأتي بعده أن أوروبا ليست بتلك الطهارة التي تدّعيها، وأن الفساد ليس حكرا على العالم الثالث كما تحب أن توهم الآخرين، فبينما تتحدث العواصم الأوروبية عن قيم النزاهة والحوكمة، تغرق هي الأخرى في مستنقع الفضائح، لتتآكل تدريجيا الصورة التي طالما تغنّت بها القارة العجوز كرمز للنزاهة والديمقراطية.